مقدمة
أزمة المثقف العربي
من معالم الفكر الحديث
عصرنا من فلسفته
ترجمة الماضي إلى حاضر
حاضر الثقافة العربية
طريق العقل في التراث الإسلامي
ماضينا وحاضرهم
نحو شخصية عربية جديدة
العروبة ثقافة لا سياسة
Page inconnue
لكل ثقافة وعاؤها
قواقع من ثمود
توبة الهارب
ألف ليلة وليلتان
الرأي وصاحبه
تعدد المبادئ في البناء الواحد
الفلسفة خارج الأسوار
من المشكلات إلى حلولها
كاهنة دلفي
في حياتنا العقلية
Page inconnue
اللاعقل في حياتنا
ثقافة الغد
رؤية يغشاها الضباب
الولاء الأبكم
الفكرة الواحدة
موقف المتفرج
حقيقة الجمال ما هي؟
الصراع المشروع
المصري الجديد القديم
اللغة الواحدة
Page inconnue
خطاب إلى ولدي
مقدمة
أزمة المثقف العربي
من معالم الفكر الحديث
عصرنا من فلسفته
ترجمة الماضي إلى حاضر
حاضر الثقافة العربية
طريق العقل في التراث الإسلامي
ماضينا وحاضرهم
نحو شخصية عربية جديدة
Page inconnue
العروبة ثقافة لا سياسة
لكل ثقافة وعاؤها
قواقع من ثمود
توبة الهارب
ألف ليلة وليلتان
الرأي وصاحبه
تعدد المبادئ في البناء الواحد
الفلسفة خارج الأسوار
من المشكلات إلى حلولها
كاهنة دلفي
Page inconnue
في حياتنا العقلية
اللاعقل في حياتنا
ثقافة الغد
رؤية يغشاها الضباب
الولاء الأبكم
الفكرة الواحدة
موقف المتفرج
حقيقة الجمال ما هي؟
الصراع المشروع
المصري الجديد القديم
Page inconnue
اللغة الواحدة
خطاب إلى ولدي
هموم المثقفين
هموم المثقفين
تأليف
زكي نجيب محمود
مقدمة
هموم المثقفين
كلما رأيت القادة في ميدان الحياة الثقافية عندنا، يتجادلون حول قضية سياسية صرف، وكذلك كلما لمست في كتابتهم الرغبة في تسلية القارئ بحيث لا يبقى له شيء بعد الفراغ مما يقرأ، أحسست بإحدى حالتين؛ فإما أن تأخذني الريبة في قيمة ما أكتبه؛ لأنني لم أقصد مرة واحدة إلى شراء القارئ بالتسرية عن نفسه من عناء العمل، ولا حدث لي مرة واحدة أن طمعت في الكتابة السياسية، حتى ليتعذر علي في كثير من الأحيان أن أحدد لنفسي هذه «السياسة» ما هي؟ أهي طعام يؤكل أم شراب يشرب؟ ويكفيني أن أراها تقبل الفكرة ونقيضها في آن واحد، دون أن يكون في مادتها معيار يبين الخط الفاصل بين الخطأ والصواب ، وإما أن يأخذني التعجب من هؤلاء القادة.
لو كانت هموم المثقفين أقل من أن تملأ حياتهم كلها لو أرادوا، لالتمسنا لهم الأعذار في ملء الفراغ بالمشاركة في الكتابة السياسية، برغم علمنا بأنهم في هذه الكتابة السياسية لا يفضلون غيرهم ممن يتخذون منها حرفة؛ أي إنهم بالكتابة السياسية يتركون ما يحسنون إلى ما ليس يحسنون، وإلا فلماذا لا نذكر طه حسين والعقاد والمازني والدكتور هيكل بالمقالات السياسية التي كتبوها؟ إننا إذ نذكر أحدا من هؤلاء، فإنما نذكره بما امتاز به بحكم موهبته، وأعني ما تركه لنا في مجال الأدب والفكر والنقد الأدبي والفني، أو قل إننا نذكره بما تركه لنا في «نقد الحياة» نقدا أراد به أن يبدل لنا قيما بقيم ونظرة حضارية بنظرة أخرى، وحين نقول بحق إن أديبنا العظيم توفيق الحكيم جدير بجائزة نوبل، فإنما نقول ذلك وفي أذهاننا أعمال راسخة وخالدة، كأهل الكهف والملك أوديب والسلطان الحائر، وغيرها مما أبدعه وما نعتز به.
Page inconnue
إنه لا رجاء لنا في إعادة تشكيل الحياة من جذورها وفي صميمها، إلا أن يكون ذلك على أيدي المثقفين، الذين لا يعنون بالأمور السابحة على الأسطح عنايتهم بالمحركات الكامنة في دخائل النفوس، وتعال معي ننظر إلى جماعات المثقفين في مختلف الثقافات وعلى تعاقب العصور، لنرى أكانت الشئون السياسية مشغلتهم، أم كانت لهم هموم أخرى غير السياسة وأبعد منها مدى وأعمق منها جذورا وأدوم منها بقاء لدوام التغير الذي قد يتغير به وجه الحياة على أيديهم.
كان الجاحظ - وهو في رأيي أعظم المثقفين العرب على إطلاق - كان نقطة تحول في وجهة النظر العربية كلها؛ إذ نقلها من وجدان الشاعر إلى علمية الناثر؛ فبعد أن كانت الثقافة كلها (تقريبا) ترتكز على قصيدة الشعر، باتت ترتكز على فكرة النثر؛ ومن ثم استطاع التراث العربي أن يشتمل على ما اشتمل عليه من كنوز الفقه وعلوم اللغة والفلسفة وغير ذلك، كان الجاحظ - كما أسلفت - نقطة التحول في وجهة النظر، فاستحق بذلك أن يوصف بما نصفه به، ولو شغل نفسه بأمور السياسة لما ترك لنا إلا أقوالا كنا لنقرأها اليوم بجزء يسير من اهتمامنا؛ لأن أمور السياسة تذهب بانقضاء أوانها.
وذهب القرن التاسع بجاحظه العظيم، وجاء القرن العاشر بجاحظ آخر في دنيا الثقافة العربية، وهو أبو حيان التوحيدي، كما جاء القرن العاشر كذلك بجماعة إخوان الصفا، فماذا صنع هؤلاء جميعا سوى أن حاولوا تشكيلا جديدا لوجهة النظر العربية، ليجعلوها أقرب إلى النظرة العلمية العقلية الموسوعية، التي يخرج منها القارئ وقد استوعب عصره بكل ما كانت الحضارة الإنسانية قد حققته.
ولا نذكر إخوان الصفا ودورهم الثقافي في الحياة العربية، إلا ويقفز إلى أذهاننا جماعة «الفلاسفة» في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر؛ فالدور الذي اضطلعوا به هو هو نفسه الدور الذي اضطلع به إخوان الصفا؛ وأعني أنهم حاولوا تغيير الاتجاه من رومانسية العاطفة إلى علمية العقل وواقعيته، ولست أريد بهذا أن أقول إن ذلك هو التحول الوحيد الذي ينبغي لجماعة المثقفين أن يحدثوه؛ لأنه لو كان العقل قد طغى، فربما كانت مهمة الثقافة عندئذ أن تحد من طغيانه بالدعوة إلى شيء من حياة الوجدان، كما فعل روسو.
وانظر إلى «الجمعية الفابية» في إنجلترا في مطلع هذا القرن أو قبل ذلك بقليل؛ فهي الأخرى نموذج لما يضطلع به المثقفون، ولقد اتخذوا لأنفسهم صفة «الفابية» من اسم «فابيوس» القائد الروماني الذي هزم هانيبال، لا بمواجهته، بل بتدويخه؛ وذلك أن أخذ فابيوس يتقهقر على خطة يرسمها، بحيث ينهك هانيبال في تعقبه حتى الهزيمة؛ أي هزيمة لهانيبال، وعلى هذا الغرار نفسه أخذت الجمعية الفابية تخطط لتغيير المجتمع تغييرا يحوله إلى النظرة الاشتراكية، لا بالعنف والصراع، بل بإرهاق من بأيديهم زمام التحول.
وماذا صنع محمد عبده ولطفي السيد ومن تبعهما من أئمة الثقافة في حياتنا إلا شيئا كهذا؟ نعم قد كانت لهم مواقفهم السياسية من حيث هم مواطنون، لكن تلك المواقف لم تكن هي التي خلدتهم، بل ولا كانوا فيها أفضل وأقدر من سواهم، وإذا اختلف بعضهم مع بعض فيما يختص بالحياة الثقافية، جاء اختلافهم حول نقاط رئيسية في طريق التحول؛ أنرتد في استلهام الماضي إلى الحضارة الفرعونية، أم نكتفي بالوقوف عند الحضارة العربية؟ أنجعل محور الارتكاز في نقلنا عن أوروبا ثقافة اللاتين (فرنسا) أم ثقافة السكسون (إنجلترا)؟ أنكتب بأحرف عربية أم نستبدل بها حروفا لاتينية؟ أيكون للتراث قداسة تصدنا عن نقده، أم نتناوله تناول الأحرار بالنقد المنزه عن الهوى؟ وهكذا وهكذا.
تلك هي أمثلة من هموم المثقفين، وهي كفيلة بأثقالها الجسام أن تلهيهم عن كل ما عداها، ثم هي - فوق ذلك - ما يدوم لهم، وما يستطيعون بمواهبهم الفطرية أن يمتازوا فيه، فما الذي يغريهم اليوم بتركها ليخوضوا مع غيرهم في بحر السياسة؟ ألأن السياسة والاشتغال بها أسرع إلى الشهرة، أم لأن هموم الثقافة قد انزاحت عن صدورهم؟
كان العرب الأقدمون قد وقفوا من الثقافة الأوروبية وقفة شديدة الشبه بما نقفه اليوم، فكانت أوروبا بالنسبة إليهم يومئذ هي اليونان وثقافتهم، فكان أهم ما اهتموا له هو أن يلتمسوا لأنفسهم طريقا «يوفق» بين مضمون الثقافة اليونانية وأحكام الشريعة الإسلامية، ولو صنعنا نحن اليوم مثل صنيعهم لكان على رأس همومنا عملية «التوفيق» مرة أخرى، لكنها هذه المرة تلتمس الطريق بين «علم» أوروبا الحديثة من جهة، وما يقضي به موروثنا من أحكام أساسية هامة، من جهة أخرى، ولست أريد أن أترك فكرة «التوفيق» تمر دون أن أقول إن التوفيق بين مصدرين لا يعني قط أن نحذف أحدهما ونبقي الآخر، وإنما يعني أن نجد الطريق الثالث الذي يهضم الفكرتين معا وفي آن واحد.
هذا مثل جيد للمسائل التي هي من أهم هموم المثقفين اليوم، وهل هناك أمامهم ما هو أهم من رسم الطريق الحضاري الذي نسير عليه في مرحلتنا الراهنة؟ فنحن في ذلك؛ أولا نقتفي أثر الآباء، وثانيا نعالج حالة الضياع التي نعانيها، وإذا شئت فانظر إلى شبابنا في حيرته، لا يدري أيتعصب إلى حد التزمت لما يقال له إنه طبيعة الإسلام، أم يتمرد ليحيا كما يقال له إن الشباب في الغرب يحيون؟ هؤلاء وأولئك بيننا قائمون، أحوج ما يحتاجون إليه هو تحليلات من المثقفين تهديهم إلى طريق يجمع الطرفين، لكن المثقفين عن ذلك في صمم، جريا وراء مجادلات سياسية يرون فيها طريقا أسهل إلى شغل الناس.
لقد شرفتني وزارة الإعلام والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة (أبو ظبي) وكذلك شرفتني الجامعة هناك، بدعوة تتم فيها لقاءات فكرية، فكانت فرصة أوضحت لي أمرين؛ أولهما أن تدبير أمثال هذه اللقاءات الثقافية الجادة هو من أوجب الواجبات بالنسبة لوزارات الثقافة في أجزاء الوطن العربي كله؛ لأنها من أفعل الوسائل نحو إيجاد ما نصبو إليه من «ثقافة عربية» معاصرة، والأمر الثاني هو أن معظم الأسئلة التي تتحرك بها أذهان المثقفين، يدور حول ما ينبغي فعله إزاء الحضارة العصرية، مع المحافظة كل المحافظة على هويتنا القومية بمعالمها الرئيسية، ولعلي لم أصادف في حياتي لقاء فكريا فيه النشاط وفيه الصدق وفيه العمق، ما يعدل لقائي مع أساتذة الجامعة هناك، ولقائي مع طائفة من المثقفين.
