حدود التأويل
إذا كان هذا هكذا، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به، فإن كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي.
وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا، فإن كان موافقا فلا قول هناك، وإن كان مخالفا طلب هناك تأويله.
ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو سببه، أو لاحقه، أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي.
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية؛ فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان؟
فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف بالبرهان عنده قياس يقيني، ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع فذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن، وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول، بل نقول إنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد.
ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها من ظاهرها بالتأويل، واختلفوا في المؤول منها وغير المؤول.
فالأشعريون مثلا يتأولون آية الاستواء وحديث النزول، والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره، والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق، والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها، فإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات
إلى قوله:
Page inconnue