ولن أقف هنا لأحلل الأسباب، وحسبي أنها حقيقة واقعة، وهذه الحقيقة الواقعة هي التي جعلتنا ندرك انحرافا من المصري عن طبيعته التي وضعناها؛ ومن هنا جاءت الصيحة بأن يعاد بناء المصري ليعود سيرته الأولى.
أدركنا انحراف طائفة من المصريين عن جوهر المصري الأصيل، ولو لم يكن له هذا الجوهر الأصيل لما أدركنا انحرافا، وما جوهره ذلك إلا نمط من العلاقات بينه وبين الأشياء، يهتدي فيه بمثل أعلى ذكرناه لك فيما أسلفناه، ولقد اكتفينا بذكر جانب واحد من طبيعته، هو صوفيته في أداء عمله صوفية زاهدة، ولا تقل لي إن الإخلاص في العمل معروف في شعوب أخرى كثيرة؛ لأن ذلك عندهم إخلاص مأجور، يدور مع الأجر وجودا وعدما، وكثرة وقلة، وأما إخلاص المصري الذي ميزه فهو الإخلاص الذي كان يبتغي الإجادة أولا والأجر ثانيا.
ألم أقل لك إن المصري والمصري ثم المصري، في قديمه وفي جديده، إن هم إلا أبيات من قصيدة واحدة صيغت على وزن واحد وروي واحد وإن اختلفت معانيها، أو هم كالقصائد الكثيرة في ديوان صاغه شاعر واحد.
اللغة الواحدة
كنت كلما جاء شهر رمضان، أو كلما وردت صورته إلى ذهني في غير موعده، أدركت له معنى لا أذكر أني قرأته لأحد من الألوف الذين يكتبون عن ذلك الشهر المعظم، وعن فضائله لجماعة المسلمين، وأما هذا المعنى الذي أشرت إليه فهو أن الناس خلال هذا الشهر يتكلمون لغة اجتماعية واحدة، وبالتالي فهم يعيشون جميعا ثقافة واحدة، فيبلغون من الاتحاد ذروته.
إنها لغة اجتماعية واحدة تلك التي يلتقي عندها الصائمون، بل والأكثرية العظمى من غير الصائمين؛ فللطعام عندهم موعد واحد، بل وصنوف ذلك الطعام تقع كلها في باب واحد، وإن تفاوت الناس بعد ذلك في عدد الصنوف وفي جودة خاماتها وجودة صنعها، وتستطيع أن تدرك شيئا مما أعنيه إذا قارنت بين أسرتين: إحداهما درجت على أن يلتقي أفرادها جميعا على مائدة واحدة وفي موعد واحد، وعلى صنوف مشتركة، كلما كان إفطار أو غداء أو عشاء؛ وأما الأسرة الأخرى فلكل من أفرادها موعده ومزاجه، ولقد رأيت نماذج من الأولى ونماذج من الثانية، فكنت أرى جماعة سليمة البناء في الحالة الأولى، وجماعة مفككة الأوصال في الحالة الثانية؛ الأولى تتكلم لغة واحدة، والثانية خليط من الأصوات وكأنها الجماعات المتفرقة في برج بابل.
إننا لا نقول شيئا جديدا، إذا قلنا إن وحدة اللغة بين أبناء الوطن الواحد هي من أقوى الروابط التي تعمل على شعور الفرد بأنه واحد من هؤلاء الأبناء، وليست هي بالقليلة تلك الحالات التي عاد إلينا فيها بعض أبنائنا من بلد أجنبي أقاموا فيه للدراسة أو للعمل، ثم عادوا وفي ألسنتهم عوج ، فلم يكن من أفراد الشعب هنا إلا أن ينظروا إليهم بأعين عاتبة ، وكأنما يقولون لهم لستم منا حتى تعود ألسنتكم إلى استقامتها.
لا، لسنا نقول بذلك جديدا، لكن الذي أشعر بأنه جديد على أسماعنا، هو أن اللغة بمعناها المألوف، تقوم إلى جانبها عدة لغات «اجتماعية» ليست أقل منها أثرا - بل أعتقد في أنها تزيد عليها أثرا - من حيث العمل على ربط المواطنين جميعا برباط واحد، أو قل: ربط المواطنين جميعا بوجدان مشترك.
وإنما قصدت بتلك اللغات، لغة الطعام، ولغة الثياب، ولغة العادات، ولغة المساكن، ولغة الأثاث، وغيرها، ولست أسوق القول هنا على سبيل المجاز، بل إني أسوقه على وجه يدنو من الحقيقة؛ فكل ما تجده من خصائص اللغة في ربطها للأفراد على وجدان مشترك وثقافة مشتركة وفكر مشترك تجده كذلك في مجموعة اللغات «الاجتماعية» التي أسلفت لك أمثلة منها.
أليست اللغة بمعناها المألوف، مكونة من مفردات، ثم من طرق نربط بها تلك المفردات في جمل؟ إن أبناء اللغة المعينة، إذ هم يحصلون من محيطهم الاجتماعي، مفردات تلك اللغة وطرائق تركيبها، ونبرات النطق بها، ينتهي بهم الأمر إلى أن تصبح تلك الأمور وكأنها جزء من فطرتهم التي ولدوا بها، وإنك لترى الواحد منهم بعد ذلك قادرا على أن يميز الغريب من هفوة صغيرة في طريقة استعماله للألفاظ، أو في طرق تركيبها، أو في نبرة الصوت عند النطق بها.
Page inconnue