هؤلاء هم التلاميذ. أما أهل الدساكر والدارات فينتظرون الصيف لتدر لهم بيوتهم المال ويدفعون ما عليهم في الآجال، والفلاح ينتظره ليبيع بعض غلته ويوسع بثمنها على أهله وبنيه.
أما العذارى فلهن في الصيف أمان وآمال. ومن يدري، فالدنيا قسمة ونصيب، وكما تفيض خيرات الصيف في كل مجال فقد توفق هؤلاء إلى طلاب أيدي فيظفرون بشريكة حياة تنتظر ابن الحلال. حقا إن الصيف فكاك المشاكل.
السائح في لبنان يصادف الناس في الصيف فرادى وجماعات حول الجداول والينابيع، وتحت الأشجار حيث يقيلون ويبيتون. وإذا سرح النظر تبدو له العرازيل والخيام، فالناس يهجرون البيوت لينعموا بنسمات الهواء الطلق. وإذا لم يستظلوا الأشجار الوارفة خرجوا إلى مصاطبهم ونصبوا أسرتهم فوق سطوحهم، ولعله من هنا جاء قولهم المأثور: بساط الصيف واسع.
وأي بساط أوسع من أن يكون العنقود مدلى فوقك، وأوراق الكرمة تظللك، والتينة حدك، والتفاحة والإجاصة على مقربة منك وفي متناول يدك، فما تكلف نفسك عناء كبيرا. ما عليك إلا أن تمد يدك ولا بأس عليها إذا كانت غير طويلة، فالتينة هين غمز جانبها، وليست كما قال الحجاج عن نفسه. فإذا كان أبو نواس رأى صورة العريشة في كنيسة ما وجن بها حتى قال في وصفها ما قال، فما تكون حالك أنت؟ لا شك في أنه يمر ببالك، حيث تمر في هذا الجبل، وتشاهد العرائش مجلوة كالعرائس، قول ابن الرومي في وصف العنب الرازقي:
ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور
لم يبق منه وهج الحرور
إلا ضياء في ظروف نور
فلا بدع أن رأينا اللبنانيين أشد العالمين هياما بفصل الصيف؛ لأنهم تجار بلا رأسمال. رأس مالهم نور وماء وهواء، وثمار يقدمها الصيف بسخاء. فيا لله ما أعجب كرم الطبيعة الخيرة! يقولون عندنا: في الصيف المئونة على العود، وأنا أعرف الكثيرين من القرويين الذين يعيشون على الثمار صيفا، ومنهم من لا يذوق طبخا ولا خبزا. إن الصيف حبيبهم المفضل ومثلهم، يبين لي ولك، مبلغ حسرتهم على انقضاء الصيف إذ يقولون: لو كان للصيف أم بكت عليه.
ولولا كرم الصيف وتوسيعه على الناس لما سمعنا المثل العربي القديم: في الصيف ضيعت اللبن. أما حكاية هذا المثل فهي: كانت دختنوس بنت لقيط تحت عمرو بن عدس فكرهته لأنه شيخ. والغواني كما قال الأخطل التغلبي: فما لهن إلى ذي شيبة وطر. فطلقها وتزوجها فتى، جميل الوجه، وكان ذلك في عز الصيف. ولسوء حظها أجدبت تلك السنة فبعثت في الشتاء إلى زوجها الأول تطلب منه حلوبة حين زمجر الشتاء، فقال يوبخها ويلومها: في الصيف ضيعت اللبن: كما قال النابغة يلوم عروسة شعره:
Page inconnue