مقدمة
المؤلفون يغيرون الدنيا
فولتير
جيته
داروين
فيسمان
هنريك إبسن
نيتشه أو فتنة الشباب
إرنست رينان
دستوفسكي
ثورو ونداء الطبيعة
تولستوي
فرويد وتشريح النفس البشرية
إليوت سميث وأصل الحضارة
هافلوك إليس والزواج الانفصالي
جوركي والأديب المكافح
شو
غاندي
ويلز
شفايتزر
جون ديوي
سارتر
مقدمة
المؤلفون يغيرون الدنيا
فولتير
جيته
داروين
فيسمان
هنريك إبسن
نيتشه أو فتنة الشباب
إرنست رينان
دستوفسكي
ثورو ونداء الطبيعة
تولستوي
فرويد وتشريح النفس البشرية
إليوت سميث وأصل الحضارة
هافلوك إليس والزواج الانفصالي
جوركي والأديب المكافح
شو
غاندي
ويلز
شفايتزر
جون ديوي
سارتر
هؤلاء علموني
هؤلاء علموني
تأليف
سلامة موسى
كن رجلا ولا تتبع خطواتي!
جيته
مقدمة
المؤلف الذي نحبه ليس فقط صديقا نأتنس بآرائه ونستفيد بأفكاره، إنما هو أكثر من ذلك.
هو بهذه الآراء والأفكار يتسلل إلى قلوبنا وعقولنا فيؤثر في شخصيتنا أو يغيرها. وهو بهذه المثابة، نفسي فسيولوجي له دورة حيوية في وجودنا. ولكن المؤلف العظيم، ليس هو الذي يجعلنا نرى الدنيا بعينيه ونشهد على الناس والأشياء بضميره، وإنما هو الذي يعلمنا الاستقلال رائين ومشاهدين معا، وإن لم يكن في رؤيته وشهادته قد فتح بصيرتنا.
إن كل إنسان كون نفسه؛ ولذلك له الحق في أن يسأل في استقلال، وأن يجيب في استقلال عما يحس وعما يجد، وهؤلاء المؤلفون الذين تخصصوا في الرؤية والشهادة جديرون بأن نقرأهم، ولكن يجب أن نحذرهم، وهيهات أن نحذرهم؛ ذلك لأن لكل كاتب إيحاءاته التي لا طاقة لنا بالتخلص منها، وأحيانا له إيعازاته التي تندس إلى عقولنا من حيث لا ندري، ولكن علينا في كل حال أن ننشد الاستقلال.
وقد تأثرت بهؤلاء الكتاب الذين ذكرتهم في هذا الكتاب وأحببتهم وأعظمتهم، ووجدت فيهم النور والتوجيه، ولكني حاولت الاستقلال، وهذا ما أنصح به القارئ الذي يجب أن ينصت إلى قول أمير الأدب جيته؛ إذ يقول: «كن رجلا ولا تتبع خطواتي!»
س.م
المؤلفون يغيرون الدنيا
الحياة مشروع نضع تخطيطاته منذ نبدأ الوجدان وندري ما نفعل، أو هي خارطة نأخذ في رسمها مدة سبعين أو ثمانين سنة. فنحن المسئولون عن إتمام هذا المشروع أو رسم هذه الخارطة. ومع أننا نعرف من السيكلوجية الحديثة أن سلطة الأبوين، وسط العائلة، وطراز المجتمع الذي نعيش فيه، وتراثنا البيولوجي، نعرف أن لكل هذا أثره في تكويننا وتوجيهنا، فإن النظر إلى الحياة باعتبارها مشروعا يخطط أو خارطة ترسم، هذا النظر يستحق الاعتبار، ويجب أن تكون له مكانة في الطاقة النفسية لكل إنسان. وإذا كانت «الوجودية» تجعل من الفرد المسئول الأول عن أعماله، وتزعم أن هذا فلسفة، فلا أقل من أن نسلم نحن بهذا الزعم ونهدف منه لا إلى الفلسفة، ولكن إلى البناء الأخلاقي.
وحسن في الأخلاق أن نقول إننا مسئولون عما نفعل، وفيما يلي بعض الخطوط التي أنقلها إلى القارئ الشاب عن مشروع حياتي أو خارطتها، فقد يكون فيها عبرة صغيرة إلى جانب الزبد الكثير.
بدأت أرسم خارطة حياتي حوالي عام 1906 حين ساء الوسط العائلي، وكان يتعقبني بالعذاب «رجل نيوروزي» جعلني أبيت وأصبح في كرب لا يطاق، ففررت إلى أوروبا. وهناك انبسطت لي آفاق، وحلمت أحلاما ورأيت رؤى، وشرعت أدرس اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وأختلط بعناصر جديدة في المجتمعات والعائلات، وأقرأ من الكتب ما يشع النور في عقلي ويبعث الشجاعة في قلبي، فقررت من ذلك الوقت، وأنا حوالي العشرين أن أكون متمدنا ومثقفا. وقد مضى علي نحو خمس وأربعين سنة وأنا أعاني الخصومات بسبب هذا القرار السري!
رأيت شعوبا حرة لكل منها الكلمة العليا التي تتضح في الانتخابات البرلمانية، ورأيت مشاكل الشعب تدرس في البرلمان الذي له وحده حق تعيين الوزارات وإسقاطها، ورأيت جرائد تعالج المذاهب وتناقش الساسة، ورأيت الاجتماعات التي يجتمع فيها الرجال والنساء ويبحثون فيها مشاكل العالم. ورأيت البيت النظيف، والشارع النظيف، والكتب العديدة، والمكتبات المجانية، واختلطت بكل ذلك، وتحدثت إلى الفرنسيين والإنجليز، وشرعت عندئذ آخذ بأساليب المتمدنين، وأهدف إلى أهدافهم، وأدرس وأتعلم وأتجول وأتأمل ...
وعرفت فوق ما عرفت أن المرأة يمكن أن تكون إنسانا حرا لا يختبئ من الدنيا وينظر إليها من صير القفل، ولكن يواجهها في شجاعة، تتعلم وتعمل وتتحمل المسئوليات.
ورأيت جمالا في الحب بين الشبان والفتيات، رأيت التمدن! وعنيت أكبر العناية بتعلم اللغتين الإنجليزية والفرنسية، واتصل عقلي عن سبيلهما، بأكبر العقول القديمة والحديثة، وكثيرا ما كنت أسهر الليل كله حتى الصباح، وأنا في لذة الحماسة بقراءة كتاب لنيتشه أو قصة لدستوفسكي أو كتاب للعقليين أعداء القرون المظلمة.
والتحقت بالجمعية الفابية، ورأيت برنارد شو في لحمه ودمه، وكانت هذه الجمعية تومئ في بداية هذا القرن إلى منتصفه، وكانت دعوتها إلى الخير والبر ترافقها دعوة أخرى إلى الشرف والشجاعة، وسمعت من منبرها رجالا ونساء من الإنجليز يقولون: «يجب أن نخرج من مصر»، فأحببت الإنجليز ... وكرهت الاستعمار. ورأيت بين أعضائها رجالا ونساء يقبلون على الأدب الروسي، ويدرسون المشاكل التي خلفها داروين، ويبحثون «تنازع البقاء» ومعاني «العصرية»، ويتعمقون الطبيعة لاستخراج ما فيها من أخلاق، من تنازع أو تعاون.
ورشحت نظرية التطور إلى وجداني وتشبعت بها فصارت مزاجي وأسلوبي، وكبرت قيمة الإنسان في نفسي؛ لأني عرفت تاريخه الماضي في مئات الملايين من السنين، كما صرت أحس بتاريخه القادم في المئات من السنين أيضا، وتحملت بهذه المعرفة مسئولية وأحسست دينا، ولم ينقص من قيمة هذا الدين أنني وقفت على مئات الخرافات التي وقع فيها الإنسان، لا، بل إن هذه الخرافات قد زادتني احتراما وحبا للإنسان؛ إذ هي كانت محاولاته المتكررة للوصول إلى الحقائق، فقد انتقل من السحر إلى العلم، ومن النجامة إلى الفلكيات، ومن الكهانة إلى الضمير، ومن ذلق الرق إلى شرف الإنتاج.
وكان أكبر جزء في «مشروع» حياتي أني احترفت الثقافة، فكانت حرفة وهواية معا، لا أبالي ما فيها من تعب وعرق. وقد بنيت بها شخصيتي وأنضجت بها وجداني، واستطعت أن أنسلخ من عقائد الطفولة، وأن أصل إلى اليقين الجديد بهداية داروين وأينشتين، وأصبح عقلي عالميا عاما أحس صداقتي لنهرو، وخصومتي لتشرشل، وأعنى بدراسة الصحارى، واحتمال زراعتها في آسيا وأفريقيا، وأفكر في مستقبل الأحياء، وأخشى انقراض بعضها. أجل أحس أن العالم كله قد أصبح وطني، ليس لي حق التفكير في مصالحه فقط، بل علي هذا الواجب. وثقافتي لذلك ليست عربية أو إنجليزية أو فرنسية، وإنما هي عالمية، هي في التاريخ وعلى مستوياته، قديمة ووسطية وعصرية، مهما اختلفت لغاتها أو مؤلفوها.
ومع أن ثقافتي قد فصلت بيني وبين الكثير من الناس لاختلاف مستويينا، فإنها بسطت لي آفاقا شاسعة من الفرح والأمل والتأمل والعبرة، فجعلت حياتي أكثر حيوية، وحبي للطبيعة أحم وأعمق، وفهمي للكون أوفى وأنور.
وقد عرفت هذا الفرق بيني وبين سائر الناس حين وقفت أمام الدينصور قبل أربعة شهور في متحف التاريخ الطبيعي في باريس، فإني وقفت عنده وجعلت أدور حوله وأتأمله وأتخيله أكثر من ساعة.
وكنت أرى بالطبع الهيكل العظمي فقط لهذا الحيوان الذي كان يعيش على أرضنا قبل نحو مائة مليون سنة، وكان أكبر من الفيل يزيد عليه في الجرم نحو أربعة أضعاف. كان لا يختلف كثيرا من السحلية أو الورنة، وكان يبيض مثلهما، وقد انقرض لأنه كان جسما بلا مخ أو بمخ صغير يفضله مخ البطة أو الكلب ألف مرة، فلما تغير مناخ الدنيا ضاقت حياته، فعجز ومات وانقرض.
وقد بقيت شهورا أقرأ وأفكر في موضوع الدينصور، ثم في ماضي النوع البشري ومستقبله بعد إذ دخلنا في العصر الذري، هذا العصر الخطر الذي تكاد تتغير فيه وجهة التطور بإبادة الإنسان، ثم تحيا الأرض بعد ذلك نحو مليون سنة في الظلام، إلى أن يكون الشمبنزي قد تهيأ للسيادة والتسلط عليها!
ومع أني احترفت الأدب والعلم والثقافة، فإن هذه جميعها هي عندي حياة كفاح أكثر مما هي حرفة؛ ولذلك أنا لا أبالي ما يقال عن أسلوب الكتابة، ولكني أبالي أسلوب الحياة، ولا أعبأ ببلاغة العبارة، ولكني أعنى بأن تكون الحياة بليغة، بحيث نحيا متعمقين متوسعين. ومع أني ألفت نحو خمسة وثلاثين كتابا فإن كتابي الأول الذي عنيت بتأليفه هو حياتي؛ هذا المشروع، هذه الخارطة التي رسمتها والتي أعود إليها من وقت لآخر بالمحو والتنقيح والتصحيح. بل إن الكتب التي ألفتها هي فصول من كتابي الأول من حياتي.
وليست حياتي هذا العمر القصير الذي أحياه بدمي ولحمي، وإنما هي تعود إلى ألف مليون سنة مضت، ألم أكن سمكة في يوم ما؟ ألم أعش على الشجر في وقت ما؟ لقد حمل جسمي آثار هذه الملايين من السنين الماضية ولا يزال بعض هذه الآثار واضحا، أراه بعيني إلى الآن كما أرى بعيني وأسمع بأذني كلمات مصر الفرعونية وآثارها في العقائد العامية بل الشعبية.
وكذلك ليس هذا الماضي هو كل العمر، فإني أحمل من الاهتمامات بمستقبل البشر ما يعد هموما شخصية لي؛ لأني أدين بنظرة، كدت أقول عقيدة، التطور، ولذلك لا أطيق عبث الأطفال الذين يقيدون حرية الفكر، أو يكرهون الكتب، أو يؤخرون الصناعة، أو يستمسكون بالخرافات والتقاليد المؤدية؛ إذ هم أعداء التطور.
ومن أجمل الإحساسات التي أستمتع بها في فترات اليأس، والتي تحيل هذا اليأس إلى رجاء أن مؤلفاتي وأفكاري، ومنهجي وكفاحي، كل هذا لن يموت بعد موتي؛ إذ هو سيبقى ويؤثر ويوجه ويفتح النوافذ للنور، وأنا بذلك أتجاوز حياتي، وأحيا بعد موتي. وقد قرأت أكثر من ألف كتاب، وأخصبت الكتب حياتي، وجعلتني مثمرا مضيئا، ولكن الكتاب الأول الذي له فضل الصياغة والتوجيه لشخصيتي هو كتاب داروين «أصل الأنواع»، فإنه زاد عمري من سبعين سنة إلى ألف مليون سنة، وجعلني أحس الوجدان، ليس على هذه الأرض فقط، بل إزاء الكون كله بنجومه وكواكبه وشظايا ذراته، وأحس أن للطبيعة أخلاقا.
هذا هو مشروع خارطة حياتي، فما هو مشروعك؟ كيف رسمت، كيف ترسم خارطة حياتك أيها القارئ؟
هناك زعم أو وهم يقول بأن الساسة يغيرون الدنيا بالاستعمار والحروب والمعاهدات، وقراءتنا المتوالية للصحف تعمم هذا الزعم أو الوهم؛ إذ إننا نجد الأسماء البارزة للساسة، ونقرأ أخبار الحرب الكبرى الأولى، ثم الحرب الكبرى الثانية فيتأيد هذا الزعم أو الوهم.
وليس شك في أن الحروب والمعاهدات تغير، وقد غيرت الجغرافية السياسية للأقطار، كما أنه ليس شك في أن المباشرين لهذه التغييرات كانوا من السياسيين أو العسكريين، ولكن هذه التغيرات لم تكن تصل إلى صميم النفس البشرية . ومع ذلك عندما نتأمل ونتعمق الأسباب والبواعث لهذه الحروب نجد أنها كانت ثمرة أو نتيجة لابتكارات علمية قام بها مفكرون اخترعوا الآلات، أو ابتكروا الأساليب، أو ألفوا الكتب لإعلان نظريات جديدة.
اعتبر هاتين الحربين الكبريين الأخيرتين، فإننا نسمع فيهما عن رجال السياسة ورجال الحرب، ولكن هؤلاء الرجال قد باشروا هاتين الحربين فقط ولم يكونوا السبب لإثارتها؛ لأن السبب يرجع إلى الآلة البخارية التي أخرجها رجل مفكر هو جيمس واط في عام 1776، ذلك أن هذه الآلة قد عممت الإنتاج الكبير، في المصنوعات فاحتاج هذا الإنتاج الكبير إلى الحرب والاستعمار. وما زلنا نحن في حرب واستعمار بسبب هذه الآلة التي أحدثت ولا تزال تحدث مزاحمة دموية بين جميع الأمم الصناعية. والمعنى والدلالة هنا أن السياسي والعسكري قد سار كلاهما في أثر المفكر المخترع الذي انبعث إلى التفكير بقوات اجتماعية أخرى.
وقد غيرت الحربان الأخيرتان تخوم الأقطار؛ أي غيرت الجغرافية السياسية، ولكنها لم تغير الاتجاه البشري أو الاتزان النفسي، فالأوروبي الآن هو الأوروبي الذي يعيش قبل سنة 1914 من حيث إيمانه أو طموحه أو تفكيره أو عاطفته.
ولكن الدنيا تغيرت بالكتب، وعندنا على ذلك المثل الأكبر، فإن كتب الدين قد غيرت النفس البشرية؛ إذ عينت لنشاطها اتجاها وأكسبتها أهدافا لم تكن لتعرفها من قبل. وهذا الخلاف الخطير القائم الذي قد يؤذن بالحرب الكبرى الثالثة بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية، كتاب ألفه كارل ماركس. وهناك عشرات من الكتب الأخرى لها مثل هذا الأثر أو ما يقاربه.
ولكن المؤلف المبتدع لا يبني على الهواء أو يفكر في الخواء؛ ذلك لأنه يعيش في مجتمع معين يكسب منه عواطفه ويتجه اتجاهاته، فإذا كان ذكيا تبلورت فيه بعض الاتجاهات البازغة، فصار يمايز بينها ويختار أحسنها، فيدفعها بتفكيره، ويزيدها بيانا وقوة حتى تتغلب على غيرها من الاتجاهات، وهو بهذه المثابة يتفاعل مع مجتمعه، فينشأ على أوضاعه ثم يعود فيحاول نشأة جديدة له؛ أي للمجتمع.
