145

Ibn Hanbal : Sa vie et son époque – Ses opinions et sa jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

لأن القرآن الكريم قد ورد فيه آيتان هما في ظاهرهما متعارضان: (إحداهما) قوله تعالى: ((وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة)) (والأخرى) قوله تعالى: ((لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير)) وأحمد في مسلكه لا يجعل القرآن عضين، فلا يضرب بعضه ببعض، فاستعان بالسنة، وفيها الفصل، وعلى ذلك أثبت الرؤية يوم القيامة، ولعله جعل النفي في الآية الثانية إنما هو في الدنيا، ولقد سلك هذا المسلك ابن قتيبة في اختلاف اللفظ، فقد قال بعد أن ذكر الآيتين السابقتين، وقوله تعالى لموسى ((لن تراني)):

((إنه أراد لا تدركه الأبصار في الدنيا، وأراد لن تراني في الدنيا، لأنه تعالى احتجب عن جميع خلقه في الدنيا، وتجلى لهم يوم الحساب، ويوم الجزاء والقصاص، فيرونه، كما يرى القمر في ليلة البدر، لا يختلفون فيه، كما لا يختلفون في القمر .... وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصر على الكتاب، ومفسر له، والخبر في الرؤية من الأخبار التي لا يدفعها إلا جاهل أو معاند ظالم، لتتابع الروايات من الجهات الكثيرة عن الثقات فلما قال عز وجل: ((لا تدركه الأبصار)) وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ترون الله يوم القيامة» لم يخف على ذي نظر أنه في وقت دون وقت ...... ))(١)

٢٤- هذه جملة من آراء أحمد في الموضوعات التي خاض فيها علماء الكلام، وأثاروا حولها المشكلات في هذا العصر، وتراه فيها التزم في دراستها المنهاج الذي التزمه في دراسة الفقه، وقد اعتصم فيها عن الشطط، ومجاوزة الحد، بأمرين:

(أحدهما) أنه التزم النصوص لا يعدوها، ولا يؤولها، ولا يفسرها بغير ظاهرها، وإن احتاج فهمها إلى الاستعانة بأمر من خارجها، لا يتخذ من العقل المجرد معيناً، بل يتخذ المدد والمعين من السنة، يفسر بها الكتاب، ولا يضرب بعضه ببعض، كما كان يرمي المتكلمين الذين أثاروا المشكلات في عصره.

(ثانيهما) أنه فيما أثبت لله من صفات جاءت بالكتاب، أو جاءت بها السنة النبوية، كان حريصاً على نفي المشابهة بين الله تعالى وخلقه، استمساكاً بقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) فهو في إثبات الصفات وإثبات الرؤية كان حريصاً على أن ينفي المشابهة بين الله سبحانه، وأحد من خلقه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

(١) الاختلاف في اللفظ ص ٢٣.

144