إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا . وأشباه ذلك من الآيات التي يستدلون بها كثيرة، ونحن نقول: إن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها، فإنها ليست عامة للناس.
هذا ما يقوله ابن رشد، وهو اعتراف كامل للمتصوفة بصحة النهج، واعتراف كامل من رجل من أعلام الفلسفة الذين يؤمنون بالعقل والتجربة بأن التجرد والتصفية طريق للعلم والمعرفة، وهو ليس عاما للناس وليس معراجا لكل متعبد زاهد، وما قال الصوفية غير هذا.
والأبلغ من هذا في الدلالة على صدق النهج الصوفي، الذي يلمزه كثير من المتعالمين جهلا وطيشا، أن فلاسفة اليونان أنفسهم، وهم أساتذة الفلسفة، قد سلكوا إلى المعرفة نهجا صوفيا.
يقول طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة»: «ثم اعلم أن أفلاطون الحكيم كان يعلم بعضا من تلاميذه بطريق التصفية، وإعمال الفكر الدائم في جناب القدس، وسموا بالإشراقيين؛ لأن فيوضاتهم كانت إشراقا نفسيا، وبعضا منهم بطريق البحث والنظر، فسموا المشائين.»
وإذن؛ فالفلسفة تؤيد التصوف في أن التصفية والتجرد والتطهر، يكسب الروح إشراقا تصل به إلى المعارف كافة.
وإذن؛ فهناك قربى وثيقة بين التصوف والفلسفة، إذا جردت الفلسفة من ضلالها فيما وراء الطبيعة؛ لأنها اعتمدت على العقل دون الشرع في فهم الإلهيات، وليس هذا للعقل، وما ينبغي له أن يلج في معارج أعلى من طاقته، ومن فوق إمكانياته وطبيعته.
يقول محيي الدين: «اعلم أن الفلاسفة ما ذمت لمجرد ذلك الاسم، وإنما هو لما أخطئوا فيه من العلم المتعلق بالإلهيات؛ فإن معنى الفيلسوف: المحب للحكمة، والحكمة غاية كل عاقل.»
ثم يقول: «إياك أن تبادر إلى إنكار مسئلة قالها فيلسوف وتقول: هذا مذهب الفلاسفة؛ فإن هذا قول من لا تحصيل له؛ إذ ليس كل ما قاله الفيلسوف يكون باطلا، فعسى أن تكون تلك المسألة مما عنده من الحق، وقد وضع الحكماء من الفلاسفة كتبا كثيرة مشحونة بالحكم والتبرؤ من الشهوات، ومكايد النفوس وما انطوت عليه من خفايا الضمائر؛ فكل ذلك علم صحيح موافق للشرائع، فلا تبادر يا أخي إلى الرد في مثل ذلك، وتمهل وأثبت قول ذلك الفيلسوف، حتى تحد النظر، فقد يكون ذلك حقا موافقا للشريعة.»
وتلك آية من آيات السماحة الفكرية التي يمتاز بها محيي الدين، بل يمتاز بها كل رجال الحقائق، وذلك هو موقف المتصوف المنصف من الفلسفة، لا ينكر منها إلا ما أنكر الشرع، ويقبل منها ما يقبله الشرع؛ فميزان المتصوفة القسط الذي يزنون به كل ما يرد إليهم: هو الشريعة، وهو ميزان لا يضل صاحبه أبدا.
وعند محيي الدين: أن الفلسفة كانت شريعة إدريس - عليه السلام، وإنها من المعارف السماوية، وإنه أعمل فكره كثيرا ليصل إلى سر ما أصابها من ضلال في المعاني الإلهية، فيقول: «لقد دخلت الخلوة وعملت على الاطلاع على الحقيقة الإدريسية، فرأيت الخطأ إنما دخل على الفلاسفة من التأويل؛ وذلك لأنهم أخذوا العلم عن إدريس - عليه السلام، فلما رفع إلى السماء، اختلفوا في شريعته، كما اختلف علماء شريعتنا، فأحل هذا ما حرم ذلك وبالعكس، ثم جرت بهم الأيام فارتكبوا هذه الأخطاء في فهم الإلهيات.»
Page inconnue