وهناك كتب قد غيرت نفوسنا كما لو كانت ديانات جديدة، بل إن الاختلاف بشأن نظرياتها يشبه إلى حد كبير الاختلاف الديني، فإن المختلفين على كتب نيتشه في مذهب القوة يحتدون ويتعصبون، وكتاب داروين عن أصل الأنواع لا يزال يحدث مصادمات ذهنية بين التقليديين والابتداعيين، فهو كفر مظلم عند أولئك، وهو رؤيا مثيرة عند هؤلاء. وإني واحد من أولئك الذين تغيروا بنظرية داروين ... لأن التطور عندي مذهب سام، قدس نفسي وغيرني ووجهني. وهو ليس عندي تفكيرا فحسب، وإنما هو إحساس وعاطفة وحب وروحية.
فقد كان سبينوزا يقول بالوحدة الوجودية على نحو من المذاهب الصوفية الشرقية، ولكنه في ذلك لم يستطع سوى إيجاد الفكرة والفلسفة؛ إذ لم يكن هناك من الأدلة المادية الحسية ما يثبت قوله. أما نظرية التطور فإنها قد غلفت عقولنا ثم استقرت في عواطفنا، فهي إحساس وشهوة تنبض بهما عروقنا وتخفق بهما قلوبنا، وإني حين أقعد تحت ظل شجرة خضراء وأستسلم للأفكار الخضراء أحس بدافع من هذه النظرية، بتلك الوحدة الوجودية حتى لأقول كما كان يقول ذلك القديس المسيحي: أخي الطير وأخي الشجر وأخي الوحش. بل أحس كأني أريد أن أنكب على الأرض كما كان يفعل «اليوشا» في قصة «الإخوة» لدستوفسكي ... هذه الأرض الطيبة، هذه الأم القديمة.
وهذا كتاب واحد من عشرات الكتب التي غيرتني. ولم يقتصر التغيير على العقل، إذ قد تجاوزه إلى النفس، فتغيرت رؤياي للدنيا وتغيرت نفسي ومزاجي وعاطفتي. وهو تغيير يحسبه الجاهل كفرا وأحسبه أنا إيمانا.
وهناك كما قلت عشرات من الكتب البذرية التي تنمو وتتفرع وتتوالد في كثرة لم يكن يتوقعها حتى مؤلفها.
اعتبر الفكرة البذرية في أحد مؤلفات برنارد شو، وهي أن البشر يجب أن يهدفوا إلى استنتاج السبرمان الذي سوف يتفوق علينا ذهنا وروحا وجسما بمقدار ما نتفوق نحن على القردة. ما أطيبها من فكرة وما أبرها من مذهب! إنها مذهب من أرقى المذاهب البشرية الجديدة.
أو اعتبر الفكرة البذرية في كتاب أينشتين، هذا الكون الدائري، وهذه الطاقة الذرية، وهذه المادة التي تذوب في الطاقة، وهذه الطاقة التي تتكاثف إلى المادة.
بل اعتبر هذه القوة الجديدة في هذا العلم الجديد: «علم الطاقة الذرية»؛ فإن المفكرين الذين أحزنهم وهد ضمائرهم إلى إلقاء القنبلة على هيروشيما يسمعون الآن في طرب محاولة الروس نقل المياه التي تذهب عبثا وخسارة إلى المحيط القطبي الشمالي إلى بحر قزوين المتاخم لإيران حيث تروي خمسة ملايين فدان تستحيل من صحراء قاحلة كالحة إلى أرض نضرة تبتسم بالخيرات.
وكل هذا من أثر الكتب. إنها لكتب مقدسة هذه التي تغير الدنيا وتغير اللفتة البشرية، كتب داروين، ولا مارك، وأينشتين، وتولستوي، وبرناردشو، وغاندي وأمثالهم من الذين يرسمون لنا خطوات الفهم والشرف نحو المستقبل. والذهن الذي تربى على هؤلاء المؤلفين، وأكل وهضم من موائدهم. يبصق بصقة الاحتقار على دعاة الرجعية من الكتاب التافهين.
والذهن الذي تربى على هؤلاء المؤلفين وأمثالهم لا يستطيع أن يتسامح في جريمة القتل أو الفسق أو البطش أو الخيانة. ولكنه يعرف أن هناك جريمة تعلو على جميع هذه الجرائم في الخسة والنذالة والحقارة والخيانة، هي الحجر على الذهن البشري ومنعه من التطور بتعيين الكتب التي لا تقرأ ... هذه هي الخيانة الكبرى للإنسانية.
والحكومة التي تجترئ على مثل هذه الخيانة، فتمنع كتابا قيما من الدخول إلى بلادنا، أو من الطبع أو التداول، هي حكومة تخون الإنسانية وتنتهك الفكر البشري المقدس. وهي بهذا الانتهاك تقاوم الفهم والذكاء عند أبناء الشعب كأنها تحاول أن تجعلهم بلداء أغبياء. •••
من الأسئلة التي يضعها كاتب سخيف لقراء سخفاء هذا السؤال:
لو أنه حكم عليك بالانفراد سائر عمرك في جزيرة أو سجن، أي كتاب كنت ترغب في اقتنائه حتى تأنس أو تنتفع به؟
وسخف هذا السؤال يرجع إلى أن العقل العصري الراقي قد أصبح عقلا مركبا يحتاج إلى التناقض والتناسق، وإلى المنطق والإيمان، وإلى الخيال والتعقل، وإلى التحليل والتركيب، وإلى الحقائق الموضوعية والأفكار الذاتية. وكل هذا لا يمكن أن يحويه كتاب واحد.
ونحن نختار الكتاب في العادة كي نتزيد في معارفنا، ولكن المعارف الموضوعية هي المادة الخامة للثقافة؛ إذ ليست الثقافة معارف فقط، وإنما هي موقف واتجاه وعواطف وعادات في الحياة والممارسة الفلسفية. وصحيح أن كل هذا ينبني على المعارف الموضوعية، ولكن هذه المعارف هي الدرجات الأولى أو الأسس التي نبني عليها حياتنا الفلسفية.
وهناك من الأذكياء من حظوا بمركبات نفسية تبعثهم على الاستطلاع، فيجدون فيها الإيحاء والتوجيه دون الحاجة إلى من يرشدهم. ولكن معظم القراء يحتاجون إلى المؤلف الذي يثير الاستطلاع ويبعث إليهم بالخسائر ويوجه ويرشد؛ إما لأنهم ليسوا على درجة عالية من الذكاء المتسائل، وإما لأنهم قد خلوا من تلك المركبات النفسية التي صادفت غيرهم لاختبارات أو كوارث وقعت بهم فكانت المنبه والمحرك لنشاطهم الذهني.
والمؤلف العظيم الذي يعلمنا هو ذلك الذي يستنبط من المعارف موقفا فلسفيا جديدا، أو خطة واتجاها جديدين للفكر البشري. والكاتب هو الذي يوجهنا أو يغيرنا. وأحيانا يتغير القارئ لأنه انساق في موجة جديدة قد أحدثها كاتب عظيم قد لا يعرفه هذا القارئ، ولكن الموجة التي مست غيره قد انتهت إليه فأثرت فيه وأحدثت وقعا جديدا في نفسه وعقله.
وليس كل منا كما قلنا قادرا على الاستنباط الفلسفي من المعارف، أو ليس قادرا على الاستنباط الأمثل؛ ولذلك نحن نحتاج إلى المؤلفين المستنبطين الذين يبسطون أمامنا آفاقا جديدة، أو يرشدوننا إلى دلالات أخرى غير ما تعودنا، أو يبرزون لنا الفكرة الإيمائية من بين العشرات من الفكرات المألوفة.
وقد تغيرت الثقافة بهؤلاء الكتاب الإيمائيين من عصر لآخر، وبعض العصور يساعد على هذا التغيير؛ لأنه بمركباته الاجتماعية المتغيرة ينشط الذهن بل أحيانا يلهبه، في حين أن العصر الزراعي مثلا يعمم الركود، فلا ينبه المؤلف؛ ولذلك يكثر مؤلفو التاريخ ودعاة التقاليد في المجتمع الزراعي الراكد، أما المجتمع الصناعي أو التجاري المتغير فإنه يبعث المؤلف على بحث الأخلاق والعقائد والأفكار، وقد يهتدي في هذا البحث إلى ما يلائم من خطة أو فلسفة أو وجهة جديدة، وهذه هي النهضة.
وحيث تكون النهضات، كما في إيطاليا في القرن السادس عشر، أو فرنسا في القرن الثامن عشر، نجد التساؤل والاستطلاع، ثم الاستنباط تحليلا وتركيبا. فالمؤلف يسلط النور والحرارة معا على المجتمع المتغير الذي يعيش فيه، فيؤلف عن وجدان اجتماعي وإحساس روحي واختلاق فني، وقد يحدث من ذلك أحيانا اختلاط وفوضى، ولكنهما ليسا أمارة الانحلال، وإنما هما علامة النشاط في مجتمع يمرح مرح الطفولة التي تزخر بالحياة.
وهذا بعكس المجتمع الزراعي حيث ركود التاريخ والتقاليد، فإن مثل هذا المجتمع لا يربي المؤلف المجدد، بل هو قد يمنع الكتب التجديدية الأجنبية من الانتشار، ويحظر التفكير في ميادين دينية أو اقتصادية أو اجتماعية؛ إذ هو كالمريض يكره الحركة ولا يتمنى أكثر من الهدوء، ولو كان هدوء الموت؛ ذلك لأنه لا يجد في هذا التجديد ما ينبهه تنبيه الصحة، ولكنه يجد فيه ما يزعجه بل يزلزله.
وعلى القارئ أن يختار الكتب كما يختار المعلمين والأصدقاء الذين ينشد فيهم النور والنار معا. وهذه الكتب هي التي تخرج به عن مألوفه، وكما يخرج الفقير الذي يعيش في زقاق محدود إلى الحقول، فينتعش ويتنفس الهواء الجديد، كذلك يجب على القارئ أن يخرج عقله من المعارف المألوفة؛ أي من الطريق الدهس، إلى تلك الآفاق الرحبة حيث النور والهواء المنعشان. أجل، وحيث الوعورة في الطبيعة البكر التي تبعث على التفكير البكر الوعر.
ولكل عصر مناخه الثقافي، ولكننا نعيش في مصر في مناخ لا يلائم القرن العشرين، وإنما يلائم القرن العاشر! أجل نحن في عقم ثقافي، ومن هنا كان تخلفنا الاجتماعي والاقتصادي، ومن هنا أيضا تفاهة التفكير في المفكر التافه، حين يقول إن الطربوش شعار وطني، أو إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، أو حين يتحدث عن الكم الطويل والكم القصير، كأن هذا الموضوع يرتفع في اعتباره إلى مقام المشكلة الفلسطينية.
ومرجع هذا أن هؤلاء المساكين لم يرتقوا بكتاب توجيهي ينقلهم من الركود إلى النشاط؛ ولذلك كثيرا ما أقعد إلى أحد هؤلاء فأجد أنه قد بلغ الستين من السن الزمنية، ولكنه لا يزيد على صبي في العاشرة من حيث النضج السيكلوجي.
ولا أستطيع أن أقول إن الكتب العربية ترتفع إلى مقام يتيح لها تخريج الرجل الناضج الذي يتساءل ويستطلع، وإن كان هناك قليل من الكتب المترجمة قد يؤدي هذه الخدمة. وقد كان في مقدورنا أن نترجم نحو مائة كتاب عالمي من تلك الكتب التي غيرت المجتمع ووجهته، ولكن مجتمعنا الزراعي الحاضر يكره هذا التغيير وهذا التوجيه؛ ولذلك أقول مرة أخرى إننا في عقم ثقافي لا نلد ولا نتوالد؛ ولذلك أقول أيضا في صراحة مؤلمة إن القارئ المصري لن يكون متمدينا على ذكاء نشيط وعلى ثقافة عصرية، إلا إذا درس لغة أوروبية واستمد منها حاجته من الكتب العظيمة والمؤلفين العظماء الذين يستنبطون الفكرة الخصبة من المعارف الخامة، فينعطف التاريخ ويتغير وجه الأرض، وهؤلاء هم المؤلفون الإيمائيون.
وقد قرأت في حياتي مئات الكتب التي زادت وجودي في الدنيا والتي نحوت وتربيت بها، وقد اخترت من مؤلفيها بضعة عشر كان لهم الأثر الأكبر في ترتيب ذهني وتنظيم ثقافتي، ولكن اختياري لهم لا يعني أني أشير على القارئ أن يقرأهم ويعرفهم؛ لأني إنما أردت أن أبسط له بعض الأسباب والنتائج في تكوين شخصيتي، وأن أشير إلى الأعلام البارزة في رحلتي الثقافية عبر عمر قد تجاوز السادسة والستين، وبعض هؤلاء المؤلفين قد عرفتهم قبل أربعين سنة، وإني بالطبع لا أذكرهم هنا إلا لأنهم كانوا اختبارا عميقا أثر في نفسي طوال هذه السنين. وللقارئ أن ينتقد، وأن يعرف من إصاباتي كيف أصبت، ومن أخطائي كيف أخطأت، ثم بعد ذلك عليه أن يستخرج العبرة ثم يستطلع ويتساءل ويختار، ثم يشق طريقه بنفسه.
فولتير
محطم الخرافات
يهفو الذهن إلى ذكرى فولتير كلما هبت على الأمة عواصف الظلام التي تقيد الحرية، وتسوغ الاعتقال، وتمنع الكتب، وتراقب الصحف، وتضع الحدود والسدود للعقول، وتنهك النفوس البشرية بأفظع مما ينهك الفاسق الأجسام البشرية.
ذلك لأن فولتير عاش من أجل الحرية، وكانت إيماءة حياته احترام الإنسان وكرامة الناس وحريتهم. ومن الأحسن أن نقرأ تاريخه، ومن الأحسن أن يقرأه أولئك الذين حملوا النيابة العامة في مصر على أن تقوم بأكثر من أربعمائة تحقيق مع الصحف في أقل من سنتين بين سنة 1944 و1946، ثم بعد ذلك منعوا بعض الكتب الأوروبية من الدخول إلى مصر، كما منعوا بعض المؤلفين من طبع مؤلفاتهم ونشرها.
ولد فولتير في عام 1694 ومات في عام 1778. وتغير تاريخ أوروبا بحياته؛ إذ نقل هذه القارة من التعصب إلى التسامح، ومن التقييد إلى التحرير، وغرس بذلك شجرة الديمقراطية، وحمل على العقائد والخرافات الضارة فحطمها، كما بسط الآفاق لحكم العقول، فظهرت الحكومات المدنية العصرية. وقد كان فولتير يمثل الطبقة الجديدة البازغة، طبقة الصناعيين والتجاريين الذين شرعوا يأخذون مكان النبلاء في المجتمع الأوروبي، ومن هنا كان إحساسه بضرورة الحرية واحترام الكرامة البشرية عميقا؛ لأن النبلاء الإقطاعيين كانوا يستعبدون الفلاحين. وعاش فولتير طول عمره وفي نفسه حزازة، فإن أحد النبلاء استطاع أن يحبسه في سجن الباستيل وأن يراه وهو يجلد انتقاما منه لبضعة أبيات من الشعر ألفها عنه فولتير. وقد خرج من السجن وهو يبغض النبلاء ويدعو إلى إلغاء النظام الإقطاعي. وسافر إلى إنجلترا وبقي بها أربع سنوات، فأعجب بشيئين هما: الدستور الإنجليزي الذي ينص على أن الحكم للشعب، وأيضا العالم الرياضي نيوتن. ولما عاد إلى فرنسا دعا إلى الأخذ بقواعد الدستور الإنجليزي في الحكم. ولو أن الحاكمين تنبهوا في ذلك الوقت إلى قيمة هذه الدعوة لعملوا بها، وعندئذ كانوا يتفادون بلا شك من جموح الثورة الفرنسية الكبرى.
وأسوأ ما تصاب به أمة أن يتحد الدين مع الاستبداد، وأن يتحالف الطغاة مع الكهنة، بحيث يستند الدين إلى قوة البوليس، ويستند الاستبداد إلى أساطير الدين، وهذا ما فشا في فرنسا في القرن الثامن عشر، فقد صدر قانون في عام 1757 بإعدام المؤلفين الذين يهاجمون الدين. وصحيح أن هذا القانون لم ينفذ؛ لأن الذين وضعوه أحسوا بالأخطاء التي يستهدفون لها إذا جرءوا على تنفيذه، ولكن حركة التأليف وقفت أو كادت بسبب هذا القانون، واستمر إحراق الكتب إلى عام 1788؛ أي قبل الثورة بعام واحد.
