والمناقشة في حركة السماء قائمة على قول الأقدمين إن الأجرام السماوية تتحرك ولا تسكن؛ لأنها «حيوانات» روحانية، وإنما يعرض السكون للحي المادي من جهة فساد الجسد؛ ولهذا تطلب الأجرام السماوية الحركة حيث تكون، ويتم لها كمال الحياة بتمام الحركة.
فقال الغزالي ساخرا بهذا القول: «إن طلب الاستكمال بالكون في كل أين يمكن أن يكون له، حماقة لا طاعة!
وما هذا إلا كإنسان لم يكن له شغل، وقد كفي المئونة في شهواته وحاجاته، فقام وهو يدور في بلد أو في بيت، ويزعم أنه يتقرب إلى الله تعالى، وأنه يستكمل بأن يحصل لنفسه الكون في كل مكان أمكن، وزعم أن الكون في الأماكن ممكن له، وليس يقدر على الجميع بينها بالعدد فاستوفاه بالنوع، فإن فيه استكمالا وتقربا، فيسفه عقله ويحمل على الحماقة، ويقال: الانتقال من حيز إلى حيز، ومن مكان إلى مكان ليس كمالا يعتد به أو يتشوف إليه، ولا فرق بين ما ذكروه وبين هذا.» قال ابن رشد يرد على كلام الغزالي:
قد يظن أن هذا الكلام لشخصه يصدر عن أحد رجلين: إما رجل جاهل، وإما رجل شرير، وأبو حامد مبرأ من هاتين الصفتين.
ولكن قد يصدر من غير الجاهل قول جاهلي، ومن غير الشرير قول شريري، على جهة الندور، ولكي يدل هذا على قصور البشر فيما يعرض لهم من الفلتات، فإنه إن سلمنا لابن سينا أن الفلك يقصد بحركته تبديل الأوضاع، وكان تبديل أوضاعه من الموجودات التي هاهنا هو الذي يحفظ وجودها بعد أن يوجدها، وكان هذا الفعل منه دائما؛ فأي عبادة أعظم من هذه العبادة؟ لو أن إنسانا تكلف أن يحرس مدينة من المدن من عدوها بالدوران حولها ليلا ونهارا، أما كنا نرى أن هذا الفعل من أعظم الأفعال قربة إلى الله تعالى؟ أما لو فرضنا حركة هذا الرجل حول المدينة للغرض الذي حكى هو عن ابن سينا من أنه لا يقصد في حركته إلا الاستكمال بأينات غير متناهية لقيل فيه إنه رجل مجنون، وهذا هو معنى قوله سبحانه:
إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا .
أما قوله: «إنه لما لم يمكنها استيفاء الآحاد بالعدد أو جميعها، استوفتها بالنوع.» فإنه كلام مختل غير مفهوم.
الأسباب
أما مسألة الأسباب؛ فالمعلوم أن الغزالي يرى أن الأسباب ظواهر تقارن المسببات وليست هي علتها، وهو رأي يوافقه عليه العلم الحديث الذي يكتفي بوصف الظواهر ولا يدعي استقصاء عللها، وقد أجمل الغزالي رأيه هذا في كتابه «تهافت الفلاسفة»؛ حيث قال:
الاقتران بين ما يعتقد في العادة سببا وما يعتقد مسببا، ليس ضروريا عندنا، بل كل شيئين ليس هذا ذاك ولا ذاك هكذا، ولا إثبات أحدهما متضمنا لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمن لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل: الري والشرب، والشبع والأكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وحز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، وإسهال البطن واستعمال المسهل، وهلم جرا ... إلى كل المشاهدات من المقترنات في الطب والنجوم والصناعات والحرف، وإن اقترانها بما سبق من تقدير الله - سبحانه - لخلقها على التساوق؛ لا لكونه ضروريا في نفسه غير قابل للفوت، بل لتقدير.
Page inconnue