Page inconnue
ألا إن للمثقفين همومهم، أفيتركونها ليعالجوا مسائل في ميدان السياسة، فيهدرون فطرتهم الموهوبة في غير ما أراد لها واهبها أن تنمو وتثمر؟
زكي نجيب محمود
أزمة المثقف العربي
1
إنني إذ أصدر حديثي عن المثقف العربي المعاصر، والأزمة التي يجتازها، بتعريف يبين لنا من هو هذا المثقف المقصود، كما يبين الأزمة المشار إليها، متى تكون وكيف، أوثر أن أختار من التعريفات الكثيرة لهاتين اللفظتين، ما هو أنفع لحديثنا هذا، وما هو في الوقت نفسه أيسر قبولا.
فالمثقف الذي أردته، إنما هو إنسان بضاعته أفكار، سواء أكانت تلك الأفكار من إبداعه هو، أم كانت منقولة عن سواه، ولكنه آمن بها إيمانا أقنعه بأن يحياها، ثم لا يقتصر على أن يحياها هو بشخصه، بل يريد أن يقنع بها الآخرين ليحيوها معه، والأرجح أن تكون هذه الأفكار من الصنف الذي يغير الناس نحو ما يظن أنه الأفضل، على تفاوت في ذلك بين فكرة وفكرة؛ إذ إنه من الأفكار ما من شأنه أن يغير وجه الحياة على نطاق واسع، ومنها ما ينحصر في جانب ضيق من جوانب تلك الحياة.
المثقف الذي أريده بهذا الحديث، هو من طراز ديمقريطس الذي قال إنه يفضل لنفسه أن يظفر بفكرة تتقدم بها الحياة، على أن يظفر بملك فارس؛ المثقف الذي أريده هنا هو من طراز الجاحظ الذي كان بطريقة تفكيره وتعبيره، نقطة تحول للثقافة العربية كلها من وجدان الشاعر إلى عقل الناثر؛ المثقف الذي أريده هنا هو الذي تمثل في عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، كما تمثل في جماعة إخوان الصفا عندنا إبان القرن العاشر؛ وهو الذي تمثل في الجمعية الفابية التي عملت بفكرها في الحياة الإنجليزية منذ أوائل هذا القرن حتى غيرت مجرى تلك الحياة تغييرا عميق الأثر، أو هو الذي تمثل في الحركة الفكرية العارمة التي أشعلت جذوة النهضة عندنا خلال العشرينيات من هذا القرن، والتي ما نزال نعيش اليوم على ضيائها.
كل هؤلاء قد تجسد فيهم المعنى الذي أشرت إليه في تعريف المثقف، وهو أن يكون رجلا بضاعته أفكار يريد بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل.
وأما الأزمة التي نزعم بهذا الحديث أن المثقف العربي يعانيها، فهي - ككل أزمة في أي مجال آخر - أن يكون الهدف محددا واضحا، لكن الطريق إليه مسدود؛ وبذلك لا تختلف أزمة المثقف في صورتها عن أزمة المحب، الذي يعرف ما يريده، لكن وسائل الوصول إلى ما يريده ممتنعة عليه؛ فكذلك المثقف المأزوم: هو إنسان حمل في رأسه أفكارا، واعتقد بأنها أفكار لا بد من بثها لتطوير الحياة وأشكالها، لكنه حين هم بنشرها، صدمته العوائق التي تحول دون ذلك النشر؛ وقد تكون تلك العوائق من صنع الآخرين آنا، ولكنها كذلك قد تكون - آنا آخر - حيرة في نفسه هو، وذلك إذا ما تعددت أمامه سبل الوصول، فلا يدري ماذا يختار منها وماذا يدع.
وعلى ضوء ما قلناه، يصبح موضوعنا هو محاولة الإجابة عن سؤالين هما؛ أولا: ما هي الأفكار التي يريد المثقف العربي أن ينشرها في الناس لو أتيحت له السبل؟ وثانيا: ما هي المعوقات التي قد تحول دون ذلك النشر فتحدث عنده الأزمة؟
Page inconnue
2
إنني لا أرى - بين المعضلات التي تتحدى المثقف العربي في زماننا - ما هو أشد تعقيدا وأعسر حلا، من محاولته أن يجمع طرفين، يكادان يكونان متضادين، في صيغة حياتية واحدة، ألا وهما المحافظة على هويته التاريخية من جهة، والحرص - في الوقت نفسه - على أن يعاصر دنياه التي تعج من حوله بمخابير المعامل وعجلات المصانع؛ إن المثقف العربي على وعي كامل بما يريده في هذا المجال، وهو الجمع بين هذين الطرفين جمعا لا يداخله القلق، لكنه حتى هذه الساعة لا يدري كيف؟ ونظرة عجلى إلى جماعة المتعلمين في الوطن العربي، كافية لبيان مدى اختلافنا البعيد في تصور الحياة التي نريد أن نحياها؛ فهؤلاء المتعلمون يقعون في مجموعات ثلاث: إحداها تريد تحقيق الهدف بأن تجعل ثقافتنا الموروثة هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها قبلناه، وما تعارض معها رفضناه؛ والثانية تريد تحقيق الهدف ذاته بأن تجعل الثقافة الغربية العصرية هي معيار الصواب والخطأ، فما اتفق معها من تراثنا أبقيناه، وما خالفها من ذلك التراث أهملناه، وأما المجموعة الثالثة فهي وحدها التي تتصدى بحق للمشكلة التي تتحدانا؛ لأنها أرادت أن تحقق الهدف نفسه، ولكن بالبحث عن صيغة جديدة تضم الطرفين معا.
إن المجموعتين الأوليين قد استسهلتا الصعب ففاتهم لب المشكلة؛ لأن المجموعة الأولى إذ تنادي بأن يكون التراث وحده هو المعيار لما نقبله وما نرفضه، لم تفعل في الحقيقة سوى أن غضت النظر عن عصرنا وحضارته، فعادت القهقرى على خط الزمن لتعيش في الماضي؛ وذلك أمر سهل التحقيق، بل ربما حقق لصاحبه السعادة وراحة البال، فماذا يكون أيسر وأبعث على السعادة والسكينة من أن توصد بابك دون الصعاب فلا تأبه لها ولا تحاول حلها؟ واختصارا فإن أفراد المجموعة الأولى إنما يزيدون بعددهم عدد الأسلاف، ولا يضيفون إلى المعاصرين نفسا واحدة.
وأما المجموعة الثانية التي تريد عبور المكان لتصبح محسوبة على الغرب، فهي إنما تحاول الخروج من جلودها إذا كان ذلك ممكن الحدوث، إنهم - بكلمة واحدة - يريدون أن ينقصوا من تعداد الأمة العربية بضعة ملايين، ليضيفوها إلى تعداد أوروبا وأمريكا، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
لا، ليس ثمة من صعوبة في تحقيق ما تريده لنا هاتان المجموعتان لأنهما معا إنما تريدان أن تقطعا العقدة بحد السيف، بدل أن يحلوها؛ فالمجموعة الأولى تلوذ من حاضر الدنيا بركن من أركان التاريخ الذي انقضت عهوده، والمجموعة الثانية تفر من الحاضر العربي إلى جبل من جبال أوروبا أو أمريكا لتعتصم به.
وأما الصعوبة الحقيقية فهي ما تحاوله المجموعة الثالثة التي تحرص على عروبتها حرصها على عصرها؛ فلئن كانت المجموعة الأولى تجعل من نفسها عربا لا يعيشون في عصرهم، وكانت المجموعة الثانية تجعل من نفسها معاصرة غير عربية، فإن المجموعة الثالثة تبتغي العروبة والمعاصرة معا، ثم تسأل كيف السبيل إلى هذا الهدف.
إن هذه المشكلة الحضارية هي كبرى المشكلات التي تتحدى المثقف العربي؛ بل إنها لا تقتصر على المثقف العربي وحده، وإنما تجاوزه لتجمع معه جماعة المثقفين في سائر البلاد ذوات الحضارات القديمة كالهند وباكستان والصين وغيرها؛ إنها ليست مشكلة بالنسبة للأقطار التي لم تكن لها حضارة عريقة فيما مضى، وكذلك ليست هي بالمشكلة بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا؛ فالبلاد غير ذوات الحضارة العريقة لا تجد نفسها أمام طرفين لتحاول التوفيق بينهما، وكذلك بلاد الغرب تجد نفسها أمام حضارة واحدة هي حضارتها العصرية هذه؛ وأما نحن وأمثالنا فلنا تاريخ حضاري طويل عريض غزير، فيه اللغة وفيه التشريع وفيه الأدب وفيه الفن وفيه علوم وفيه مواقف وبطولات؛ ومن هذه الحصيلة الغنية ما يتسق مع حضارة عصرنا، ومنها ما لا يتسق، فينشأ لدينا السؤال: ماذا نحن صانعون لدمج الرافدين في تيار حيوي واحد؟
ليست مهمتي هنا والآن أن أجيب عن هذا السؤال؛ فكل ما يعنيني هو أن أصور أزمة يكابدها اليوم المثقف العربي.
3
ومن هذه الأزمة الكبرى، تفرعت أزمات تدور حول محور الصدام بين قديم استقرت ركائزه، وجديد يوحي به العصر وظروفه؛ ومن أهم الأزمات التي تعترضنا في هذا السبيل، أزمة تجتاح جانب الأخلاق؛ على أني أستخدم كلمة «الأخلاق» هنا بمعناها الواسع، الذي يشير إلى طرائق السلوك في ميادين التعامل البشري بصفة عامة، كما يشير إلى طرائق العيش كما يريدها الناس، والسؤال العريض الذي يطرح نفسه علينا في هذه الميادين السلوكية والحياتية، هو هذا: ماذا يكون الأساس العميق الذي نقيم عليه الأخلاق بمعناها الواسع الذي ذكرناه؟
Page inconnue
فلقد كانت الفكرة المستقرة في هذا الصدد، أن المبادئ التي ينبغي أن تقام عليها طرائق الحياة وأساليب التعامل، ثابتة ثبات الحقائق العلمية الموضوعية، فلا سبيل إلى تبديلها أو تحويرها؛ مهما تعاقبت العصور وتغيرت ظروف العيش؛ فما هو صواب يظل صوابا إلى الأبد، وما هو خطأ يظل خطأ إلى الأبد كذلك، وكان لتلك المبادئ الثابتة، بعد روحي، يقضي بأن يعلو الإنسان بنفسه عن شهوات جسده، فلا يلقي بزمامه إلى غرائزه، بل عليه إلجامها، ليحيا حياة العفة والتضحية والطهر والنقاء.
ثم جاء عصرنا ومعه متغيرات جديدة، أحدثت عند الناس ما أحدثته من حيرة وتردد؛ ومن تلك المتغيرات ما أجراه علماء الأنثروبولوجيا - أعني دراسة أنماط الحياة عند المجموعات البشرية المختلفة - ما أجراه هؤلاء العلماء من بحوث، كشفت عن التنوع الواضح فيما يأخذ به الناس هنا وهناك من مبادئ يسلكون على أساسها؛ فما هو واجب الأداء عند أولئك، محرم عند هؤلاء؛ ومعنى ذلك أن مبادئ السلوك ليست أمورا مطلقة محتومة، بل هي أحكام نسبية تمليها الظروف؛ ولو كانت مبادئ السلوك ثابتة يحتمها منطق العقل في كل مكان وزمان، لاتفقت عليها شعوب الأرض جميعا، لكن تلك الشعوب تتفرق في ذلك تفرقها في الأهداف والمنافع.
لقد انتقل محور السلوك في عصرنا من العقل إلى اللاعقل؛ أعني أنه انتقل من سلطان المنطق الصارم إلى ليونة المشاعر وروغانها، وحتى حين يخفي الإنسان عن نفسه حقيقة نفسه بطلاء ظاهري من وقار العقلانية الخلقية التي كانت، ترى التحليلات العلمية تلاحقه بإزاحة القناع الزائف عن سحنته لينكشف الخبئ؛ فأكثر القديسين ورعا وتقوى - كما يقول نيتشه - يخفي وراء زهده حافزا للسيطرة، وأرفع آيات الفن والأدب - كما يقول فرويد - يكمن الجنس خلف أستارها، وأعلى القيم الإنسانية - كما يقول ماركس - تخبئ في طيها مصالح أرباب المنافع.
هذا هو العصر وما قد بات يضطرب بين جنباته من أفكار تزعزع ما كنا قبلناه قبولنا للمسلمات الثابتة؛ فماذا يصنع المثقف العربي إزاء هاتين النظرتين؟ كيف يوفق بينهما ليستحدث الصيغة التي يريدها، والتي تجمع بين موروثنا ونتاج العصر الحاضر؟ أنقول له: تنكر للجديد لأنه ليس منا، وتشبث بالقديم الثابت لأنه تراثنا؟ إنه لو فعل ذلك بمثل هذه البساطة، لأغمض عينيه عن جموع شبابنا التي لم تنتظر ما يقرره لها المترددون، بل أخذت تتخبط بين مبادئ تلقن لهم تلقينا فيحفظون لفظها عن ظهر قلب، وسلوك فعلي يسلكه الشباب في حياته كما يحياها على نقيض تلك المبادئ؛ وهكذا وقع في ازدواجية مخيفة وضعته بين المطرقة وسندانها؛ ومن هنا كان جانب كبير من فساد النفاق القبيح الذي يملأ حياتنا بظواهر الخوف والجبن؛ فاللسان في حياتنا يحكي شيئا، والأبدان تسلك شيئا آخر.
