وذلك هو الإيمان.
عقيدة الفيلسوف
وإذا سئلنا رأينا عن عقيدة «ابن سينا» لم نشك في أنه كان من المؤمنين بالله وبالنبوءات لا مراء.
لأن مذهبه في العالم وموجده لا يشتمل على جانب واحد يناقض العقيدة الدينية في أصولها، بل هو مما يوافق العقيدة الدينية ويدعو إليها، ولا نعلم أن أحدا قال في ضرورة النبوءات ما قاله ابن سينا حيث جعلها «وظيفة حيوية» في بنية المجتمع الإنساني، وقرر أن الحاجة إلى النبي «أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة لها في البقاء، بل أكثر ما فيها أنها تنفع في البقاء. ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما كان سلف منا ذكره. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها ... فواجب إذن أن يوجد نبي، وواجب أن يكون إنسانا، وواجب أن تكون له خصوصية ليست لسائر الناس حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم فيتميز عنهم؛ فتكون له المعجزات التي أخبرنا بها. فهذا الإنسان إذا وجد وجب أن يسن للناس في أمورهم سننا بأمر الله تعالى وإذنه ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه.»
ومن واجب النبي في رأي ابن سينا أن يخاطب الناس على قدر عقولهم وألا يشغلهم بما يختلط عليهم «ويجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة ويلقي إليهم منه هذا القدر، أعني أنه لا نظير له ولا شبه ولا شريك. وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته، وتسكن إليه نفوسهم. ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالا مما يفهمونه ويتصورونه، وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمرا مجملا، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا أذن سمعته، وأن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم» إلى آخر ما أوجزه في كتاب النجاة، ومنه يتبين أنه لا ينقض النبوءات بما يعتقده عامة الناس، بل يرى ذلك مصلحة للأكثرين منهم وواجبا على أصحاب النبوءات لإقناعهم وتهذيب طبائعهم. وقد كان ابن سينا يصلي ويدعو الله، ويستلهمه بالصلاة أن يهديه إلى معضلات الفلسفة كلما أشكل عليه أمر مغلق أو قضية مستعصية، فهو لا يقطع الصلة بين الله والإنسان ولا بين النفس والجسد، ولا يمنع تأثير النفس في المادة، فلا يستبعد كما قال في ختام الإشارات «إتيان العارف بما يخرق العادة في الأمور السفلية، وذلك لأن الأجرام السفلية قابلة لهذه الصفات، والنفس الناطقة ليست بجسم ولا حالة في الجسم، فإذا لم يبعد وقوعها بحيث تقدر على التأثير في هذا البدن لا يبعد وقوعها بحيث تقوى على التصرف في مادة هذا العالم العنصري لا سيما على قولنا إن النفوس الناطقة مختلفة بالماهية، فلا يبعد أن تكون الماهية المخصوصة التي لنفسه تقتضي تلك القدرة ... وصاحب النفس القوية إن كان خيرا رشيدا فهو ذو معجزة من الأنبياء وكرامة من الأولياء، وقد يصير ذلك الذكاء والصفاء سببا لازدياد تلك القوة حتى يبلغ الأمر الأقصى، وإن كان شريرا واستعمل تلك القوة في الشر فهو الساحر الخبيث ...»
وقد حذر أتباعه في ختام الإشارات أن يعجلوا إلى التكذيب فقال: «قد يبلغك عن العارفين أخبار تكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب، وذلك مثل ما يقال إن عارفا استسقى للناس فسقوا واستشفى لهم فشفوا ودعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر ودعا لهم فصرف الوباء والموتان والسيل والطوفان أو خضع لبعضهم سبع، ولم ينفر عنه طير، ومثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح. فتوقف ولا تعجل، فإن لأمثال هذه أسبابا في أسرار الطبيعة ...»
ويخطر لبعض المرتابين أنه كان يكتب ذلك ويقول من باب المداراة والتقية خوفا على حياته من ثورة العامة ومعارضة الفقهاء المتشددين، وهو خاطر واهم لا موجب له على الإطلاق، وإنما يصح أن يخطر على البال إذا كانت هذه الآراء مخالفة لمقتضى مذهبه الفلسفي أو مخالفة لقوانين الطبيعة في تقديره، ولكنها لا تخالفها ولا تناقضها في كثير ولا قليل.
فابن سينا كان يعتقد أن التصرف في الأجرام الفلكية بالتغيير عن مجاريها مستحيل، ولكنه كان يعتقد أن عقولها تؤثر فيما دونها من العقول إلى العقل الفعال الذي يسيطر على العالم الأرضي وما تحت القمر من الموجودات.
واعتقاده في العالم الأرضي أنه عالم الفساد وعالم الإمكان أو أنه هو العالم الذي يجوز فيه التغيير والانحراف، وأن المرجع في ذلك إلى العقل الذي يسبغ الصور على الهيولى ويعطيها بذلك الوجود فتخرج من القوة إلى الفعل، وتعلو صعدا أو تهبط سفلا على حسب ما يعتريها من غلبة العقل أو غلبة المادة والهيولى.
وقد أسلفنا أن العقل المستفاد في الإنسان على صلة تامة بالعقل الفعال، فهو يملك من القدرة على إسباغ الصور وخلعها أو تحويل الموجودات من صورة إلى صورة مثل ما يملكه العقل الفعال، ويرى ابن سينا أن النفوس تؤثر في أجسادها وفي غيرها من الأجساد بقوة واحدة؛ لأنه لا مانع من تأثيرها في الأجساد الأخرى إذا كانت تؤثر في أجسادها وهي غير متحيزة فيها ولا تنقسم بانقسامها.
Page inconnue