كانت تلك النظرة غير المتحيزة هي وجه التجانس إبان العشرينيات، التي نعدها بحق ذروة عصر التنوير في تاريخنا الفكري المعاصر، وأما السبعينيات فقد سادها تجانس من نوع آخر مضاد، هو العودة إلى أحكام الشريعة الإسلامية في شتى الميادين، وهي عودة تشيع فيها روح الرفض لثقافة الغرب إلى حد كبير.
والثانية:
هي أنه برغم التناقض الظاهر بين المرحلتين، فليس من العسير أن نكشف لهما معا عن جذور مشتركة، هي التي نراها ممثلة للفكر العربي المعاصر في صميمه، وتتلخص تلك الجذور في مطلبين نسعى جميعا إلى تحقيقهما، وإن تفرقت بيننا سبل الوصول، وهما: تثبيت الهوية العربية من جهة، وسد الفجوة بيننا وبين علوم العصر العقلية من جهة أخرى، أما تثبيت الهوية العربية فهو مرتبط ارتباطا وثيقا بمطلب الحرية، فليس بخاف أن المستعمر للشرق العربي فترة من الزمن، كان أوروبيا ومسيحيا في آن واحد، فكيف السبيل إلى التخلص من ذلك المستعمر إلا أن ألوذ بحياة إسلامية خالصة، وأن أقف موقف الحذر من ثقافة أوروبا التي منها جاء ذلك المستعمر؟ ونتج عن هذه الوقفة نفسها أن أحاول نشر التراث العربي والإسلامي، مع الاجتهاد في شرحه شرحا يبين أنه في صميمه لا يتعارض مع متطلبات العلم الحديث منهجا ومضمونا.
فلو استثنينا عددا قليلا من رجال الفكر في الوطن العربي منذ ما يزيد على مائة عام، وهم أولئك الذين لا يجدون بأسا في أن ننقل الثقافة الغربية الحديثة بحذافيرها وبغير تحفظ أو حذر، أقول إننا لو استثنينا ذلك العدد القليل من المتطرفين نحو الغرب، وجدنا الكثرة الغالبة من رجال الفكر حريصة كل الحرص على تثبيت الهوية القومية بكل الوسائل الممكنة، من إحياء التراث القديم ونشره على أوسع نطاق ممكن، والعودة بكل إخلاص إلى الشريعة الإسلامية كما كانت في أصفى عصورها الأولى، إلى الرغبة الشديدة في بعث الفنون الشعبية والأدب الشعبي (فولكلور)، والزهو بارتداء الثياب الدالة على الانتماء إلى الوطن، واختصارا فإن الكثرة الغالبة من المفكرين منذ ما يزيد على قرن من الزمان، لا تألو جهدا في إبراز الخصائص الذاتية بكل وسيلة ممكنة.
لكنها وهي تسعى نحو هذه الغاية لرد اعتبارها بعد فترة طويلة من تحكم المستعمر الغربي، لم يفتها أن تتقبل التحدي الكبير الذي يلقيه العصر، ألا وهو العلم الحديث بكل فروعه الطبيعية والرياضية والاجتماعية، وما صحب تلك العلوم من تكنولوجيا، فكان جواب الفكر العربي المعاصر على هذا التحدي، هو الإصرار على أن الإسلام يقبل بل ويحض على انتهاج مناهج العلم كائنة ما كانت على اختلاف عصورها؛ لأن تلك المناهج قائمة على منطق العقل، ومنطق العقل هو ما يتميز به الإسلام في دعوته الصريحة المتكررة للتفكير المستند إلى إقامة الدليل، ونظرة سريعة إلى ما تخرجه المطابع العربية خلال ربع القرن الأخير، كافية لإدراك النسبة الكبيرة التي ظفرت بها المؤلفات التي أريد بها بيان الاتساق الكامل بين ما جاء به الوحي، وما انتهت إليه علوم العصر.
