1 - عصر ابن رشد
2 - ابن رشد في عصره
3 - جوانب ابن رشد
4 - منتخبات من آثار ابن رشد
المراجع
1 - عصر ابن رشد
2 - ابن رشد في عصره
3 - جوانب ابن رشد
4 - منتخبات من آثار ابن رشد
المراجع
Page inconnue
ابن رشد
ابن رشد
تأليف
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
عصر ابن رشد
(1) الحركة العلمية
ولد ابن رشد في سنة 520 هجرية بمدينة قرطبة وهي لا تزال في عصرها الذهبي الذي جعلها من عواصم الثقافة في التاريخ، فلا تذكر أثينا وروما والإسكندرية وبغداد إلا ذكرت معهن قرطبة في هذا الطراز.
وقد كان مولده بعد وفاة الحكم الثاني المستنصر بالله بنحو مائة وخمسين سنة (366ه)، وهو الخليفة الأموي الذي شغلته الثقافة قبل كل شاغل، وجعل همه الأول أن ينافس بعاصمته عاصمة المشرق - بغداد - في عهد الخليفة المأمون، فجمع فيها من الكتب والكتاب ما لم يجمع قبل ذلك في مدينة واحدة، وكان هو أسبقهم إلى قراءة ما يجمعه من الأسفار النادرة من أقطار المشرق والمغرب.
قال ابن خلدون ما خلاصته: «... كان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني - وكان نسبه في بني أمية - وأرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم وأمثال ذلك، وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة
Page inconnue
1
في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى
2
من ذلك كله. واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر ...»
3
وكان أعيان السراة
4
والتجار يقتدون بالخلفاء في هذا الإقبال على اقتناء الكتب، سواء منهم من يقرأ ومن لا يقرأ. قال الحضرمي: «أقمت مرة بقرطبة ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيه وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط فصيح وتفسير مليح، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه فيرجع إلي المنادي بالزيادة علي، إلى أن بلغ فوق حده، فقلت له: يا هذا! أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلغه إلى ما لا يساوي. قال: فأراني شخصا عليه لباس رئاسة، فدنوت منه وقلت له: أعز الله سيدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك، فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده ... فقال لي: لست بفقيه ولا أدري ما فيه، ولكني أقمت خزانة كتب واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فيها موضع يسع هذا الكتاب، فلما رأيته حسن الخط جيد التجليد استحسنته ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير ...»
5
وكان ابن رشد فخورا بهذه الخصلة في موطنه، فقال لزميله الفيلسوف ابن زهر يوما وهما بحضرة المنصور بن عبد المؤمن من خلفاء دولة الموحدين: «ما أدري ما تقول، غير أنه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية ...»
Page inconnue
6
على أن هذين الفيلسوفين قد كانا في نفسيهما وفي آليهما، آية الآيات على مبلغ ذلك العصر من ازدهار الثقافة، فكان العلم وراثة في أسرة كل منهما يتعاقبه منها جيل بعد جيل، وكان الذاكرون إذا ذكروهم ميزوا بينهم باسم الجد والابن والحفيد، فيقولون: ابن رشد الجد، وابن رشد الابن، وابن رشد الحفيد، ويزيدون في أسرة ابن زهر فيقولون: ابن زهر الأصغر؛ تمييزا له من ابن زهر الحفيد.
وأعجوبة الأعاجيب في نشأة ابن رشد أنه نشأ في دولة الموحدين، وأنه تلقى التشجيع من أحد خلفائهم على الاشتغال بشرح أرسطو وتفسير موضوعات الفلسفة على العموم، وكان موضع العجب أن يأتي هذا التشجيع من أناس اشتهروا بالتزمت والمحافظة الشديدة على العلوم السلفية، ومنهم من نسب إليه أنه أحرق كتب الفلسفة والبحث في مذاهب المتكلمين.
روى صاحب كتاب «المعجب في تلخيص أخبار المغرب» عن بعض الفقهاء، قال: «سمعت الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يثني علي ويذكر بيتي وسلفي، ويضم بفضله إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي: ما رأيهم في السماء؟ - يعني الفلاسفة - أقديمة هي أم حادثة؟ ... فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد من المشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»
واستطرد صاحب المعجب قائلا: «أخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه، قال: استدعاني أبو بكر بن طفيل يوما فقال لي: سمعت أمير المؤمنين يتشكي من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، وإني لأرجو أن تفي به، لما أعلمه من جودة ذهنك وصفاء قريحتك، وقوة نزوعك إلى الصناعة، وما يمنعني من ذلك إلا ما تعلمه من كبرة سني، واشتغالي بالخدمة، وصرف عنايتي إلى ما هو أهم عندي منه. قال أبو الوليد: فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس.»
7
ويزيد العجب عند مؤرخي هذا العصر - والمستشرقين منهم على الخصوص - أن هذا الخليفة ينتمي إلى أسرة تدين بمذهب الظاهرية، وهو المذهب الذي يلتزم أصحابه ظاهر النصوص ويتحرجون من التأويل، وقد توفي إمام هذا المذهب في المغرب - ابن حزم - بعد منتصف القرن الخامس للهجرة ومذهبه شائع، وخلفاء الموحدين يرجحونه على سائر المذاهب، ويعتبره المؤرخون المحدثون قطب المذاهب الرجعية مع إحاطته بمذاهب الفلاسفة، كما يعلم من كتابه عن «الفصل في الملل والنحل».
كان ابن حزم هذا آية أخرى من آيات العراقة في البيوتات العلمية، ولكنها الآية التي تمثل الثقافة من جانبها الآخر: جانب المحافظة - السلفية - وكراهة التوسع في البدع الحديثة.
8
وكان ابن حزم هذا هو ابن حزم الابن «علي بن أحمد»، وأبوه أحمد بن سعيد، وابنه الفضل أبو رافع، وكلهم من مشاهير العلماء الثقات في المعارف السلفية، وإقبالهم على العلم إقبال الصادق في طلبه المستغني عن التكسب به، المجترئ بالرأي على من يخالفه؛ لأنه لا يخشى من الجرأة على رزقه. جرت بين ابن حزم - الابن - وبين أبي الوليد الباجي مناظرة، فقال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق. قال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلم وما ذكرت؛ فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
Page inconnue
وقد جنت عليه ملاحاته
9
للعلماء والرؤساء، وقلة مبالاته بغضب الغاضبين؛ فأحرقوا كتبه في إشبيلية، وقال في ذلك:
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
وقد كان تلميذه عبد المؤمن - رأس أسرة الموحدين - على مثل هذه الصرامة في الخلق، وهذا اللدد
10
في الخصومة العلمية، وهذه الشدة في المحافظة على السنن السلفية، فموضع العجب أن تكون هذه الأسرة هي حامية الفلسفة والبدع العلمية، وهي التي تشجع رجلا كابن رشد على شرح أرسطوطاليس. (2) الحركة السياسية وتأثيرها في الثقافة
ذلك في الحق عجيب، ولكنه العجب الذي مصدره الزيغ
11
Page inconnue
عن السبب، وهو قريب بل جد قريب.
