أجل، إننا ما زلنا بعيدين عن دلالة النهضات الأوروبية! •••
ليس من الصدق أن أزعم أني اقتديت ببرنارد شو فإنه رفع نفسه إلى مستوى عال من «العيش الساذج مع التفكير السامي» وعاونه على ذلك وسط متمدن لم أجد أنا مثله إلى يوم خلع فاروق في مصر، حيث يكافأ الرذل على رذيلته، ويعاقب الفاضل على فضله، والأصل في هذه الحال المعكوسة هو الإنجليز من ناحية والتقاليد الشرقية من أخرى، ولكني حاولت، وكررت المحاولات، ولم أتعب ولم أسأم. وخير ما أخذت عن برنارد شو هو هذا الروح العلمي الذي يسود مؤلفاتي فإني مثله علمي الذهن، أدبي الوسيلة، فلسفي الهدف، أمتاز بالتفكير العلمي، والتعبير الأدبي، وهذا إلى أنه حبب إلي الاشتراكية ونقلها عندي من منطق العقل إلى عاطفة القلب. أجل إنه جعلها ديانتي العملية فليس البر عندي إحسانا وصدقة، وإنما هو البرنامج الاشتراكي الذي يوفر لكافة الشعب طعام الجسم، وغذاء الذهن، وحرية الضمير، والإقدام على المستقبل، وهو بعد داروين الذي جعلني أستمسك بالتطور، وأجعل منه الديانة المذهبية لحياتي، وفكري وموقفي البشري. وقد كان هو يقول بالحاجة إلى «وزارة للتطور» تعمل لترقية السلالات البشرية، وهذا تفكير يعلو علوا عظيما على الصغائر التي يشتبك فيها صغار الأدباء.
وحين أعود إلى الأفكار التي بثها في نفسي برنارد شو، وحين أنظر إلى الدنيا من عدسته، أحس السرور والغضب والإقدام والشجاعة والجهد والإرادة، أجل أحس أن حياتي ترتفع إلى مقام التاريخ وأن لوجودي دلالة فلسفية. •••
مات برنارد شو بعد أن ملأ الدنيا بفكاهاته، وهي فقاقيع الحكمة فكنا نضحك ونتعلم. نحن الآن أقل ثراء في النفس وذكاء في العقل مما كنا في أيامه، وقبل أن يموت بأيام قال زعيم الفكاهة هذا يصف عالمنا في عام 1950: إن بين كل أمة وأمة حربا باردة، وبين كل فرد وفرد من أبناء الأمة الواحدة حربا باردة، وبين كل إنسان ونفسه حربا باردة!
هذا ما قاله زعيم الفكاهة، وهي كلمات موجعة تصف عالمنا التعس الحاضر. •••
لما مات برنارد شو أطفئت الأنوار في نيويورك خمس دقائق، وكذلك أغلقت المدارس في الهند يوما كاملا، وجرى مثل ذلك أو قريب منه في أقطار أخرى، ولكن مصر لم تفعل شيئا من هذا، كأنها تعيش في ذهول لا تقدر القيم الأدبية والاجتماعية في العالم، والواقع أنها كذلك.
ولو كانت هناك أمة مدينة لبرناردشو لكانت مصر، فإن الصفحات القليلة التي كتبها عن دنشواي تحمل من غلواء الذهن والعاطفة ما ينظمها في عداد الأدب العالمي والبلاغة السامية، وستعيش هذه الصفحات وسيقرؤها - كما قرأها - الملايين الذين سيغضبون من الاستعمار وسيعرفون منها حق مصر وباطل بريطانيا. ولو كنا أمة عصرية لنقلنا إلى لغتنا جميع مؤلفات برنارد شو، ولكانت هذه المؤلفات جديرة بأن تحدث نهضة اجتماعية وأدبية، فإن تفكيرنا السياسي جامد، ونشاطنا الأدبي إما رجعي يتعمق ظلام القرون الماضية، وإما سطحي يتبهرج بالألوان على صفحات الجرائد والمجلات كأنه عبث الصبيان؛ ولذلك ما كان أحوجنا إلى التوجيه السيكلوجي الاجتماعي الذي يتسم به أدب برنارد شو، بل ما أحوج الأديب والسياسي معا إلى هذا التوجيه.
غاندي
داعية الاستغناء
ولد غاندي إنسانا ومات قديسا. ولم يكن غاندي مؤلفا من حيث فن التأليف الكتابي وإخراج الكتب، ولكنه ألف ما هو خير من الكتب، ألف حياته التي كانت مصباحا منيرا نحو أربعين سنة للبشر من جميع الطبقات، وقد كانت دعواته أو رسالاته متعددة، فقد دعا إلى الوطنية الهندية ومحاربة الاستعمار وإلى الاستقلال والحرية، كما دعا إلى المغزل والمنسج وإلى الطعام النباتي، ولكن كل هذه الدعوات كان يسودها روح القداسة. ولذلك نستطيع أن نقول إن دعوته الأولى هي القداسة؛ ذلك أن وطنيته لم تكن للهند وحدها، وإنما كانت إخاء بشريا لسكان هذا العالم كله. ولم يكن كفاحا دمويا قائما على البطش والدم، وإنما كان مقاومة سلبية تنهض على حض الهنود على ألا يتعاونوا مع المستعمرين لهضم حقوقهم وضغط حرياتهم، ولم يكن تدينه لديانة آبائه فقط - أي الهندوكية - إذ هو كان يجعل صلاته حافلة جامعة للإنجيل والتوراة والقرآن، والكتب الهندوكية المقدسة، وقد صام أكثر من نصف عام على فترات كي يحمل الهندوكيين والمسلمين على الإخاء، وبذلك رفع السياسة إلى مستوى القداسة. وقد كتب تاريخ حياته في أسلوب شعبي ساذج يخلو من التبرج؛ لأنه لم يكن كاتبا أديبا لعوبا، ومن هذا الكتاب نحس قداسته، ونهفو إلى ذكراه في حنين وحنان معا، كما نهفو إلى ذكرياتنا للأم الحبيبة أو للعشيقة التي أوسعتنا سعادة السنين، أو للابن الذي حملناه على صدورنا وقبلنا وجنتيه الطريتين. وذكرى غاندي عندي هي نشوة يغمرني فيها إحساس فني كذلك الإحساس الذي أنتعش فيه حين أرى الشفق الزاهي والحقول النضرة والرسم الرائع. وليست عظمة غاندي من ذلك النوع الذي يحملنا على احترامه؛ إذ ليس هناك مكان في قلوبنا لذكراه سوى الحب ، وحيث يكون الحب العميق لا يكون الاحترام.
Page inconnue