ولكن فولتير استطاع أن يخرج العشرات من الرسائل الحرة بأسماء مستعارة؛ أي مزورة، كي ينجو من خطر الإعدام، وكان في هذه الرسائل يحطم الأساطير ويحمل على الطغيان الحكومي والكنسي، وقبل كل شيء يدعو إلى التسامح، وأن الناس إخوة ولو كانوا مؤمنين أو ملحدين، مسيحيين أو مسلمين، يهودا أو بوذيين. ولقي فولتير عنتا في دعوته إلى الحرية، وخاصة حرية العقيدة؛ لأن الكنيسة الكاثوليكية كانت تحالف في أيامه الحكومة الفرنسية، وكانت تحمل الحكومة والشعب معا على التعصب وإيذاء غير الكاثوليك ... وقد كتب فولتير بقلمه وأنفق من ماله كي ينقذ العائلات التي وقع بها الاضطهاد الديني، وكي يدعو إلى التسامح وحرية العقيدة.
واحتال كي يعيش وكي يرصد حياته للكفاح في سبيل الحرية، وكان من احتياله أن اشترى أرضا في سويسرا وأرضا أخرى في فرنسا، وكانتا تتجاوران وذلك ترقبا للاضطهاد من إحدى الحكومتين السويسرية أو الفرنسية بحيث يستطيع الفرار إلى فرنسا إذا وجد الحملة عليه من الأولى، أو إلى سويسرا إذا وجد الحملة عليه من الثانية، وعاش على هذه الحال السنين الطويلة كي يؤدي رسالته، وهي صيانة الحرية من الوحوش الآدميين، الذين كانوا يكرهون من لا يؤمن بإيمانهم. وقد كان في باريس شيء يسمى «برلمان» ولكنه لم يكن يمثل الشعب؛ ولذلك كان أعضاؤه يسيرون وينقادون إلى دعاة الاستبداد من الحكومة والكنيسة معا. وقد عني هذا «البرلمان» بأن يحرق قصيدة لفولتير. وألف فولتير المعجم الفلسفي، فمنعت الحكومة الفرنسية، بل معظم الحكومات الأوروبية تداوله، وحكم على مؤلفه بالكفر.
وشاعت لفولتير أخيرا شهرة بأنه زعيم الحرية، فكانت تصل إليه شكاوي المضطهدين من الأحرار من جميع الأقطار يطلبون منه الدفاع والإسعاف، وكان يجمع لهم المال كي ينقذهم من حكوماتهم ومن كنائسهم. وما زلنا إلى الآن نسمع عبارة فولتير: «اسحقوا الخزي»، وهذا الخزي هو اضطهاد الأحرار المخالفين للكنيسة.
ومع كل ما اتهم به فولتير لم يكن كافرا، فإنه كان يؤمن بالله أعظم الإيمان، ولكنه كان يعتقد أن الكنيسة يجب ألا تحتكر الدين، وأننا يجب أن نكون «إلاهيين» قبل أن نكون مسيحيين أو يهودا أو هندوكيين، وهو يقول: «إن كلمة الإلهي هي الوصف الوحيد الذي يجب أن يتصف به الإنسان، والكتاب الوحيد الذي يجب أن يقرأ هو كتاب الطبيعة، والديانة الوحيدة هي أن نعبد الله، وأن يكون لنا شرف وأمانة، وهذه الديانة الصافية الخالدة لن تكون سببا للأذى.»
وكان فولتير يرى الله في كل مخلوق، حتى قال: «إن في البرغوث شيئا من الألوهية.»
وكتب عن نفسه في المعجم الفلسفي يقول:
إني أجهل كيف تكونت وكيف ولدت. وقد قضيت ربع حياتي وأنا أجهل تماما الأسباب لكل ما رأيت وسمعت وأحسست. وكنت ببغاء تلقنني ببغاوات أخرى. ولما حاولت أن أتقدم في الطريق الذي لا نهاية له، لم أستطع أن أجد طريقا معبدا ولا هدفا معينا، فوثبت وثبة أتأمل الأبدية ولكنني سقطت في هوة جهلي.
والواقع أننا حين نتأمل حياة فولتير نجد أن الكنيسة الكاثوليكية قد انتفعت بعداوته لها؛ لأنها كفت عن اضطهاد المخالفين، وكان هذا الاضطهاد أكبر ما توصم به في القرن الثامن عشر كما كان أكبر ما يعمل لفسادها.
وكذلك انتفعت بفصلها من الدولة؛ لأن اعتلاء الدين للدولة يضر الدين ويحطه؛ إذ يغنيه عن القوة الروحية والأخلاق السامية بما يستمتع به من قوة بوليسية وحماية قانونية. والدين يجب أن يتجرد من أي سلطان مادي؛ أي حكومي أو بوليسي، حتى يستنبط قواه الروحية المستقلة ويصل إلى القلوب عفوا دون مساعدة خارجية.
وهذه هي مهمة فولتير التي علمها لأوروبا، مهمة الحرية الفكرية وفصل الدين من الدولة.
وليس لفولتير عبرة أو دلالة واحدة لعصرنا، وإنما له عبر ودلالات كثيرة، فإننا نفهم منه أن حرية العقل وحرية العقيدة وحرية الضمير هي أثمن ما يملكه البشر، وأن الحكومة أو الهيئة التي تنتهك هذه الحريات ترتكب أفظع الجرائم، وهي جريمة الخيانة للروح البشري. وعبرة أخرى نستخلصها من حياته هي أن الأديب ليس رجل القلم والحبر، وتقليب الكتب واجترار الأقوال القديمة، وإنما هو المكافح المبتكر الذي يشترك في هموم البشر واهتمامات المفكرين دعاة التطور والرقي، وأن أدباء البرج العاجي الذين يقفون بعيدا عن معترك الحياة الاجتماعية والأخلاقية والسياسية لا قيمة لهم ولا منفعة منهم، بل هم بمثابة الجندي الفار من المعركة.
وعبرة ثالثة هي أن بؤرة الأديب شخصيته، من حيث إنه يكتب عن إحساس ووجدان بما يحس ويجد، ثم يصدر عن ذلك مفكرا للتنظيم والتوجيه؛ ولذلك قيل إن أسلوب الكاتب هو شخصيته أو هو أخلاقه، ومن المحال أن يقنعنا كاتب فاسق بضرورة الطهارة، أو كاتب يتعلق بالمستبدين وينتفع منهم بضرورة الديمقراطية.
ولقد عشت حياتي وهنئت أيما هناء، وتعزيت أحيانا أيما عزاء، بمرافقة فولتير وتأمل كلماته وتتبع حياته في أخطائها وأخطارها وتطوراتها، وعرفت منه معرفة الإحساس والوجدان معا أن حرية العقل هي قدس الأقداس في النفس البشرية.
كانت حياة فولتير كفاحا نجح فيه، ورد إلى الإنسان حريته بعد أن كانت قد حرمته إياها الكنيسة والدولة، واستطاع أن يحمل جماهير أوروبا على الإيمان بالطبيعيات بدلا من الغيبيات إلى حد بعيد، كما استطاع أن يرد إلى التاريخ مكانته، وأن يجعل للتنقيب التاريخي فضل الاهتداء إلى الحق والباطل في العقائد. ودعا إلى العقل دون العقيدة، وأكبر لذلك من شأن «بيكون» داعية التجربة و«ديكارت» داعية العقل. وكان على وجدان برسالته التاريخية من حيث إنه رائد العصر الجديد، عصر القلم والعلم. وقد كتب في عام 1760 إلى «هيلفيتبوس» يقول: «إن هذا القرن بدأ يرى انتصار العقل.»
ولقد عشت في هذا الوطن الأسيف - مصر - نحو ثلاثين سنة من عام 1914 إلى عام 1949 في أسر الأحكام العرفية والرقابة القلمية؛ وذلك كي يعيش المستعمرون من الإنجليز، والمستبدون من المصريين، وهم في تحالف لمنع الحريات عن الشعب. وقد ألفت كتابين عن الحرية هما: «حرية الفكر»، وهو تاريخ للأبطال الذين كافحوا التعصب والاستبداد والرجعية والجهل. ثم «حرية العقل في مصر»، وهو دعوة إلى إلغاء إدارة المطبوعات التي تمنع إصدار الجرائد والمجلات إلا بعد تأدية غرامة مالية (في صورة تأمين). وفي كلا الكتابين أنعام تتردد من ذكرى فولتير.
وقد كان فولتير يقول: «إني قلما أتعمق، ولكني واضح الفكرة على الدوام.» وهذه كلمة أستطيع أن أقولها أنا أيضا، وإذا كنت في حياتي الأدبية قد وصلت إلى أن أختص بأسلوب، فإني أعترف هنا بأني لم أقصد قط إلى هذا الهدف، وإنما كانت غايتي أن أصل إلى التعبير الجلي الذي يوضح فكرتي، وأظن أني نجحت في ذلك.
وعند الفرنسيين مثل يقول: «ما ليس واضحا ليس فرنسيا»، ولهم الحق في ذلك، وهذا الوضوح يعزى إلى التزامهم المنطق السليم الذي تعلموه من فولتير وأمثاله.
جيته
الشخصية العالمية
المشهور عن جيته أنه أديب عظيم، وقد نقل إلى اللغة العربية من مؤلفاته قصة «آلام فرتر» ودرامة «فاوست» وله أشعار رائعة تذكر أبياتا وقصائد؛ لأن كثيرا من سطورها يحوي الحكمة العالية. وقد كان جيته يكتب يومياته؛ أي إنه كان يدون الحوادث التي مرت به في أيامه يوما بعد يوم، كي يحاسب نفسه على ما أنجز من أعمال، ونحن ننقل هنا يومين في حياته كما دونهما. •••
في الصباح انتهيت من المقطوعة الرابعة وأرسلتها للنسخ. قرأت «فروسشموزلر» عن أنواع الحشرات.
تجارب في الكهربية الجلفانية.
في المساء مع شيلر: أثر العقل والطبيعة في سلوك البشر.
ثم في الصباح المبكر صححت قصيدتي ... ثم قمت بتشريحات الضفدع.
استراحة في الصباح في حديقة شيلر الجديدة ... تحدثنا عن تخطيطها ... وقبل ذلك أعدت النظر في المقطوعتين الأولى والثانية. وفي الصباح صنعت جدولا للألوان. •••
والمتأمل لهذه التدوينات في يومين من أيام جيته يحتاج إلى التساؤل: أأديبا كان جيته أم عالما؟ وهذا السؤال هو موضوع بحثنا هنا.
إن عبقرية جيته لم تكن في الأدب أو العلم أو الفن، وإنما كانت في شخصيته، وصحيح أن له مآثر في هذه الثلاثة، ولكن مأثرته الأولى هي شخصيته، فقد عيب عليه ذات مرة أنه لا يعنى كثيرا بموهبته في الشعر والأدب، فكان جوابه: إن من حقي أن أعنى بشخصيتي، وهي أكبر من أدبي.
إن هم الأديب الصغير أن يصقل قصيدة أو يحسن تأليف قصة أو مقال، ولكن هم جيته كان تأليف شخصيته وتربية نفسه.
وجمهور القراء يعرف أدب جيته، ولكن قليلا منهم من يعرفون أبحاثه العميقة في العلوم، فإن له مكتشفات في الجيولوجية والبيولوجية والبصريات، وقد سمي نوع من الصخر باسمه برهانا على فضله في الجيولوجية. وكان كبير الاهتمام بأصل الأنواع، وهي المشكلة التي أرصد «داروين» بعد ذلك حياته لحلها. وقد استطاع جيته أن يكشف عن أن المخ هو امتداد للنخاع الشوكي. ومما يذكر عنه عقب هزيمة نابليون أنه قدم إليه نبيل ألماني، فسأله عن رأيه في الزعزعة الجديدة التي تعم أوروبا، فأجابه النبيل بأن «الخلفاء» قد أساءوا السياسة في مؤتمراتهم وأن نابليون ...
ولكن لم يكد النبيل يتم جملته حتى صاح به جيته: أنا لا أسأل عن هذا، لست أبالي هذا، إنما أسأل عن هذا الخلاف بين سانت هيلير وكوفيه ولا مارك عن أصل الأنواع وتطورها.
وكان هذا الموضوع يزعزع نفس جيته، وكان يهتم به أكثر مما كان يهتم بالسياسة الأوروبية التي زلزلها نابليون، ومن هنا اهتمامه بترتيب الحشرات وتشريح الضفدع والطاقة الكهربية ... إلخ. •••
ومن الخطأ أن يقال إن جيته كان يهتم بالآداب والعلوم؛ لأن اهتمامه الأول كان بالحياة، فكان يحب ويختبر ويسيح ويملأ المناصب الحكومية. بل إنه لم يجعل الأدب أو العلوم هدفه؛ لأن الهدف الوحيد الذي سدد إليه نشاطه هو شخصيته؛ وتعبيره حين كان يقول: إنه يبني «هرم» شخصيته، يدل القارئ على أن الثقافة كانت عنده وسيلة وليست غاية.
وإذا كان لكل كاتب عظيم رسالة، فإن رسالة جيته لم تكن الشعر أو القصة أو العلوم، وإنما كانت الشخصية باعتبارها التحفة الأولى للإنسان المثقف الذي يحيا حياة الوجدان والعقل. ومن هنا كلمة «برانديس» الأديب الدنمركي: إن حضارة الأمم تقاس بمقدار تقديرها لجيته.
والمعنى أن الأمة التي ارتقت في ثقافتها إلى المرتقى الذي تستطيع أن تفهم فيه أن رسالة الحياة هي الحياة نفسها، هي الأمة الراقية، أما إذا كانت تجعل الحياة وسيلة لأي نشاط أو هدف آخر، مثل الثقافة أو الصناعة أو الثراء أو غير ذلك، فهي غير راقية، بل إننا حين نقول إن الحياة هي الهدف، إنما نستوعب بهذا التعريف جميع الألوان الأخرى للنشاط البشري، ونستوعبها مع ذلك في تناسق يتفق والحياة العالية.
وستبقى قيمة جيته خالدة على هذا الأساس، وهو أننا يجب أن نحيا حياتنا في تعلم واختبار واستمتاع.
ولد جيته في سنة 1749 ومات في سنة 1832، فعاصر روسو وديدرو وفولتير ودالمبير، هؤلاء النجوم الذين أحدثوا النهضة الأوروبية الثانية. ثم رأى مخاض العصر الجديد في الثورة الفرنسية، وفي شهابها الساطع نابليون، ورأى - عقب هزيمة نابليون في عام 1815 - المؤتمرات الأوروبية تومئ إلى الاتحاد الأوروبي بل لقد رأى هذه الفكرة تختمر أيام نابليون.
أجل إنه عاش في عصر عاصف، ولكنه لم يترك العواصف تمر به وهو جامد، بل استجاب لها وتفاعل معها. وقد درس القانون في الجامعة، وعرف دوق فيمار الذي أحبه وعينه وزيرا لهذه الدوقية الصغيرة، ولم يقبل جيته هذا المنصب لما فيه من أبهة؛ وإنما قبله لأنه وجد فيه وسيلة للتدخل في السياسة الأوروبية وفهمها. وزار إيطاليا، فعرف فيها جمال الشمس وجمال الفن، وتزوج واستمتع بمسرات العائلة كما كابد همومها، ومارس الزراعة واقتنى ضيعة. وأشرف على المسرح وأحب فتاة حبا كان يحمله على البكاء وهو في السبعين. وكان مفراحا يحب الاجتماع. ولكن هذا المزاج الفرح كان أحيانا - كما هو الشأن فيه - يحمله على الاعتزال والاعتكاف، ولكن أوقات نشاطه وإلهامه كانت تنحصر في أيام الفرح والاجتماع. •••
من علامات النضج في الإنسان أن يميز بين المعارف والحقائق؛ إذ ليس كل ما نعرف حقيقيا، وأن يجمع معارفه واختباراته في فلسفة أو دين؛ أي يستخرج العبرة البشرية والسلوك الأمثل مما عرف واختبر. وأن يعتاد استخراج الكليات من الجزئيات بحيث لا يشتغل بالشجرة قدر ما يشتغل بالغابة. وأن يحس حركة التاريخ في كل يوم من أيامه. وأن يكون على إحساس واتصال بالدنيا، هذه الدنيا، وهذا الكون. وأن يكون قد وصل بما لديه من حقائق وبما تربى عليه من تفكير في الكليات إلى تفاؤل بمستقبل البشر، فالرجل الناضج هو الرجل المتفائل، وتفاؤله يحمله على كفاح ما لمصلحة البشر. والرجل الناضج متدين، يحترم الحياة، وكي نحترم الحياة يجب أن نعمل لرقيها وتطورها إلى أعلى، ومقياس العلو في التطور هو مقياس بشري على كل حال. وقد كان جيته يجمع كل هذه الصفات التي يتكون منها الرجل الناضج. •••
ومن علامات النضج في الإنسان أن يرتفع من همومه الشخصية إلى الاهتمامات العالمية.
ومن علامات النضج في الأديب أن يرفع الأدب من آراء وإحساسات تكتب إلى ممارسة في الحياة، ففن الكتابة عنده يستحيل عندئذ إلى بعض الفن في حياته هو. ومن علامات النضج أيضا أن يتعرف الأديب إلى قوات الخير البازغة فيؤديها وينضم إليها ويكون من جنودها أو قوادها.