فقد أحصى المؤرخون - ولا سيما المستشرقين - علل الحركات الثقافية في المغرب عامة غير علتها الحقيقية، وهي - بالإيجاز - ظهور الدعوة الفاطمية في إفريقية الشمالية .
فظهور هذه الدعوة في المغرب قد غير فيه كثيرا من وجهات الثقافة والسياسة، وقد كان له الأثر المباشر فيما شغل الأوروبيين بعد ذلك خلال القرون الوسطى من موضوعات الفلسفة الدينية، وأهمها موضوعات النفس وخلودها، وموضوعات العقل وعلاقته بالخلق والخالق.
ولا يخفى أن الدعوة الفاطمية هي الدعوة الإسماعيلية بعينها؛ فإن الفاطميين ينسبون إلى فاطمة الزهراء، أو ينسبون إلى إسماعيل بن جعفر الصادق؛ تمييزا لهم من سائر العلويين.
وقد كان الإسماعيليون يشتغلون بالفلسفة ويرجحون مذهب الأفلاطونية الحديثة، وهو مذهب الفيلسوف أفلوطين
(205-270م) الذي ولد بإقليم أسيوط، وألقى دروسه في الإسكندرية ثم في روما، ومن أتباع الإسماعيليين الذين نشروا هذا المذهب إخوان الصفاء - أصحاب الرسائل المنسوبة إليهم - ومنهم مسلم بن محمد الأندلسي الذي نقل مذهبهم إلى البلاد الأندلسية.
وقد شاع مذهب الإسماعيلية شرقا وغربا في العالم الإسلامي، من جبال الأطلس إلى تخوم الهند وآسيا الوسطى، وكان ابن سينا يقول: «كان أبي ممن أجاب داعي المصريين، ويعد من الإسماعيلية، وقد سمع منهم ذكر النفس والعقل على الوجه الذي يقولونه ويعرفونه هم وكذلك أخي، وكانا ربما تذاكرا بينهما وأنا أسمع منهما وأدرك ما يقولانه، وابتدأا يدعواني أيضا إليه، ويجريان على لسانهما ذكر الفلسفة والهندسة.»
12
لا جرم يتذاكر المستطلعون أحاديث هذا المذهب في إفريقية الشمالية كما تذاكروها في بخارى وعلى التخوم الهندية، فقد جاء هذا المذهب إلى المغرب بقوة الدولة فوق قوة الدعوة، وأصبح من شاغل أصحاب الدول أن يتعرفوه ويستطلعوا كنهه ويتبطنوا ما وراءه، وبخاصة من كان كخلفاء الموحدين مهددا بسلطان الدولة الفاطمية، معنيا بما يعلنونه ويسرونه من مذاهب السياسة أو الحكمة.
ولقد كان من آثار هذه الدعوة في المغرب عامة أن الخليفة الأموي بالأندلس عبد الرحمن الناصر (300-350 هجرية/912-961 ميلادية) تلقب بأمير المؤمنين بعد أن أطلق هذا اللقب على خلفاء الفاطميين، وجاء خلفه الحكم الثاني الملقب بالمستنصر بالله، فنافس خلفاء الفاطميين أشد المنافسة في الاشتغال بالفلسفة والعلوم وتقريب الحكماء والأدباء، وأنفذ إلى إفريقية جيشا قويا لتوطيد سلطانه في مراكش وإعلان الدعوة باسمه على المنابر.
Page inconnue
أما دولة الموحدين فقد كان الخطر عليهم من الدعوة الفاطمية - أو الدعوة الإسماعيلية بعبارة أخرى - أشد وأقرب، فقابلوا دعوتهم بمثلها واجتهدوا في تعرف مذاهبهم الباطنية، وكان رئيسهم «محمد بن تومرت» من قبيلة «مصمودة» البربرية، ولكنه كان يتلقب بالمهدي وينتمي إلى آل البيت. ويقول ابن خلكان - وهو ممن ينكرون نسب الفاطميين - إن ابن تومرت هو: «محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد بن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن يسار بن العباس بن محمد بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.»
13
فقد برز الموحدون إذن للفاطميين أو الإسماعيليين حتى في النسب والدعوة المهدية، ولما اشتهر الإمام الغزالي في المشرق بإنكار الباطنية والرد عليها، قصد إليه ابن تومرت وحضر عليه. وحكي كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: «أنه ذكر للغزالي ما فعل علي بن يوسف بن تاشفين من ملوك المرابطين بكتبه التي وصلت إلى المغرب من إحراقها وإفسادها، وابن تومرت حاضر ذلك المجلس، فقال الغزالي حين بلغه ذلك: ليذهبن عن قليل ملكه وليقتلن ولده، وما أحسب المتولي لذلك إلا حاضرا مجلسنا.»
وقد تم لابن تومرت ما أنبأه به أستاذه الغزالي، فأقام دولة الموحدين وندب لها صاحبه عبد المؤمن بن علي الكومي (524-558ه/1129-1162 ميلادية)، ثم خلفه ابنه يوسف، ثم خلفه ابنه يعقوب وتلقب بالمنصور بالله (580-595 هجرية/1184-1198 ميلادية)، وهو الذي اقترح على ابن رشد تفسير كتب أرسطوطاليس وشرح مذاهب الفلسفة على الإجمال.
ويظهر التحدي والمناجزة بين الموحدين والإسماعيليين في مقابلة كل دعوى إسماعيلية بمثلها من دعاوى ابن تومرت وخلفائه.
فقد انتسب إلى آل البيت كما ينتسبون، وتلقب بالمهدي كما يتلقبون، وقال عنه مريدوه: إنه لم يكن أحد أعلم منه بأسرار النجوم وعلوم الجفر
14
والتنجيم، وهي العلوم التي اشتهر بها الإسماعيليون.