فهل يغمض المثقف المسئول عينيه عن ذلك كله، مكتفيا بوعظ يلقيه فيجنبه الأذى؟ لا، ليست المسألة بهذا اليسر كله؛ فالسؤال العميق الذي تنطوي عليه النقلة التي قفز بها عصرنا في مجال السلوك من فلك إلى فلك، هو هذا: عن أي طريق تحقق الشخصية الإنسانية ذاتها في ظروف عصرنا؟ أتحققها عن طريق الزهد أم تحققها عن طريق المتعة؟ أتكون أخلاقية التحريم أجدى عليه، أم أخلاقية الإباحة؟
وعلى المثقف العربي أن يجيب بما يقنع الشباب العصري، لكنه لا يعرف كيف يجيب وهو مطمئن إلى الصواب؛ ومن ثم كان جانب من جوانب أزمته.
4
وننتقل من مجال السلوك ومبادئه، إلى مجال العلوم ومنهاجها؛ فالنظرة العلمية هي بلا جدال أبرز طابع يميز هذا العصر الذي يقلنا على أرضه ويظلنا بسمائه، ومكمن الأزمة التي تكتنف المثقف العربي في صدد العلم، هو أن العلم الطبيعي قوامه واقع مادي من جهة، وإدراك له بالحواس من جهة أخرى؛ فليس من العلم ما لا يرتد آخر الأمر إلى عالم التجربة عند التطبيق؛ ولما كانت جذورنا الثقافية العميقة نابتة من وراء الواقع المادي، والإدراك عندها لا يكون بالحواس وإنما يكون بالإلهام؛ فلقد نشأت في نفوسنا كراهية لما هو مادي يندرج في نطاق الحواس؛ وكان حتما علينا أن يجيء إيماننا بالعلم الطبيعي - الذي هو أبرز سمات العصر - إيمانا تساوره شكوك.
على أن هذا الإيمان المنقوص بالعلم الطبيعي، لم يمنعنا من العيش في نعيم نتائجه، فننعم في حياتنا اليومية بالطيارة والسيارة والثلاجة ومكيف الهواء، كما ننعم بكشوفه الجبارة في ميادين الطب واستنبات القفر واستخراج ما في باطن الأرض من كنوز.
ومن هنا انشطرت حياتنا بازدواجية أخرى؛ فمن الوجهة النظرية نتشكك في العلوم وقدراتها، ومن الوجهة العملية نقبل بكل نفس راضية، على ما تنتجه تلك العلوم من ثمرات، وبين الوجهة النظرية والوجهة العملية يقع المثقف العربي في أزمته، إنه إذا جعل الأولوية الأولى لأحكام العلم أغضب الجمهور، لكنه كذلك إذا ساير الجمهور في مشاعره، تنكر للعصر في أبرز سماته.
Page inconnue
وربما أثار هذا الذي أقوله شيئا من العجب والتساؤل: كيف تقول إننا نتنكر للعلم الطبيعي بحكم ثقافتنا الضاربة بجذورها في أعماقنا، وأمامك عشرات من الجامعات العربية وما تحتوي عليه من كليات للعلوم؟ وما على المتعجب المتسائل إلا أن يتعقب دارسي العلوم هؤلاء في حياتهم الخاصة، إذن لأذهلته الازدواجية الرهيبة التي أشرت إليها منذ حين؛ فدارس العلوم في جامعاتنا قد يبلغ أقصى المدى في علميته وهو في المعمل، حتى إذا ما عاد إلى داره، وسامر خلانه في ساعات الفراغ، خرج المخبوء من بين جوانحه، وأخذ يتحدث أحاديث الخرافة كما يتحدثها سائر الناس.
ليست المسألة هنا مسألة طائفة من القوانين العلمية يحفظها طلاب العلوم، بل هي قبل ذلك وبعد ذلك منهاج للنظر، إذا ما اصطنعناه بحق، ألفيناه يجاوز حدود الكتب والمخابير، ليصبح طريقة للنظر في شئون الحياة العملية كلها، من سياسة إلى اقتصاد إلى عمران والتزام بقواعد الصحة وغيرها من جوانب العيش؛ فإلى أي حد نقيم هذه الأشياء كلها على نهج علمي قويم؟ يقيني أننا في هذا الطريق ما نزال نحبو خطواته الأولى؛ والمثقف العربي إزاء هذا كله ، متأزم لا يدري أيساير الموجة العامة في لا علميتها ليقال عنه إنه لم يغترب عن ثقافة أمته، أم يصد الموجة ليدخل شيئا من علمية النظر في رءوس الناس لترضى عنه روح عصره؟
ولهذه الازدواجية في حياتنا الثقافية بين العلم واللاعلم، نتيجة تثير الغيظ عند المثقف الذي يحس خطورة رسالته؛ وهي أن كثيرين من رجال الثقافة منا، يستخدمون للأفكار طريقة بروقرسطيس في الأسطورة اليونانية القديمة، التي يقال فيها إن بروقرسطيس قد أقام على طريق المسافرين نزلا يستريحون فيه، لكنه جعل الأسرة كلها ذات طول معين، فإذا كان النازل عنده أقصر من السرير وضعه في آلة أعدها لتمط الجسد حتى يطابق طول السرير؛ وإذا كان النازل عنده أطول من السرير، جذ ساقيه ليقصر إلى الحد المطلوب، فلا ينجو من شره إلا مسافر شاءت له المصادفة المواتية أن يكون في طوله مطابقا للطول المطلوب.
وهكذا يفعل مثقفونا حين ينقلون لنا أفكارا من ثقافة العصر؛ فهذه الأفكار وهي على حقيقتها عند أصحابها، قد تكون في أعين جمهورنا أقصر مما ينبغي لها أو أطول، فعندئذ ترى المثقفين منا - إخلاصا منهم لأهواء الجمهور - يمطون تلك الأفكار أو يجذونها، حتى تطابق الصورة المقبولة، حدث هذا في مجال الفكر الفلسفي وفي مجال الفكر السياسي على حد سواء؛ وليس هذا التشويه الفكري الذي نقترفه، هو من قبيل التوفيق الذي عرف به أسلافنا الأمجاد، حين نقلت إليهم فلسفة اليونان وعلومهم، وأخذوا يلتمسون نقاط التلاقي بين الثقافة الوافدة وبين تعاليم الإسلام؛ فعملية التوفيق بين الطرفين عند أسلافنا تطلبت منهم جهدا فكريا مخلصا دام لنا مع الزمن، أما التشويه الذي نصيب به ثقافة عصرنا عند نقلها، فبهلوانية يأباها الضمير وترفضها معايير الفكر الناضج السليم.
ومن أنواع التشويه، بل من أشدها شيوعا بيننا، أن يتصدى رجال الثقافة منا، لما يزعمون أنه رد على ثقافة الغرب، دون أن يكونوا قد ألموا إلماما صحيحا بما يردون عليه، فسرعان ما تنتشر بيننا أفكار مبتسرة، لا هي غربية ولا هي شرقية.
5
فإذا خلا موقف المثقف من أمثال هذه العيوب، التي هي عيوب خلقية في المقام الأول، كانت هنالك أفكار كثيرة من ثمار العصر، يتمنى المثقف لو أذاعها في الناس، لكنه يصطدم بعوامل تسد عليه الطريق؛ فالفكر عندنا تابع للسياسة، وكان العكس هو الأجدر، وقد يكون لنا عذرنا في هذا الترتيب، لكوننا نجتاز مرحلة انتقال تتطلب شيئا كثيرا من الحكمة العملية ووحدة النظر، لكن ذلك لا ينفي أن يثقل العبء على ضمير المثقف، الذي يضع سلامة الفكرة قبل نوازع السياسة.
وكان من نتائج ذلك، أن ترك صفوة المثقفين مشكلات الحياة الحقيقية التي كانت بحاجة إلى جهودهم، وانصرفوا إلى أشياء لا يتقدم بها المجتمع ولا يتأخر، ولك أن تقارن هذا الموقف الذي ينسلخ فيه المثقفون عن تيار الحياة الواقعة، لا أقول أن تقارنه بالصلة الوثيقة بين الفكر والحياة الفعلية في بلاد غير بلادنا، بل أن تقارنه بما كان يحدث عند أسلافنا العرب وهم في عز مجدهم، لترى كيف كان الفكر وجها آخر لتيار الحوادث، حتى لتستطيع أن تستدل تاريخهم من أفكارهم، وأن تستدل أفكارهم من تاريخهم؛ لأن الفكر وتيار الحياة عندهم كانا وجهين لشيء واحد؛ فحتى علماء اللغة وهم يبحثون في اللغة أصولا وفروعا، ونقاد الشعر وهم يجمعون الشواهد، أقول حتى هؤلاء لم يكونوا يفعلون ما يفعلونه وهم معلقون في الهواء، بل كانوا يفعلونه لصلة وثيقة بينه وبين ما اعترضهم من مشكلات توجب فهم القرآن على وجهه الصحيح، أو توجب المفاضلة الأدبية بين جماعة وجماعة؛ إنه لما اختلفت مدرسة البصرة مع مدرسة الكوفة في نحو اللغة، الأولى تريد أن تقعد القواعد العقلية، والثانية تريد الاحتكام إلى السوابق لا إلى قوانين العقل في التفرقة بين الصواب والخطأ، كان هذا الاختلاف بينهما انعكاسا لموقف في الحياة العقلية نفسها، ولم يكن اختلافا منبت الروابط بأرض الواقع.
فأين حياتنا نحن الفكرية التي اغتربت عن واقعنا في حالات كثيرة وخطيرة، أقول أين هذه الحياة المغتربة من حياة الذين صحت منهم العزائم، ووضحت الأهداف، وإزاء هذا كله يتأزم ضمير المثقف بمعناه الصحيح.
اغتربت صفوة المثقفين عن مشكلات حياتنا، فلم تجد الغوغائية ما يردها ويلجمها؛ وذلك أنه من أميز ما يميز المثقف الأصيل رغبته في تحليل الفوارق بين المعاني التي قد تتقارب إلى حد التشابه الشديد؛ على حين أن الفكر الغوغائي أميل إلى دمج المعاني المختلفة كلها في لفظة واحدة، يظنها واضحة وهي من الغموض في ظلام أسود من حندس الليل؛ إذا قال المثقف معاني من أمثال: حرية، ديمقراطية، عدالة، مساواة، إلى آخر هذه الأسرة الكبيرة من المعاني الشائعة في عصرنا، لم يفته الاختلافات الكثيرة التي قد تقع في استعمال الناس لهذه الألفاظ، ثم يعمد إلى تحديد ما يريده من كل لفظة منها إذا استعملها، لكن تحليلاته وتحديداته غالبا ما تقع عند الجمهور على آذان صماء.
Page inconnue
ومثل هذا التحليل الضروري للفكر الصحيح، يتطلب حدا أدنى من علمية النظر، وهو ما لا يتوافر عادة لعامة الناس؛ بل إنك لو أردت لفت أنظار عامة الناس إلى ما تنطوي عليه تلك المعاني من تركيب شديد التعقيد، ومن أبعاد قد لا يعلم مداها إلا المتخصصون، حسبوك من رواسب بيزنطة القديمة، تعيش في تصورات شكلية، مقطوعة الصلة بمجرى الأحداث.
وتجيء وسائل الإعلام، فيرى المسئولون عنها، أنهم مضطرون إلى مخاطبة الجمهور على قدر طاقته، فتلجأ تلك الوسائل إلى التبسيط الذي يطمس الفوارق بين المختلفات، فلا يلبث المثقف إزاء هذا كله أن يجد نفسه في عزلة وحده، يتحدث بما لا يفهم إلا للقلة التي تتابع تحليلاته في دقتها، فهل من عجب أن تضيق نفس المثقف بمقدار ما تنسد أمامه الطريق إلى قلوب الناس وعقولهم؟
6
ولست أريد أن ألقي كل أسباب الأزمة الثقافية عندنا على عامة الجمهور وحدها؛ بل إن بعض هذه الأسباب موصول بالمثقفين أنفسهم؛ فقد يحدث ألا تسعفهم ظروف العيش في متابعة الفكر الجديد، الذي ما ينفك متفجرا في أرجاء العالم المتقدم؛ ففي كل يوم قضية تطرح، وفي كل يوم محاولات تبذل، حتى ليوشك فكر العام الماضي أن ينسخه فكر هذا العام لسرعة الجريان.
