10
حتى خرجت من بين رجليه، وتركته وإياها حتى مات، ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت إلى المعسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة. إنما قتلته لأعتق. فلما قدمت مكة أعتقت.»
أما المدافعون عن الوطن فكان لهم مثل في قزمان أحد المنافقين الذين أظهروا الإسلام. تخلف عن الخروج يوم خرج المسلمون لأحد. فلما أصبح عيره نساء بني ظفر فقلن: يا قزمان، ألا تستحي لما صنعت؟! ما أنت إلا امرأة، خرج قومك فبقيت في الدار. فدخل قزمان بيته مغيظا محنقا فأخرج فرسه وجعبته وسيفه، وكان يعرف بالشجاعة، فخرج يعدو حتى كان عند الجيش والنبي يسوي صفوف المسلمين، فتخطاها حتى كان في الصف الأول منها، وكان أول من رمى بنفسه من المسلمين، وجعل يرسل نبلا كأنها الرماح، فلما كان آخر النهار فضل الموت على الفرار وقتل نفسه بعد أن أصاب من قريش سبعة رجال في سويعة غير من قتل منهم بدء المعركة. ومر به أبو الغيداق وهو يسلم الروح، فقال له: «هنيئا لك الشهادة يا قزمان!» قال قزمان: «إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين. ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير قريش إلينا فتقتحم حرمنا وتطأ سعفنا، والله إن قاتلت إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلت.»
أما المؤمنون حقا، وكان عددهم لا يزيد على سبعمائة يقاتلون ثلاثة آلاف، فقد رأيت من فعال حمزة وأبي دجانة ما يصور لك صورة من قوتهم المعنوية؛ قوة انثنت أمامها صفوف قريش وكأنها الخيزران، وتراجع أمامها أبطال قريش وكانوا بين العرب مضرب المثل في الإقدام والشجاعة. وكان لواؤهم لا يسقط من يد حامله حتى يأخذه خلفه. حمل عثمان بن أبي طلحة اللواء بعد أن قتل علي طلحة بن أبي طلحة، فلقي مصرعه على يد حمزة. وحمله أبو سعد بن أبي طلحة وصاح: أتزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار؟! والله إنكم لتكذبون. ولو كنتم تؤمنون حقا فليتقدم منكم من يقاتلني. وضربه علي أو سعد بن أبي وقاص بسيفه ضربة فلقت هامته. وتعاقبت حملة اللواء من بني عبد الدار حتى قتل منهم تسعة، كان آخرهم صؤاب الحبشي غلام بني عبد الدار، وقد ضربه قزمان على يده اليمنى، فتناول اللواء باليسرى، فقطعها قزمان بسيفه، فضم صؤاب اللواء بذراعيه إلى صدره ثم حنى عليه ظهره وهو يقول: يا بني عبد الدار، هل أعذرت؟ وقتله قزمان أو قتله سعد بن أبي وقاص، على خلاف في الرواية. فلما قتل أصحاب اللواء انكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شيء حتى أحيط بنسائهم، وحتى وقع الصنم الذي احتملوه يتيامنون به من فوق الجمل الذي كان يحمله ومن خلال الهودج الذي كان يحتويه.
والحق أن ظفر المسلمين في صبيحة يوم أحد كان معجزة من معجزات الحرب، قد يفسرها بعضهم بمهارة محمد في وضعه الرماة في شعب الجبل يصدون الفرسان بالنبل فلا يتقدمون ولا يأتون المسلمين من خلفهم. وهذا حق. ولكن من الحق أيضا أن ست المائة من المسلمين الذين هاجموا عددا يوازي خمسة أمثالهم، وعدة في مثل هذه النسبة، إنما دفعهم إلى معجزات البطولة التي أتوا شيء أعظم من مهارة القيادة: ذلك هو الإيمان، الإيمان الصادق بأنهم على الحق. ومن آمن بالحق لم تزعجه قوة مادية مهما عظمت، ولم تضعضع من عزمته كل قوات الباطل وإن اجتمعت. وهل رأيت مهارة القيادة وحدها كانت تغني والرماة الذين وضعهم النبي في الشعب لم يكونوا إلا خمسين، فلو أن مائتين أو ثلاثمائة رجل هاجموهم مستقتلين لما ثبتوا ولا صبروا أمامهم. لكن القوة الكبرى، قوة الفكر، قوة العقيدة، قوة الإيمان الصادق بالحق العلي الأعلى، هذه القوة لا غالب لها ما أراد صاحبها وجه الحق وحده. ولذلك تمزقت قريش في ثلاثة آلاف من فرسانها أمام هجمات ستمائة مسلم. وأوشكت نسوتها أن يؤخذن أسرى ذليلات . وتبع المسلمون عدوهم يضعون السلاح فيه حيث شاءوا حتى بعد عن معسكره؛ فجعل المسلمون ينتهبون الغنيمة، وما أكثر ما كانت! وصرفهم ذلك عن اتباع عدوهم ابتغاء عرض الدنيا.