قال ابن خلكان: «إن محمد بن تومرت كان قد اطلع على كتاب يسمى الجفر من علوم أهل البيت، وإنه رأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى بمكان يسمى السوس، وهو من ذرية رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يدعو إلى الله ويكون مقامه ومدفنه بموضع من الغرب، هجاء اسمه ت ي م ل ل، ورأى فيه أيضا أن استقامة ذلك الأمر واستيلاءه وتمكنه على يد رجل من أصحابه، هجاء اسمه ع ب د م و م ن، ويجاوز وقته المائة الخامسة للهجرة، فأوقع الله - سبحانه وتعالى - في نفسه أنه القائم بأول الأمر، وأن أوانه قد أزف، فما كان ابن تومرت يمر بموضع إلا ويسأل عنه، ولا يرى أحدا إلا أخذ اسمه وتفقد حليته، وكانت حلية عبد المؤمن معه، فبينما هو في الطريق رأى شابا قد بلغ أشده على الصفة التي معه، فقال له وقد تجاوزه: ما اسمك يا شاب؟ فقال: عبد المؤمن. فرجع إليه وقال له: الله أكبر! أنت بغيتي، ونظر في حليته فوافقت ما عنده.»
Page inconnue
15
هذه القصة نترك ما فيها كله ويبقى منها ما لا سبيل إلى تركه، وهو استعداد الموحدين للفاطميين بسلاحهم ومقابلتهم بمثل دعواهم، واستبطانهم لأسرار دعوتهم؛ لينهضوا لها بما يجري في مجراها عن اعتقاد منهم، أو عن سياسة وتدبير، وكل شيء يجري تفسيره بعد ذلك على أهون سبيل.
فالعلوم التي كانت مقبولة عند دولة الموحدين قد تتناقض وتتنافر، ولكنها تلتقي في مقصد واحد وهو لزومها في تلك المناجزة وتلك المناظرة.
وبين الغزالي وابن حزم بون بعيد في التفكير ومذاهب النظر والمعرفة، ولكنهما يلتقيان في كراهة الباطنية، فالغزالي يرد عليها ويفند أقوالها في الإمامة، وابن حزم يدين بظاهر النصوص ويحرم التأويل مع وجود النص، والتأويل - كما هو معلوم - أصل من أصول الإسماعيلية، يجيزونه بل يوجبونه ويرجعون به إلى علم الإمام بأسرار الغيب وبواطن الآيات، ويضيف ابن حزم إلى ذلك أنه كان شديد التعصب للأمويين، ولم يكن يظهر هذا التعصب لغير الأخصاء، ولكنه كان يظهر النقمة على الفاطميين الإسماعيليين ويؤلف كتابه عن جمهرة أنساب العرب
16
فينكر انتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، ومن ثم إلى فاطمة الزهراء.
ولا يبعد أن يكون الخلفاء الموحدون مؤمنين بأسرار النجوم، يبحثون عن الأفلاك والعقول التي تديرها لينفذوا منها إلى خفايا تلك الأسرار، ويلفت النظر إلى هذا أول سؤال وجهه الخليفة المنصور إلى ابن رشد، وهو: ماذا يقولون عن السماء؟ •••
كانت دولة الموحدين أول دولة إفريقية تقف أمام الفاطميين موقف المناظرة في السياسة والثقافة، أما قبل ذلك فالدولة الصنهاجية في تونس كانت تتولى الأمر بإذن الفاطميين من القاهرة، ودولة الملثمين أو المرابطين التي نازعتها السلطان في المغرب الأقصى لم تكن تدرس حين نشأتها شيئا من الثقافة أو من الدين، ومضى عليها زمن وهي مشغولة بحرب القبائل البربرية والسودانية التي بقيت على الجاهلية، ولم يكد يستقر بها القرار على عهد يوسف بن تاشفين حتى شغلت بالجزيرة الأندلسية واستقدمها ملوك الطوائف إلى الأندلس لنجدتهم في حربهم مع ألفونس السادس ملك أراجون، وانصرفت جهودهم إلى هذه الناحية، وظلوا كذلك على عهد علي بن يوسف بن تاشفين حتى زالت دولتهم ولما ينقض على وفاة هذا الأمير أكثر من سنتين، وكان منهجهم في شئون الثقافة منهج البداوة في استنكار كل ما يحسبونه من البدع، ومنه علم الكلام وبحوث الفقهاء في الحكمة الدينية؛ ولهذا أحرقوا كتب الغزالي وهي من أفضل ما كتبه المتكلمون!
فالموحدون هم أول من ناظر الفاطميين (أو الإسماعيليين) في إفريقية الشمالية، وأول من تعرف علومهم ومذاهبهم ليغلبهم في ميدانهم ويقابل دعوتهم بمثلها أو بما ينقضها ويبطلها. •••
وما من حركة ثقافية في ذلك العصر يراد تفسيرها بمعزل عن هذا العامل المهم - عامل الدعوة الإسماعيلية - إلا تعذر التفسير أو وقع فيه الخطأ الكثير، ومن هذا القبيل تلك المناقشات الطويلة حول مصدر الثقافة الإغريقية التي انتقلت من الشرق إلى أوروبا، أهو إسرائيلي أم عربي؟ وموضع اللبس هنا أن الفيلسوف اليهودي ابن جبيرول (1021-1070) سبق ابن رشد بمولده وكتابته، ولكن ابن جبيرول لم يكن له مصدر غير المراجع العربية، وفلسفته الأفلاطونية الحديثة مستمدة من هذه المراجع، لم يسلم حتى من أخطائها الظاهرة وهي الخلط بين مذهب أفلوطين ومذهب أرسطو في الربوبية؛ لأن طائفة من تواسيع أفلوطين ترجمت في القرن الثالث للهجرة، ونسبت خطأ إلى أرسطو باسم أثولوجية أرسطوطاليس، وقد التبست آراء ابن جبيرول بالآراء الإسلامية والآراء المسيحية التي نقلت عنها حتى حسبه بعض الأوروبيين من فلاسفة المسلمين، وحسبه بعضهم من فلاسفة المسيحيين، ولم تتضح الحقيقة إلا في القرن التاسع عشر حين كشف المستشرق الإسرائيلي سلمون مونك
Page inconnue
Salomon munk (1803-1867)
17
عن بعض المخطوطات، فتبين له أن الفيلسوف الذي يسميه الأوروبيون أفيسبرون
Avicébron
هو نفسه ابن جبيرول، وأنه إسرائيلي وليس من المسلمين ولا من المسيحيين.
وقد كان ابن جبيرول مسبوقا في الثقافة الإسرائيلية بفيلسوف آخر من اليهود نشأ في الفيوم بمصر (892-942)، وتنقل بين مصر وفلسطين والعراق في إبان الدعوة الإسماعيلية وملاحم الجدل بين المتكلمين والمعتزلة، وهم فلاسفة الإسلام الباحثون في مسائل التوحيد والحكمة الدينية، وهذا الفيلسوف الإسرائيلي هو سعديا بن يوسف الذي اشتهر باسم وظيفته جاعون (892-942)، وتتبع مساجلات المتكلمين والمعتزلة فطبقها على الديانة الإسرائيلية، وألف كتابه «الإيمان والعقل» في موضوعات الخلق والتوحيد والوحي والقضاء والقدر والثواب والعقاب وغير ذلك من موضوعات علم الكلام.