إنه ليذهلك أن تعلم كم تغيرت الأسس التي تقام عليها العلوم المختلفة، من منطق ورياضة، إلى فيزياء وبيولوجيا ونفس واجتماع واقتصاد، مما يحتم تغييرا عميقا في وجهات النظر، فهل تغيرنا نحن في وجهات أنظارنا بما يتناسب مع ذلك التغير العميق؟
لقد تحولت المادة في الفيزياء الجديدة إلى طاقة؛ فلم يعد للمادة معناها القديم، حتى لقد أوشكت على الزوال تلك الفواصل التي كانت تفصل ما بين المادة واللامادة في الكائنات، لكننا ما نزال على وقفتنا القديمة في التفرقة بين الصنوين؛ وتغيرت أسس الرياضة، بحيث أصبح في حكم المستطاع أن تقام عدة بناءات رياضية، دون أن ينقض أحدها صدق الآخر، فلم تعد هندسة إقليدس وحدها - مثلا - هي الهندسة التي تقرر رياضيات المكان، بل إننا كلما غيرنا من الفروض الأولى تغيرت النظريات تبعا لذلك، فنشأت بين أيدينا هندسات لا إقليدية كل منها صواب من الوجهة الرياضية البحت، وكان لهذا الانقلاب في مجال الرياضة أثر بعيد المدى في منهج التفكير؛ إذ اتسعت أمام العقل البشري فرص التصورات الجديدة، وإقامة المنظومات الفكرية العديدة، بعد أن كان حبيس نظام واحد، فهل أصابنا شيء من ذلك الأثر في اتساع مجالنا الفكري؟ بل تغير المنطق نفسه؛ فبعد أن جرى المفكرون، خلال القرون الطويلة، على منطق يعالج معاني كيفية مبهمة المعالم والحدود، أصبح المنطق اليوم رياضيا يفتت الفكرة الواحدة تفتيتا لا يدع لها مجالا للخلط والغموض، علوم كلها تغيرت من الأساس، فتغيرت بالتالي طريقة التفكير، تغيرا لم تصب منه إلا أقل من القليل؛ ويقف المثقف منا أمام هذه الحركة البطيئة، عاجزا أو كالعاجز.
فالأمية ما تزال ثابتة الجذور في أرضنا، تقف حائلا دون سرعة التطور مع تطور العالم السريع، وهي عندنا على درجات، بادئة من أمية القراءة والكتابة على مستوى الألف باء وصاعدة إلى أمية بين المتعلمين لا تتيح لهم أن يتابعوا الفكر الجديد، فماذا في وسع المثقف الجاد أن يصنع؟ هل يكتب لغير قارئ؟
وكأن عقبة الأمية هذه لم تكفنا، فأضفنا إليها ما يزيدها عسرا، بأن أقمنا في عملية النشر ما يعوقها، حتى ليتعذر أحيانا على الكتاب أو المجلة أو الصحيفة أن تنتقل بين أجزاء الوطن العربي انتقالا ميسرا؛ فبعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر من أسلافنا - برغم صعوبة المواصلات - تجعل أحدهم إذا ما أذاع فكرة في موطنه، لا يلبث أن يسمع أصداءها عائدة إليه من سائر أقطار الأمة العربية، في مشرقها وفي مغربها، وبغير هذا التبادل الفكري، بالرد والنقد والتعليق، كيف يمكن أن تجتمع الروافد المتفرقة في تيار واحد؟ أقول إنه بعد أن كانت الصلة بين رجال الفكر قائمة وقوية، أصبحنا نحن اليوم - في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية - على صورة من التفكك والتباعد بحيث يوشك أحدنا ألا يسمع شيئا عن أخيه في قطر عربي آخر.
لقد زارني في القاهرة طالب عربي يعد نفسه للدراسة العليا، زارني لعله واجد عندي ما يعينه على حسن اختيار الموضوع الذي يدير عليه البحث لنيل إجازة الماجستير، فقلت له في معرض الحديث: إن فلانا في بلدكم قد قام بجهود فكرية جبارة، كان من حسن حظي أن ألممت ببعضها، وتمنيت لها أن تجد الباحث الناقد المدقق، الذي يعرضها عرضا نزيها يقومها بالقسطاس العلمي المستقيم، فلماذا لا تجعل نتاج هذا الرجل موضوع بحثك، فتخدم الفكر العربي؛ لأن الرجل يكاد يكون مجهولا لنا برغم غزارة الفكر الذي قدمه؛ فما كان أشد ذهولي حين أجابني الطالب بقوله إنه لا يستطيع ذلك، وإلا عرض نفسه للأذى في وطنه إذا عاد! وليس من شأني الآن أن أسأل لماذا؟ ولا أن أتعرض لاحتمال ألا يكون الطالب قد صدق القول فيما قال، لا، ليس هذا من شأني؛ لأنه يكفي أن يكون المناخ الفكري الذي نعيش في أجوائه هو مما يتيح للقائل أن يقول كلاما كهذا. إن هذا الموقف الواحد مشحون بالدلالات على أن المثقف الأصيل في بلادنا محبط إلى الدرجة التي يمكن أن تقوض لنا كل أمل في النجاة.
فحتى لو قام بيننا المثقف الذي يؤمن بفكره إلى الحد الذي يحطم به عوائق النشر، ليخرج كتابه في الأسواق التي يعد زبائنها بالمئات لا بالألوف فضلا عن الملايين ، وجدنا ضروبا أخرى من المخاوف تعكر جو السماء بغمامها. فيختفي شعاع الضوء الذي رجونا له الظهور؛ وسرعان بعدئذ ما يعلم رأس الذئب الذي أطاح به الليث لما اجترأ الذئب على عرينه، أقول إن ذلك سرعان ما يعلم ثعالب كثيرة ألا تفقد صوابها فتدنو بجرأتها نحو دنيا الكتابة والكتب.
Page inconnue
لقد كنا نقول إنه مما يثبط همة المثقفين في بلادنا، أن نتاجهم الجيد أحيانا، لا يجد سبيله إلى ترجمة تنقله إلى اللغات الأخرى، مما يترك هؤلاء المثقفين في عزلة يحدث بعضهم بعضا، وسائر العالم لا يسمع من حديثهم حرفا؛ كنا نقول ذلك، وكان الأوجب علينا أن نطمئن أولا إلى أن المؤلف العربي مقروء في موطنه، ودع عنك أن يكون مقروءا في بقية أجزاء الوطن العربي، حتى إذا ما تحقق له ذلك، فربما سهلت أمامه الطريق إلى دنيا اللغات الأخرى.
7
فهل نعلق الأمل في جامعاتنا لتخرج لنا شبابا مؤمنا بالثقافة الرفيعة، وله العزيمة الماضية أن يغير ما هو قائم؟ كان هذا الأمل ليكون أقرب إلى التحقيق لولا أن المرحلة التي تجتازها الأمة العربية، قد بلغ فيها الظمأ إلى المعرفة حدا جعل شبابنا يقصد إلى الجامعات بعشرات الألوف، ولم نكن قد أعددنا أنفسنا بالعدد الكافي من الأساتذة، ولا بالمكتبات والمعامل التي تسد الحاجة أمام هذه الحشود الضخمة من طلاب العلم؛ فكانت النتيجة أن أفلت من طلابنا سر التعليم الجامعي وصميمه، وما سره وصميمه إلا أن يختلف عن مراحل التعليم السابقة عليه، في الفاعلية المبدعة الخلاقة، التي تمهد الطريق أمام الدارس نحو أن يضيف إلى العلم علما جديدا؛ أما إذا تحولت الجامعات على أيدينا فأصبحت مدارس للحفظ، فمصيرنا هو المصير نفسه؛ أعني أن نخرج شبابا منحصرا في محيط ما قد حفظ، ثم لا جديد، ونظل قعودا فاغري الأفواه ننتظر الصدقة الفكرية من سوانا، وكأننا لسنا جزءا من العالم الذي نعيش فيه.
إنه طالما بقيت لنا البنية الفكرية التي ألفناها حتى عميت أبصارنا عن مواضع النقص فيها؛ فلا رجاء في تغير فعال؛ فهي بنية فكرية قوامها أصول محفوظة، بحيث لا يجوز لرجل الفكر أن يجاوزها مطلا برأسه إلى ما فوقها، بل ينبغي له أن يبقى تحت سقفها، وله بعد ذلك أن يتحرك في ظلها كيف شاء.
وهكذا كانت بنية الفكر في أوروبا قبل نهضتها، ولم تكن كلمة السر في النهضة الأوروبية سوى أن تنقلب تلك البنية رأسا على عقب، بمعنى أن تكون الحقائق المسلم بها هي آخر المطاف لا أوله، وأما أول المطاف فسماء مفتوحة نصعد فيها برءوسنا ما أسعفتنا قوانا، نجمع المشاهدات ونقيم عليها التجارب ثم نستخرج المعرفة الصحيحة آخر الأمر، فإذا جاءنا بعد ذلك من يطلعنا على حقائق جديدة، لم نغلق دونه آذاننا، بل - على العكس من ذلك - نراجع ما قد عرفناه لنصححه على ضوء الجديد المستحدث، كلمة السر في التغير العميق - إذا أردناه - هي أن نعكس الصيغة؛ فبعد أن كانت «إني أومن أولا ثم أفهم» تصبح «إني أفهم أولا ثم أومن.»
ولو اعتدل لنا الأمر على هذا النحو المستقيم، لزالت عن المثقف العربي أزمته - لأنه كلما أراد أن يفهم الناس فكرا جديدا، تقبله الناس بالآذان المصغية والعقول الواعية، والقلوب التي تؤمن بعد ذلك بما تؤمن به عن فهم صحيح.
من معالم الفكر الحديث
1
إنه على الرغم من اختلاف الفكر في تياراته وظواهره خلال العصر الواحد، إلا أن تلك التيارات وهذه الظواهر لا بد لها - بداهة - أن تكون مترابطة على نحو ما، وإلا بطل أن يكون العصر واحدا؛ فذلك شأنه شأن الكائن من الكائنات - أيا ما كان نوعه: بحرا، أو جبلا، أو كائنا حيا - فإنه برغم تعدد أجزائه وعناصره، لا بد أن يكون فيه من الرباط ما يبرر لنا أن نضم تلك الأجزاء والعناصر تحت اسم واحد نطلقه على الكائن الواحد. «والفكر الحديث» الذي نريد أن نتعقب معالمه الرئيسية، لا يشذ عن هذه القاعدة؛ فما دمنا قد افترضنا مسبقا أنه موحد وذو معالم تميزه من الفكر في عصور أخرى سلفت، فلا بد أن يكون كامنا في أذهاننا نوع من الرباط الذي يجمع أشتاته؛ فهو - بالضرورة - أشتات تدور حول عدة محاور، والأمر بعد ذلك متوقف - إذا ما أردنا الحديث عنه - على الزاوية التي ننظر منها؛ فقد ننظر إلى جانب الفكر العلمي من هذا العصر، وقد ننظر إلى جانب الفكر الفلسفي منه، أو إلى جانب الفكر السياسي، أو إلى جوانب الفن والأدب، وإني لأوثر في هذه الكلمة ألا أقتصر على جانب من الفكر في عصرنا دون جانب، بل أن أحاول تقديم صورة مركزة شاملة، تضم الجوانب الرئيسية المختلفة، مع بيان الرباط النظري الذي يربطها معا فيوحدها تحت اسم واحد، هو «الفكر الحديث».
2
Page inconnue
ونظرة إلى هذا الفكر الحديث من جانبه العلمي، تدلنا للوهلة الأولى على أننا إنما نعيش في عصر تغير فيه المنهج العلمي ذاته من الأساس؛ فالمنهج الذي استخدمته العلوم، لم يكن خلال العصور الطويلة على صورة واحدة، بل كانت له صورة القياس الأرسطي - وأعني الصورة التي يبدأ فيها الباحث من مقدمات مفروض فيها الصدق، ثم يستولد نتائجه من تلك المقدمات - أقول كانت للمنهج العلمي هذه الصورة القياسية في المرحلتين القديمة والوسيطة من مراحل التاريخ، ولنتذكر هنا بأن المرحلة الوسيطة التي امتدت من القرن الخامس الميلادي إلى القرن الخامس عشر، كانت هي المرحلة التي شهدت أهم فترة من تاريخ الحضارة الإسلامية.
فلما انتقلت أوروبا من عصورها الوسطى إلى عصورها الحديثة في القرن السادس عشر، كان محور انتقالها ذلك هو أن بدلت منهجا علميا بمنهج؛ فأصبحت العلوم الطبيعية تبنى أساسا - لا على مقدمات مفروض فيها الصدق - بل على مقدمات يقينية الصدق، قوامها معطيات الحس المباشر، عن طريق المشاهدات المحققة والتجارب التي تقام عليها، على أنه ندر عندئذ أن يستخدم الباحث العلمي من أجهزة البحث إلا صورا ساذجة نستطيع أن نغض النظر عن ذكرها.
