ويقول ابن حزم في كتابه: «الفصل في الملل والنحل»: «الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود من تعلمها، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة المؤدية إلى سلامتها في المعاد، وحسن سياستها للمنزل والرعية، وهذا نفسه لا غيره هو غرض الشريعة.»
ويقول ابن رشد في كتابه: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»: «وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق، والعمل الحق؛ والعلم الحق: هو معرفة الله - تعالى - وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق: هو امتثال الأفعال التي تقيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تقيد الشقاء، والمعرفة بهذه الأفعال هو الذي يسمى العلم العملي - أي: الفلسفة.»
تلك هي الصلات بين الفلسفة والتصوف؛ فغاية الفيلسوف أن ينجلي لعقله الكون بمعارفه وأسراره، وغاية الصوفي أن تنزل على قلبه إلهامات المعرفة العامة الشاملة عن طريق العبادة، والفيلسوف يرى أن هذه غاية الغايات، أما الصوفي فيرى غاية الغايات رضا الله، والفوز بلقائه ونعيمه في الآخرة.
ولقد تنبه لهذا التشابه في الأهداف بعض رجال الاستشراق، حتى إن «ماسنيون» اعتبر الكندي والفارابي وابن سينا من متصوفة الإسلام.
وقد أصاب ماسينيون هنا وأخطأ: أصاب؛ إذ تنبه لأن التصوف تنطوي تحته المعارف الفلسفية كافة، وأخطأ لأنه لم يتنبه إلى أن أساس التصوف وقوامه هو العبادة والصفاء، والتمسك الكامل بالشريعة المحمدية وآدابها ومناهجها. وهي الشريعة التي انحرف عن شروطها كثير من الفلاسفة، ولا أبرئ من هذا الانحراف الكندي والفارابي وابن سينا، الذين جعلوا العقل الكامل في مرتبة الوحي، وجعلوا حجة العقل آية يحتكمون إليها حتى في أحكام الإسلام، وهو ما يبرأ منه التصوف وينكره ويحاربه.
ولقد تعرض المتصوفة للفلاسفة، في معارك متعددة دارت رحاها حول الإلهيات، وهي التي أخطأت فيها الفلسفة وضلت؛ لاعتمادها على العقل، وعدم تقيدها بالدين.
وتعرض بعض الفلاسفة للمتصوفة، منكرين عليهم الزهد والاستغراق في العبادة، والنفور من الدنيا وتهوين شأنها، واتخاذهم التطهير والتصفية والتجرد طريقا للوصول إلى المعارف والعلوم النظرية والربانية، ولكن الكثرة الغالبة من رجال الفلسفة لم تنكر التطهر والتجرد والتصفية كمعراج إلى العلوم؛ وإنما قالوا: إنه ليس بالطريق السلطاني المباح للناس.
يقول ابن رشد: وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقا نظرية، أعني مركبة من مقدمات وأقيسة؛ وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات، شيء يلقى في النفس عند تجريدها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون لتصحيح هذا بظواهر من الشرع كقوله - تعالى:
واتقوا الله ويعلمكم الله ،
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ،
Page inconnue