وقد كان للفلسفة في المغرب رواد قبل ابن رشد، أشهرهم ابن باجة أو ابن الصائغ الذي توفي سنة 533 للهجرة، إذ كان ابن رشد في الثالثة عشرة من عمره، وابن باجة هو الذي يسميه الأوروبيون
Avinpace
وهو أستاذ أبي الحسن علي بن عبد العزيز الذي رحل إلى مصر بعد موت أستاذه في مدينة فاس، ونقل معه خلاصة من مؤلفاته إلى مدرسة قوص بالصعيد الأعلى حيث مات ودفن، وقد كان ابن باجة على ديدن الكثيرين من علماء عصره جامعا بين الأدب والفلسفة والطب، وقيل إن حسد الأطباء له - ممن كانوا يزاحمونه في بلاط ابن تاشفين بمراكش - أغراهم به، فدسوا له عند الأمير ودسوا له السم في طعامه فمات ولم يكن يجاوز الأربعين، ويعتبر ابن باجة بحق أول رائد لثقافة الإغريق في الأندلس؛ فقد علق على كتب أرسطو وجالينوس، وترجمت تعليقاته إلى العبرية، وترجم إليها كتابه عن تدبير المتوحد وفيه شرح سبيل الوصول إلى الله بالمعرفة والرياضة، ويجمع بين أساليب الحكمة وأساليب التصوف، ويقسم أساليب «التوحد» الذي يعني العزلة، و«التوحد» الذي يعني وحدة الأشباه المشتركين في مطالب الحكمة والفضيلة.
أما بعد ابن باجة فأشهر الفلاسفة هما الزميلان ابن الطفيل وابن رشد، وقد اجتمعا زمنا في بلاط الموحدين، وكان ابن الطفيل أكبر من ابن رشد، ولكنه عاش بعده (توفي سنة 581 للهجرة)، ولم ينكب مثل نكبته، بل قيل إنه كان يأخذ مرتبه مع الأطباء والمهندسين والرماة والشعراء، ويقول كما جاء في كتاب «المعجب في أخبار المغرب»: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عليهم ...! (3) الحركة الاجتماعية
Page inconnue
وابن طفيل هو صاحب قصة «حي بن يقظان» التي ترجمت إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر، ونسب إليها نشاط القصة في العصر الحديث، وفحوى قصة حي بن يقظان أن الإنسان قد يصل إلى معرفة الله، ولو نشأ منفردا على جزيرة منعزلة لا يصحبه فيها أحد من بني نوعه، ويتمم رأيه في هذه القصة مذهبه في التصوف وإمكان الاتصال بالله وإدراك الحقائق الربانية برياضة النفس على الكشف والمناجاة.
18
ويبدو من أخبار ابن الطفيل وآثاره - على قلة هذه وتلك - أنه كان إلى مزاج الفنان الظريف أقرب منه إلى مزاج الفيلسوف الحكيم، وأنه كان خبيرا بفنون المنادمة والمسامرة، أثيرا عند أمير المؤمنين المنصور، لا يطيق هذا غيابه ولا يزال عنده أياما منقطعا عن أهله، وكان هذا هو الغالب على حكماء ذلك العصر وأطبائه ما عدا ابن رشد؛ فقد كان ابن ماجة يحسن فن النغم والإيقاع، وكان ينظم الموشحات ويلحنها ويغنيها، ومن موشحاته تلك الموشحة التي قيل إن صاحب سرقسطة أقسم ساعة سماعها لا يمشين ناظمها ومنشدها إلا على الذهب، وهي التي ختمها بقوله:
عقد الله راية النصر
لأمير العلا أبي بكر
ومن لباقته وحسن تصرفه في إرضاء الأمراء أنه أشفق من مغبة هذا القسم، فاحتال على تنفيذه بأن جعل في نعله قطعة من الذهب!
19
وكان ابن زهر زميل ابن رشد في الطب والحكمة أبرع أهل زمانه في فن التوشيح وفن التلحين، وله من الشعر الظريف ما يقل نظيره في بدائع الشعراء المنقطعين للهو والمنادمة ، وهو صاحب الأبيات في المرآة:
إني نظرت إلى المرآة أسألها
فأنكرت مقلتاي كل ما رأتا
Page inconnue
رأيت فيها شييخا لست أعرفه
وكنت أعهد فيها قبل ذاك فتى
20
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا
متى ترحل عن هذا المكان متى؟
فاستضحكت ثم قالت وهي معجبة
إن الذي أنكرته مقلتاك أتى
كانت سليمى تنادي يا أخي وقد
صارت سليمى تنادي اليوم يا أبتا
وله يتشوق إلى ولده بإشبيلية، وهو بمراكش:
Page inconnue
ولي واحد مثل فرخ القطا
صغير تخلف قلبي لديه
21
وأفردت عنه فيا وحشتا
لذاك الشخيص وذاك الوجيه
22
تشوقني وتشوقته
فيبكي علي وأبكي عليه
وقد تعب الشوق ما بيننا
فمنه إلي ومني إليه
Page inconnue
روى أبو القاسم بن محمد الوزير الغساني حكيم السلطان المنصور بالله الحسني، أن يعقوب المنصور سلطان المغرب والأندلس سمع هذه الأبيات فرق للحكيم الظريف، وأرسل المهندسين إلى إشبيلية، وأمرهم أن يرسموا بيت ابن زهر ويبنوا له بيتا مثله في مراكش، ففعلوا كما أمرهم وفرشوا البيت بمثل فرشه وجعل فيها مثل آلاته، ثم أمر بنقل أولاد ابن زهر وحشمه إلى تلك الدار، ثم أخذه معه إليها فدخلها فوجد ولده الذي تشوقه يلعب في فنائها، وخيل إليه أنه في منام.
وهذه فنون من المنادمة والتحبب إلى الأمراء لم يكن ابن رشد يحسن شيئا منها، ولعله كان أعلم أهل زمانه بالفلسفة والفقه وأجهلهم بفنون المنادمة والسياسة، وراض نفسه على التوقر فبالغ في رياضتها، وأنف أن يروى له شعر يتغزل فيه؛ فأحرق ما نظمه في صباه، وقد تقدم في تفضيله لقرطبة على إشبيلية أنه قال لابن زهر: إن المطرب الذي يموت في قرطبة تحمل آلاته إلى إشبيلية لتباع فيها. وهو قول لا يخلو من التعريض والترفع، غير ما نقل عنه كثيرا من سكينته وتورعه عن المزاح.