ولبث المنهج العلمي على هذه الصورة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر وجزء من التاسع عشر؛ حتى إذا ما انتصف هذا القرن - أي التاسع عشر - حدثت ثورة جذرية في طريقة البحث العلمي؛ إذ أصبحت الأجهزة هي الأساس المعول عليه، ثم أخذت هذه الأجهزة تزداد في الدقة وفي التنوع ازديادا سريعا، إلى أن باتت هي السمة البارزة في العصر كله إلى يومنا هذا، وهو ما نطلق عليه اسم «التكنولوجيا»، ولنلحظ جيدا ما طرأ على هذه الكلمة من خلط في الاستعمال؛ فبينما هي تعني «طريقة» البحث العلمي بوساطة الأجهزة، رأيناها وقد تحولت ليستخدمها الناس اسما على ما تنتجه البحوث العلمية من آلات.
والانتقال في منهج العلوم من مشاهدات العين العارية إلى الأجهزة، قد أحدث في محيط العلم وفي دنيا الحياة العملية آثارا بعيدة الآماد إلى حد يكاد يسبق خيال الإنسان، ويكفي هنا أن نذكر نقطة واحدة، وهي أن عصرنا بأجهزته العلمية هذه، قد استطاع أن يلم بالكون من طرفيه: طرفه البالغ في الصغر (وأعني الذرة والخلية) وطرفه البالغ في الكبر (وأعني أفلاك السماء)؛ وأما قبل عصرنا فلا الذرة والخلية عرفتا بمثل ما نعرفه اليوم عنهما، ولا جرؤ خيال الإنسان أن يطمع في الوصول إلى القمر وغير القمر من كواكب المجموعة الشمسية.
3
وإذا تركنا المنهج لننظر في علوم العصر من حيث مضمونها، مكتفين في ذلك بالرءوس الكبرى، أمكن القول بصفة تقريبية عامة إن تلك الرءوس أربعة، هي: دارون بنظريته عن التطور، وكارل ماركس برؤيته لتطور التاريخ، وفرويد بنظريته عن اللاشعور، وأينشتاين بنظريته عن النسبية، ونحن إذ نحصر المعالم الكبرى في هؤلاء الأربعة، فلسنا نزعم بذلك أن كلا من هؤلاء قد جاء بالحق الذي لا يعرف الباطل؛ لأننا نعلم أن النظريات الأربع جميعا هي موضع للتغيير والتعديل والتصحيح، لكن ذلك نفسه لا ينفي أنها ما زالت هي المحاور الرئيسية التي يدور حولها كثير جدا من نشاط الفكر الحديث، وعلى الرغم من أن هذه النظريات الأربع مختلفة في ميادينها؛ فنظرية دارون مختصة أساسا بعلم البيولوجيا، ونظرية ماركس معنية بالاقتصاد والاجتماع، ونظرية فرويد مجالها عالم النفس الإنسانية، ونظرية أينشتاين موضوعها علم الطبيعة، إلا أن النظرة الممعنة الفاحصة، تستطيع أن تنفذ خلالها جميعا إلى أساس مشترك، يربطها بعضها ببعض في مركب ثقافي واحد، بحيث يجوز القول عنه بأنه هو المركب الثقافي الذي يمثل عصرنا الحاضر، وهذا الأساس المشترك هو تذويب الفواصل الحادة التي كانت تفصل الأنواع الطبيعية للكائنات بالنسبة لنظرية دارون وتفصل العقل عن اللاعقل، أو تفصل الإنسان عن الحيوان في دوافع السلوك، بالنسبة لنظرية فرويد، وتفصل بين طبقات المجتمع الواحد، بالنسبة لنظرية ماركس؛ ثم بعد أن كانت البشرية تنظر إلى الحقائق العلمية كأنما هي مطلقة اليقين بغير قيد، جاءت نسبية أينشتاين لتجعلها حقائق تتفاوت في درجات احتمالها، فباتت أقل صلابة وقطعية مما كانت عليه.
أما نظرية التطور فقد جاءت لتقيم فلسفة قائمة على الدينامية والصيرورة، بعد أن كان الإنسان يتصور الكون على صورة سكونية ثابتة على حالة واحدة منذ الأزل؛ فليس المهم هنا أن يكون دارون قد أصاب أو أخطأ في تفصيلات نظريته، بل المهم هو أن تغيرت نظرة الإنسان إلى حقيقة العالم، نعم إن دارون قد أراد بنظريته الميدان البيولوجي وحده، ليقول فيه إن الكائنات الطبيعية الحية كلها، حلقات من سلسلة واحدة، لكن الباحثين بعد ذلك لم يلبثوا أن وسعوا من نطاق الفكرة لتشمل شتى جوانب الثقافة الإنسانية كلها، فنظم الحياة جميعا خاضعة للقواعد نفسها التي تخضع لها الكائنات الحية، وأهمها هو أنها إما أن تتكيف للبيئة وإما أن تموت، وأن البقاء بين النظم المتنافسة هو للأصلح من حيث التكيف للظروف؛ وكان من أبرز ما تغيرت به ثقافة عصرنا، نتيجة لمبدأ التطور، هو الإيمان بضرورة التغير والتحول وعدم الثبات الجامد؛ فكلما تغيرت الظروف من حولنا وجب أن نغير من أنفسنا لنلائم الوضع الجديد، ولا غرابة أن وجدنا عددا كبيرا من فلاسفة القرن العشرين، قد أداروا فكرهم الفلسفي حول محور التطور هذا، بمعان مختلفة عندهم، وعلى أشكال مختلفة أيضا، وحسبنا أن نذكر منهم رجلين: برجسون وهوايتهد، فضلا عن الفلسفة البراجماتية - أو العملية - التي ركزت على أهمية الفعل بالنسبة إلى مجرد التأمل النظري؛ فالحقيقة إنما تكمن في فعل نغير به الدنيا وفق أهدافنا، وليست الحقيقة - كما كانوا يتصورون قبل ذلك - أمرا يستنبطه الإنسان داخل رأسه وهو قابع في مكانه لا يغير من أوجه العالم شيئا.
أصبحت الحقائق مرهونة بطرائق تطبيقها، فإذا زعم لنا اليوم زاعم بأن لديه فكرة أو أفكارا ليست مما يصلح للتطبيق العملي، فاعلم أن ما لديه لا ينتمي إلى دنيا الفكر كما أصبح العالم يتصوره، ونحن إذ نقول إن الفعل والتطبيق والتنفيذ وتغيير العالم من حولنا، له الأولوية على التأمل السكوني، فكأننا قلنا - بعبارة أخرى - إن الإرادة قد أصبح لها الأولوية على التفكير الذهني الذي لا يحرك شيئا من مكانه، بل إن عملية «التفكير» نفسها - كما قلنا - قد أخذت هذا المعنى الجديد، وهو أن التفكير ليس إلا مجموعة الإجراءات العملية التي نحقق بها شيئا في دنيا الواقع، فإذا لم تكن ثمة إجراءات من هذا القبيل، لم يكن ثمة تفكير بالمعنى الذي يريده عصرنا بثقافته التي شكلتها من بعض وجوهها نظرية التطور.
ذلك عن نظرية دارون وما ترتب عليها في ثقافة عصرنا، وأما نظرية ماركس الاقتصادية الاجتماعية التي نظرت إلى التاريخ وكأنه حركة جدلية يقع فيها الصراع بين ضدين حتى يتولد منهما وضع جديد، لا يلبث بدوره أن يصارع ضده حتى يتولد وضع جديد آخر، وهلم جرا؛ فهي نظرية - بغض النظر عن كل ما فيها من خطأ وصواب؛ لأن ذلك ليس موضوعنا الآن - هي نظرية مشتقة في أساسها الجدلي هذا من فلسفة هيجل، وكان لها الأثر في لفت الأنظار إلى حقيقة هامة، وهي أن التغير إذا أردناه، كان علينا أن نستثير دوافعه من الداخل، لا أن نفرضه من الخارج؛ والأمر في ذلك شبيه بما يحدث للكائن الحي كالشجرة مثلا، فهي تعتمل من داخلها لتنمو، وليست تنمو بأن يضاف إليها فروع وورق من خارجها، فإذا أردنا أن نغير المجتمع على صورة معينة، وجب أن نغير من بنيته؛ أي أن نغير الإطار الذي أقيم عليه، ولا جدوى في أن يظل الإطار كما هو، ثم نطمع في التغير بمجموعة من القوانين تصدرها الحكومات.
ومثل هذا التصور الجدلي للتغير قد بات - مع نظرية التطور - جزءا أساسيا في ثقافة عصرنا، وننتقل إلى نظرية اللاشعور التي أخذ بها فرويد؛ فقد كان لها هي الأخرى أثر بالغ في توجيه نشاطنا الفكري في هذا العصر، لدرجة أنها لم تعد مقصورة على المختصين من العلماء، بل تسربت مفاهيمها إلى رجل الشارع، فأصبح مألوفا أن نسمع الناس في أحاديثهم العابرة يقول بعضهم لبعض أشياء عن مركبات النقص وعن الكبت وما شابه ذلك. ولقد أدت هذه النظرية - بغض النظر مرة أخرى عن كل ما فيها من صواب أو خطأ - إلى تحطيم الحواجز الحادة التي كنا نميز بها العقل المنطقي عند الإنسان من سائر مكونات فطرته التي جبل عليها من غرائز وانفعال وغير ذلك؛ وأصبحنا نرى سلوك الإنسان لا يصدر بهداية عقله، بقدر ما يصدر انبثاقا من مكونات دفينة ربما ارتدت إلى بذور بذرت فيه أيام الطفولة الباكرة، وإذا كان الأمر كذلك، كان حتما علينا أن نعنى بتربية أطفالنا ليجيء الإنسان الذي نريده سويا خاليا من العقد التي قد تنحرف به عن الجادة المستقيمة، دون أن تكون له في ذلك حيلة، ومن هنا أخذت تتغير وجهات النظر إلى انحراف السلوك عن العرف المألوف، بحيث أصبح يعد مرضا يستلزم العلاج، بعد أن كان جناحا يقومه العقاب؛ إذ ما دام سلوك الإنسان تشكله تلك العوامل الخافية فهل نعاقب الشجرة على أنها تنبت الشوك إذا كانت بذورها الأولى تحتم عليها أن يكون الشوك مصيرها؟
Page inconnue
مجالات ثقافية كثيرة تغيرت في أسسها نتيجة لنظرية اللاشعور؛ ففي الأدب والفن والفلسفة جاءت آثارها واضحة وعميقة؛ فقد شغل الأدباء بالغوص في أعماق النفس الإنسانية كلما أرادوا تصويرها، وشغل رجال الفن بإخراج ما بأنفسهم بعد أن كانوا قبل ذلك ينقلون عن الطبيعة الخارجية؛ ومن ثم نشأت للفن في عصرنا هذه الاتجاهات الكثيرة التي نعرفها من سريالية إلى تجريدية وانطباعية وغير ذلك، ولم يعد الفنان مسئولا عن موضوع خارج نفسه مفروض عليه، بل موضوعه الأساسي هو نفسه ذاتها يضع ما فيها ألوانا على اللوحة أو نحتا في الحجر؛ فإذا ما جاء الناقد ليعلق ويفسر، كان عماده نظرية اللاشعور.
وأما الخط الفكري الرابع، وهو نظرية النسبية، فلست بحاجة إلى تعقب أثره في علوم الطبيعة، وهو الأثر الذي انتهى بالإنسان إلى تحطيم الذرة واستخراج قوتها الماردة، كما انتهى بالإنسان إلى أن يشق طريقه إلى كواكب السماء، وإنما يهمني بصفة خاصة التركيز على الجوانب الإنسانية التي ترتبت عليها، ومن أهمها نسبية القيم ونسبية الثقافات؛ فلم يعد يسيرا على أحد أن يزعم بأن ثقافة معينة أعلى أو أدنى من ثقافة أخرى، إلا بمقدار ما تنفع واحدة في ناحية لا تنفع فيها الأخرى.
4
تعالوا نقف معا عند المنحنى الذي استدار عنده الزمن في انتقالته من القرن التاسع عشر، إلى القرن العشرين الحالي، لنرى ماذا كان المناخ الفكري السائد قبل ذلك المنحنى، وماذا ظهر بعده، وكيف أن الشطرين موصول أحدهما بالآخر.
الحق أن القرن الماضي كان هو الفترة التي أبدع فيها الفكر الإنساني عامة، وفي الغرب بصفة خاصة، نتاجا غزيرا متلاحقا، تطلب امتدادا زمنيا استطال إلى يومنا هذا لتمثله وهضمه، وذلك ما قد حدث دائما في مسار التاريخ الفكري منذ أقدم العصور: عصر يبدع الجديد، وعصر بعده يتمثله على مهل.