وقد حقق جيته كل هذه الأنواع الثلاثة من النضج، فإن اهتمامه بالعالم طغى على كل اهتمام شخصي آخر: نظرية التطور، قناة السويس، اتحاد أوروبا، الديانات الشرقية.
وحقق الفن والحب في حياته، فإن كلمة الحب لم تكن من كلمات القصص التي كان يؤلفها وإنما كانت عاطفته الغالبة التي كان يمارسها. وقد عاش في أيام الانتقال من حكم النبلاء والنظم الإقطاعية إلى حكم الصيارفة والصناعيين والتجاريين، هذا الحكم الذي عمم الديمقراطية والحرية فانضم إلى هذه القوة الجديدة ودعا إلى تأييدها، بل إننا نستطيع أن نجد هذا الاتجاه في قصته «فاوست»، بل لعل هذا الاتجاه هو التفسير الحقيقي لهذه القصة.
وهناك بالطبع من يسأل عن مذهب جيته في الحياة والأدب والحضارة، ولكننا نحن الذين أحببنا جيته لا نكسب منه معارف؛ لأن معارفنا أكبر جدا من معارفه، كما هي أكبر من معارف أرسطو طاليس أو أفلاطون، وإنما نحن نكسب منه منهج الحياة الذي اتبعه، وهو منهج التعلم والاختبار والاستمتاع.
نكسب منه الحياة الفنية، أو كما كان يقول حرية الروح: «إن أي إنسان عرف وفهم مؤلفاتي وشخصيتي حق الفهم يضطر إلى الاعتراف بأني قد حققت لنفسي حرية الروح.» •••
كيف كان يعيش جيته؟ وكيف كان ينظر إلى نفسه؟ أي ما مقدار وجدانه بشخصيته؟
كان جيته يخشى الشتاء؛ لأن النهار يقصر والليل يطول، وكان يتعب من القراءة في ضوء الشموع، وكان هو الذي يقص بنفسه فتيلة الشمعة، وكانت آخر كلمة نطق بها قبل الوفاة: «النور»؛ لأن النور كان عنده وسيلة التثقيف والتفكير، والحياة الحيوية، ولذلك كان يحب الصيف ويكره الشتاء.
وكان يعيش نهاره كله، فلا ينام؛ أي لا يقيل، وكان يفطر في الساعة الحادية عشرة بفنجان من اللبن والشكولاتة، ثم يتغذى في الساعة الثانية، ثم يتنزه، ثم يكون العشاء، فالقراءة والدراسة.
ولما بلغ الثمانين كتب في يومياته: هل بلغت الثمانين؟ وهل يجب علي لذلك ألا أتغير، بل أعمل كل يوم مثل اليوم السابق؟ إني أحس كأني أختلف عن سائر الناس، وأبذل مجهودا أكبر منهم كي أفكر كل يوم في شيء جديد، حتى أتجنب السأم، أجل! يجب أن نتغير على الدوام وأن نجدد شبابنا على الدوام، وإلا تعفنا.»
ومن أقواله في شيخوخته أيضا: «إني أمتاز بالخط الحسن في شيخوختي؛ لأني أجد في ذهني أفكارا، لو أني شئت أن أواليها حتى تنكشف لاحتجت إلى أن أعيش حياتي مرة أخرى.»
وكان يكتب يومياته، وكأنه يحاسب نفسه على درجات رقيه وبناء شخصيته يوما بعد يوم.
وكانت حياته خصبة بالحب، ولم يكن يعرف النسك أو التقشف، ولم تكن فترات اعتكافه عن رغبة في النسك، وإنما هي بعض المزاج العام في الفرحين، وكأنها ادخار للقوة للانتفاع بها أيام السرور.
وكانت اختباراته كثيرة واستمتاعاته الإحساسية شاملة، كما كانت ثقافته موسوعية لم يحصر ذهنه في تخصص. فقد أحس الحب الحناني وهو في التاسعة عشرة فألف قصة «آلام فرتر» ثم جحدها؛ لأنها تحفل بالحنان واليأس والضعف، وكان يقول إنه يخجل منها عندما أينعت شخصيته وأخذ وجدانه وتعقله مكان إحساسه وعاطفته. •••
بدأ جيته حياته الذهنية بتعلم القانون وتأليف قصة اليأس والموت في «آلام فرتر»، وانتهى في سني نضجه وإيناعه باتجاه إيجابي بنائي للحياة البشرية، فدعا إلى وحدة أوروبا. وألف قصيدة في مدح نابليون قال فيها: «إن الذي يقدر على كل شيء، يقدر أيضا على السلام.» ما أبدعه هنا! وكان يفكر في قناة السويس وقناة بناما، ويشتهي أن يعيش خمسين سنة أخرى كي يراهما محفورتين مسلوكتين؛ ذلك أنه اتجه الوجهة العالمية فأصبح يقول، كما كان يقول شيلر: «وطني هو العالم»؛ ولذلك صار يهتم بهندسة هذا العالم وتنظيمه كما لو كان مملكته الخاصة. •••
جيته هو واحد من أولئك الذين تعلمت منهم، ولم أتعلم فنا أو أدبا أو علما، وإنما هو منهج الحياة التي عاشها جيته كان ينبهني من وقت لآخر كي أعيش على مستواه.
ولست أجد في جميع مؤلفات جيته من الشعر أو القصص شيئا عظيما سوى القليل من اللآلئ، وهو من حيث الشعر يدمن ذلك الطراز الذي يذكر له البيت الذي يتوهج بالحكمة، ولا تذكر له القصيدة التي تعالج موضوعا؛ ولذلك نحن لا ندهش ولا نتعلم كثيرا حين نقرأ مؤلفاته، ولكننا نتعلم وننتبه ونحس كأننا كنا نياما ثم استيقظنا حين نقرأ حياته.
هو منهج الحياة الذي يعيد إلينا ذكر «دافنشي» الرسام المثال الجيولوجي المهندس الفيلسوف الأديب الرياضي العاشق، الذي تعددت اهتماماته لا لأنه تعمد هذا التعدد؛ وإنما لأنه نظر إلى الطبيعة النظرة الموضوعية الموسوعية التي تثير الاستطلاع وتهيئ المشكلات الثقافية التي يشتغل بها الذهن.
وكان جيته مثل دافنشي ينظر إلى الطبيعة، بل إلى الفنون، هذا النظر الموضوعي، ومن هنا زاد استطلاعه وتعددت اهتماماته، وأصبحت ثقافته موسوعية. والحق أن الأدب لم يكن عند جيته فنيا، وإنما كان الفن الذي اهتم به هو فن الحياة، ثم كان الأدب جزءا من فن الحياة. •••
نتعلم من جيته أن غاية الحياة هي الحياة، أي ترقية الشخصية بتربيتنا، وبسط الآفاق أمامنا للتعلم والاختبار حتى نزداد فهما لأنفسنا وللطبيعة، فنزداد بذلك استمتاعا.
ونتعلم منه أننا يجب أن نؤلف شخصيتنا قبل أن نؤلف أي شيء آخر ليس هناك ما هو أهم منها عندنا؛ وذلك بأن نطلب الاختبارات، ولو كان الخطر فيها.
ونتعلم منه أن التخصص ضرر، وأن الآفاق للثقافة لا حد لها، فيجب أن ندرس الأدب كما ندرس الكيمياء والقنبلة الذرية، بل كما ندرس جنون الشيزوفرانيا وقوانين الوراثة، ونتعلم منه أننا يجب أن نشتري الاختبارات إذا لم تصادفنا، فنقرأ ونسيح ونحب ونمارس السياسة ونختلط بالمجتمع ونشتغل بترقيته.
ونتعلم منه أننا - حتى في الشيخوخة - يجب أن نستبقي شباب الذهن والعاطفة، ولن يكون هذا إلا بهيئة سابقة.
وأخيرا نتعلم منه أننا أبناء هذا الوطن الكبير: العالم. •••
قلنا إننا لا نكسب من جيته معارف ، وإنما ننتفع به من حيث أسلوب حياته: حياة فلسفية تتغذى بالثقافة وتهدف إلى تربية الشخصية بالنمو الذي يستحيل إلى نضج.
ولكننا مع ذلك نجد أن لجيته عبرته ودلالته في الموقف الثقافي الأوروبي بين عامي 1800 و 1829.
ذلك أن المذهب الانفصالي كان لا يزال قائما بين النفس والجسم أو العقل والمادة، وداعية هذا المذهب الثنوي هو أفلاطون الذي فصل بين الفكرة والمادة. وقد أيدت العقائد الدينية هذا الانفصال. ولكن جيته رأى غير ذلك، بل ربما كان هو أول أديب دعا إلى الوحدة الوجودية في أوروبا؛ أي إن الجماد والنبات والحيوان والإنسان والمادة والعقل كلهم شيء واحد، وأن الإنسان ليس مخلوقا منفصلا، وإنما هو تعبير خاص للطبيعة العامة التي في الجماد والحيوان والنبات، وأن الحقيقة الأولى في هذا العالم هي التغير والاستحالة، فالطبيعة دائبة في التغير والتشكل بأشكال مختلفة، وأن الفكر البشري قد نبع من الطينة التي نبضت بالحياة الأولى.
وقد قال ذات مرة إن أعظم ما يصبوا إليه أن يهتدي إلى قانون شامل عام تنتظم به التغيرات والاستحالات في الجماد والنبات والحيوان والإنسان.
ولو كان جيته يعيش في عصرنا لعبر عن هذه الشهوة بأنه ينشد التفسير الذري للجماد والحياة والفكر البشري والماء السائل.
وهذا هو ما ننشده جميعا ونوشك أن نهتدي إليه.
داروين
عار العائلة «أنت لا تعنى إلا بصيد الكلاب، واقتناص الجرذان، وسوف تكون عارا على نفسك وعلى عائلتك.»
هذه هي الكلمات التي تلقاها داروين من أبيه في وقت كان يلوح لأي إنسان يتأمل داروين أنها صحيحة، وأن هذا الشاب قد خاب الخيبة التامة. فقد تسكع في دراسات مختلفة، ولكنه لم يستقر على واحدة منها، فقد التحق بكلية الدين ثم تركها، والتحق بكلية الطب ثم تركها، وفي غضون ذلك كان يلعب، أو على الأقل كان يبدو كأنه يلعب، يخرج إلى الحقول ويجمع النبات ويصيد الحشرات ويقارن بين الأحياء، ويفكر تفكيرا سريا كأنه يتآمر على الكون كله، كي يغيره أو يغير البصيرة البشرية فيه.
والآن بعد أكثر من مائة سنة من هذه الكلمات القاسية التي قالها أبوه عنه لا يعد داروين عارا على عائلته، بل هو فخر أمته يتباهى به التاريخ الإنجليزي. وبعد نحو خمسين سنة من هذا التوبيخ الأبوي تأمل داروين حياته الماضية، ومبلغ ما أتمه من الخدمة في التوجيه الذهني للعالم فقال: «أظن أن أبي قد قسا علي بعض القسوة.»
ومات داروين في عام 1882 بعد كفاح ثقافي طويل، ونحن الآن بعد وفاته بأكثر من نصف قرن، نستطيع أن نقول إنه أكسبنا فهما جديدا للطبيعة والكون والإنسان، وزودنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل، فإن كتابه «أصل الأنواع» الذي أخرجه في عام 1859 حمل إلى القراء شيئين؛ أولهما: معارف تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعها ترجع إلى أصل واحد أو أصول قليلة. وثانيهما: منهج للدراسة هو أن الاستقرار لا يعرف في الطبيعة، وأن الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.
ونحن الآن لا نبالي الحقائق أو المعارف التي شرحها داروين؛ لأننا نعرف أكثر منها، ولكننا قد اتجهنا الوجهة التي عينها لنا. ونحن هنا بهذه المثابة نفسها نحو أرسطوطاليس، فإننا نعرف أكثر منه من حيث الكم في المعارف، ولكنه أكسبنا المنهج، فنحن نفكر في التطور الدارويني ونفكر متطورين، وقد أصبح التطور حقيقة علمية نقيمها بالمليمتر والمليجرام في الحيوان والنبات، كما أصبح أيضا مذهبا دينيا، أو مبدأ أخلاقيا عند المثقفين، وانفسح به التاريخ البشري آفاقا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين خلف البشر وبعد البشر.
لقد قيل إن جاليل (جاليليو) حط الإنسان من عليائه، حين أعلن أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها كوكب صغير يدور حول الشمس، بل الشمس أيضا نجم صغير لا يختلف عن ملايين النجوم التي نراها كل ليلة في المساء. ولكن داروين رفع الإنسان إلى هذه العلياء من جديد، وأثبت أنه لم يكن عاليا فسقط، وإنما هو كان ساقطا يعيش على حضيض الطبيعة، حيوانا كسائر الحيوانات والحشرات، ثم ارتفع. وبهذه الكرامة الجديدة انتقل من أسر القدر، وأحس أنه تاج التطور، وأن له الحق في تدبير هذا العالم ، وفي تعيين السلالات القادمة، بل ماذا نقول؟ في إيجاد البشرية الجديدة ...
ومع ذلك لا أعتقد أن داروين نفسه كان يقدر الطاقة الكامنة في نظريته. ولا ينقص هذا من عظمته، فإن تفكيرنا الشخصي يسير بقوات اجتماعية، لا نكاد نبصر بها أو نتعمق أصولها، ذلك أننا نفكر بحواجز من العواطف التي نكتسبها من المجتمع، بما يفرضه علينا من القيم والأوزان، وما يرسمه لنا من المطامع والآمال، والمجتمع يطالبنا باستجابات مختلفة تستحيل في كياننا النفسي إلى عادات عاطفية لا نستطيع الخروج منها، فنفكر في منهج خاص هو ثمرة هذا التوجيه الاجتماعي الذي لا نحسه؛ لأنه لا يرتفع إلى وجداننا وتعقلنا.
ولذلك نستطيع أن نقول إن نظرية داروين وجدت الحافز الأول على التفكير فيها من المجتمع الذي عاش فيه داروين؛ ذلك أن داروين قضى زهرة حياته إلى نضج الشباب وإيناع الكهولة فيما بين عامي 1820 و1860، وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسين، وكانت إنجلترا في تلك السنين ترغي وتزبد بالحركة الصناعية الجديدة، فالمصانع تحتشد بالعمال من الرجال والنساء والصبيان، والثروات تنمو، والمزاحمة على أقصاها وإنجيل النجاح يدرس بل يعبد، والسياسة تخدم الاقتصاد، وتضرب الأمم النائية وتؤسس الأسواق والمستعمرات.
وأصبحت إنجلترا سيدة البحار؛ لأنها احتاجت إلى أكبر أسطول يحمي مستعمراتها وأسواقها التي تباع فيها مصنوعاتها الفائضة. وعاش داروين في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لنكشير وغير لنكشير من الأقاليم الصناعية في إنجلترا. وفي تلك السنين أيضا قرأ كتابا أحبه وتعلق به؛ لأنه وجد فيه الاستجابة لنظرياته مما تكبد له من عواطف أحدثها الوسط الإنجليزي، هو كتاب القسيس «مالتوس» عن السكان. فإن القسيس كان من المحافظين الإنجليز الذين يكرهون العامة، ولا يرونهم سوى غوغاء، فلما انفرجت الثورة الفرنسية واستولى بها الشعب على السادة من الملوك والعظماء، ثم أعلن رجالها مبادئ الإخاء والمساواة والحرية، فكر مالتوس كثيرا بحافز من عواطفه، فأخرج كتابه عن السجن، وكان المعنى الذي قصده إليه أن هذه الآمال الفرنسية في الإخاء والحرية لن تتحقق؛ لأن الدنيا لا تكفي الناس الذين يتوالدون على تضاعفي 2 و4 و8 و16 إلخ في حين أن المحصولات لا تنتج إلا نظام حسابي 1 و2 و3 و4 و5 إلخ، فإذا عاش الناس بلا مرض أو لم تكفهم المحصولات، وإذن فالمرض والحرب والحرمان رحمة بالناس أو ضرورة لهم. وتأمل داروين هذا الكتاب الذي ألفه مالتوس عن المجتمع البشري فتساءل: لم لا ينطبق هذا الكلام على المجتمع الحيواني في الطبيعة؟ فإن الطعام لا يكفي جميع الأحياء التي تحيا أو تتكاثر بالألوف، فهي يجب أن يزاحم بعضها بعضا فتكون فيما بينها، أي تنازع البقاء، كما في لنكشير ومصانعها تماما.
