Les soucis des intellectuels

Zaki Najib Mahmud d. 1414 AH
51

Les soucis des intellectuels

هموم المثقفين

Genres

كم ألف ألف مرة تتردد على ألسنتنا وأقلامنا - في عصرنا الراهن - كلمات العدل والديمقراطية والحرية والإرادة والاشتراكية والشعر والفن والعلم والعقل والإيمان ... إلخ إلخ؟ إنها معان دارجة مألوفة، يظن المثقف العادي - ولا أقول الفرد من عامة الناس - أنها واضحة ولا حاجة بنا إلى الغوص في محتواها!

لقد حدث لي أن قرأت ذات يوم لكاتب من كتابنا، زار بعض البلاد الأوروبية واجتمع بجماعات الطلاب في جامعاتها وأخذ يحاورهم ليسبر مداركهم، فسألهم أول ما سأل عن «الحرية»، فأجابوه سائلين: وما تحديد معنى هذه الكلمة في مفهومك؟ فدهش أن يكون ذلك موضعا لسؤال؛ لأن فكرة الحرية عنده واضحة بذاتها، تدركها البداهة ولا تحتاج إلى تحليل وتحديد! فيئس ذلك الكاتب من مجموعة الطلاب، وكان الأحق أن ييأس من نفسه.

إنه لا مندوحة للحياة الفكرية السليمة من وقفات أمام المعاني الرئيسية لتحديدها، ما دامت هي الركائز التي يعتمد عليها البناء كله، ولقد شاء الله أن يضطلع بمثل هذا التحديد نفر ذوو حساسية خاصة تهديهم أين يكون الغموض، وأين يكون الوضوح، وهؤلاء في كل عصرهم أصحاب الميول الفلسفية ، فإن كانوا ذوي قامات عالية وأحجام ضخمة صاروا هم فلاسفة ذلك العصر، وهؤلاء الفلاسفة على توالي العصور هم الذين يصبحون بعد ذلك موضوع الدراسة في أقسام الفلسفة من الجامعات.

وأظنه واضحا من هذا أن الفيلسوف في عصره يعمل شيئا. وأما «دارس الفلسفة»؛ أي دارس ذلك الفيلسوف فيعمل شيئا آخر، الأول يدخل مع مواطنيه في مشكلاتهم، والثاني يدرس كيف كانت مشاركة الفيلسوف في تلك المشكلات وحلولها.

ونشأت لنا في مصر جامعات، ونشأت في الجامعات أقسام لدراسة الفلسفة، وقيض الله لهذه الأقسام على مدى نصف قرن مجموعة قادرة من الأساتذة، استطاعوا بحق أن ينشئوا مكتبة فلسفية عربية، من مؤلفاتهم ومترجماتهم وما حققوه من نصوص التراث بعد أن كاد ألا يكون من ذلك كله شيء قبل ذلك، وذلك - بالطبع - إلى جانب من أخرجوهم من الدارسين طوال هذه الفترة التي امتدت حتى الآن ما يزيد قليلا على خمسين عاما.

وها هنا يبرز الجانب الذي أردت الكتابة فيه بهذا المقال، وهو: إذا كان أساتذة الفلسفة ودارسوها في الجامعات قد أجادوا ما نيط بهم أن يؤدوه «داخل» أسوار الجامعات، فهل أدوا كذلك شيئا مما كان لا بد لهم أن يؤدوه للناس «خارج» تلك الأسوار؟ وإجابتي السريعة عن هذا السؤال هي أنهم - في الأعم الأغلب - لم يفعلوا من ذلك شيئا، بل أسوأ من ذلك أنهم حين أعدوا طلابهم بالدراسة الفلسفية، وقفوا بهم عند أغلفة الكتب وصفحات الكشاكيل، وأما أن يخلقوا فيهم تلك القدرة الناقدة التي من شأن الدراسة الفلسفية - عادة - أن تخلقها في الدارس، فلست أظن أنهم صنعوا من ذلك شيئا يلفت النظر، ومعنى ذلك هو أن المتخرج في أقسام الدراسة الفلسفية إما أن يعيد ما تعلمه تدريسا في الجامعة أو المدارس الثانوية، وإما أن يجد نفسه وكأنه أعزل من أي سلاح ثقافي يجاهد به في معترك الحياة.

إننا مهما أخلصنا النية في أن نصون للدراسة الجامعية حقها من الاستقلال الأكاديمي الذي لا تعكر صفاءه شوائب الضرورات الاجتماعية الحيوية، فعسير علينا أن نتصور دارسا في الجامعة يدرس ما ليس ينفعه وينفع الناس بأي وجه من الوجوه، وأذكر أن هذه النقطة بذاتها هي ما احتج به طلاب الفلسفة في فرنسا أيام الحركة التي اضطرب بها شباب أوروبا في سبيل مستقبلهم، منذ عشر سنوات أو نحوها.

ولا علينا ما فعله طلاب أوروبا وغير أوروبا، ولنحصر فكرنا في حياتنا نحن، فماذا نرى؟ نرى من ناحية أمة طامحة للنهوض السريع، فلما أدار لها طموحها مكنات الطحن، خرج لها طحين مملوء بالتصورات التي يكتنفها كثير جدا من الغموض، وبرغم غموضها الشديد، تراها دائرة في كل صحيفة وعلى كل لسان، وإذا قلنا غموضا في التصورات، فقد قلنا بالتالي تعثرا في السير وتخبطا في العمل؛ لأن السير والعمل لا يكونان إلا على هدى من تصورات سابقة عند من يعمل أو يسير. ثم نرى من ناحية أخرى أقساما في الجامعات كان ينبغي لها أن تكون أقرب الأقسام الجامعية جميعا إلى تخريج من يحسن تحليل المعاني، مستمدين القدرة على ذلك مما درسوه من فلاسفة، وقد رأوا كيف شارك هؤلاء الفلاسفة في المسائل الفكرية التي نشأت في عصورهم.

نعم إن المهمة الأولى لطالب الفلسفة في الجامعة، هي دراسة ما أنتجه الفلاسفة خلال العصور من أفكار أجابوا بها عما كان موضع التساؤل في صدور معاصريهم، ولكني أريد لتلك المهمة الأولى أن تتولد عنها مهمة ثانية، وهي أن يفيد الدارس مما درسه «قدرة» على التحليل النظري، يخرج بها إلى دنيانا العملية، وعندئذ سيجد أمامه مجالا فسيحا لنشاطه الفكري؛ لأنه سيرى في حياتنا الثقافية بكل فروعها غموضا ينتظر من يزيحه لينجلي الحق أمام الأبصار، وإلا فسوف يجد الدارسون للفلسفة في جامعاتنا أنفسهم غرباء مهملين على جوانب الطريق، لا تلتفت إليهم الأنظار؛ لأن وفاضهم خال مما يقدمونه للناس.

من المشكلات إلى حلولها

Page inconnue