وما نقوله عن العلم بشتى فروعه عند المسلمين، نقول أكثر منه عن ميادين الفكر الفلسفي، ويكفينا أن نذكر من لوامع الأسماء في هذا الصدد: الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وهم قمم في الفكر الفلسفي بأي معيار نقيس به ذلك الفكر، ولقد كانت الطبقة الفلسفية تلون المناخ الثقافي كله عندهم خلال القرن العاشر الميلادي (الرابع الهجري) بصفة خاصة؛ ففيه ظهرت جماعة إخوان الصفا أصحاب الرسائل المشهورة والمعروفة بهذا الاسم، وهي في مجموعها بمثابة موسوعة شملت أهم ما كان يعرفه العالم حتى ذلك الحين، من فلسفة وعلم وعقيدة، ونستطيع أن نقارنها في مهمتها، وأن نقارن جماعة إخوان الصفا، بفلاسفة عصر التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، وما أخرجوه للناس من موسوعات وما يجري مجراها.
ولو استطرد بنا حديث العقل وطريقه عند المسلمين، لروينا طائفة من ألمع المفكرين في مختلف الميادين، كابن طفيل في رائعته «حي بن يقظان» التي بين في بناء قصصي عميق، كيف أن العقل إذا ترك على سجيته، ينظر ويعلل، لانتهى إلى ما جاء به الوحي في الدين، وابن باجه في «تدبير المتوحد» التي يبين فيه ماذا يمكن للطبيعة الإنسانية أن تصل إليه، حتى لو انفرد الإنسان في عزلة عن الآخرين.
بل إننا لنسلك في طريق العقل شعراء بلغوا ذروة الحكمة الفلسفية في شعرهم، كأبي العلاء المعري، ومتصوفة لم يمنعهم طريق التصوف من أن يسلكوا طريق العقل إلى آخر مداه في عرض ما أرادوا عرضه، كأبي حامد الغزالي؛ ودع عنك نقاد الأدب، الذين بلغوا في تحليل النتاج الأدبي من شعر ونثر، تحليلا بلغ أقصى غاياته، ونكتفي منهم بمثل واحد، هو عبد القاهر الجرجاني؛ ثم ماذا تكون عملية التجميع والتصنيف التي شغل بها علماء المسلمين خلال قرون ثلاثة - الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من التاريخ الميلادي - في القاهرة ودمشق، من قواميس اللغة إلى مجموعات تمثل التراث الأدبي العربي؛ أقول ماذا يكون هذا العمل إذا لم يكن عقليا علميا أكاديميا من طراز رفيع؟
ووصلت مسيرة الفكر العلمي المنهجي إلى أعلى ذراها في آخر خطاها، ألا وهو فيلسوف التاريخ ابن خلدون؛ أكان هو تغريدة طائر التم، التي تنم عن موته الوشيك؟ لكن طائر التم هذه المرة لم يمت بعد تغريده، بل رقد في بيات دام معه نحو أربعة قرون مظلمة، ثم أسلمته إلى القرن التاسع عشر حيث استيقظ ليعود سيرته الأولى من ازدهار وعطاء وهو على طريق العقل.
ماضينا وحاضرهم
1
لست أدري إن كان الأمر فيما سوف أعرضه الآن، مدعاة إلى اليأس من العقل البشري وقدراته، أم كان داعيا إلى الأمل فيه؛ فلست أنكر أنني من أشد الناس إيمانا بالعقل وما يستطيعه، حتى ليتعذر علي في كثير من الأحيان - كلما وجدت في العقل الإنساني علائم عجز - أن ألتمس له المعونة في شيء سواه، كأن أحتكم إلى حدس المتصوف أو إلى وجدان الشاعر؛ أقول إنه يتعذر علي أن أيأس من قدرة العقل، فأجاوزه مستعينا بغيره؛ والأمثلة التي تؤيد عندي سلطان العقل، تعد بالألوف ومئات الألوف، فإذا ما رأيته عجز أو كبا، قلت لنفسي: لا عليك، فإنه ناهض من عجزه أو كبوته بعد حين.
لكن إيماني هذا، لا يخفي حيرتي كلما رأيت ما يفكر فيه الإنسان الليلة، شبيها بما كان فكر فيه البارحة، وكأنما أفلاك السماء قد جمدت في أماكنها، وتيار الزمن قد وقف عن جريانه!
فلقد أخذتني حيرة كهذه، عندما قرأت كتابا حديثا لمفكر فرنسي معاصر لنا، يقال إنه ألمع نجم في سماء الفكر الفرنسي اليوم، أما الكتاب فهو الترجمة الإنجليزية لكتاب «الكلمات والأشياء» (والعنوان في الترجمة الإنجليزية معناه «ترتيب الأشياء») وأما مؤلفه فهو ميشيل فوكوه، الذي وجدت من ينعته بقوله إنه «كانط» هذا العصر، كما وجدت من يصف هذا الكتاب الذي أشرت إليه، بأنه أهم إضافة إلى الفلسفة في فرنسا بعد سارتر.
كنت كلما مضيت في القراءة، ازددت حيرة؛ ولعلها حيرة يعود بعض أسبابها إلى أني لم آلف فكرا يجيء على هذه الصورة التي يختلط فيها منطق العقل بنبض المشاعر، اختلاطا لم يسعني إزاءه آنا بعد آن إلا أن أتساءل: أهو فيلسوف هذا المؤلف، أم هو شاعر؟ لا، لم آلف فكرا يجيء على هذه الصورة العجيبة، فكأنما هو تيار دافق بأسرع ما يستطيع الماء أن يتدفق، حاملا معه كل ما يتصوره الخيال من أعلاق: قطع من الحجر، وغصون من الشجر، وأجساد طير وحيوان، وحطام سفائن تحطمت وتناثرت أشلاؤها!
Page inconnue