وفي عام 1831 أنفذت الحكومة البريطانية سفينة «البيجل» كي تطوف حول العالم وتسبر الأعماق وتدرس الشواطئ، وتقيس الأبعاد. ولكن لماذا عمدت الحكومة البريطانية وحدها دون سائر الحكومات إلى الاهتمام بهذا الموضوع؟ ما هي العاطفة الحافزة إلى هذه العملية التي لم تفكر فيها ألمانيا أو روسيا أو إيطاليا؟
العاطفة الحافزة اجتماعية أيضا، وذلك أن الحكومة البريطانية في تلك السنين كانت تخدم الصناعات البريطانية؛ لأن السياسة على الدوام تسير خلف الاقتصاد. وكانت أسواق العالم وقفا على المصنوعات الإنجليزية؛ لأن الحركة الصناعية الإنجليزية سبقت الحركات الأخرى في جميع الأمم، فمن هنا كان الاهتمام بالبحار والملاحة والأقطار النائية، ومن هنا أيضا كانت الفرصة لداروين في أن يلتحق بالسفينة «بيجل» كي يدرس الحيوان والنبات.
ولم يكن داروين جديدا في هذا البحث عن أصل الأنواع، فإن لا مارك الفرنسي سبقه إليه، وهو صاحب القول بأن عنق الزرافة قد طال؛ لأنها بالمرانة التي ورثت جيلا بعد جيل قد اشرأبت وسعت للوصول إلى الغصون العليا في الأشجار، فكأن ما يكسبه الحيوان بجهده من صفات يورث جيلا بعد جيل. بل إن جد داروين قد بحث هذا الموضوع، فكانت النظرية «في الهواء» تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها. بل كانت أكثر من ذلك، فإن جيته الأديب الألماني كان يشتغل بها ويسأل عنها، وكان يتابع النقاش الحامي بين كوفييه الذي كان يقول بثبات الأحياء، وبين سانت هيلير الذي كان يقول بتحولها.
كان داروين شابا في الثالثة والعشرين حين شرع في رحلته على البيجل، فلما وصل إلى أمريكا الجنوبية، وجد حيوانها ونباتها يختلفان عما هما في القارات القديمة، ثم لما وصل إلى الجزر المنعزلة غرب أمريكا الجنوبية وجد أن انعزال الجزيرة يؤدي إلى انعزال الحيوان، فتكون له أشكاله التي ينفرد بها من الأشكال العامة على القارات.
وإلى هنا يكاد يتوهم القارئ أنه ليس هناك أي فضل لداروين لتعليل النظرية، فقد سبقه إليها جده كما سبقه إليها لا مارك الفرنسي. ثم هناك الظروف الأخرى: مالتوس وقلة الإنتاج الغذائي إزاء تضاعف السكان، ثم تنازع البقاء وبقاء الأصلح وفناء الضعيف في المزاحمة العنيفة في لانكشير حيث الحركة الصناعية في عنفوانها.
ولكن لا؛ لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها حين تشمل المعيشة والاتجاه أو العادات والعواطف، هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا نغفل الشخصية؛ إذ لو لم يكن داروين ذكيا لما فكر في هذا الموضوع الخطير ولما حمله هدفه في الحياة.
لقد قال داروين عن نفسه: «إن الحقائق تضطرني إلى الاعتراف بأن عقلي لم يخلق للتفكير.» ولكن داروين ظلم نفسه في تواضعه بهذه الكلمات، لأن الحقيقة أنه لم يعرف نفسه؛ إذ إن الواقع أنه لا يقول هذه الكلمات إلا رجل مفكر قد أسرف في التفكير وعني العناية الكبرى بغربلة الحقائق من المعارف، وعرف الصعوبة الكبرى في هذا الجهد، ولو أنه لم يكن يجهد لما قال هذه الكلمات؛ إذ إنها ما كانت لتخطر في باله.
الحقيقة الواضحة من حياة داروين أنه احترف التفكير، وأنه كان مريضا أو متمرضا، في نفسه حزازة قديمة هي جرح الكرامة، هذا الجرح الذي أحدثه أبوه وعيره به كما نرى مثلا من وصف أبيه له بأنه سوف يكون عارا لعائلته. فقد كان لا ينام في الليل إلا بعد أرق الساعات، وكان في هذه الساعات يفكر ويؤلف، فإذا جاء إليها كتب كلماته القليلة، ثم يبقى سائر نهاره مريضا. ومرضه هو هذا المرض النفسي الذي يخترعه النيوروزي ويعيش به ويستقر عليه كأنه يقول: طلبتم مني النجاح والتفوق وكيف أستطيع هذا وأنا مريض؟
مرض يصون الكرامة المجروحة (أنت عار لعائلتك) وفي الوقت نفسه يهيئ الفرصة للتفكير في حضانة ليلية يسميها الأصحاء أرقا. ولو أن داروين نجح وصار قسيسا أو طبيبا كما كان يشتهي أبوه لكسب العالم قسيسا أو طبيبا يمارس حرفته ويكسب منها، ولكن العالم كان يخسر عندئذ هذه العبقرية المرضية التي زعزعت الثقافة العالمية من أساسها، بل زلزلتها وعينت أهدافا جديدة للإنسان، وأكسبته بصيرة جديدة لرؤية الماضي ورؤيا المستقبل.
لقد بقي داروين نحو ثلاثين سنة وهو يفكر في التطور، ولكنه لا يخرج كتابا عنه ولا يكتب مقالا، ثم حدث حادث أزعجه فانتفض منه، هو أن «وولاس» كان في بعض الجزر التي تقع في الجنوب الشرقي من آسيا يجمع الأزهار والحشرات ويحنطها ويبعث بها إلى الجمعيات العلمية، وكان مشغولا بالموضوع نفسه؛ أي التطور، وكان يعرف أن داروين مشغول به أيضا، فأرسل إليه رسالة علمية يشرح فيها رأيه في هذا الموضوع، وصعق داروين إذ وجد أن وولاس قد سبقه إلى تعليل التطور بأن الطعام قليل في الطبيعة، وأن التوالد كثير بين أنواع الحيوان والنبات، فلا بد أن يكون هناك تزاحم؛ أي مسابقة من أجل الطعام، وفي هذا التزاحم أو المسابقة لا يبقى غير الأقوى الأصلح للبقاء حين يموت العاجز الضعيف وينقرض.
وسارع داروين إلى إبلاغ الهيئات العلمية في إنجلترا عن رسالة وولاس، وشرع هو أيضا يؤلف كتابه «أصل الأنواع». ونستطيع أن نتخيل داروين في حزنه ونزاهته معا، ولكن وولاس بعد ذلك بسنين اعترف بأن العالم كسب ولم يخسر بتزعم داروين لهذه النظرية؛ لأنه كان أوفى منه معرفة وأنصع بيانا وأدق منطقا. وأخرج داروين كتابه «أصل الأنواع» في عام 1859 فتغيرت الرؤية والرؤيا البشريتان.
وكثير من النظريات التي غيرت التفكير البشري تبدو غاية في السهولة والبساطة، حتى ليتساءل الناس: كيف جهل السالفون هذه النظرية على وضوحها؟ فإن داروين يتحدث عن الحمام والكلاب وغيرهما مما يربيه الناس، وكيف استطاعوا أن يخلقوا العشرات والمئات من السلالات الجديدة، وما استطاعه الإنسان في مئات السنين القليلة فقد استطاعته، وأكثر منه، الطبيعة في ملايين السنين الماضية، حتى أخرجت الأنواع فضلا عن السلالات. فهناك، في الغابات والبحار والسهول، إنتاج محدود من الطعام، ولكن هناك توالدا يتضاعف بين الحيوان والنبات، ولا يمكن أن يكفي الطعام هذه الملايين بل ملايين الملايين من النبات والحيوان، فلا بد إذن من أن تتنازع الأفراد لأجل البقاء؛ أي لأجل الحصول على الطعام. وقد يكون السبب للتفوق في هذا التنازع ثم البقاء خفيا هو كما في النفس الأخير، في الثواني القليلة، في صراع يدوم الساعات، أو في القدرة على الجوع أو العطش، أو في طرق الحماية للنسل، أو في القدرة على التطفل، أو في الجراءة والبطش.
وما دام كل فرد يولد مختلفا عن الآخر في الحيوان والنبات، فإن هذا الاختلاف ينطوي بلا شك على ميزة أو عجز، فهو يساعد في الحال الأولى على البقاء والانتصار في معركة الحياة، وهو يهيئ الهزيمة في الحال الثانية، ولا نعرف الأسباب لهذا الاختلاف، ولكننا نشاهده ونسلم به، ولذلك لا بد أن يستمر التغير جيلا بعد جيل، فإذا تراكمت التغيرات أحدثت السلالات الجديدة، وإذا زاد الاختلاف بين السلالات ظهرت الأنواع الجديدة.
وعلى هذا يجب أن نسلم بأن الأحياء، نباتا وحيوانا، ليست الآن كما كانت قبل مليون أو مائة مليون سنة؛ لأن التغير والتطور هما طبيعتها. ونستطيع أن نستنتج أنه ما دام لنا تاريخ ماض في التطور فسوف يكون لنا تاريخ قادم أيضا تتغير فيه الأحياء.
وهذه هي الدلالة الخطيرة التي انتهى إليها قراء داروين، وهي أن الحياة في بوتقة لم تتجمد قط، وأن البوتقة لا تزال تصهر وتخرج عناصر مركباتها، وهذا هو التوجيه الجديد الذي سدد داروين عقولنا إليه ونحن في بداية هذا، هو التوجيه الذي يخشى كثير منا دلالته؛ لأنه يحمل في طياته مشروعات بشرية خطيرة، ولأنه يضع النظام المادي للإنسان والحيوان والنبات مكان النظام الغيبي.
لقد عالج داروين تطور الأحياء، وحاول تعليل التطور، ونجح إلى حد ما في هذا التعليل، ولكنه لم ينجح كل النجاح؛ وذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع؛ تنازع البقاء. وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
ونحن نعرف الآن كثيرا؛ أي أكثر مما كان يعرف داروين، ولكن لداروين فضل التوجيه وتعيين الخطط للبحث، وأنه زودنا برؤيا بشرية جديدة، وأطلق أذهاننا من أغلال العقيدة إلى حرية البحث والدرس، فقد نقلت نظرية التطور من الأحياء في الطبيعة إلى الناس في المجتمع، وصار من المألوف أن نجد دراسات منظمة عن الأخلاق والأديان وفق النظرية التطورية، ما كنا لنراها لولا داروين، وانبسطت للبشر آمال في المستقبل، وتغير معنى الارتقاء البشري؛ لأننا نقلنا هذا المعنى من وسط الإنسان إلى الإنسان نفسه، كما أصبح التطور فنا نمارسه في إيجاد سلالات جديدة من القطن أو القمح أو الفاكهة. وقد اجترأ هتلر وأعوانه على أن يفكروا في سلالات بشرية جديدة.
ويجب ألا يعمينا الاستغراض الديمقراطي عن هذا الابتكار النازي الذي دعا إليه هتلر، فإن نظرية التطور لا بد أن تخرج من التفكير إلى التطبيق ... بل هي كذلك الآن، ومنذ مئات السنين في حيواناتنا ونباتاتنا، ونقلها إلى النوع البشري لن يعدو وثبة كبيرة. •••
أراني بعد كتابة ما تقدم أني التفت إلى شخصية داروين وتحليلها أكثر مما التفت إلى تحليل نظريته ودلالتها؛ ولذلك أحتاج إلى الإشارة إلى التنقيحات التي طرأت على هذه النظرية، وأولها وآخرها هو الرجوع إلى لا مارك: «إن الصفات المكتسبة تورث.» وداروين نفسه لم ينكر هذه الوراثة ولكنه لم يبرزها كما أبرر «تنازع البقاء وبقاء الأصلح» ومع أن داروين التفت كثيرا إلى الدواجن، وكيف أن الإنسان استطاع أن يخرج مئات السلالات من الحمام والدجاج والكلاب والخيول، ومع أنه نقل هذا المنطق من الإنسان إلى الغابة، باعتبار أن تنازع البقاء يحيي ويبيد، ويقف من النبات والحيوان موقف الإنسان في اختيار الصفات التي تعمل لبقاء الأفراد، فإن الموقف البيولوجي ينكر هذه الأيام قيمة هذه المقارنة بين التنوع في الدواجن والتنوع في الأوابد؛ ذلك لأن المشاهدة تثبت أن التنوع في الطبيعة قليل جدا أو يكاد يكون معدوما، كما يثبت أن ما أحدثناه نحن البشر من التنوع في الدواجن إنما هو عن بعيد مصلحة هذه الدواجن، وهو أشبه بالمرض منه بالصحة وقد أحدثناه بحياة غير طبيعية لهذه الدواجن؛ ولذلك نحن ننزع هذه الأيام إلى «داروينية جديدة» تعتمد على أن عادات الآباء يرثها الأبناء حتى إذا تراكمت أوجدت العضو الذي يؤديها، كالجمل الذي عاش في الصحراء وكان يحتاج إلى أن يبرك على الحصا الذي يجرح جلده، فتضخم الجلد في أمكنة الملامسة وأصبحت هذه الخاصة وراثية، وكاللجاة (التي كانت مثل السلاحف على اليابسة) احتاجت إلى السمك طعاما فنزلت إلى البحر، وما زالت تمارس السباحة حتى استحالت يداها إلى زعنفتين ... إلخ. •••
ولا أعرف كاتبا تأثرت منه أكثر مما تأثرت من داروين، فإنه أعطاني القلب الذي أزن به أحيانا، وأحيانا أهدم به التقاليد، وجعل التطور مزاجا تفكيريا ونفسيا عندي، بل جعله عقيدتي البشرية التي تنأى عن الغيبيات. وقد أصبحت أقيس الأمم بمقدار تطورها، وأقيس آمالي الاجتماعية بمقدار ما أجد من قدرة على التطور؛ ذلك أن التطور في أساسه منطق علمي، ولكنه قد استحال عندي إلى عقيدة قلبية. وإذن يجب أن أعد داروين المعلم الأول الذي علمني.
فيسمان
المؤلف الذي أفسد ذهني
أفسد ذهني نحو أربعين سنة، بل لعله أفسد أخلاقي أيضا من حيث إنه غرس في نفسي فلسفة اجتماعية خاطئة، فجفت عندي ينابيع السخاء البشري، وتولدت عندي نظريات بشأن تنازع البقاء ما كنت لأومن بها لولا هذا المؤلف الألماني المدعو «فيسمان»؛ ذلك أني كنت في الأول من هذا القرن مشغول الذهن بنظرية داروين عن تنازع البقاء وبقاء الأصلح، وكانت هذه النظرية في ذلك الوقت هي عند جميع المفكرين علة التطور؛ فإن أوروبا المثقفة كانت قد سلمت بأن الأحياء تتغير وتتطور، وأنها تعود كلها إلى أصل واحد، ولكن كان هناك خلاف بشأن العلة أو السبب لهذا التطور.
وكان لا مارك قبل داروين، قد علل التطور بالعادات؛ أي إن الحي عندما يتغير وسطه الذي يعيش فيه، سواء أكان ذلك بتغيير المناخ أم الطعام أم الأعداء، هذا الحي يتعود عادات جديدة تلائم هذا الوسط الجديد، ويتغير بذلك جسمه بعض الشيء، ثم يأتي نسله فيرث شيئا من هذا التغير، ثم تتراكم التغيرات على مدى الأجيال المتعاقبة بالمئات والألوف فتظهر سلالات جديدة تختلف من أسلافها، ثم تتراكم هذه التغيرات في هذه السلالات حتى تفصل ما بينها وبين الأسلاف، وتعود السلالات القريبة أنواعا مستقلة منفصلة.
هذا ما كان يعلل به لا مارك التغيرات التي تؤدي إلى التطور، وقد سلم داروين - إلى حد ما - بهذا التعليل، ولكنه لم يقصر التغيرات التطورية عليه، بل اعتمد على ما سماه «تنازع البقاء». والقارئ لمؤلفاته يفهم أن التغييرات تحدث لأسباب نجهلها، ولكنها تورث، فإذا كانت الصفة المورثة حسنة فإنها تؤدي إلى انتصار الفرد المتصف بها من الحيوان أو النبات في تنازع البقاء؛ أي في مباراته لغيره من نوعه أو الأنواع الأخرى. ولكن مع كل ما قاله داروين هنا يجب أن نذكر أنه قال إن تأثير الوسط في الحي لم يدرس الدراسة الكافية، وبذلك ترك الباب مفتوحا للشك والبحث شأن الباحث العلمي المنصف.
وفيما بين سنة 1900 وسنة 1910 كان النقاش يدور حول الصفات المكتسبة؛ أي العادات، أتورث أم لا تورث؟ ولزيادة الإيضاح نقول: هل طال عنق الزرافة؛ لأنها تعودت مد هذا العنق إلى الغصون العليا من الأشجار أو الأعشاب السفلى على الأرض، ثم أورثت ذريتها هذه العادة حتى طالت أعناقها؟ أم أن هناك سببا أو أسبابا أخرى لهذا الطول؟ والمعقول الذي يسلم به المفكر لأول وهلة أنه لا يمكن أن يكون هناك سبب آخر لهذا التغير والتطور سوى الذي كانت تعيش فيه الزرافة؛ أي إنه إذا لم يتغير الوسط، ويؤدي تغيره إلى أن يغير الحي عاداته، فلن يكون هناك سبب ما للتغير والتطور. ومعنى هذا أن لا مارك كان مصيبا كل الإصابة في تعليله للتطور بالعادات التي يتعودها الفرد.