ورآهم الرماة الذين أمرهم الرسول ألا يبرحوا الشعب ولو رأوه وأصحابه يقتلون، فقال بعضهم لبعض وقال سال لمرأى الغنيمة لعابهم: «لم تقيمون ههنا في غير شيء وقد هزم الله عدوكم وهؤلاء إخوانكم ينتهبون عسكرهم، فادخلوا فاغنموا مع الغانمين.» قال قائل منهم: «ألم يقل لكم رسول الله لا تبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا؟!» قال الأولون: «لم يرد رسول الله أن نبقى بعد أن أذل الله المشركين.» واختلفوا فخطبهم أميرهم عبد الله بن جبير أن لا يخالفوا أمر الرسول، فعصاه أكثرهم وانطلقوا ولم يبق معه إلا نفر دون العشرة. واشترك المنطلقون في النهب وشغلوا كما شغل سائر المسلمين به. إذ ذاك اهتبل الفرصة خالد بن الوليد، وكان على فرسان مكة، فشد برجاله على مكان الرماة فأجلاهم. ولم يفطن المسلمون لفعله لأنهم شغلوا عنه وعن كل شيء بهذه الغنائم يعبون منها، حتى ولم يبق رجل منهم وقع في يده شيء إلا أخذه. وإنهم لكذلك إذ صاح ابن الوليد صيحة أدركت قريش معها أنه دار برجاله وراء جيش المسلمين.
عند ذلك عاد منهم كل منهزم فأثخنوا في المسلمين ضربا وقتلا. وهناك دارت الدائرة؛ فألقى كل مسلم ما كان بيده مما انتهب وعاد إلى سيفه يسله ليقاتل به. ولكن هيهات هيهات! لقد تفرقت الصفوف وتمزقت الوحدة وابتلع البحر اللجي من رجال قريش هذه الصفوة من المسلمين كانت إلى ساعة تقاتل بأمر ربها تنضح عن إيمانها، وهي الساعة تقاتل لتنجو من براثن الموت ومخالب المذلة. وكانت تقاتل متراصة متضامنة، وهي الآن تقاتل مبعثرة متناكرة. وكانت تقاتل تحت قيادة قوية حازمة حكيمة، وهي الآن تقاتل ولا قيادة لها. فلم يكن عجبا أن ترى مسلما يضرب مسلما بسيفه وهو لا يكاد يعرفه. وصاح صائح بالناس : إن محمدا قد قتل، فازدادت الفوضى وعظمت البلبلة، واختلف المسلمون وصاروا يقتتلون ويضرب بعضهم بعضا وهم لا يشعرون لما هم فيه من العجلة والدهش. قتل المسلمون مواطنهم المسلم حسيل بن جابر أبا حذيفة وهم لا يعرفونه. وكان أكبر هم كل مسلم أن ينجو بنفسه إلا من عصم الله؛ من أمثال علي بن أبي طالب.
على أن قريشا ما لبثت حين سمعت بمقتل محمد أن تدافعت تدافع السيل إلى الناحية التي كان فيها. وكل يريد أن يكون له في قتله أو التمثيل به ما يفاخر الأجيال به. هنالك أحاط المسلمون القريبون بنبيهم يدافعون عنه ويحمونه، وقد عاد الإيمان فملأ نفوسهم وملك قلوبهم وحبب إليهم الموت وهون عليهم الحياة الدنيا. وزادهم إيمانا واستماتة أن رأوا الحجارة التي تقذفها قريش قد أصابت النبي فوقع لشقه فأصيبت رباعيته، وشج في وجهه، وكلمت شفته، ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته. وكان رامي الحجر الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. وتمالك الرسول وسار وأصحابه من حوله، فإذا به يقع في حفرة حفرها أبو عامر ليقع فيها المسلمون. هنالك أسرع إليه علي بن أبي طالب فأخذ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى وجعل يسير وأصحابه، متسلقين أحدا ناجين من العدو واتباعه إياهم.
وفي لحظة قاموا كان قد اجتمع حولهم من المسلمين من استماتوا في الدفاع عن رسول الله استماتة لا يقهر صاحبها أبدا. كانت أم عمارة الأنصارية قد خرجت أول النهار ومعها سقاء فيه ماء تدور به على المسلمين المجاهدين تسقي منهم من استسقى. فلما انهزم المسلمون ألقت سقاءها واستلت سيفا وقامت تباشر القتال تذب عن محمد بالسيف وترمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إليها. وترس أبو دجانة بنفسه دون رسول الله، فحنى ظهره والنبل يقع فيه. ووقف سعد بن أبي وقاص إلى جانب محمد يرمي بالنبل دونه ومحمد يناوله النبل ويقول له: ارم فداك أبي وأمي. وكان محمد قبل ذلك يرمي بنفسه عن قوسه حتى اندقت سيتها. هذا، فأما الذين ظنوا محمدا قد مات ومن بينهم أبو بكر وعمر فانتحوا الجبل وألقوا بأيديهم . فرآهم أنس بن النضر فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله. قال: فما تصنعون بالحياة بعد؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل قتالا شديدا وأبلى بلاء منقطع النظير، حتى إنه لم يقتل إلا بعد أن ضرب سبعين ضربة، وحتى إنه لم يعرفه أحد إلا أخته عرفته من بنانه.
وفرحت قريش بما اعتقدت من موت محمد، فراح أبو سفيان يفتقده في القتلى؛ ذلك بأن الذين كانوا ينضحون عنه عليه السلام لم يكذب أحد منهم خبر قتله إطاعة لأمره حتى لا تتكاثر عليهم قريش فتغلبهم دونه. على أن كعب بن مالك أقبل إلى ناحية أبي دجانة ومن معه فعرف محمدا حين رأى عينيه تزهران تحت المغفر فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا! هذا رسول الله؛ فأشار النبي إليه ليسكت. لكن المسلمين ما لبثوا حين عرفوا أن نهضوا بالنبي ونهض هو معهم نحو الشعب، ومن حوله أبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام ورهط غيرهم. وكان لصيحة كعب عند قريش كذلك أثرها. صحيح أن أكثرهم لم يصدقها وحسبها صيحة أريد بها شد عزائم المسلمين، إلا أن بعضهم اندفع وراء محمد والذين ساروا معه.
Page inconnue