ولولا نشأة المباحث العلمية الحديثة وانصراف العقول إليها بعد القرن السابع عشر لما انقطع ذلك السجال.
وتتابعت في العالم الإسرائيلي مساجلات كهذه أو أشد منها عنفا، كان المعارضون فيها لابن رشد يستندون إلى كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» في الرد عليه. •••
ونحسب أن سر هذه القوة في معارك الفلسفة الرشدية أنها اشتملت على مباحث ترتبط بالعقائد الدينية، وأنها ظهرت عند نهاية عصر التقليد وبداية عصر الاجتهاد، فكان لها شأنها عند الأحبار والعلماء، وبين المقلدين والمجتهدين.
وقد شاءت لهذه الفلسفة «قوتها الحيوية» أن تعاود الظهور بيننا في الشرق العربي، وفي أوائل القرن العشرين، فدارت حولها مساجلة طويلة بين الأستاذ الإمام محمد عبده والأديب الألمعي فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، وكانت هذه المساجلة في حينها حديث المحافظين والمجددين بين أبناء البلاد العربية والإسلامية من مراكش إلى التخوم الهندية.
ولعل هذه المساجلة تهدينا إلى أسباب اتساع الخلف وانفراج مسافته بين المتناقشين في هذه المسائل وأشباهها؛ فإن اتساع الخلف بينهم إنما يأتي على الأغلب الأعم من اختلاف المراجع التي يعتمدون عليها، وهذا الذي حدث في مناقشة الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون، فلم يكن أحدهما يعتمد على مراجع الآخر في مسألة من مسائل الفلسفة الرشدية أو الفلسفة الإسلامية على التعميم.
قال الأستاذ الإمام: «وأما العقل الأول فليس كما تقول الجامعة؛ فإن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو أول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمى عندهم بالفلك الأطلس، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية، وعقل آخر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم بالعقل الفعال أو العقل الفياض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية، وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.»
وهذا كله صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق على الجملة، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرة، ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين، ويقول من كتاب «تهافت التهافت» في مسألة تعدد العقول: «ولسنا نجد لأرسطو ولا لمن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم إلا لفرفريوس الصوري
22
صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذاقهم.»
أما الأستاذ فرح أنطون فكان جل اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسع في الاطلاع على كتاب التهافت وغيره توسع استقصاء، وقد صرح بذلك حيث قال: «... لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم ... فأخذنا كتابا للمستر مولر، عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه الدينية، وكتابا آخر عنوانه: ابن رشد وفلسفته، وهو للفيلسوف رينان المشهور.»
Page inconnue