ولا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
قد يخال القارئ أن لا عمل للقروي في الصيف غير الأكل والشرب والنوم. يظن ذلك حين يسمع المطرب الأشهر عبد الوهاب يغني بصوته الحلو: يا محلى عيشة الفلاح. أما الحقيقة فلا. إن فصل الصيف عمل دائم لا انقطاع له، فهو فصل الجمع والادخار، يبدأ بالحصاد وينتهي بقطف الأعناب وعصرها، وإعداد التين للخزن مع الزبيب والجوز واللوز وما أشبه من نقل الشتاء في الليالي الثرثارة.
ينتهي جهاد حبة الحنطة في أول الصيف، ولكنها تنتظر جبهة ثانية. الطحن والخبز وآلام النار وأوجاعها، ثم العودة إلى بطن الأرض لتحيا من جديد وتحفظ نوعها الذي هو قوت الإنسان.
كانت دودة القز تنشر الحياة في القرية في أيام الربيع، أما اليوم فلم يبق للبنان فصل تدب فيه الحياة غير الصيف. إن كل المواسم فيه، ما عدا موسم التزحلق الذي ولد جديدا، فكان طفلا ميمون الطالع على أهل الجرود حتى استأنسوا بإخوانهم الوافدين على أرضهم من كل فج عميق. أما الصيف فأرحب وأسهل، فلا هواء يقرصك، ولا برد ينقض عليك، وإذا لم تجد السرير نمت على الحصير وأنت ناعم البال تغني يا ليل.
هذي هي نعم الصيف علينا نحن أهل القرى، ففي الصيف الشمس، كانون الله الذي يدفئنا. ومن حسنات الطبيعة أن المريض المأيوس يعلل نفسه بآمال الشفاء في هذا الفصل الخير، فالوجوه تضحك فيه بملء أفواهها، حتى إذا ما انقضى وبدأت أوراق الشجر تتناثر عبست تلك الوجوه الضاحكة ودب الذعر بالنفوس.
يظهر أن الإنسان يحب بطنه كثيرا؛ ولذلك لا يثني إلا على من يطعمه من جوع. فما مدح الشعراء إلا الكرماء، وما تغنى بوصف الربيع غير شباب الشعراء، وما كان للخريف حظ إلا من شعر المتشائمين.
أما الذي يعيش على الأرض فكل آماله معقودة على فصل الصيف ليعبئ مئونته حين تندر المئونة في الحقول والبراري.
وإذا لاحظنا النملة رأيناها لا تهدأ صيفا، بينا لا نرى لها صورة وجه في الفصول الأخرى، فكأنها والحب على ميعاد، تدخر بلا توان ولا تبالي بالمشقة لتستريح بعدئذ. والقروي اللبناني مثلها يجمع في الصيف كل شيء حتى الحطب، وتنتهي رسالته حين يبيت الزيتون والزيت في الخوابي. وإذا كان من سكان المنطقة العالية، يقبع في بيته طول فصل الشتاء كما تقبع البزاقة في حلزونها، ويسكر بابه كما تسد هي باب قمعها. إن الجبلي والبزاقة على طرفي نقيض، فهي لا تظهر حين تسمع حس المطر، وهو ينتظر سقوط الثلج ليتوارى ويقعد حد موقدته يحلم بمواسمه العتيدة. لقد دفن الحبوب على رجاء القيامة، ومن كلامه المأثور: التعب علينا والطعمة على الله، والذي كتبه ربك يصير.
الذي لا يصيف لا يشتي هي من أقوالهم كما مر في بدء هذا المقال، ولكنهم يعنون أيضا غير المعنى السابق، أي إن الذي لا يكد صيفا لا يستريح شتاء. فالشتاء ولادة، والربيع فتوة، والصيف عزم وحزم وقوة، والخريف شيخوخة وهرم، وقد أدرك أبو تمام سر البقاء من نظره إلى الربيع الذي قال في وصفه:
Page inconnue