ومن المهم التنبيه إلى هذه الخصلة فيه وإلى مخالفته بها لنظرائه وأقرانه، فلا شك أن جهله بفنون الندمان وجلساء الأسمار كان له شأن أي شأن في تعجيل نكبته التي لا ترجع كلها إلى أحوال عصره، ولا تخلو من رجعة في بعض أسبابها على الأقل إلى أحواله.
هوامش
الفصل الثاني
ابن رشد في عصره
520-595 هجرية/1126-1198 ميلادية (1) حياة ابن رشد
أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، هو الفيلسوف الوحيد في أسرة من الفقهاء والقضاة، كان أبوه قاضيا، وكان جده قاضي القضاة بالأندلس، وله فتاوى مخطوطة لا تزال محفوظة في مكتبة باريس، تدل على ملكة النظر التي ورثها عنه حفيده، وقد كانت تعهد إليه مع القضاء مهام سياسية بين الأندلس ومراكش، فكان يضطلع بها على الوجه الأمثل، وتوفي سنة 520 للهجرة قبل مولد حفيده بشهر واحد.
وقد وردت ترجمة الحفيد الحكيم في مراجع متفرقة من كتب الأدب والتاريخ، وترجم له ابن أبي أصيبعة في كتابه «طبقات الأطباء»، وهو مطبوع، وترجم له الذهبي والأنصاري وابن الأبار في كتب مخطوطة، نشرت منها مقتبسات كافية بنصها العربي في ذيل كتاب لرينان عن ابن رشد والرشدية
Averroès et L’Averroisme
Page inconnue
طبع بباريس الطبعة الثالثة سنة 1866، واطلعنا عليها في تلك الطبعة، وعليها جميعا نعتمد في تلخيص ترجمة الفيلسوف.
نشأ بقرطبة وتعلم الفقه والرياضة والطب، وتولى القضاء بإشبيلية قبل قرطبة، واستدعاه الخليفة المنصور أبو يعقوب وهو متوجه إلى غزو ألفونس ملك أراجون سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، فأكرمه واحتفى به وجاوز به قدر مؤسسي الدولة - دولة الموحدين - وهم عشرة من أجلاء العلماء، فأجلسه في مكان فوق مكان الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص الهنتاني، وهو صهر الخليفة (زوج بنته) ... ويظهر أن شهرة القاضي بالفلسفة قد جعلته موضع النظر مع الحذر، فلما استدعاه المنصور ظن أهله وصحبه أنه عازله ومنكل به، فلما خرج من عنده بعد تلك الحفاوة أقبل عليه صحبه يهنئونه، فقال لهم قولة حكيم: «والله إن هذا ليس مما يستوجب الهناء به؛ فإن أمير المؤمنين قربني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمل فيه أو يصل رجائي إليه.»
وكلمة كهذه تكشف عن بصيرة الرجل وصدق رأيه، كما تكشف عن سليقة المعلم فيه؛ فإنه لو كان من أهل المنفعة بالمناصب لسره أن يؤمن الناس بزلفاه عند الخليفة، ولكنه علم الحقيقة فآثر الإرشاد بتعليمها على الانتفاع بما اعتقده الناس من وجاهته، وأيقنوه من عظم منزلته عند ذوي السلطان.
قال ابن الأبار:
1 «تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترفيع حال، ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة، ومنافع أهل الأندلس عامة.»
وقد صدقت فراسة ابن رشد؛ فإن الخليفة لم يلبث أن نكبه وأقصاه - كما سيأتي بيانه في الفصل التالي - وأمره بملازمة «اليشانة»، وهي قرية كانت قبل ذلك مأوى لليهود، قيل إنه نفي إليها؛ لأنه كان مجهول النسب بأرض الأندلس، وكان المظنون به أنه من سلالة بني إسرائيل، وهو ظن لا سند له من الواقع على الإطلاق. وقد شهد ابن جبير لجده بالتقوى والصلاح وصحة الدين حين هجاه في نكبته، فقال:
لم تلزم الرشد يا ابن رشد
لما علا في الزمان جدك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جدك
Page inconnue
2
والمتواتر من جملة أخباره أنه كان شديد الإكباب على البحث والمذاكرة، لم يصرف ليلة من عمره بلا درس أو تصنيف، إلا ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه، وربما شغله ذلك عن العناية ببزته
3
أو ادخار المال لأيام عوزه،
4
فكان يبذل العطاء لقصاده، ويلام أحيانا على البذل لمن لا يحبونه ولا يكفون عن اتهامه، فيقول: إن إعطاء العدو هو الفضيلة، أما إعطاء الصديق فلا فضل فيه. وقد أعطى مرة رجلا أهانه وحذره من فعل ذلك بغيره؛ لأنه لا يأمن بوادر غضبه.
على أنه كان يسامح في أمر نفسه ولا يسامح في أمر غيره، ومن ذاك قصته مع الشاعر ابن خروف حين هجا أبا جعفر الحميري العالم المؤدب؛ فقد أوجع الشاعر ضربا وأنذره ألا يعود لمثلها، ولو كان عفوه عن المسيئين إليه من قبيل المداراة لكانت مداراة الشعراء الذين يهجون غيره أقرب وأحجى.
5
وأثر عنه في قضائه أنه كان يتحرج من الحكم بالموت، فإذا وجب الحكم أحاله إلى نوابه ليراجعوه، وقد اجتمع له قضاء الأندلس والمغرب وهو دون الخامسة والثلاثين .
ولم يذكر قط عن القاضي الفيلسوف خبر من أخبار التبسط لمجالس اللهو والطرب مما استباحه جملة أبناء عصره، ومنهم طائفة من العلماء والحكماء، بل كان يتعفف عن حضور هذه المجالس، وبلغ من تعففه عما لا يراه خليقا بعلمه ومكانه من القضاء أنه أحرق شعره الذي نظمه في الغزل أيام شبابه، وعلى هذا كان يحفظ الجيد من الشعر ويرويه في مواطن الحكمة وشواهد المثل. وحكى عنه أبو القاسم بن الطيلسان أنه كان يحفظ شعري حبيب
Page inconnue
6
والمتنبي، ويكثر التمثل بهما في مجلسه ويورد ذلك أحسن إيراد.
قال ابن الأبار: «كان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا.»