فلقد شهد النصف الثاني من القرن الماضي، دارون ونظريته في التطور البيولوجي، وماركس ونظريته في التطور التاريخي، وفرويد ونظريته في الصلة بين الوعي العاقل ومستويات اللاوعي الدفين، وأخيرا جاء أينشتاين ليعلن في تاريخ العلم عصرا جديدا متكاملا.
كانت أوروبا قد شهدت خلال النصف الثاني من القرن الماضي موجة مادية عارمة، أقامها وشجعها ازدهار الفكر العلمي موضوعا ومنهجا، حتى لقد حاولوا تفسير كل الظواهر الشعورية والعقلية تفسيرا طبيعيا ماديا؛ وهنا يجدر بنا أن نتذكر، بأن تلك الموجة المادية الطاغية عندئذ، هي التي دفعت سائلا من أفغانستان يوجه سؤالا إلى جمال الدين الأفغاني وهو في مصر، يسأله فيه رأيه عن جماعة الماديين - أو الدهريين - الذين علا صوتهم في أوروبا، فأجابه الأفغاني بكتاب كامل، هو كتاب «الرد على الدهريين»، وهو أشهر ما خلفه لنا ذلك الرائد المسلم العظيم.
والناظر من بعيد إلى تلك الموجة المادية الطبيعية، يلحظ فيها أفكارا رئيسية يبدو على ظاهرها التعارض بعضها مع بعض؛ فبينما سادت فكرة تعمل على اتصال الكون بعضه ببعض في متصل واحد، اضطروا إلى افتراضه ليعللوا مسار الضوء عبر الأبعاد الفلكية (ولهذه الفكرة الاتصالية انعكاسها في تسلسل الكائنات في نظرية دارون، من الخلية الأولى إلى الإنسان، واتصال التاريخ في شريط مادي واحد في نظرية ماركس، واتصال العقل الأعلى بالغرائز الدنيا في نظرية فرويد، وهكذا)؛ أقول إنه بينما سادت تلك الفكرة الاتصالية عندئذ، قامت إلى جانبها فكرة رئيسية تعارضها في الظاهر، وهي الخاصة بتحليل الكون إلى جزيئات صغيرة لكل منها كيانها الخاص؛ أما المادة فجزيئاتها الذرات وما فيها من مكونات كهربية - السالبة منها والموجبة - وأما الأحياء فجزيئاتها هي الخلايا بما فيها من مكونات كذلك.
هذه واحدة، والأخرى أنه بينما سادت في الفيزياء الفكرة القائلة بأن الطاقة لا تزيد ولا تنقص، شأنها في ذلك شأن المادة في الطبيعة، فهي الأخرى محافظة على كمها، لا تزيد ذرة ولا تنقص ذرة، رأينا فكرة تقوم إلى جانبها، وتعارضها في الظاهر، وهي فكرة التطور؛ إذ ماذا يكون التطور إلا أن يكون ضمن معناه ظهور كائنات حية جديدة، وكلما ظهر كائن حي ازدادت الطاقة بظهوره، هذا فضلا عن أن التطور يقتضي الزيادة في الكون بصفة عامة، وهي زيادة تناقض القول بأن المادة والطاقة تحتفظان بمقدار معين لا ينقص ولا يزيد.
وجاء القرن الحالي ليتناول تلك الحصيلة الفكرية، بكل الخلفية التي كانت وراءها، فيصوغها صياغة جديدة، هي التي نتحدث عنها الآن على أنها الفكر المعاصر؛ ولقد اقتضت هذه الصياغة الجديدة انقلابا أو ما يشبه الانقلاب في أسس العلوم كلها، فضلا عن أسس التفكير الفلسفي؛ لأن الفلسفة ما هي في صميمها إلى الضوء يلقى على ميدان العلوم، ولذلك كانت بين الجانبين صلة وثيقة، فكلما تغيرت أصول العلم في عصر من العصور، تغيرت معها أجواء الفلسفة.
Page inconnue
ولنبدأ بعلم الفيزياء؛ فقد كانت الخلفية التي يقوم عليها حتى القرن التاسع عشر، هي وجهة نظر نيوتن، التي فسرت كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة بالمادة والحركة، فما عليك إذا أردت لأية ظاهرة تعليلا كافيا، إلا أن تحسب وضع كيانها المادي من جهة، والعوامل التي حركتها من خارجها من جهة أخرى، فإذا عرفت الوضع الراهن لأي جسم - كجرم من أجرام السماء مثلا - وعرفت حساب المؤثرات الخارجية التي تحركه، عرفت بالتالي كل شيء عنه الآن، وفي أية لحظة زمنية مضت، وفي أية لحظة زمنية سوف تأتي؛ بعبارة أخرى، فإنك تستطيع التنبؤ الرياضي الدقيق بكل ما سوف يحدث في كل لحظة مستقبلة، كما تستطيع الحساب الرياضي الدقيق لكل ما قد حدث في الماضي؛ فلست بحاجة - من أجل العلم الكامل بظواهر الطبيعة - إلى شيء أكثر من وضع الجسم والعوامل التي تحركه من خارجه.
وجاء القرن الحالي بما بين يديه من معرفة أنتجها له القرن الماضي، وغير تلك الصورة النيوتونية تغييرا تناولها من أساسها؛ فأولا: لم تعد «المادة» هي ذلك المعطى البسيط الذي تصوره نيوتن، بل أصبحت المادة مركبا ذريا من كهارب دائبة الحركة في أفلاكها؛ أي إن المادة لم تعد شيئا سلبيا سكونيا ينتظر الدوافع المحركة لتأتيه من خارج ذاته، بل أصبحت المادة طاقة حركية دينامية متحركة بطبيعتها؛ وثانيا: لم يعد في حدود الإمكان أن نحسب للجسم المعين وضعه وحركته في آن واحد؛ لأنك إذا حصرت انتباهك في وضع ذرة معينة، فاتتك حركتها، وإذا حصرت انتباهك في حركتها فاتك وضعها؛ ومعنى ذلك أنه لم يعد في حدود المستطاع ذلك الحساب التنبؤي الرياضي الدقيق الذي ظنه نيوتن، وبات أمر العلم الفيزيائي مرهونا بأرقام إحصائية تخرج المتوسطات، وبالتالي فحقائقه احتمالية لا تعرف اليقين الرياضي المزعوم لها؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه لما كانت حركة كهارب الذرة الواحدة تلقائية، يتعذر التنبؤ بها قبل وقوعها، فإن ذلك يفسح المجال واسعا أمام فكرة الحرية في الطبيعة، لتحل محل الجبرية الحاسمة التي افترضها نيوتن من قبل، فلو كانت الطبيعة وظواهرها في ظل فيزياء نيوتن أشبه بالآلات التي تدور تروسها وعجلاتها سيرا على طريق مرسوم معلوم ومحسوب، فقد أصبحت الطبيعة وظواهرها على ضوء العلم الفيزيائي الجديد أشبه بالكائن الحي الذي يتحرك من داخله، حركة لا هي مرسومة له بدقة الرياضة، ولا هي معلومة علما كاملا قبل وقوعها، واختصارا، فبعد أن كانت الطبيعة سكونية أصبحت دينامية متطورة، وبعد أن كانت مطلقة أصبحت نسبية.
ونترك علم الفيزياء لنلم إلمامة سريعة بالتحول العميق الذي طرأ على العلوم الرياضية، وفي صحبتها علم المنطق؛ فلقد كان السائد قبل القرن الماضي، عن الرياضة أنها ذات علاقة بالحقيقة في مجال الطبيعة؛ أي إن تلك صورة كمية لهذه؛ فحدث خلال القرن الماضي - على أيدي أعلام بارزين في مجال العلوم الرياضية وفي مجال علم المنطق - أن استطاعوا بتغييرهم لبعض المسلمات التي أقام عليها إقليدس بناءه في علم الهندسة، بمسلمات أخرى، فتغيرت بالطبع النتائج المترتبة عليها؛ أعني النظريات الهندسية؛ فها هنا تنبه العقل الإنساني إلى حقيقة لعلها من أهم الحقائق العلمية في هذا العصر كله، وهي أن البناء الرياضي إنما يحكم عليه بالصواب، لا على أساس أنه يصور الطبيعة وكائناتها، بل على أساس داخلي في ذلك البناء نفسه، وهو أن تكون النتائج مستنبطة استنباطا سليما من مقدماتها، ولذلك فإنه من الممكن إقامة عدة بناءات رياضية، كل منها يكون صحيحا في ذاته، دون أن ندري أي تلك البناءات يمكن تطبيقه على الطبيعة وأيها لا يمكن.
ولما كان الفكر الإنساني كثيرا جدا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب الرياضي نفسه، أي أن يفرض لنفسه فروضا يسلم بصوابها، ثم ينتزع منها نتائجها، حتى يتكامل له بمجموعة تلك النتائج وفروضها مذهب فكري موحد، أقول إنه لما كان الفكر الإنساني كثيرا ما يبني مذاهبه على هذا الأسلوب، تبين في جلاء - على ضوء ما حدث لعلوم الرياضة نفسها - أنه في حدود الإمكان أن تقام عدة مذاهب فكرية وعقائدية، كل منها صحيح بالنسبة لنفسه لكن صحته هذه لا تنفي صحة المذاهب الأخرى كذلك وللإنسان بعد ذلك أن يختار من تلك المذاهب ما يحقق له أهدافه.
وصحب التطور الذي حدث في مجال الرياضة البحتة، تطور مشابه في علم المنطق؛ فلقد كنا قبل ذلك نجري على سنن المنطق الأرسطي، الذي إن صلح للأفكار الكيفية الغامضة، مثل إنسان وحياة وخلود وفناء ... إلخ، فلا يصلح للأفكار الكمية الدقيقة؛ ولذلك فقد بات مطلوبا لنا منطق تحليلي رياضي، لنعالج به الأفكار التي من هذا القبيل، معالجة تفتت الواحدة منها تفتيتا لتعري أجزاءها وعلاقاتها بغيرها وهكذا، مما يؤدي بنا إلى فكر علمي فيه دقة التصورات الرياضية.
ولا يفوتني هنا أن أقول إن المشتغلين بالفلسفة في عصرنا، حين استخدموا هذه الأداة التحليلية في تفهم المفاهيم التقليدية التي كانت شائعة في مجال الفكر الفلسفي، تبين لهم عن بعضها أنها كالعلب الفارغة، تطن بلفظها لكنها خالية من أي مضمون.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى العلوم الإنسانية، وعلى رأسها علم النفس وعلم الاجتماع، فتراها بدورها قد اتخذت صورة أخرى غير التي ألفناها قبل ذلك؛ فكلاهما قد اكتسب روحا علمية تجريبية من روح العصر، وتحول إلى بحوث تجريبية كأنه معني بمشكلة من مشكلات الطبيعة ذاتها.
5
ونختم حديثنا عن المعالم الرئيسية في فكر العصر، بذكر صورة موجزة عن التيارات الفلسفية التي تسوده، والفلسفة عادة هي التي تستخرج من الحياة الثقافية في عصرها، مبادئها الكامنة وأصولها، فأقول على وجه الإجمال الذي يهمل التفصيلات والفروع، إن في عصرنا تيارات فلسفية أربعة: فلسفة التحليل في إنجلترا، والفلسفة البراجماتية في أمريكا، والفلسفة الوجودية في غربي أوروبا، وفلسفة المادية الجدلية في شرقي أوروبا، وأما بقية أجزاء العالم فالأغلب أن تنقسم فيما بينها هذه التيارات الأربعة نفسها، مضافا إليها - أحيانا - جوانب مأخوذة من تراثها الاقليمي، وليس في ذلك ما يدعو إلى التعجب؛ لأنه إذا كانت فلسفة العصر نابعة من حضارته وثقافته، ثم إذا كانت بقية أجزاء العالم يغلب عليها - حتى اليوم - الأخذ بالحضارة والثقافة الغربيتين قدر المستطاع، كانت فلسفة الغرب - بالتالي - هي التي تسود.
ولقد نتوهم أن انقسام الفكر الفلسفي في الغرب دال على تمزق العصر من الناحية الفكرية، لكن نظرة فاحصة متعمقة، سرعان ما تبين أن تلك التيارات الأربعة إنما اختص كل منها بجانب غير الجانب الذي اختص به التيارات الأخرى ، وإذن فهي تتكامل معا، ولا تتعارض؛ إذ التعارض لا يكون إلا إذا كانت كلها جميعا تنصب على جانب واحد بعينه، ثم تختلف بعد ذلك في الرأي.
