5
إلى أن كل عقل يحدث جواهر روحانية بقسم معرفته التي تشابه الصورة كثيرا وجوهرا جسمانيا بقسم هذه المعرفة التي تشابه الهيولي، بيد أن هذا القياس الدقيق ليس برهانا أيضا.
وأرى أن العوامل الحقيقية التي حملت فيلسوفنا على قبول هذا المذهب ترد إلى أمرين، وهما: أولا: إمكان عد هذا المذهب ردا لنظريات الانبثاق إلى حدود العقيدة الإسلامية؛ وذلك أن الانبثاق وجد أمرا نافعا بدلالته عظماء فلاسفة الشرق - حتى أكثرهم حكمة - إلى ما يحلون به الوجود الإلهي جمعا له بالعالم، وذلك عن رد فعل حيال بساطة المفهوم القرآني نحو الله، وعن ميل باد إلى المذاهب المعارضة لهذه البساطة. ثانيا: إنه كان يساور هؤلاء الفلاسفة في كل وقت مفهوم عميق، قائل: إن الجواهر الحقيقية كانت فعالة، وإن فعالية الموجود كانت تحدث ظاهرات وموجودات، وإنه لم يكن - من حيث النتيجة - شيء غير طبيعي في كون أعلى العقول تحدث موجودات علوية أيضا. وسنعود إلى هذه الفكرة القوية.»
وتواصل نظرية انبثاق الأفلاك بنظرية تحريك الأفلاك التي يرى بها تبدد جفاء الأولى بضرب من الفيض الشعري.
كنا قد ذكرنا في الطبيعيات وجود ثلاثة أنواع للحركة، وهي: الحركة الطبيعية، التي ترد الجسم إلى مكانه الطبيعي عندما تبتعد عنه، والحركة القسرية، التي تحدث ابتعاد الجسم هذا عن مكانه الطبيعي، أو التي تمنع من رجوعه إليه، والحركة الإرادية الخاصة بالموجودات الحية، والتي يقوم مبدؤها في القوى المحركة للنفس، فحركة الأفلاك من هذا النوع الثالث.
والحركة الطبيعية مستقيمة، وذلك كما أوضحنا، وذلك ما دامت ترد الأجسام إلى أماكنها بطريق مباشرة؛ ولذا لا تكون الحركة المستديرة - كحركة الأفلاك - غير قسرية أو اختيارية، وبما أنه لا يوجد ما يدل على كونها قسرية، فإننا نستنتج من هذا أن الأفلاك تتحرك بحركة اختيارية،
6
قال ابن سينا:
7 «ليس محرك الأفلاك القريب قوة طبيعية ولا عقلا، بل نفس، وأما محركها البعيد فعقل.» ونفس الفلك هي السبب القريب لكل قسم من الحركة، والعقل هو السبب البعيد العام، «والفلك متحرك بالنفس، والنفس مبدأ حركته القريبة، وتلك النفس متجددة التصور والإرادة، وهي متوهمة؛ أي لها إدراك المتغيرات الجزئية وإرادة لأمور جزئية بأعيانها، وهي كمال جسم الفلك وصورته ...
وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشابه الأوهام صادقة، وتخيلاتها أو ما يشابه التخيلات حقيقية.» ومع ذلك فإن مشابهة النفس الفلكية بنفسنا الحيوانية غير كاملة، فابن سينا يدنيها في مواضع أخرى بعقلنا العملي؛ أي بالقسم الخلقي من نفسنا الناطقة، وهذه النفس تحرك الفلك لداع خلقي، كما أن عقلنا العملي يحرك بدننا نظرا إلى الخير؛ قال مؤلفنا:
Page inconnue