وكان هذا الخلق منه مطمع الطامعين في تواضعه وفي كرمه. دخل إليه أبو محمد الطائي القرطبي، فتلقاه قائما كعادته في لقاء زائريه، فقال الشاعر:
قد قام لي السيد الهمام
قاضي قضاة الورى الإمام
فقلت قم بي ولا تقم لي
فقلما يؤكل القيام
وظاهر أن هذه الخلائق الطيبة قد تغني المعلم أو الفيلسوف أو القاضي في صناعته، ولكنها لا تغني جليس الملوك في صناعة المنادمة والملازمة، بل لعلها تحرجه عندهم وتعرضه لإعراضهم ومقتهم؛ لأن هذا التواضع فيه لم يكن عن ضعة ولا عن استكانة، بل كان عن كرم وكرامة وشعور بالمساواة بين الناس في المجاملة وحسن المعاملة، فكان يخاطب الخليفة في مجلسه فيقول له: يا أخي! وكانت أمانة التعبير العلمي أحق عنده بالرعاية من زخرفة القول في ألقاب الملوك والأمراء، حيث لا محل لها بين تقريرات العلماء والفلاسفة، فلما شرح كتاب الحيوان لأرسطو زاد عليه عند ذكر الزرافة أنه رآها «عند ملك البربر ...» ومثل هذا اللقب هو الصدق الذي يجمل بالعالم في درسه وبحثه، ولكنه لم يكن جميلا عند الرجل الذي يسمي نفسه ويسميه من حوله بأمير المؤمنين وأمير الدين، ولما بلغ الأمر مسمع هذا الأمير لم يغن عن ابن رشد أنه تمحل
7
Page inconnue
المعاذير، وقال إنه قد أملاها «ملك البرين» فصحفها النساخون حين نقلوها إلى ملك البربر ... إذ كان سم الوقيعة قد سرى مسراه ووافق ما كان في نفس الأمير من الغيظ لمناداته باسم الإخاء، فلم يدفع عنه عذر النديم ما جلبه عليه صدق العلماء.
أو لعله قد وافق في نفس الأمير غيظا آخر لم يكن صاحبنا الفيلسوف يلتفت إليه أو يحسبه مما يعاقب عليه؛ فقد كان يصادق أخا الخليفة (أبا يحيى) والي قرطبة كما كان يصادق الخليفة ... فلم يعدم واشيا يقول، وسامعا يسمع أن وراء هذه الصداقة للأخ عداوة مستترة لأخيه، توشك أن تنكشف عن تمرد وعن ولاء للمتمردين.
ولما أراد الخليفة أن ينكبه لم يذكر في أسباب نكبته سببا من هذه الأسباب بطبيعة الحال، بل أحال على الدين تبعة هذه النكبة كما سيأتي بيانه، وأعلن من ذنوب الفيلسوف ما هو ذنب الأمير في باطن الأمر؛ لأنه تعلل عليه بإدمان النظر في كتب القدماء، وقد كان أبو الأمير هو مغريه بالنظر فيها ومعالجة شرحها وتيسيرها لطلابها. (2) نكبته وأسبابها
يحتاج المؤرخ في كل مصادرة فكرية أو دينية إلى البحث عن سببين: أحدهما معلن والآخر مضمر، فقليلا ما كان السبب الظاهر هو سبب النكبة الصحيح، وكثيرا ما كان للنكبة - غير سببها الظاهر - سبب آخر يدور على بواعث شخصية أو سياسية تهم ذوي السلطان، ويسري هذا على الشعراء كما يسري على الفلاسفة، ويسري على الجماعات كما يسري على الآحاد.
لقد نكب بشار ولم ينكب مطيع بن إياس، وكلاهما كان يتزندق ويهرف
8
في أمور الزندقة بما لا يعرف، ولكن بشارا هجا الخليفة، ومطيع لم يقترف هذه الحماقة، فنجا مطيع وهلك بشار.
ولم يكن ابن رشد أول شارح لكتب الأقدمين، فقد سبقه ابن باجة إلى شرح بعضها، وإن لم يتوسع في هذا العمل مثل توسعه، ولكن ابن باجة كان يحسن مصاحبة السلطان، وابن رشد لم يكن يحسن هذه الصناعة، فنكب ابن رشد ولم ينكب ابن باجة، ولم يغن عن الفيلسوف المنكوب أنه شرح الكتب كما تقدم بأمر من أبي الخليفة.
وقد كتب المؤرخون كثيرا عن اضطهاد اليهود في دولة الموحدين، وقيل إنهم كانوا مضطهدين تعصبا من رؤساء الدولة لمخالفتهم إياهم في الدين، وحقيقة الأمر أن الخليفة كان يتهم الذين تحولوا منهم إلى الإسلام كما كان يتهم الباقين على دينهم، وكان يقول: لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، وقد كان بعضهم على صلة بخدمة الإفرنج. وجاء في كتب «بغية الملتمس» أنه كان في صحبة جيش الأذفنش تجار من اليهود وصلوا لاشتراء أسرى المسلمين.
فلم يكن اضطهاد هذه الطائفة لمخالفتها في الدين، ولكنها اضطهدت لما خامر أصحاب الدولة من الشك في مساعيها الخفية، ومنها ما يخشى ضرره على الجيش في إبان القتال، وأما في غير هذه الحالة فلم يكن ثمة اضطهاد ولا مصادرة، وكان من اليهود من ارتقى إلى مناصب الوزارة.
Page inconnue
ولا نعتقد أن نكبة ابن رشد كانت شذوذا من هذه القاعدة في بعض أسبابها على الأقل إن لم نقل في جميعها، وقد مر بنا أن المنصور أنكر منه مخاطبته إياه بغير كلفة، وأنه ذكره في كتاب الحيوان باسم ملك البربر، وأنه كان وثيق الصلة بأخيه الذي كان يخشى من منافسته إياه، وبعض هذه البواعث كاف لاستهداف الفيلسوف لغضب المنصور، ولكن المعروف عن أمراء الموحدين أنهم كانوا يتحرجون من إيقاع العقاب بالناس لأمثال هذه الأسباب، فمن الراجح أنه تعلل لعقاب ابن رشد بعلة ترضي ضميره وترضي جمهرة الشعب بالذريعة المقبولة في أمثال هذه الأحوال.
فمن هذه الذرائع «أن قوما ممن يناوئه من أهل قرطبة ويدعي معه الكفارة في البيت وشرف السلف سعوا به عند أبي يوسف، ووجدوا إلى ذلك طريقا بأن أخذوا بعض تلك التلاخيص التي كان يكتبها، فوجدوا فيها بخطه حاكيا عن بعض قدماء الفلاسفة بعد كلام تقدم: فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة ... فأوقفوا أبا يوسف على هذه الكلمة، فاستدعاه بعد أن جمع له الرؤساء والأعيان من كل طبقة وهم بمدينة قرطبة، فلما حضر أبو الوليد - رحمه الله - قال له بعد أن نبذ إليه الأوراق: أخطك هذا؟ فأنكر ... فقال أمير المؤمنين: لعن الله كاتب هذا الخط، وأمر الحاضرين بلعنه ...»
