وقد أدركهم أبي بن خلف وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا! فطعنه الرسول بحربة الحارث بن الصمة طعنة جعلته يتقلب على فرسه ويعود أدراجه ليموت في الطريق. فلما انتهى المسلمون إلى فم الشعب خرج علي فملأ درقته ماء، فغسل محمد به الدم عن وجهه وصب منه على رأسه؛ ونزع أبو عبيدة بن الجراح حلقتي المغفر من وجه الرسول فسقطت ثنيتاه. وإنهم لكذلك إذ علا خالد بن الوليد على رأس فرسان معه الجبل، فقاتلهم عمر بن الخطاب ورهط من أصحاب الرسول فردوهم، وازداد المسلمون في الجبل تصعيدا وقد نهكهم التعب وهدهم الجهد، حتى صلى النبي الظهر قاعدا من الجراح التي أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعودا.
فأما قريش فطارت بنصرها سرورا وحسبت نفسها انتقمت لبدر أشد الانتقام؛ حتى صاح أبو سفيان: «يوم بيوم بدر والموعد العام المقبل.» وأما هند بنت عتبة زوجه فلم يكفها النصر، ولم يكفها قتل حمزة بن عبد المطلب، بل انطلقت هي والنسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من المسلمين تجدعن الآذان والأنوف، وجعلت هند لنفسها منها قلائد وأقراطا، ثم إنها بقرت بطن حمزة وجذبت بين يديها كبده وجعلت تلوكها بأسنانها فلا تستطيع أن تسيغها. وبلغ من شناعة ما فعلت وما فعلت النسوة ممن معها، بل ما فعل الرجال كذلك من الفظائع، أن تبرأ أبو سفيان من تبعتها، وأعلن أنه لم يأمر به وإن كان قد اشترك فيه، بل قال يخاطب أحد المسلمين: «إنه قد كان في قتلاكم مثل، والله ما رضيت وما سخطت وما نهيت وما أمرت.»
وانصرفت قريش بعد أن دفنت قتلاها؛ وعاد المسلمون إلى الميدان لدفن قتلاهم. وخرج محمد يلتمس عمه حمزة. فلما رآه قد بقر بطنه ومثل به حزن من أجله أشد الحزن وقال: «لن أصاب بمثلك أبدا. ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا.» ثم قال: «والله لئن أظهرنا الله عليهم يوما من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.» وفي هذا نزل قوله تعالى:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون
11
فعفا رسول الله وصبر ونهى عن المثلة، وسجى حمزة ببرده وصلى عليه. وجاءت أخته صفية بنت عبد المطلب، فنظرت إليه وصلت عليه واستغفرت له. ودفن حمزة، وأمر النبي بالقتلى فدفنوا حيث لقوا مصارعهم، وانصرف المسلمون إلى المدينة ومحمد على رأسهم، تاركين وراءهم سبعين من القتلى؛ يحز في نفوسهم الألم لما أصابهم من هزيمة من بعد نصر، ومن مذلة وهوان بعد ظفر لا ظفر مثله؛ وذلك كله لعصيان الرماة أمر النبي واشتغال المسلمين عن العدو بغنائمه.
ودخل النبي إلى بيته وجعل يفكر. ها هم أولاء أهل يثرب من اليهود والمنافقين والمشركين يظهرون السرور أشد السرور لما كانت من هزيمته وهزيمة أصحابه. وهذا سلطان المسلمين بالمدينة كان قد استقر فلم يبق لأحد أن ينازع فيه، وها هو يوشك أن يضطرب ويتزعزع. وهذا عبد الله بن أبي بن سلول قد خرج على الجماعة وعاد من أحد ولم يشترك في القتال بدعوى أن محمدا لم يسمع رأيه، أو أن محمدا غضب على مواليه من اليهود. فلو أن هزيمة أحد بقيت الكلمة الأخيرة بين المسلمين وقريش لهان أمر محمد وأصحابه على العرب، ولتضعضع سلطانهم بيثرب، ولكانوا عرضة لاستخفاف قريش بهم وإرسالها دعابة السخر والاستهزاء منهم في أنحاء شبه الجزيرة جميعا. ولئن حدث هذا لجاء في أثره اجتراء المشركين وعباد الأوثان على دين الله فتكون الطامة الكبرى. فلا بد إذن من ضربة جريئة تخفف من وقع هزيمة أحد وترد إلى المسلمين قوتهم المعنوية، وتدخل إلى روع اليهود والمنافقين الرهبة وتعيد إلى محمد وأصحابه سلطانهم بيثرب قويا كما كان.
فلما كان الغد من يوم أحد، وكان الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال، أذن مؤذن النبي في المسلمين بطلب العدو واستنفرهم لمطاردته، على ألا يخرج إلا من حضر الغزوة. وخرج المسلمون فوقع في روع أبي سفيان أن أعداءه جاءوا من المدينة بمدد جديد فخاف لقاءهم. وبلغ محمد حمراء الأسد،
12
وكان أبو سفيان وأصحابه بالروحاء فمر به معبد الخزاعي، وكان قد مر بمحمد ومن معه، فسأله عن شأنهم فأجابه معبد - وكان لا يزال على الشرك: «إن محمدا قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، وقد اجتمع معه من كان قد تخلف عنه، وكلهم أشد ما يكون عليكم حنقا ومنكم للثأر طلبا.» على أن أبا سفيان فكر فيما يكون لفراره من محمد ومن عدم مواجهته إياه بعد انتصاره عليه بأحد من الأثر. أفلا تقول العرب في قريش ما كان يود هو أن تقوله في محمد وأصحابه؟
Page inconnue