هذا هو المعقول، ولكن إذا لم يتفق المعقول مع الواقع، وجب أن نسلم بالواقع ونرضى بالنزول عن هذا المعقول؛ لأن ما عقلناه ربما قد خفيت عنا فيه أشياء. ووقع في يدي حوالي سنة 1909 كتاب يدعى «الجرثومة المنوية» للمؤلف الألماني فيسمان، وكان هذا المؤلف علمي الذهن، لا يسأل ما هو المعقول؟ وإنما يبحث عن الواقع الذي تثبته المشاهدة والتجربة، وقد وجد بالمشاهدة المكروسكوبية أن الجراثيم المنوية؛ أي التناسلية في الحيوان، مستقلة تمام الاستقلال عن الخلايا الجسمية، وهي تسكن في أجسامنا وتتغذى من دمائنا، ولكنها لا تتأثر بحياتنا أقل التأثر ونحن نتسلم هذه الجرثومة من آبائنا ونسلمها لأبنائنا، وهؤلاء يسلمونها للأحفاد دون أن تتأثر بالأجسام التي التصقت بها وعاشت عليها.
وقد وصل فيسمان إلى هذه النتيجة بالمشاهدة، فإن الجنين في أولى ساعات تكوينه يتألف من خليتين: إحداهما خلية تناسلية، والأخرى خلية جسمية، والأولى تبقى راكدة لا تنمو إلا عند المراهقة، حين تنشط وتتكاثر، أما الثانية فتتكاثر منذ الساعات الأولى لتكون الجنين، وهي التي يبنى منها الإنسان أو الحيوان أو النبات.
وإذا فمهنا تغير الوسط من البرد إلى الحر، أو من السهل إلى الجبل، أو من الرطوبة إلى الجفاف، ومهما تغير الغذاء من النبات إلى الحيوان أو العكس، ومهما تغيرت حركات الجسم بالعمل والكفاح، ومهما تغير نشاط العقل بالدراسة أو عدمها، ومهما تغيرت عاداتنا السلوكية، فإن الجراثيم المنوية التي تسلمناها من جدودنا وأسلافنا سنسلمها لأبنائنا وأحفادنا كما هي دون أن تتأثر بما تأثرت به أجسامنا نحن؛ ولذلك ليس في ترقية الوسط أية ترقية للإنسان، لأن التفاوت في الكفايات لا يعود إلى تفاوت في الوسط، وإنما إلى تفاوت في الوراثة، هذه الوراثة التي لا نعرف في زعم فيسمان كيف تؤثر فيها أو تغيرها. وقد كافح هربرت سبنسر هذا القول، وكانت عباراته: «إذا لم يكن الوسط سببا لتغير الأنواع فلا أعرف سببا آخر للتطور.» ومع أن هذه الكلمات ينادي بل يصيح بها المنطق والتفكير السليم فإني لم أستطع إلا التسليم بما قاله فيسمان؛ لأنه قائم على المشاهدة التي هي بينة العلم. ثم عرفت بعد ذلك تجارب الراهب «مندل» التي كان قد أجراها في القرن الماضي في اللوبيا أو الفاصوليا وبعض الحبوب الأخرى، «وأثبت» أن الوراثة صارمة، وأنها تجري على أرقام معينة كأنها لا تتأثر بالوسط بتاتا، وانتهيت أنا إلى الإيمان بهذه الوراثة الجامدة، وبأن الوسط لا قيمة له أصلا في تغير السلالات وتطورها؛ ذلك لأني اعتمدت على ما كان يقوله الثقات، ولست أنا ثقة مجربا في هذه العلوم، فيجب أن أقبل ما يقوله المجربون. ولكن بقي التطور عندي بلا تعليل؛ لأني أخرجت منه تأثير الوسط.
لا، بقي شيء واحد هو تنازع البقاء؛ أي يجب أن نسلم بأن الأفراد من الحيوان والنبات والإنسان تتفاوت في الكفايات، ونحن - مع أننا نجهل المصدر لهذا التفاوت - مضطرون إلى التسليم به؛ إذ هو واقع يشاهد، وإن كان هذا التسليم يشبه التسليم بالغيبيات التي لا تعلل، أو بالقدر الذي لا يحتسب.
وكان لهذه العقيدة مركبات نفسية عندي تتلوها مركبات اجتماعية؛ ذلك أن تنازع البقاء في الطبيعة يجب أن يكون له صداه في مجتمعنا، كأن نقتل العاجز العليل أو نتركه يموت دون أن نعمل على شفائه، فهؤلاء العاجزون عن التفوق يستحقون تخلفهم، وليس من الواجب علينا أن نساعدهم على أن يرتقوا؛ لأنهم إنما ولدوا وارثين لهذا العجز الذي يصلحه الوسط، ثم لماذا يبقى هؤلاء الزنوج أحياء ما دامت هناك شعوب أرقى منهم؟ وما دام إصلاحهم بإصلاح الوسط غير ممكن لأنه غير علمي؟ فزوالهم إذن خير من بقائهم، وفي هذا القول بالوراثة تعليل علمي، وتسويغ اجتماعي للاستعمار والاستغلال؛ لأن الأقوياء بالوراثة هم الذين يستعمرون ويستغلون الضعفاء بالوراثة، وقد التهمت نيتشه التهاما؛ لأنه كان يدعو إلى إبادة الضعفاء، ومضت علي سنوات كنت أحس عندما أرى إنسانا يتصدق على سائل بقرش أنه جنى على المجتمع وأفسد الأجيال القادمة؛ لأنه بهذا الإحسان قد استبقى الضعف واستولده.
ولكن يجب أن أعترف أني لم أسلم كل التسليم بأن الطبيعة كافرة إلى هذا الحد، ولكني كنت أقف مترددا، أكاد أحبس نفسي عن السخاء والحنان والرقة العطف، وكنت أظن أني بذلك قد أصبحت «علميا»؛ وذلك أني كنت على الدوام أهجس بالهاجس الفلسفي المنطقي، وهو أنه ليس هناك سبب لتغير الحيوان أو النبات سوى تغير الوسط؛ أي إن عادات الفرد في حياته، وصفاته التي اكتسبها من هذه العادات، ترثها أعقابه ثم تتراكم وتتبلور حتى تصير صفات جسمية أو غريزة جديدة.
وأخيرا التفت إلى الهورمونات الجنسية، تلك المركبات التي تفرزها الخصيتان في الرجل والمبيضان في المرأة، وتؤثر في قوام الجسم وشكله بحيث يتغير شكل الجسم حين نقطعها (كما نرى في الخصيتان)، فرأيت أنه ليس من المعقول أن تؤثر الجراثيم المنوية في أجسامنا دون أن تتأثر هي بأجسامنا.
وقرأت بعد ذلك كتابا للأستاذ «وود جونس» عنوانه «العادة والوراثة» أوضح فيه أن العادات التي يتعودها الحيوان بل الإنسان تنتهي إلى أن تكون وراثية، وقد ذكر حقيقة كبيرة القيمة جدا تنقض ما قاله فيسمان من أن خلايا الجسم تنفصل من خلايا الجرثومة المنوية، وهي أن الرحم قد نزعت من بعض الفئران والأرانب فعادت إلى النمو، بل ذكر أن مثل هذا قد حدث لبعض النسوة اللاتي نزعت أرحامهن، وبذلك أثبت أن نزع الجرثومة المنوية من جسم الفأر والأرنب والمرأة، وهي الجرثومة التي ينمو فيها الرحم هذا النزع والمحو لا يمنعان الجسم من إنماء جرثومة أخرى، وإذا كان الأمر كذلك فإن تأثر الجراثيم المنوية في الذكر والأنثى بخلايا الجسم لا يترك مجالا للشك، ومن هنا يجب أن نسلم بأن الصفات المكتسبة؛ أي العادات التي يتعودها الجسم، تتأثر بها الجراثيم المنوية فتعود هذه العادات وراثية، وقد ذكر فيسمان أنه قطع أذناب الفئران لعدة أجيال فلم يستطع إيجاد سلالة من الفئران خالية من الأذناب، ثم ضرب مثلا بالختان عند اليهود فقال: إنهم على الرغم من ممارسة هذه العادة أكثر من ثلاثة آلاف سنة لا يزال أطفالهم يولدون وهم غلف لم يتأثروا بالختان.
ولكن هذين المثلين لا يدلان على أن فيسمان كان بصيرا بمعنى التطور، فإن قطع أذناب الفئران وختان اليهود لا يزيد في دلالته على ما نفعل نحن عندما نقص شعور رءوسنا؛ إذ ليست هذه الأعمال عادات.
ذلك أن معنى العادة أكبر من هذه الأمثلة، فالحيوان يتعود العادة لأنها تنفعه، فهو يجد أولا متكلفا جاهدا حتى تسهل عليه بالمرانة، ثم تصير المرانة عادة يؤديها وهو لا يكاد يلتفت إليها، كعازف الكمان، يبدأ متعلما متعثرا متكلفا ثم ينتهي بالمرانة إلى أن يعزف وهو يتحدث إليك لا يلتفت إلى الأوتار.
وهكذا الشأن في الزرافة، حين كانت قصيرة العنق تمده إلى الأغصان فتشد عضلاته؛ أي تمطها، ثم تكرر هذا بالمرانة حتى صارت العضلات تطول بالوراثة. وهذا هو الشأن في ثفنات الجمل؛ أي تلك الأجزاء المتجلدة الخشنة التي تلاصق الرمل عندما يبرك، فإننا نعرف أن أقدامنا تتجلد وتخشن عندما نمشي على سطح خشن، أو عندما يضيق علينا الحذاء، والإخشيشان في ثفنة الجمل هو عادة نشأت من مقاومة الجسم للرمل الخشن، ثم صارت بعد ذلك وراثية، بل هذا هو الشأن في عنق الجمل الذي يمده كي يصل إلى أعشاب الأرض، فالزرافة والجمل احتاج كلاهما إلى خواص مكتسبة، صارت بعد ذلك موروثة؛ لأنها نافعة، أما قطع ذنب الفأر، وختان اليهود، وقص شعورنا، فليس منها أية منفعة لنا ولسنا نجهد في تعودها؛ ولذلك ليس هناك ما يدعو إلى أن تكون وراثية. •••
ثم عدت إلى قواعد مندل في الوراثة فوجدت أنها ليست محكمة؛ أي ليست علمية، حتى أصبح المندليون أنفسهم يقولون إن هناك شذوذا في بعض الصفات المورثة. وهذا كلام لا يستطيع الذهن العلمي أن يسيغه؛ لأن القاعدة العلمية لا تتسع لأقل الشذوذ. ثم انظر إلى النبات الذي استغله الإنسان لغذائه كالقمح مثلا، فإنه إنما نشأ في بقعة صغيرة في الأصل، ولكنه يزرع الآن في الأقاليم الثلجية التي تتاخم القطب الشمالي، وفي الأقاليم الحارة بأفريقيا وليس لهذا من سبب إلا أن القمح قد تعود مختلف الأقاليم التي زرعه الإنسان فيها، وأورث عاداته، أي صفاته المكتسبة، لسلالاته المختلفة. وهكذا الشأن في البقر الذي يعيش في السودان الحار، وفي نروج الباردة، مع أن الأسد لا يعيش إلا في أواسط أفريقيا لا يتجاوزها، ولو كان الأسد مدجنا كالبقر، ينقله الإنسان معه إلى مهاجره البعيدة، لكان قد تعود المناخ البارد وعاش في نروج كما يعيش الآن في أفريقيا. وحيوان اليابسة الذي نزل إلى البحار مثل: القيطس والفقمة والدولفين يبين بوضوح كيف أن الوسط قد غيره، وكيف أن سلائل هذا الحيوان قد ورثت التغير. بل إن هناك أمارات تدل على أن كفاح الحيوان للأمواج قد غير في وضعه التشريحي، مثال ذلك أننا عندما نسبح يكون همنا رفع الرأس حتى لا نختنق بالماء، وهذا الرفع يجعل العنق مشدودا من الأمام مثنيا إلى الخلف، فتندفع فقاره إلى الأمام في العنق، وهذا هو ما نراه الآن في الفقمة، فإن فقارها أقرب إلى نحرها منها إلى قفاها.
وقد كان «بوربانك» الأمريكي يطعم الأشجار بغصون من أشجار أخرى فكان يجد الفواكه التي تنشأ على هذه الغصون تكتسب صفات جديدة من الشجرة الظئر؛ أي الأم، ثم تورث سلائلها هذه الصفات، مع أن الغصن لم يأخذ من الشجرة سوى الغذاء، وهو بعض الوسط. وهذا الذي حققه بوربانك قد حققه أيضا «ليسنكو» على أبعاد كبيرة، الغصن يؤثر في الشجرة الظئر، والشجرة الظئر تؤثر في الغصن، وهذا الفهم الجديد بشأن الوراثة والوسط قد عاد فأحدث لي مركبات نفسية واجتماعية أخرى، وأكسبني فهما آخر للتطور، وهو أن داروين قد أخطأ خطأ فادحا عندما زعم أن «تنازع البقاء» هو كل شيء أو يكاد يكون كذلك، وإن كان فهمه لتنازع البقاء ليس ساذجا أو ليس محض القوة والعداوة كما يتوهم القارئ. وشرعت أبصر أن التعاون في الطبيعة أكبر أثرا من التنازع، بل لا يكاد يكون هناك تنازع في عالم الحيوان بالمعنى البشري الذي نفهمه من هذه الكلمة، فالأسد لا يقتل الأسد، والخروف لا يقتل الخروف، وقد يكون هناك صراع دموي بشأن الأنثى، ولكنه لا ينتهي بالموت في كل حال. ثم هو صراع قصير الأجل. أما الإنسان فيقتل الإنسان بالملايين، لا بمحض طبيعته ولكن باتجاه حضارته، أو بما نشأ عليه من عواطف اجتماعية، ونحن نخطئ خطأ كبيرا حين ننقل هذا المعنى المتوحش لتنازع البقاء من مجتمعنا إلى الحيوان في الغابة؛ لأن الطبيعة ليست كما قال «هكسلي» أو غيره وهو متأثر بداروين: «حمراء بين الناب والمخلب.»
وهذا الفهم الجديد للتطور يحملنا على الإكبار من شأن الوسط البشري وضرورة ترقيته حضاريا وثقافيا؛ لأن العادات التي يتعودها الإنسان بكفاحه لمصاعب الوسط سوف تنتقل كما لو كانت غرائز إلى الأجيال القادمة. وليس ما نسميه غرائز طبيعية سوى عادات تبلورت بتعاقب الأجيال.
والدلالة الأخلاقية لهذا النظر الجديد هي أننا إذا تركنا الناس أو بعض الفئات تعيش في عادات سيئة، فإننا سوف نرى السوء لا يقتصر على الجيل القائم، بل ينتقل إلى الأجيال القادمة بالوراثة، والوراثة في جمودها الذي اعتقده فيسمان تشبه القدر؛ لأننا نعجز عن تغييرها، والإيمان بها يدعو إلى التشاؤم وإلى اليأس من إصلاح الطبيعة البشرية بغير الوسائل الإنتاجية التي لا تتفق دواما وما نفهمه من العدالة والإنسانية. وقد كانت الوراثة هي المركب السيكلوجي السيئ الذي ختم على عقل «لومبروزو» وجعله يقول إن إصلاح المجرم غير ممكن؛ لأنه يرث النزعة الإجرامية. وإني عندما أقلب صفحات ذاكرتي أجد مركبات ذهنية كبيرة انتفعت بها، ولكن المركبات التي نشأت في ذهني من الإيمان بالوراثة قد أفسدت تفكيري نحو أربعين سنة، بل أفسدت أخلاقي وجعلتني أتشاءم كثيرا. أما إيماني بالوسط فقد أعاد إلي اتزاني الذهني والأخلاقي، وملأني تفاؤلا بمستقبل البشر. هذه هي قصة الكتاب الذي أفسد ذهني، ولكن المناخ الذهني في بداية هذا القرن كان يهيئ للإيمان بالوراثة ويؤيدها.
هنريك إبسن
داعية الشخصية
هنريك إبسن هو داعية الاستقلال الروحي للإنسان عامة وللمرأة خاصة، وقد ألف درامته «لعبة البيت» في دعوة المرأة الأوروبية إلى أن تستقل، وتنشد الآفاق، وتجرب التجارب، وتختبر الدنيا، وتربي نفسها، بدلا من أن تعيش خلف الرجل يكسب حولها ويحوطها برعايته ويدللها في البيت ويقصر حياتها على الزواج والأمومة.
والاتجاه القديم للمرأة ، سواء في الشرق أو في الغرب، كان ينظر إليها باعتبار أنها تابعة للرجل، وأنها خلقت للبيت، وفي أمم الشرق القديمة بولغ في هذا الاتجاه حتى انتهى إلى أن المرأة أنثى فقط تزود الرجل بلذاته الجنسية، وفي هذا قال شاعر عربي:
ما للنساء وللخطابة
والقراءة والكتابة
هذا لنا ولهن منا ... ... ... ...