9
ونحن نعلم اليوم بعد دراسة أساطير اليونان أنهم كانوا يسمون الزهرة ربة الحب، وأنهم أخذوا هذا من البابليين، وأن كلمة فينوس - أي الزهرة - مأخوذة من كلمة «بنوت»، أي «بنت»، وكانت فاؤها تكتب باء في بعض الكتب اليونانية القديمة، وأن هذا كله لا يتعدى المجاز، كما يقول القائل منهم رب البحر وربة الغاب وربة الغناء وأشباه هذه الأسطورات، ولا يبعد أن الأسطورة قد رويت في كتب ابن رشد كما نقلها عن اليونان على هذا المثال ... أما أن يكون ابن رشد معتقدا ربوبية الزهرة ربة الحب أو ربة غيره فذلك بعيد، جد بعيد.
وقيل في أسباب النكبة إن حساد ابن رشد دسوا عليه أناسا من تلاميذه يستملونه شرح الكتب الفلسفية، فشرحها لهم ونقلوها عنه كأنها من رأيه وكلامه، وأشهدوا عليها مائة شاهد ثم رفعوها إلى الخليفة، وطلبوا عقابه لانحلال عقيدته، فنكبه وألزمه أن ينزوي في قرية اليشانة (لوسينا) بجوار قرطبة ولا يبرحها.
فإذا صح حدوث هذا في إبان اشتغال الخليفة بحرب الإفرنج وتوجسه من أهبة الخارجين عليه في الخفاء، فالأرجح أنه هو ذريعة النكبة؛ لأن الغضب الديني يحتدم في إبان العداوات الدينية، فلا يتحرج الخليفة من إرضاء الناس وإرضاء ضميره وإرضاء هواه في مثل هذه الحال، وقد نكبت مع ابن رشد طائفة من القضاة والفقهاء وذوي المناصب، لا يبعد أن يكون الخليفة قد ظن بهم الظنون وشك في ممالأتهم لمنافسيه ومناظريه، ولم يتسع له الوقت لاستقصاء مظان التهمة، ولا كان في وسعه أن يسكت عن قضية الثائرين باسم الغيرة على الدين، فلحقت به النكبة من هذا الطريق.
وجاء في ترجمة الأنصاري له: «حدثني الشيخ أبو الحسن الرعيني - رحمه الله - قراءة عليه ومناولة من يده، ونقلته من خطه قال: وكان قد اتصل - يعني شيخه أبا محمد عبد الكبير - بابن رشد المتفلسف أيام قضائه بقرطبة وحظي عنده فاستكتبه واستقضاه. وحدثني - رحمه الله - وقد جرى ذكر هذا المتفلسف وما له من الطوام في محادة الشريعة - فقال: إن هذا الذي ينسب إليه ما كان يظهر عليه، ولقد كنت أراه يخرج إلى الصلاة وأثر ماء الوضوء على قدميه، وما كدت آخذ عليه فلتة إلا واحدة، وهي عظمى الفلتات، وذاك حين شاع في المشرق والأندلس على السنة المنجمة أن ريحا عاتية تهب في يوم كذا وكذا في تلك المدة تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى جزع الناس منه واتخذوا الغيران والأنفاق تحت الأرض توقيا لهذه الريح، ولما انتشر الحديث بها وطبق البلاد واستدعى والي قرطبة إذ ذاك طلبتها وفاوضهم في ذلك، وفيهم ابن رشد - وهو القاضي بقرطبة يومئذ - وابن بندود، فلما انصرفوا من عند الوالي تكلم ابن رشد وابن بندود في شأن هذه الريح من جهة الطبيعة وتأثيرات الكواكب. قال شيخنا أبو محمد عبد الكبير - وكنت حاضرا - فقلت في أثناء المفاوضة: إن صح أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تعلم ريح بعدها يعم إهلاكها. قال: فانبرى إلي ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقا؛ فكيف سبب هلاكهم؟ فسقط في أيدي الحاضرين وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ...»
وقصة عبد الكبير هذه لم يرد لها ذكر في سياق الاتهام والمحاكمة، وقد كان الاستناد إليها أولى من تصيد التهم واختلاس الأوراق والبحث فيها عن المعاني المتشابهة؛ لأن الكلمة قد بدرت من ابن رشد - إذا صحت قصة عبد الكبير - على مسمع من «حاضرين» كثيرين.
ومن الغريب حقا أن تبدر تلك الكلمة من ابن رشد مع التزامه لشعائر الدين قبل النكبة وبعدها، وقد كان صاحب القصة يراه - كما قال - يخرج إلى الصلاة وعلى قدميه أثر الماء، وقد اعترف كاتب المنشور الذي أذاع حرمان ابن رشد بهذا الحرص على التزام الشعائر، فقال: «إنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وغيهم وبهتانهم ...» وقد ثابر على حضور الصلاة في المسجد بعد النكبة ، وأخبر عنه أبو الحسن بن قطرال، فقال: «إن أعظم ما طرأ عليه في النكبة أنه دخل وولده عبد الله مسجدا بقرطبة - وقد كانت صلاة العصر - فثار لهما بعض سفلة العامة فأخرجوهما ...» وكان يقول في درس الطب: «من اشتغل بعلم التشريح ازداد إيمانا بالله.»
فصدور الكلمة التي نقلها عبد الكبير عن ابن رشد غريب غاية الغرابة من رجل يظهر ذلك الورع ويلتزم الشريعة ذلك الالتزام، ولو كان يفعل ذلك من باب الرياء والمداراة، فإن متعمد الرياء أحرص على بدواته
Page inconnue
10
وسهواته من المخلص الذي يأمن الريبة ولا يتكلف الاحتراس مع الناس.
إلا أن التمحل باسم الدين لم يكن بالنادر في ذلك الزمن، وقد عرفنا شواهده المكتوبة في كلام رجل من أهل العلم كالفتح بن خاقان صاحب قلائد العقيان، فإنه رضي عن ابن باجة فقال عنه إنه: «نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار.»
ثم سخط عليه فقال: «هو رمد عين الدين، وكمد نفوس المهتدين ... نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم العليم.»
فإذا جاز هذا من رجل كالفتح بن خاقان في رجل يحسن مسايرة الناس كابن باجة، فليس بالبعيد أن يصيب ابن رشد طائف من تلك التهم، وهو في تزمته وصدقه للعلم ومكانته العالية عرضة لنقمة الكاذبين والحاسدين.
ولا نعني أن كتبه لم يكن فيها ما يساء فهمه أو ما يفهمه المخالف فينكره، ولكننا نعني أن سر التهمة كلها بعيد من هذه العلل، وأن للنكبة باطنا غير ظاهرها، ليس من العسير أن نستشفه من مجمل أحواله وأحوال زمانه وأميره.