Page inconnue
فالفلسفة التحليلية السائدة في إنجلترا، إنما خصت نفسها أساسا بتحليل العلوم وقضاياها، لتعرف الصورة الهيكلية التي ينصب فيها الفكر العلمي؛ والفلسفة البراجماتية في أمريكا قد خصت نفسها بالبحث عن الحق ما هو، كما يفهمه عصرنا، فتقول عن الحق إنما هو النتائج التي تعمل على حل مشكلات الحياة الواقعية؛ أي إنه إذا كان بين أيدينا فكرة، ثم أردنا أن نتبين من صوابها أو عدم صوابها، بحثنا عما يترتب عليها من فعل نجريه على أرض الواقع الحقيقي، من شأنه أن يحل مشكلة بعينها قصدنا إلى حلها؛ فإذا لم نجد الفكرة مؤدية إلى مثل هذا الفعل، ولا إلى المشكلات تحلها، علمنا أنها لا تستحق أن يطلق عليها اسم «فكرة» فضلا عن أن نصفها بأنها صحيحة.
وأما الفلسفة الوجودية، فلا تجعل محور اهتمامها تحليل البناء العلمي، ولا تحليل فكرة الحق حين نصف به هذه الفكرة أو تلك، ولكنها تعنى بالإنسان نفسه، فتقول إن الإنسان إنما يستمد إنسانيته من صنعه لنفسه عن طريق القرارات التي يتخذها هو لنفسه في المواقف المختلفة، على أن يكون مسئولا عما يقرره، وإنه ليهدر آدميته إذا هو تشكل على ما يقرره له سواه، وأخيرا تعنى المادية الجدلية بتحليل التاريخ وما يسيره من نظم وقيم وأفكار، فترى أن هذا المركب الثقافي بكل أجزائه إنما يتكون نتيجة لصراعات داخلية في بنيانه؛ إذ يكون في كل وضع معين ما يناقضه حتى يهدمه، ومن الوضع ونقيضه هذين يتألف موقف جديد، وهكذا ترى أن الفلسفة التي تسود غربي أوروبا وشرقيها على السواء، تشترك في أن الإنسان هو محورها، على حين أن الفلسفة كما هي قائمة في إنجلترا وأمريكا تجعل الفكر العلمي محورها؛ فلا تضاد بين هذه وتلك، وإنما هو تكامل لهما في وحدة شاملة تصور العصر وما فيه.
عصرنا من فلسفته
أهم المذاهب الفلسفية التي يتقاسمها عصرنا أربعة: الوجودية ، والمادية الجدلية والبراجماتية، والتحليل، وأن توزيع هذه المذاهب الأربعة ليوشك أن يكون توزيعا جغرافيا، بمعنى أن كل مذهب منها يتركز في إقليم جغرافي بذاته، ثم يشع منه إلى ما عداه؛ فالوجودية في غربي أوروبا، والمادية الجدلية في شرقيها، والبراجماتية في الولايات المتحدة الأمريكية، والتحليل في بريطانيا.
على أن العالم ليس كله أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية؛ فهناك قارات أخرى بأكملها، لكنها من الناحية الفكرية الفلسفية إحدى اثنتين: فإما جاءتها الغزوة من أوروبا وأمريكا وهي فيما يشبه الخلاء من ناحية الفكر الفلسفي، وإما جاءتها تلك الغزوة لتجد بين ظهرانيها تراثا خصبا عريقا؛ ففي الحالة الأولى انفرد الفكر الغازي فلم يحدث في نفوس الناس وعقولهم أزمة ولا ما يشبه الأزمة، وأما في الحالة الثانية فقد انقسم المثقفون قسمين، أحدهما جلس ليجتر ماضيه، وآخر جاهد ليجد لنفسه مخرجا، تارة بدمج الشعبتين في حياة واحدة ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وتارة أخرى بإغلاق صفحات الماضي ليتفرغ للوافد الجديد.
وغني عن البيان أننا نحن الأمة العربية من الطراز الثاني؛ أعني الطراز الذي جاءته الفلسفة الغربية المعاصرة وهو على امتلاء ثقافي بما ورثه عن أسلافه، لكنه انشق على نفسه شطرين؛ فبينما تجد فريقا منه لا يكاد يعي من فكر عصره خردلة، مكتفيا بموروثه الغني، تجد فريقا آخر قد أتاحت له الفرصة أن يلم بفكر العصر قليلا أو كثيرا، فتأخذه الحيرة كيف يوفق في رأسه بين طارف وتليد.
وإذا نحن أخذنا الدراسة في جامعاتنا العربية نموذجا يوضح موقفنا من فلسفة العصر رفضا أو قبولا، وجدنا أقسام الدراسة الفلسفية في تلك الجامعات تضع الشرائح الزمنية التاريخية جنبا إلى جنب، تضعها متجاورة وهي في حياد كأن الأمر لا يعنيها؛ ففي هذه الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الإسلامية، وفي تلك الفرقة الدراسية تدرس الفلسفة الحديثة أو المعاصرة، مأخوذة من مصادرها الغربية، فيخرج دارس الفلسفة من الجامعة وهو ما يزال في الحيرة نفسها: هل يحاول التوفيق أو لا يحاوله؟ وإذا حاوله فكيف يكون ذلك؟ ولقد شهدت في حياتي أعواما اشتد فيها الصراع بين أساتذة الفلسفة الذين أنيط بهم تدريس الفلسفة الغربية؛ فكان كل منهم يتعصب لتيار غربي دون تيار، وكان هذا التيار أو ذاك هو من نتاجنا نحن، وانعكاسا لحياتنا نحن، ثم كأن هذه التيارات الغربية الأربعة يناقض بعضها بعضا تناقضا يجعل المتقبل لأحدها رافضا بالضرورة للثلاثة الأخرى، وكان أجدر بنا أن نتبين الأمر على حقيقته، وهي أن العصر الذي أنبت تلك التيارات الفلسفية المختلفة إنما هو عصر واحد، ذو حضارة واحدة، وأنها لتكون مفارقة عجيبة، لو أن هذا العصر الواحد يتمزق في مذاهب متعارضة في أسسها وجذورها.
ولقد كنت لسنوات طوال مخطئا بين مخطئين؛ لأنني كنت بدوري أتعصب لتيار فلسفي معين، على ظن مني بأن الأخذ به يقتضي رفض التيارات الأخرى، لكنني اليوم - مع إيماني السابق بأولوية فلسفة التحليل على ما عداها من فلسفات عصرنا - أومن كذلك بأن الأمر بين هذه الاتجاهات الفلسفية إنما هو أمر تكامل في نهاية الشوط، وليس هو أمر تعارض أو تناقض؛ فكل مذهب من المذاهب الأربعة الرئيسية التي تسود العصر، يسأل سؤالا غير الأسئلة التي تطرحها على نفسها بقية المذاهب، والتناقض لا يكون إلا إذا كان السؤال المطروح واحدا عند الجميع، لكن الإجابة عند هذا تجيء نافية للإجابة عند ذاك؛ فالمذاهب الفلسفية الأربعة التي أشرنا إليها، إن هي على وجه الجملة إلا إجابات أربع، لا على سؤال واحد بعينه، بل هي إجابات مختلفة عن أسئلة مختلفة، عني كل مذهب منها بسؤال، وأولاه اهتمامه، دون الأسئلة الثلاثة الأخرى، بحيث لا يكون معنى ذلك أنه بالضرورة رافض لمشروعية الأسئلة الأخرى، أو رافض للإجابة التي أجيب بها عن تلك الأسئلة.
وعلى سبيل التشبيه: افرض أن أربعة أشخاص اختلفت ميولهم واستعداداتهم، نظروا إلى سجادة يفحصونها، فاهتم أحدهم بالرسوم التي ظهرت على سطحها، من حيوان ونبات وزخارف وغير ذلك، بينما اهتم الثاني باللون متسائلا إن كان مصدر الصبغة كائنات عضوية أم كان مصدرها تركيبات كيماوية، وأما الثالث فقد وجه عنايته إلى نوع الصوف وطريقة نسجه، وطفق الرابع يبحث عن موطن الصناعة ماذا كان: أكان أصفهان أم كان شيراز؟ فهل يحق لنا أن نقول عن هؤلاء الأشخاص الأربعة إنهم «متعارضون» متناقضون متقاتلون إلى آخر هذه الحالات العراكية التي تصورناها نحن دارسي الفلسفة في الجامعات العربية بين مختلف الاهتمامات التي ظهرت في التيارات الفلسفية المختلفة في أوروبا وأمريكا؟
ولنبدأ بما شئنا من هذه التيارات الأربعة، التي هي: الوجودية، والمادية الجدلية، والبراجماتية، والتحليل، التي قلنا إنها هي الاتجاهات الفلسفية الأساسية في عصرنا الراهن، أقول: لنبدأ بأيها شئنا، لنرى ما هو لب رسالته؟ ثم ننتقل منه إلى مواقف أصحاب الاتجاهات الأخرى متسائلين: هل هم بحكم اتجاهاتهم تلك رافضون لتلك الرسالة في لبها وصميمها، أو أن الأصح هو أن يقال عن هؤلاء جميعا إنهم اختلفوا في اهتماماتهم وفي محاور ارتكازهم، مع استعداد كل منهم لقبول ما انتهت إليه أفكار الآخرين فيما جعلوا اهتمامهم له؟
Page inconnue
وليكن المذهب الوجودي هو نقطة ابتدائنا: أليست رسالته في جوهرها هي حرية الإنسان؟
إن الإنسان - بناء على هذا المذهب - هو الذي يصنع نفسه ويشكلها عن طريق القرارات التي يتخذها لنفسه بنفسه؛ فليس هو بذي حقيقة مقطوع بها مقدما، ليسير على طريق مرسوم له ولا حيلة له فيه؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما كان له اختيار فيما يفعل وما يكف عن فعله، لكن سبل الاختيار مفتوحة أمام الإنسان في كل لحظة من حياته، بل إن هذا الاختيار واجب مفروض على الإنسان إذا أراد لإنسانيته أن تتحقق، أما إذا ترك سواه ليختار له، ولا يكون له إلا أن يطيع، فإنه عندئذ يكون بمثابة من أهدرت آدميته؛ لأنه يكون قد حول نفسه من الحالة الإنسانية التي تريد وتختار، إلى حالة الأشياء الجوامد، أو إلى حالة النبات والحيوان.
تلك هي رسالة الوجودية، ليس فيها ما يرفضه مذهب من المذاهب الثلاثة الأخرى، كل ما في الأمر، هو أن تلك المذاهب الثلاثة لم تجعل حرية الإنسان - بذلك المعنى المحدد لها - موضوع سؤالها، ولقد تجد من الفلسفات ما يرفض الوجودية من حيث الأساس، كالمذاهب المثالية التي تجعل ماهية الإنسان سابقة على وجوده الفعلي، لكنها فلسفات نبتت في عصور أخرى غير عصرنا، وأقول ذلك عنها دون أن أريد لهذا القول أن يتضمن أنها أقل أهمية أو أكثر أهمية من الاتجاهات الفلسفية التي أنبتها هذا العصر الذي نعيش فيه.
وأمام رسالة المذهب الوجودي في حرية الاختيار وحرية القرار بالنسبة إلى الإنسان، قد يسأل سائل: أليس هنالك من القيود ما يقيد تلك الحرية عند الإنسان؟ ألا تتقيد - مثلا - بما يقتضيه منطق العقل حتى لا تصبح كحرية المجنون؟ لنفرض أن مسافرا قرر السفر من مصر إلى أوروبا ليقضي بعض شأنه، ألا تتقيد حرية إرادته تلك بوسائل الانتقال المتاحة وبالقدرة المالية والصحية وغير ذلك مما يملكه أو لا يملكه؟ أو افرض فرضا آخر وهو أن إنسانا أراد أن يقسم مائة دينار على أربعة أشخاص بالتساوي، تلك هي إرادته الحرة، لكن هل تكون له كذلك حرية في ناتج القسمة، وهو أن يكون نصيب كل فرد من هؤلاء الأربعة خمسة وعشرين دينارا؟ إن إرادته مهما بلغت من حريتها، لا بد لها من الانصياع إلى قوانين الرياضة وقوانين الطبيعة، وله بعد ذلك أن يتحرك بإرادته الحرة داخل إطار هذه القوانين.
لا، بل إنه وهو يتخذ لنفسه قراره الحر بإرادته الحرة، مضطر أن يصوغ ذلك القرار في لغة يفهمها الناس، ولما كانت اللغة ليست من صنعه الخاص، فهو مضطر إلى التزام المفردات اللغوية وطرائق التركيب اللغوي التي تواضع عليها الناس، ليفهموا عنه ما أراد وما قرر، وإلا لما أحدث في العالم الخارجي الأثر الذي أراد أن يحدثه بقراره ذاك الذي اختاره حرا.