ولم يكن العرب متفردين في هذا النظر فإن أوروبا على الرغم من المظاهر الخادعة كانت تنظر أيضا إلى المرأة هذه النظرة في القرون الوسطى. ولكن أوروبا كانت تمتاز بميزة كبرى، هي أنها لم تفصل قط بين الجنسين في المجتمع، ولم تعرف الحجاب إلا في أيام الإغريق، ومع ذلك لم يكن هذا الحجاب الإغريقي يغلق الأبواب إغلاقا محكما كما كانت الحال عندنا أيام القرون الوسطى، ولكن مظهر الحرية الأوروبية كان خلابا خادعا أكثر مما كان واقعيا حقيقيا إلى بداية القرن التاسع عشر، فإن كثيرا من الأمم الأوروبية كان يحرم المرأة الميراث، كما كان يحرمها التعلم في الجامعات؛ ولذلك بقيت محرومة من الاحتراف والاستقلال والكسب بممارسة الطب أو الهندسة أو سائر العلوم والفنون.
ولكن الضمير الأوروبي كان في بداية القرن التاسع عشر قد تنبه إلى وجدان جديد هو استقلال العقل البشري، وطرح التقاليد بفصل الدين من الدولة. كما أن الحركة الصناعية كانت قد جذبت آلافا وملايين العمال الزراعيين من الريف إلى المدينة. والمناخ الذهني في المدن هو مناخ الحرية والاستقلال والتساؤل والشك، ولذلك وجدت الأفكار التحريرية تربة خصبة في المصانع والمدن. وقد جذبت الصناعة أيضا عددا كبيرا من النساء إلى المصنع، ووجدت المرأة في هذه المصانع جوا منعشا بعث فيها الإقدام والاستقلال.
واحتاج هذا التطور إلى ألسنة تنطق وتعبر في بلاغة الأديب وقوة المنطق ونظريات الفكر، فظهرت قصة «مدام بوفاري» للكاتب الفرنسي جوستاف فلوبير، كما ظهر كتاب ستوارت ميل «إخضاع المرأة». ومدام بوفاري قصة امرأة تزوجت أحد الأطباء في الريف، ثم وجدت الحياة دون نشاطها وآمالها فحطمت ما تعلمته من أخلاق واندفعت في تيار من الشهوات، قضى عليها في النهاية فانتحرت، وكأن المؤلف يقول لنا إن حال المرأة الأوروبية سيئ، وإننا لا نفتح لها أبواب الرقي، ولذلك تنزل إلى مهاوي الشهوة الجنسية كي تخفف من سأم العيش المبتذل بين جدران المنزل، وكأنه يقول أيضا افتحوا أبواب العمل والنشاط الاجتماعيين للمرأة. أما كتاب «ستوارت ميل» فهو تاريخ لاستبداد الرجل بالمرأة، وأن هذا الاستبداد لا يضر المرأة وحدها ويعطل كفايتها ويحول دون رقيها باعتبارها إنسانا، وإنما هو يعطل المجتمع كله نساء ورجالا.
وجاء إبسن حوالي منتصف القرن التاسع عشر، فتبلورت فيه هذه الآراء وأخرجها درامة موجعة سامية اهتزت منها المجتمعات الأوروبية، وأصبحت «نورا» بطلة هذه الدرامة قدوة المرأة الناهضة ومشعلا تهتدي بنوره. وقد عاش إبسن فيما بين عامي 1828 و1906. وقد غير أوروبا الأدبية وأحالها إلى الآراء العصرية؛ إذ غرس فيها بذرة «البشرية الدينية» كما أبدل أخلاقها من تراث التقاليد إلى القيم البشرية التي توزن بميزان العقل، ودعا إلى الاستقلال النفسي، وإلى ضرورة الجد في الحياة، بحيث نربي أنفسنا ونكون شخصياتنا أحرارا مفكرين مكافحين مستقلين.
وإبسن نروجي نشأ في بيت ريفي، ولكنه قضى صباه خادما أو مساعدا في صيدلية، ولم يكن شيء يفتح العين وينبه العقل إلى الأكاذيب الاجتماعية مثل الخدمة في صيدلية وتركيب العقاقير فيما بين عامي 1800 و1850؛ لأن الصيدليات في تلك السنين كانت تعيش بما يقارب النصب؛ إذ لم تكن عقاقيرها سوى مواد غريبة الأسماء معدومة النفع، ولم يكن المريض ينتفع منها بأكثر من الوهم، ولا بد أن إبسن قد تعلم تحطيم الأصنام من هذه المرانة الأولى في الصيدليات. ثم احترف الصحافة في «كرستيانيا» والتحق بالمسرح في «بيرجن» وبقي متصلا بالمسرح للإدارة وللإخراج والتأليف مدة طويلة في كلتا هاتين المدينتين: بيرجن وكرستيانيا التي كانت وقتئذ عاصمة نروج.
وهذا الاتصال بالمسرح أكسبه بصيرة في الفن كما أكسبه رؤيا في التأليف، فإن دراماته غاية في الدقة الفنية، وكثير منها يجري على الأسس الإغريقية للفن المسرحي، وهي أن الدرامة لا تزيد على أن تكون جلسة في مكان وزمان معينين لا يتغيران من الفصل الأول إلى الفصل الأخير.
وقد نقل الدرامة الرومانتية إلى الواقعية، وجعلها اجتماعية تعالج المشكلات التي يعانيها المجتمع، ففي إحدى الدرامات يعالج مرض السفلس وعواقبه الوخيمة، وفي أخرى يعالج المسيحية والوثنية، وفي أخرى يعالج استقلال الشخصية ... إلخ. ولكنه كان في كل ذلك شاعرا، يرى الرؤيا فتمتد نظرته إلى الآفاق البعيدة. وفيما بين عامي 1870 و1890 كان يعيش في ألمانيا مستوحدا لا يكاد يعرف الأصدقاء، وكان يخرج دراسة واحدة كل سنتين تقريبا، وقد أوجد مسرحا جديدا في أوروبا. وعندما نقرأ «برنارد شو» نجد أن إبسن مضمر فيه، فقد ألف «شو» كتيبا في الدفاع عن إبسن وأسلوبه الواقعي. وكما أن إبسن كان يرى رؤيا الشاعر، فإنه أيضا كان يلتزم الحقائق، وهذا هو شأن برنارد شو.
أما أفكاره وفلسفته فتتلخص في قيمة الشخصية البشرية وضرورة استقلالها وتربيتها، وأن هذا هو الواجب الأول على الرجل والمرأة. ومن هذه البؤرة تتسع واجبات أخرى، هي أن نأخذ أنفسنا بالجد وأن نعتمد على العقل ونحيا الحياة الشريفة الفنية الراقية، وألا نخضع لأطياف الماضي وأشباحه. وقد كتب إلى أخته خطابا قال فيه: «أحب أن أرى كل شيء في وضوح وصفاء، ثم أحب بعد ذلك أن أموت.»
وهو يعني بهذه الكلمة الإيمائية أنه يجب أن يرى المشكلات الاجتماعية مكشوفة، واضحة خالية من المركبات التاريخية والتقليدية التي تحول دون رؤيتها على حقيقتها؛ أي يجب على الأديب أن يكون واقعيا يرى الواقع الملموس ثم يبني خياله على أساسه، ويرى رؤياه من خلال عدسته. وأبعد ما كان يبتعد عنه إبسن هو البرج العاجي الذي يعيش فيه الأديب السخيف، يحلم ويتخيل في عزلة عن المجتمع ومشكلاته، كأن الأدب لذة موسيقية فقط، وكأنه يجب أن يترفع عن معالجة الجوع والبغاء والمرض والظلم والاستبداد. «الشخصية البشرية» هي إنجيل إبسن.
وإذن لم يكن مفر من أن يسأل عن شخصية المرأة، وهل الحضارة في عصره كانت تهيئ لها أن تكون إنسانا راقيا مجدا، لها أهداف شريفة تعيش من أجلها وتحس أنها تؤدي رسالتها في الحياة، كما أن لها أسلوبا فلسفيا تتخذه في عيشها، أم لا؟ هذه هي المشكلة التي عالجها إبسن في درامة «بيت الدمية» أو «لعبة البيت» واللعبة هنا هي الدمية التي تلعب بها الطفلة، وهو يرمي من هذه التسمية إلى أن المرأة الأوروبية (حوالي عام 1870) هي لعبة الرجل عامة يقومها ويقدرها بما تتسم به من سذاجة وجهل، وهي تولد في بيت أبويها فتعامل منهما كما لو كانت لعبة تزخرف بالملابس الزاهية، وتدرب على إنكار نفسها، فلا تتحدث عما يتحدث عنه الرجال، فضلا عن أن تمارس أعمالهم، فتنشأ محدودة الفهم قليلة المعارف قد سدت في وجهها أبواب العمل الكاسب الذي يعمله الرجال ويكسبون منه أرزاقهم كما يكونون به شخصياتهم.
و«نورا» هي هذه الفتاة، تترك بيت أبويها إلى بيت زوجها في جمال وبراءة وطهارة وسذاجة، لها وجه كأنه قد صنع من وريقات الورد، وكأنه قد خلق للقبلات فقط، وجسم قد شيدته الطبيعة كأنه يمثل النبل والروعة. وهي تتحدث بلغة قد هذبت كلماتها، فلا تنطق بما ينطق به الرجال. أما العقل فهو العقل الساذج الذي لم يختبر الدنيا ولم تمر به الأخطاء والأخطار فيتعلم ويتدرب. ويتلقاها زوجها فيعاملها كما كان يعاملها أبواها، فهي حتى عندما تبلغ الأربعين أو الخمسين ستبقى طفلة.
وإبسن يثور على هذا الوضع ويتساءل: لماذا تبقين طفلة؟ أين شخصيتك وذكاؤك؟ ولماذا تحرمين اختبارات هذه الدنيا؟ وتجري الدرامة في سياق التمثيل الذي يوضح لنا أن المرأة لن تكون نحو ما تحب أن تكون المرأة عليه؛ لأن كل هذه الصفات لا تعني في النهاية إنسانا إلا عندما ترفع نفسها من الأنثوية، وأن هذا لن يكون إلا عندما تأخذ نفسها مأخذ الجد، فتستقل بشخصيتها وتتعلم وتختبر، ونحن الرجال لا نتعلم ونرتفع إلى المقام الاجتماعي أو المكانة الذهنية أو الفهم المحيط، كما لا تتكون لنا شخصية؛ إلا لأننا نختلط بالمجتمع ونعالج الخطأ ونقع حتى في الخطر، وليس هناك رجل يفخر بأنه ساذج أو طاهر أو بريء على نحو ما تحب أن تكون المرأة عليه؛ لأن كل هذه الصفات تعني في النهاية أننا نحب جهل المرأة وإبقاءها طفلة أو «لعبة» كما يقول إبسن.
ونورا بعد أن ينكشف لها حالها هذه تترك بيت الزوجية، تترك الزوج والأطفال، بعد أن تشرح لزوجها أنها طفلة، وأنها لن تقبل أن تعيش سائر حياتها في هذه الطفولة، وأنها ستخرج إلى الدنيا كي تعامل وتختبر، حتى تنجز لنفسها وعد حياتها، وحتى تؤدي حق إنسانيتها، بأن تبني شخصيتها بالمعرفة والاختبار والدرس مهما ارتكبت من أخطاء أو وقعت في أخطار؛ ذلك لأن رسالة الإنسان في هذه الدنيا أن يعرف الدنيا ولا يحاط بسياج من الواجبات الاجتماعية يحول دون فهمه أو بنائه لشخصيته.
وقد أحدثت هذه الدرامة ضجة كبرى في العالم الأوروبي؛ لأنها صدمت العقائد والتقاليد، ولكن الضجة هدأت أو انفثأت عن انتصار المرأة والتسليم بأن جمالها القديم، جمال الوجه والصدر والقامة والفخذين، هو جمال الأنثى، وأما جمال المرأة الجديدة فيجب أن يعلو على ذلك. أي يجب أن ينطوي على العقل النير والشخصية الراقية التي تدربت بالتجارب والاختبارات، وارتقت بالثقافة واشتركت في شئون المجتمع، وقد كان إبسن رؤياي المنيرة حين كنت حوالي العشرين، أتلمس المثليات الأوروبية والقيم العصرية، وأبني شخصيتي الذهنية، وكان مركز المرأة المصرية يحز في صدري كأنه خزي أبدي لولا هذه المحاولات الصغيرة العظيمة في مثل كتابي قاسم أمين، ثم بعد نصف قرن في نشاط هدى شعراوي وسيزا نبراوي ودرية شفيق وأمينة السعيد وأمثالهن.
ونحن الشرقيين قد ورثنا تراثا سيئا من القرون المظلمة، هو تراث الرق والخصيان والحجاب، وأولئك الذين يدافعون عن الحجاب ينسون خصاء الزنوج كي يتممه. أي يتمم الحجاب، ولعلهم يخجلون حين يذكرون ذلك.
لقد تعلمت من إبسن شرفا جديدا لم أكن أعرفه حين تركت بلادي إلى أوروبا في عام 1907، هو شرف الإنسانية التي يجب ألا يحدها حجاب المرأة، هو شرف الزواج الذي يقوم على الإخاء والمساواة، ليس فيه سيد وعبد، وهو شرف الأمة التي ترفع نساءها إلى مقام الوزيرات والنائبات وتفتح لهن المدارس والجامعات.
قبل خمسين سنة كنا نقعد إلى المرأة فنجد الجهل مع السذاجة، جهل وسذاجة يبعثان الاشمئزاز الذهني في الرجل الناضج، ولا تزال هذه الحال باقية في معظم أوساطنا، ولكن الدنيا تتغير، وهي تتغير لمصلحة المرأة ورفعتها وترقيتها، ولن ترتقي المرأة المصرية وتبلغ النضج أو الإيناع إلا عندما تختلط بمجتمعنا نحن الرجال، وتمارس أعمالنا وتغب من اختباراتنا وتشترك في الصناعة والتجارة والسياسة وتواجه الأخطاء والأخطار.
وليست عبرة «لعبة البيت» مقصورة على المرأة، فإنها تمس الرجال إلا القليل من الناضجين، ذلك أن الرجل العادي في كثير من تصرفاته يعيش بلا استقلال، وليس له من الشخصية سوى الاسم، يخضع للتقاليد وينساق في تيار العرف، وصحيح أن الدنيا تربيه وتصلب عوده وتخصب شخصيته بالاختبارات والاصطدامات التي تحرم منها المرأة، فهو يخطئ ويصيب ويتعلم ويقف على كثير من الأكاذيب الاجتماعية التي تفتح ذهنه وتنير رؤياه، وكل هذا لا تصيب المرأة منه شيئا؛ لأنها محبوسة بسياج أو حجاب من التقاليد.
ودعوة إبسن هنا: لتكن لكل منا شخصية، ولينظر كل منا إلى الدنيا كما لو كان هو محورها، ليس لأحد ولا لعقيدة سلطان عليه إلا ما يرى بعد التفكير الاستقلالي أنه نافع له ولمجتمعه. إننا نطلب الحرية من القوانين والدساتير، ولكن كل ما تستطيع هذه أن تهبنا من حقوق هو على الدوام دون ما نهب أنفسنا؛ لأن قيود التقاليد واصطلاحات العرف الاجتماعي تقيدنا أكثر مما تقيدنا به مظالم المستبدين التي تحاول الدساتير والقوانين محوها أو مكافحتها.
وحتى حين يستبد بنا حاكم ظالم ويستعين بالقوة المادية على تقييد حريتنا نستطيع الاحتفاظ بكرامتنا والإحساس باستقلالنا؛ لأننا نقاوم ونكافح استبداده وجبروته ونحن على وجدان بأننا أرقى منه، ولكن استبداد التقاليد ينغرس في نفوسنا، ويعين مزاجنا، ويعودنا عادات ذهنية ونفسية تجعل كلا منا أسيرا، أجل وأسير نفسه مع ذلك، فالمرأة التي نشأت على الحجاب لا تحس هوانه كما لا تعرف جهلها؛ وهي لذلك لا تقاوم ولا تكافح. وكذلك شأن الرجل الذي يعيش في أسر التقاليد وكأنها من طبيعة الأشياء التي لا تتغير، بل لا تحتاج إلى التغيير، والفرق بينه وبين المرأة هو فرق الدرجة فقط؛ إذ هو في حجاب نفسي وذهني، وهذه الدنيا هي ملك الإنسان وعلينا جميعا رجالا ونساء أن نتعلم وننضج ولا نكون لعبة الأقدار أو لعبة المجتمع، وعلينا أن نستقل وندرس ونخبر الحقائق، وليس هذا واجب «نورا» وحدها، ولا واجب النساء وحدهن، وإنما هو واجب الرجال أيضا. ونعم هذا الدرس الذي علمنا إياه إبسن، درس حق كل إنسان في تقريره مصيره وتربية شخصيته. •••
كنت قبل سنوات أصطاف بالإسكندرية، وكنا نقعد رجالا ونساء في اجتماعات عائلية على الشاطئ نتجاذب الحديث، وما كان أسخف ما كانت تتحدث عنه النساء؛ شئون الخدم، وزواج هذه الآنسة أو تلك الأرملة، وهذا الخطيب الثري المنتظر لهذه الفتاة، وخاتم الخطبة، ومبلغ المهر لتلك الفتاة الأخرى، والسكنى في الزمالك والأتومبيل الجديد عند فلان «بك» وهذه الخياطة البارعة، وذلك القماش الجديد ... إلخ، أحاديث تافهة من شخصيات تافهة، واهتمامات زائفة نشأت من حبسة البيت وحبسة النفس، فلم يكن بين هؤلاء النسوة من كانت تهتم ببحث العبرة والدلالة للطاقة الذرية، أو لهيئة الأمم المتحدة، أو لفلسفة برتراند رسل أو للمخترعات الطبية أو لمستقبل المرأة في الهند ومصر، أو لمعنى الدين أو برامج المدارس. وكأنهن لم يكن يقرأن الجرائد فضلا عن الكتب.