فمن مجمل أحواله أنه كان رجلا يحسن المساجلة ولا يحسن المنادمة، ولا يبالي تزييف لغة «البلاط» في سبيل تحقيق لغة العلم ورفع الكلفة من مجالس الباحثين فيه، ولو كانوا من الملوك والأمراء. ومما يصح أن يشار إليه من لواحق هذا أنه غفل عن مكانة الغزالي عند ملوك الموحدين، وهو أستاذ أستاذهم الأكبر، فرد عليه دفاعا عن الفلاسفة ، ولم يبال في هذا الدفاع أن ينسب إليه المغالطة.
ومن مجمل أحوال الزمن أنه كان زمن العداوات الدينية، وكانت أخطار الحروب فيه بين المسلمين والإفرنج على أشدها، فكان من أصعب الأمور على الحكام أن يتعرضوا لغضب العامة إذا وقع في وهم هؤلاء أن قاضيا من أعظم القضاة يشتغل بالعلوم التي يرتابون بها ويحسبونها من الكفر والضلالة، وقد اشتهر عن ابن رشد أنه كان مصادقا لأخي الخليفة، وتبين من تاريخ تلك الفترة أن المنافسة فيها على الملك كانت حربا ضروسا لا تنقطع في وقت من الأوقات، فلا يبعد أن ينكب الخليفة ابن رشد؛ اتهاما له بمشايعة أخيه، واتهاما لأخيه بمصاحبة الفلاسفة وإضمار الكفر والضلالة.
أما عفو الخليفة عن ابن رشد بعد ذلك فليس تفسيره بالعسير؛ فإنه قد عفا عنه عقب عودته من الأندلس إلى مراكش، وبعد زوال الغاشية ووضوح الحقيقة في ظنونه بأخيه وجلساء أخيه. وقد قيل إنه أقبل على الفلسفة التي تجنبها حينا فأكثر من الاطلاع على كتبها، فإذا وافق ذلك شفاعة الشافعين في الحكيم المغضوب عليه فقد وضح سر النكبة وسر العفو، ولم يكن فيه غريب غير مألوف من خلائق الملوك وخلائق الدهماء مع الحكماء والفضلاء.
هوامش
Page inconnue
الفصل الثالث
جوانب ابن رشد
(1) آثار ابن رشد
لا ندري ماذا أحرق من تلك الشروح عند نكبة الفيلسوف، وماذا أعان الزمن على ضياعه بعد موته، ولكن البقية الباقية منها تدل على شروح متعددة لا على شرح واحد لكل كتاب تناوله من كتب الفلسفة أو الطب بالتفسير والتيسير؛ فقد كان من دأبه على ما يظهر أن يتناول الكتاب بالشرح المطول، ثم بالشرح الوسيط، ثم بالإيجاز الذي لا يقترن بشرح كثير. وقد سرد ابن أبي أصيبعة أسماء هذه الشروح، ومنها تلخيص كتاب ما بعد الطبيعة، وتلخيص كتاب الأخلاق، وتلخيص كتاب البرهان، وتلخيص كتاب السماع الطبيعي، وشرح كتاب السماء والعالم وكتاب النفس، وكلها من فلسفة أرسطو، ومنها في الطب تلخيص كتاب الأسطقسات (أي: العناصر والأصول)، وكتاب المزاج، وكتاب القوى الطبيعية، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب التعرف ، وكتاب الحميات، وأول كتاب الأدوية، والنصف الثاني من كتاب حيلة البرء، وكلها لجالينوس.
ولم يكن ابن رشد يعرف اليونانية، ولكنه اعتمد على المترجمات التي نقلت من الشرق إلى الأندلس، وعلى أستاذه أبي جعفر هارون الطبيب المشارك في الحكمة وعلم الكلام.
ومن تآليفه في الطب غير هذه الشروح كتاب الكليات، وقصد أن يجمع فيه الأصول الكلية، وأن يعهد إلى صديقه ابن زهر أن يتممه بكتاب في الأمور الجزئية «لتكون جملة كتابيهما كتابا كاملا في صناعة الطب»، وقد أشار إلى ذلك في ختام كتابه، فوعد باستيفاء الجزئيات في «وقت نكون فيه أشد فراغا لعنايتنا في هذا الوقت بما يهم من غير ذلك، فمن وقع له هذا الكتاب دون هذا الجزء وجب أن ينظر بعد ذلك في الكنايش - أي: الكناشات والتعليقات - وأوفق الكنايش له الكتاب الملقب بالتيسير الذي ألفه في زماننا هذا مروان بن زهر، وهذا الكتاب سألته أنا إياه وانتسخته، فكان ذلك سبيلا إلى خروجه».
ولابن رشد شرح على أرجوزة لابن سينا في الطب، وتعليقات من قبيل المذكرات توجد منها أوراق متناثرة في بعض المكتبات الأوروبية.
وله من التواليف - عدا الشروح: رد على تهافت الفلاسفة للغزالي سماه «تهافت التهافت»، ورسالة في التوفيق بين الحكمة والشريعة سماها «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، ورسالة في نقد براهين المتكلمين والمتصوفة سماها «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وكتاب في «الفحص هل يمكن العقل الذي فينا - وهو المسمى بالهيولاني - أن يعقل الصور المفارقة أو لا يمكن ذلك، وهو المطلوب الذي كان أرسطوطاليس وعدنا بالفحص عنه في كتاب النفس»، ومقالة في أن ما يعتقده المشاءون وما يعتقده المتكلمون من أهل ملتنا في كنيته وجود العالم متقارب في المعنى، ومقالة في المقابلة بين آراء أرسطو وآراء الفارابي، وغير ذلك تعليقات وردود على ابن سينا وابن باجة وابن الطفيل في مسائل النفس والعقل والاتصال بالعقل الفعال، وما قيل عن قدم العالم وحدوثه، هي أقرب إلى المقالات القصار منها إلى المطولات.
وهناك قوائم بأسماء مؤلفاته التي لا تزال محفوظة في مكتبة الإسكوريال بأسبانيا لا حاجة إلى إثباتها هنا؛ لأن موضوعاتها الفلسفية جميعا داخلة في هذه الموضوعات التي اشتهر الفيلسوف بشرحها أو الكتابة فيها.
أما كتبه في الفقه، فالمعروف منها كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو مرجع لم يزل معتمدا بعد نكبة مؤلفه يضرب به المثل في الشعر للإجادة والطموح، كما قال ابن زمرك بعد وفاة ابن رشد بأكثر من مائتي سنة:
Page inconnue