وقال قبل ذلك بقليل عن وصف العالم الآخر كما يدركه جمهور الناس: «... تمثيل المعاد لهم بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، كما قال سبحانه:
مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ، وقال النبي عليه السلام: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر بخاطر بشر.» وقال ابن عباس: (ليس في الدنيا من الآخرة إلا الأسماء).»
وأشار قبل ذلك إلى قول أرسطو إن الشيخ لو كان له عين كعين الشاب لأبصر كما يبصر الشاب، وإن هذا قد يكون معناه أن قوة النظر ضعفت هنا لضعف الآلة لا لضعف القوة النفسية. ثم قال: «ويستدل على ذلك ببطلان الآلة أو أكثر أجزائها في النوم والإغماء والسكر والأمراض التي يبطل فيها إدراكات الحواس، فإنه لا يشك أن القوى ليس تبطل في هذه الأحوال، وهذا يظهر أكثر في الحيوانات التي إذا فصلت بنصفين تعيش، وأكثر النبات هو بهذه الصفة مع أنه ليس فيه قوة مدركة. فالكلام في أمر النفس غامض جدا، وإنما اختص الله به من الناس العلماء الراسخين في العلم؛ ولذلك قال سبحانه مجيبا في هذه المسألة للجمهور عندما سألوه بأن هذا الطور من السؤال ليس هو من أطوارهم في قوله سبحانه:
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ، وتشبيه الموت بالنوم في هذا المعنى فيه استدلال ظاهر في بقاء النفس من قبل أن النفس يبطل فيها فعلها في النوم ببطلان آلتها ولا تبطل هي، فيجب أن يكون حالها في الموت كحالها في النوم؛ لأن حكم الأجزاء واحد، وهو دليل مشترك للجميع لائق بالجمهور في اعتقاد الحق، ومنبه للعلماء على السبيل التي منها يوقف على بقاء النفس، وذلك بين من قوله سبحانه:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها .»
وقد كرر ابن رشد قوله بغموض مسألة الروح في كتابه «فصل المقال» وعاب قوما متفلسفين في زمانه حيث يقول: «شهدنا منهم أقواما ظنوا أنهم تفلسفوا وأنهم قد أدركوا بحكمتهم العجيبة أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه - أعني لا تقبل تأويلا - وأن الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور، فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سببا لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة.»
وقال ابن رشد في كتاب «تهافت التهافت» يرد على الغزالي حيث ينفي أن الواحد لا تأتي منه الكثرة: «إن هاهنا من الخيرات خيرات ليس يمكن أن توجد إلا يشوبها شر، كالحال في وجود الإنسان الذي هو مركب من نفس ناطقة ونفس بهيمية.»
وقال في «تهافت التهافت» أيضا: «الفاعل المطلق ليس يصدر عنه إلا فعل مطلق، والفعل المطلق ليس يختص بمفعول دون مفعول، وبهذا استدل أرسطاطاليس على أن الفاعل للمعقولات الإنسانية عقل متبرئ عن المادة - أعني من كونه يعقل كل شيء - وكذلك استدل على العقل المنفعل أنه لا كائن ولا فاسد من قبل أنه يعقل كل شيء.»
أما كثرة العقول المفارقة - أي المجردة في اصطلاح عصرنا - فتعليلها كما قال في هذا الكتاب أنه «يشبه أن يكون السبب في كثرة العقول المفارقة اختلاف طبائعها القابلة فيما تعقل من المبدأ الأول، وفيما تستفيد منه الوحدانية الذي هو فعل واحد في نفسه كثير بكثرة القوابل له، كالحال في الرئيس الذي تحت يده رئاسات كثيرة، وهذا يفحص عنه في غير هذا الموضع، فإن تبين شيء منه وإلا رجع إلى الوحي ...»
أما الوحي فقد قال فيه: «إن الذي يقول به القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنما هو عن الله - تبارك وتعالى - بتوسط موجود روحاني ليس بجسم، وهو واهب العقل الإنساني عندهم، وهو الذي تسميه الحدث منهم العقل الفعال، ويسمى في الشريعة ملكا.»
Page inconnue