ولسنا نذكر هذه الحقيقة هنا لنؤيدها أو لندحضها ، بل لنقرر بها الأمر الواقع فيما يختص بالصفات الرئيسية المميزة للفكر العربي المعاصر؛ فمنذ الشيخ محمد عبده ومحاولاته الناجحة في معظم الحالات، بأن يفسر مبادئ العقيدة الإسلامية وأحكام شريعتها، تفسيرا يبين به أن تلك المبادئ ليس فيها ما يتعارض مع علوم عصرنا، أقول إنه منذ نهج محمد عبده هذا المنهج، بات هو المنهج الذي يرسم خطوات السير لرجال الفكر جميعا (باستثناء القلة التي ذكرناها) إلى يومنا هذا، مع اختلافات فرعية داخل هذا الإطار، خصوصا فيما يتصل بالعلوم الاجتماعية إذا ما مست شيئا من قيم الحياة الأساسية.
على أن هذا الموقف السلبي الذي يلوذ بحصنه التاريخي، ويكتفي من علوم عصره بأن يتلقاها راضيا، على أساس أن ثقافته التقليدية لا تتعارض معها، وإن يكن هو الموقف الذي يصطنعه جمهور المتعلمين بصفة عامة، إلا أنه ليس هو موقف الرواد في مجال الفكر؛ فهؤلاء الرواد لا يرضيهم أن تظل حياتنا الثقافية على هذه الصورة السكونية السلبية التي قصارى جهدها هو أن تبين أن لا تعارض بينها وبين ما يعج به الغرب من علوم وفنون، بل يريدون أن يقيموا من عناصر الثقافة التقليدية الموروثة نفسها نمطا جديدا، بمعنى أن يستلهموا الماضي في استخراج صيغة عربية جديدة تتلاءم مع روح العصر؛ فليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء هو - مثلا - ما دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي من أن البنيان الثقافي إما أن يقوم على أسس أخلاقية وإما أن يقوم على أسس جمالية، وأن ثمة برزخا بين النمطين، فإذا زعمنا أن الثقافة العربية الأصيلة من الطراز الأول، وأن ثقافة الغرب من الطراز الثاني، لم يكن ثمة أمل في أن تستقي إحداهما من الأخرى، وكذلك ليس النموذج الأمثل المنشود عند هؤلاء الرواد، هو ما يحاوله المفكر العراقي محمد باقر الصدر من محاولة إيجاد صورة إسلامية للعلوم الإنسانية كالفلسفة والاقتصاد والمنطق؛ لأن مثل هذه المحاولة في حقيقتها بمثابة إقامة السدود التي تحول دون أن تمتزج الثقافتان في تيار واحد، بل إن النموذج الأمثل المنشود هو قريب جدا مما حاول صنعه طه حسين، ومؤداه أن نجدل الثقافتين في جديلة واحدة، يكون طابعنا الأصيل الموروث أحد مقوماتها، ومناهج العصر وحصيلة علمه وفنه مقومها الآخر، وقد يتحقق ذلك بأحد اتجاهين: فإما أن نستعير من الغرب الإطار لنملأه بمضمون من عندنا، كما حدث في أدب القصة والمسرح وفي النقد الأدبي على يديه، وإما أن نستعير المضمون الفكري من الغرب لنضعه في إطار من عندنا، كما يحدث فيما ننقله إلى العربية من علوم، وفيما نطوره من مدارس الفن الغربي لنخرج فنا يلائم ذوقنا، وواضح أننا في كلتا الحالتين نحقق شيئا جديدا ذا طابع خاص، فلا هو بالضبط ما يصنعه الغرب، ولا هو بالضبط ما صنعه العرب الأقدمون.
طريق العقل في التراث الإسلامي
1
القرآن الكريم هو كتاب الإسلام، أوحي به إلى النبي محمد عليه السلام، وقد ورد في الكتاب أن محمدا هو «خاتم النبيين»، وبهذا كانت رسالة الإسلام هي آخر رسالة سماوية إلى الإنسان؛ وتعليل ذلك هو أن الإنسان - بناء على العقيدة الإسلامية نفسها - قد أحيل إلى أحكام «عقله» كلما جدت له في حياته مشكلات يريد لها حلا، بعد أن كانت تلك المشكلات، كلما تراكمت، هبطت الهداية من السماء، رسالة إلى نبي ليهدي بها قومه إلى سواء السبيل.
Page inconnue