فإذا سأل سائل عن مدى الضوابط التي يفرضها منطق العقل فرضا؛ أي تفرضها قوانين العلوم الرياضية والعلوم الطبيعية، بل وتفرضها كذلك لغة العلم ولغة التفاهم، كان ذلك السائل باحثا عن جواب لن يجده إلا عند من عني بفلسفة التحليل؛ لأنها فلسفة توجه اهتمامها الرئيسي نحو تلك الضوابط، فتحاول أن تستخلص الصور المنطقية الخالية من مضموناتها، لعلها ترى في وضوح أنواع العلاقات التي تربط أطراف الفكرة الواحدة ربطا يفيدنا في توليد النتائج، فإذا كان المشتغل بفلسفة التحليل لا يرفض حرية الإنسان كما وصفتها الفلسفة الوجودية، فإن المشتغل بالفلسفة الوجودية من جهته لا يرفض أن تضطلع فلسفة التحليل بتحديد الضوابط التي لا مناص من التزامها عند عرض أفكارنا؛ إذ الفلسفة الوجودية وإن لم توجه اهتمامها إلى ضوابط الأفكار في إطارها الصوري، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها، كما أن الفلسفة التحليلية وإن لم توجه اهتمامها إلى أركان الحرية الإنسانية عندما تريد وتفعل، فهي لا تتنكر لها ولا ترفضها.
على أن صور المنطق والرياضة وقوانين العلوم وقواعد اللغة المفهومة ذات الدلالة، ليست هي كل القيود التي تقيد حرية الإنسان المتمثلة في فاعليته، إذ هو يريد ويختار وينفذ بالفعل؛ فهنالك بالإضافة إلى ذلك قيود الأهداف؛ لأن الذي يسير على طريق حياته بلا أهداف يتصورها ويحددها ليعمل على تحقيقها، هو المجنون وحده، وإذا كان ذلك كذلك في حياة العقلاء، فماذا تقول البراجماتية غير هذا؟ إن البراجماتية قيدت دلالة الفكرة المعينة بمقدار تحقيقها لهدفها، فإذا قلت عن فكرة ما إنها بغير هدف محدد تقصد إليه وترسم معالمه، كنت كمن لا يريد أن يفرق بين عاقل ومجنون، وإذا كان فيلسوف الوجودية وهو منغمس في البحث عن حرية الإنسان، لم يوجه اهتمامه كذلك إلى تحليل الأفكار الصحيحة تحليلا يقيدها بالأهداف التي تتحقق بوساطتها على أرض الواقع الفعلي؛ فليس معنى ذلك أنه - أي فيلسوف الوجودية - يرفض هذا الذي تقوله البراجماتية، كما أن البراجماتي لم يكن ليرفض ما يقوله الوجودي عن صنع الإنسان لنفسه باختياراته الحرة التي يمارسها في المواقف التي تعرض له في مسيرة حياته.
هنالك - إذن - قيود تحد من إطلاق الحرية الوجودية، دون أن تنتقص من صميمها؛ فلقد ذكرنا قيود العقل بمنطقه، وقيود الوسيلة اللغوية التي نتفاهم بها حتى لا تذهب أقوالنا عبثا مع الريح، وهنالك قيود الأهداف التي لا بد منها لتهتدي بها الحرية الإنسانية إذ هي تريد وتختار، ونريد الآن أن نضيف الآن قيدا آخر، هو قيد الظروف المادية التي تحيط بنا عند الاختيار وإرادة الفعل، فماذا يجدينا من حرية لا تضع في اعتبارها ظروف الواقع وضروراته؟ إنها لو فعلت ذلك كانت هي حرية الحالمين! نعم، إننا أحرار في تقرير ما نريد فعله، لكن هذا القول يفقد معناه إذا كان هذا التقرير نفسه لا تواتيه العوامل المادية المحيطة بنا، وهي العوامل التي تتيح لنا أن نحول ما اخترناه وما أردناه، إلى واقع نحياه، وذلك هو جانب مما تقوله الفلسفة المادية الجدلية.
هكذا نرى أن المذاهب الفلسفية في عصرنا حين اختلفت، فهي إنما اختلفت في الجانب الذي تكون له أولوية النظر عند كل منها، دون أن تكون الجوانب المتعددة متعارضة فيما بينها، بل هي جوانب يكمل بعضها بعضا، ونستطيع أن نأخذ بها جميعا - وكدت أقول إنه لا بد أن نأخذ بها جميعا - في وقت واحد؛ إذ لا تعارض هناك بين أن نقر للإنسان بحريته (وتلك هي الفلسفة الوجودية) وأن نبين لتلك الحرية ضوابط المنطق لتلتزم حدودها (وتلك هي الفلسفة التحليلية) وأن نشترط لها كذلك التزام الأهداف المراد تحقيقها (وتلك هي البراجماتية) مدخلين في حسابنا دائما ضرورات الواقع المادي الذي ستجري على أرضه تحقيق أهدافنا (وتلك هي المادية الجدلية).
ولنضرب لهذا التكامل بين مذاهب الفلسفة الأربعة التي تسود عصرنا، مثلا يوضحه: افرض أننا أمام عبارة يقول بها صاحبها «إن العمل على تحقيق القومية العربية واجب محتوم» ثم أردنا الوقوف عند هذه العبارة ننظر إليها من الزوايا الفلسفية الأربع، فماذا نقول؟ إننا إذا بدأنا النظر من زاوية الفلسفة الوجودية، بحثنا عن العلاقة بين هذه العبارة وقائلها، لنرى إن كانت عنده بمثابة القرار الأصيل الذي أصدره بنفسه ولنفسه، حتى إذا ما وجدناه كذلك كان قائلها ملتزما فعلا بالعمل على تحقيقها، أما إذا وجدناها عبارة لم تصدر من ذات قائلها، بل أمليت عليه من خارجه، فإنها عندئذ تفقد قيمتها من حيث دلالتها على حرية القائل ومسئوليته الخلقية إزاءها.
Page inconnue
فإذا انتقلنا إلى زاوية الفلسفة التحليلية ننظر منها إلى العبارة المذكورة، كان من أهم ما يلفت نظرنا في مفرداتها لفظتا «واجب محتوم» لأنهما من الألفاظ التي لا تسمي أشياء بذواتها، فماذا تعني يا ترى؟ من الذي أوجب ومن الذي حتم؟ إنهما لفظتان تحملان معنى الأمر، فمن ذا الذي أمر؟ هل ثمة من سلطان خارجي يفرض علينا هذا الواجب؟ فإن كان فما هو؟ وهكذا يركز فيلسوف التحليل جهوده في توضيح أمور كهذه تجري في كلام الناس دون أن يتنبهوا إلى مدى غموضها.
ثم ننظر نظرة ثالثة، هي نظرة الفيلسوف البراجماتي، فلا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله الوجودي عن ضرورة أن تنبثق الإرادة من صميم الذات التي تريد لنفسها وتقرر لنفسها، ثم لا نجد ما يدعونا إلى معارضة شيء مما قاله فيلسوف التحليل في توضيح الغوامض التي تكتنف ألفاظنا؛ إذ القول الواضح في معناه أدعى إلى رسم الطريق في دنيا الفعل، لكننا ننظر من الزاوية البراجماتية إلى عناصر الموقف الراهن، وفي الطريقة التي يمكن أن يعاد بها ترتيب تلك العناصر، ليخرج لنا من ترتيبها الجديد موقف جديد، هو «القومية العربية، كما أردناها بادئ ذي بدء.
وتبقى لنا بعد هذا كله زاوية رابعة ننظر منها إلى العبارة السالفة الذكر، هي زاوية المادية الجدلية، فإذا كانت القومية العربية المنشودة غير متحققة الآن، فذلك لعوائق مادية اعترضت قيامها كالظروف الاجتماعية أو الاقتصادية أو غير ذلك من ظروف ظهرت في مراحل التاريخ، ولا سبيل إلى تحقيق القومية العربية إلا إذا أزلنا تلك العوائق من الطريق، لأننا إذا ما افتعلنا تلك القومية افتعالا، مع بقاء العوامل التي عارضت قيامها فسرعان ما تعود تلك العوامل نفسها لتفعل فعلها من جديد.
زوايا أربع كما ترى، يكمل بعضها بعضا أكثر جدا مما ينقض بعضها بعضا؛ فلكل منها سؤال يراد الجواب عنه يختلف عن الأسئلة الثلاثة الأخرى التي تطرح عند الزوايا الأخرى؛ فالسؤال عند الوجودية هو: من؟ والسؤال عند التحليل هو: ما المعنى؟ والسؤال عند البراجماتية هو: ما الهدف، والسؤال عند المادية الجدلية هو: كيف حدث وكيف يتغير؟ ... وكلها أسئلة ضرورية للموقف الواحد.
على أني أشعر بعد هذا كله بسؤال خامس، يلح على عقلي إلحاحا إلى أن يجد له جوابا مقنعا، وهو: إن هذه المواقف الأربعة التي تقسم فيما بينها عصرا واحدا - هو عصرنا الراهن - لا بد أن تلتقي جميعا عند جذر واحد وإلا لتمزقت وحدة العصر وفقد طابعه الذي يميزه ويجعله عصرا يجيء حلقة في سلسلة العصور، فماذا عسى أن يكون ذلك الجذر الواحد المشترك؟ جوابي (وهو جواب شخصي، يستطيع من شاء أن يصححه بما شاء) هو أن ذلك الجذر المشترك في فلسفات عصرنا، هو التصور الذي يجعل الإنسان محورا يدير نفسه ولا يدار من خارجه؛ فهو الذي يقرر بنفسه لنفسه (وجودية) وهو الذي يوضح بنفسه لنفسه (تحليل)، وهو الذي يضع لنفسه الأهداف ابتغاء تحقيقها (براجماتية)، وهو الذي يتلمس عوائق السير ليزيلها (مادية جدلية)، وإذن فالمحور الفلسفي الرئيسي لعصرنا هو النظرة الإنسانية التي تجعل من الإنسان مبدأ وغاية، وتجعل هذه الحياة هي الأولى والأخيرة.
لكن هذه النظرة لا تلتئم مع الوقفة الإسلامية العربية التئاما كاملا؛ لأن هذه الوقفة الإسلامية العربية من شأنها أن تجعل هذه الحياة مرحلة أولى لها ما بعدها من حياة آخرة، ها هنا تكمن المشكلة أمام الفيلسوف العربي المسلم - إذا وجد - فيكون سؤاله الخاص هو: كيف أضيف البعد الخامس إلى الأبعاد الأربعة التي ذكرناها مميزة لعصرنا؟ وبالإجابة عن سؤال كهذا، يمكن للإنسان المسلم العربي أن يحيا عصره وتراثه معا.
ترجمة الماضي إلى حاضر
ماذا نصنع لنعيش بماضينا في حاضرنا؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه على أنفسنا ألف مرة، وحاولنا الجواب ألف مرة، ولا أحسبنا قد انتهينا إلى صيغة واحدة يرضى عنها الماضي والحاضر معا، ودليل ذلك قريب، وهو أننا إلى يوم الناس هذا نجد بيننا من لا يزال يتشكك في العلم وقيمته وفي العقل الإنساني وقدرته.
شاء لي الله أن يصلني منذ وقت قريب كتابان في يوم واحد، أحدهما لكاتب مرموق ولامع وذي جذب شديد لجماهير القراء والسامعين والمشاهدين - السامعين للراديو والمشاهدين للتلفزيون - والآخر لمؤلف لم أكن قد سمعت باسمه، لكنني استنتجت من قوة عبارته أنه لا بد أن يكون ذا وزن في محيطه الخاص، وأما الكاتب الأول فقد أراد بكتابه أن يقول إن العلم «يتبجح» (هذه هي اللفظة التي استخدمها) وإن الحياة المثلى هي في التصوف، وأما الكتاب الثاني فقد أراد صاحبه أن يقول إن الأرض لا تدور، وإن كل ما يقوله العلم غير ذلك فهو خطأ وضلال، ومن الأسانيد التي أعلن أنه ارتكز عليها في الوصول إلى تلك النتيجة، الآيات الكونية في القرآن الكريم.
فإذا كان المناخ الثقافي الذي نتنفسه، قد أمكن أن يفرز لنا مثل هذه الكتب، وأستطيع أن أجزم بأن أحد الكتابين السابقين - على الأقل - قد بيعت منه عشرات الألوف من النسخ؛ أي إنه كان غذاء تطلبه النفس العربية في يومنا، فلا بد - إذن - أن يكون المثقفون العرب بعيدين بعدا شاسعا عن أن تكون لهم صيغة ثقافية واحدة تجمع بينهم، ودع عنك أن تكون هذه الصيغة الواحدة مما يدمج الماضي في الحاضر دمجا عضويا متكاملا؛ لأن الحاضر أساسه علم وصناعة، وها قد أقبل ألوف القراء على من يقول لهم إن العلم يتبجح، ولست أدري كم منهم قد أقبل كذلك على قراءة ما جاء ليزعم لهم أن الأرض لا تدور.
Page inconnue