ولكن كان في هذا الوسط فتاتان لم تتزوجا وإنما احترفتا التمريض في أحد المستشفيات بالقاهرة، وكنت عندما أقعد إليهما وأتحدث أحس أني إزاء شخصيتين عالميتين، فقد اكتسبت كل منهما نظرة عالمية أخرى غير المنزل والخدم والطبخ وأحمر الشفاة والفستان الجديد، وقد استمعت إلى حديث إحداهما عن المرضى والأمراض، واختلاف الناس في استقبال الموت، أو الحكم بالموت، عندما يعرف المريض أن سرطانا قديما قد نبت وتفرع في جوفه. ووصفت لي إحداهما كيف رأت رجلا قبيل النزع وكيف خففت عنه.
وكنا في سيدي بشر وهي تبعد عن الإسكندرية بنحو عشرة كيلومترات، فاقترحنا على أن ننهض ذات صباح ونسير على الأقدام بحذاء الشاطئ إلى الإسكندرية، وكنت أحس وأنا أتحدث إلى كل منهما أني إزاء إنسان قد استحال إلى شخصية ناضحة تمتاز بجمال وكرامة وذكاء؛ وذلك لأن اختلاطهما بالمجتمع وخدمتهما له قد زاد ذكاءهما وكون شخصيتهما، ولو أن كلا منهما كانت قد نشأت النشأة المألوفة عند غيرهن، اللاتي يعشن في البيت وينتظرن الزوج، ثم يتزوجن ويقصرن اهتماماتهن على اللباس والخدم وقصص الزواج والثراء، لما كانت لها هذه الشخصية.
والذكاء ينهض على أساس طبيعي ولكنه يربى بالمجتمع، ونحن الرجال بما نمارس من اختبارات ونكابد من كسب أو خسارة ونصادف من أخطار، بل بما نرتكب من أخطاء، نتعلم وننمو ونزيد حكمة. والمرأة كذلك لن تكون إنسانا حكيما إلا إذا مارست جميع الأعمال التي يعملها الرجال واقتحمت ميادينهم وتعرضت للأخطار مثلهم. وهذه الصورة الجديدة للمرأة قد لا تعجب بعض الرجال الذين يؤثرون جهل الزوجة على معرفتها وقصورها على نضجها، وهم يجسون سيطرة ويمارسون تسلطا عليها في هذه الحال، ويلتذون هذه المرتبة أو الميزة العالية لهم عليها. ولكن المرأة الرشيدة يجب أن تتنبه وترفض أن تكون لعبة الرجل كما رفضت «نورا».
ونحن الرجال نعرف أن المدرسة والجامعة لا تربياننا وإنما الذي يربينا هو هذا المجتمع الذي نختلط به ونصطدم بمشكلاته، ونحن لا نستقطر الحكمة، وننضح النضج الفلسفي إلا بعد أن نخطئ ونصيب ونخسر ونكسب، وننساق ساعة الهوى، ثم نفيق عقبها سنين؛ لأننا عرفنا الحقائق بالخبرة، ومارسنا هذه الدنيا في حرية واستقلال بلا خوف من سلطة أو تقاليد، وهذه الحكمة التي ننالها نحن الرجال من اختباراتنا لهذه الدنيا يجب أن تنالها المرأة بمثل الوسائل التي نتوسل نحن بها؛ أي بالعمل والإنتاج والاختلاط والاستقلال والاختبار.
وهذه الصورة الجديدة التي رسمها لنا إبسن في نورا قد تحققت في المرأة الأمريكية إلى أبعد حد، وكذلك تحققت إلى حد ما في المرأة الإنجليزية والإسكندناوية والروسية حيث تعمل المرأة إلى جنب الرجل وتستقل بما تكسب، ولم يعد الرجل يعولها، وقد أصبحت شخصيتها قوية جلية تواجه الدنيا في شجاعة، وتحترف الحرف التي ترقيها وتنبه ذكاءها وتفتل عضلاتها، وهي في كل ذلك لم تهمل مهمتها البيولوجية في الزواج والحمل والولادة.
وقد جدت ظروف جعلت هذا الاتجاه نحو استقلال المرأة يسير بسرعة، ذلك أن وفرة الآلات الميكانيكية في البيت الأمريكي أغنت المرأة عن العمل في الطبخ والغسل، فزاد فراغها الذي احتاجت إلى أن تشغله بالعمل والكسب خارج البيت، ومعنى هذا أن التغير في الإنتاج المنزلي قد أحدث تغيرا في أخلاق المرأة، وحققت هذه الآلات الكهربائية دعوة إبسن من حيث لم يكن ينتظرها.
والمقارنة بين المرأة الأمريكية التي تعمل في المصانع والمتاجر والمكاتب، وتستقل بعواطفها، وترسم بيدها خارطة حياتها، وتقرأ وتناقش وتكسب وتخسر وتصيب وتخطئ، وقد تكونت لها شخصية رصينة بصيرة قوية من هذه الحياة، نقول إن المقارنة بينها وبين المرأة الأوروبية في الأقطار الجنوبية مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان حيث لا يزال المطبخ يجري على تقاليده، وحيث يستأثر المطبخ والغسل بمعظم الوقت، وحيث يسود الرجل المرأة، وله عليها الكلمة العليا، بحيث يقرر لها، أو يكاد يقرر لها مصيرها؛ هذه المقارنة توضح لنا سمو المرأة الأمريكية الجديدة، باعتبارها إنسانا عاقلا مستقلا، على هذه المرأة الأوروبية الجنوبية التي لا تزال مقيدة بالتقاليد.
إن العمل والكسب والاختبار والإصابة والخطأ والاختلاط بالمجتمع قد ربى المرأة الأمريكية، في حين أن الانزواء في البيت قد قيد النمو الذهني للمرأة الأوروبية الجنوبية، ولا نذكر المرأة الشرقية.
نيتشه أو فتنة الشباب
اثنان انخدعت بهما سنوات كثيرة، أولهما: فيسمان الذي غرس في ذهني أن الصفات المكتسبة لا تورث، وإحساسي الآن نحو هذا الرجل هو البغض. أما الثاني: فهو نيتشه الذي خدعني، فافتننت به سنوات، قبل أن أتخلص منه، وإحساسي نحوه هو الحب.
وقد عرفت نيتشه في عام 1909 وكنت منغمسا في نظرية التطور، وكان «تنازع البقاء» و«بقاء الأصلح» و«الطبيعة حمراء بين الناب والمخلب» من المعاني التي أقبلها في صمت وتسليم، وهذه المعاني جميعها تنقض الديانات التي تقول بالرحمة والتعاون والإخاء البشري وحماية الضعيف.
وهبط علي نيتشه كما لو كان وحيا أو كشفا، نثر ساحر كأنه أبيات من الشعر، وخيال يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تجمد ذهن الناشئ رهبة وجزعا، أو تنفضه حماسة وطربا. ثم إلى ذلك فلسفة تعلو على برود المنطق، وتأخذ بحماسة الإيمان وغلواء التفاؤل، وفي كل ذلك ارتباط بالتطور، «إني أعلمكم علم السبرمان، أو الإنسان الأعلى، ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، وكذلك يجب أن يكون الإنسان إزاء السبرمان، أضحوكة أو خزي! إنما الإنسان معبر أو جسر يصل بين القرد والسبرمان، سوف يكون السبرمان ازدهارا وخيرا وتعبيرا نهائيا للأرض، أستحلفكم أن تكونوا أمناء للأرض، وأن تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاما ومكافآت، إن عليكم أن تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أن تنجب يوما ما السبرمان ... الإنسان شيء يعلى عليه، فماذا فعلتم كي تعلوا عليه؟»
كلمات رائعة كان وقعها في نفسي، وأنا حوالي العشرين، وحيا أو كشفا، فتعلقت به، وكتبت عنه مقالا في مجلة المقتطف في عام 1909 بعنوان: «نيتشه وابن الإنسان».
وقد كانت نظرية التطور جديدة في أوروبا، وكانت تكشف عن صورة وحشية للتطور، وقد استلهم منها أعداء المسيحية برهانا جديدا يقيمونه لنقضها، وكانوا قبل ذلك يقنعون بالمقارنات التاريخية بين الأناجيل، يوضحون زيف الأساطير في الدين، ولم يكن يجرؤ أحدهم على القول بأن الأخلاق المسيحية ليست هي الأخلاق المثلى، أو أنها تؤخر البشرية أو أن هناك ما هو أرقى منها. ولكن نيتشه لم يبال الأساطير أو المعجزات؛ إذ عمد إلى دعوة المسيحية التي امتازت بها وهي الرحمة وحب المعجزات وحب المساكين والضعفاء، فحمل عليها ووجد فيها ميدانا لبحث القيم والأوزان التي يعيش بها الأوروبيون المسيحيون، فقال إن هذه الأخلاق تعارض بقاء الأقوياء «الصقور» وتصدهم عن حقهم الذي تنطق به الطبيعة، وهو أن الصقر يجب أن يأكل العصفور، فإن بين البشر عصافير ضعفاء يستحقون الفناء، كما أن بينهم صقورا قوية تستحق البقاء، وهو في هذا المنطق لا يذكر داروين، مع أن القارئ لمؤلفاته لا يتمالك أن يذكر نظرية التطور.
ونيتشه أديب من الطراز الأول، وهو أيضا لغوي وفيلسوف، ومن هنا سحره الذي لا يقاوم، فإنه يفكر تفكير الفيلسوف ويكتب بلغة الأديب، وهو يرجع بحثه إلى التاريخ.
فإن الرومانيين القدماء كانوا قبل أن يعتنقوا المسيحية يتخذون السيف شعارا والقوة مذهبا، وكانت أخلاقهم تنزع إلى البطولة كما يتضح من كلمة
Virtue
ومعناها الفضيلة، فإنها مشتقة من كلمة
Vir
ومعناها الرجولة، فالفضيلة كانت عند الرومانيين صفة الرجولة أو أهم خصائصها. ولكن المسيحية جاءت في زعم نيتشه فاستبدلت بالرجولة والبطولة ضعفا زريا نرى نتائجه في شعوب أوروبا الحاضرة حيث تتفشى الأمراض وتكاد تكون خالدة؛ لأننا نحمي كل مريض ونعنى بعلاجه.
ولد نيتشه في عام 1844 ومات في عام 1900 وكان أبوه قسيسا، كما كانت أمه امرأة متدينة، وقد هيئ لأن يدرس في كلية دينية كي يكون قسيسا، ولكنه التفت إلى اللغات فبرع فيها، ومن تحليل الكلمات القديمة استطاع أن يحلل التطور الأخلاقي في أوروبا، ونستطيع أن نلخص فلسفته بأنها ترمي إلى أن تجعل غاية الحياة خدمة الأقلية من الشخصيات السامية، وليس خدمة الأكثرية أو سواد الأمة، وهو هنا بالطبع غير ديمقراطي، بل عدو الديموقراطية، وهو بكلمة أخرى يطلب أخلاق السادة بدلا من أخلاق «القطيع» كما يصف سواد الشعب. ومما ينبهنا هنا أن هتلر كان كبير الإعجاب به، وقد أهدى مجموعة فاخرة من مؤلفاته إلى موسوليني، وكلاهما - أي هتلر وموسوليني - كان عدوا للديمقراطية، ولكننا لا نعني من هذا القول أن نيتشه يحمل قارئه على الاعتقاد بأن الفاشية نظام حسن، فإن فيه أحيانا من سمو الفكرة ونضج الحكمة ما يجعلنا نشمئز من المقارنة بينه وبين هذين الطاغيتين.
ونحن نضحك منه حين يقول: «اللحادون والمسيحيون، والبقر والنساء، والإنجليز وسائر الديمقراطيين، ينتمون إلى أصل واحد.»
ولكننا نحس بروعة أفكاره حين يقول: «الزواج هو اجتماع إرادتين لإيجاد شخص ثالث أعلى من الزوجين.»
وقوله: «لا يجب فقط أن نتناسل، إنما يجب أن نتناسل إلى أعلى.» وهذا أحسن ما قيل عن الزواج، فإنه رفعه من معاني السعادة واللذة إلى معاني التطور والتضحية؛ أي يجب أن يدبر الزواج بحيث يؤدي إلى الرقي البيولوجي، وإيجاد السبرمان وزيادة الذكاء والصحة والقوة.
وحملة نيتشه على المسيحية تتساوق مع فلسفته، فإنه يجد فيها دعوة إلى التواضع والخضوع والطيبة، في حين هو يطلب الارتفاع والكبرياء والقسوة، أو يمكن أن يقال إن المسيحية تنشد مجتمعا أفقيا يتساوى فيه الجميع، بل يمنع التفوق لبعض أفراده ويعيد الجميع إلى حال سواء من التوسط، ولكن نيتشه ينشد مجتمعا عموديا يتيح للعظماء أن يتفوقوا ويسودوا.
وعنده أن «الشرف» وثني روماني أرستقراطي، أما «الضمير» فمسيحي يهودي ديمقراطي، وأن أوروبا لهذا السبب مهددة ببوذية جديدة تنكر فيها الحياة، ومن أقواله:
الغريزة هي أسمى أنواع الذكاء التي اكتشفت إلى الآن.
ونصيحتي إليكم أيها الإخوان هي: كونوا قساة صلابا.
علينا أن نفر من أقرب الناس إلينا، من جيراننا، ونحب أبعد الناس عنا.
تفاوت الحقوق هو الشرط الأساسي لوجود الحقوق.
لصغار الناس صغار الفضائل، ولكني لا أعرف ما حاجتنا إلى صغار الفضائل.
ليس للأنانية قيمة في الأرض أو في السماء، وجميع المسائل العظيمة تحتاج إلى حب عظيم.
الانتقام الصغير أكثر إنسانية من العف عن الانتقام.
ما هو الشيء الحسن؟ هو كل ما يزيد الإحساس بالقوة؛ أي إرادة القوة، أي القوة ذاتها في الإنسان.
وما هو الشيء السيئ؟ هو كل ما ينشأ من الضعف.
عيشوا في خطر، شيدوا مدنكم إلى جنب فيزوف، ابعثوا بسفنكم إلى بحار مجهولة. لأنك جعلت الخطر حرفتك؛ لذلك أدفنك بيدي.
ومن هذه المختارات الموجزة نجد أن نيتشه لا يقدم لنا فلسفة ومنطقا، بمقدار ما يقدم لنا أشعارا أو مذهبا وعقيدة، خلاصتهما أن نتخلص من الضعف ونقسو على أنفسنا وعلى غيرنا. ومع أننا نحس من اتجاهاته الفكرية أنه على التصاق واعتناق لمذهب داروين في التطور البيولوجي، فإن الميزة واضحة في أنه لا يطلب سبرمانا للمستقبل بمقدار ما يطلب منا أن نكون نحن على سمو وارتفاع فوق العامة، وعلى مقاطعة للأخلاق المسيحية.
وإنسان المستقبل (السبرمان) الذي يرتفع فوقنا بمقدار ما نرتفع نحن فوق القردة، لا يحتاج لإيجاده إلى القسوة الأخلاقية بمقدار ما يحتاج إلى التنظيم الاجتماعي للزواج والتناسل، وهذا يتم بالتعاون والرفق أكثر مما يتم بالتنازع والقسوة.
ومنطق المسيحية هو المنطق الإنساني بالتعاون، ومنطق نيتشه هو المنطق الفطري بالتنازع. وقسوة المبادئ الإمبراطورية، والقول بأن هناك سلالات بشرية لها حق السيادة على الشعوب السوداء أو السمراء أو الصفراء، هما أبعد ما يكونان عن تفكير نيتشه عندما نتأمل ونتعمق مؤلفاته. ولكن ليس هناك شك أن الدراسة السطحية قد عملت لتأييد هذه الاتجاهات، كما يتضح من إكبار النازيين الألمان والفاشيين الإيطاليين لمؤلفاته لاعتقادهم أنه يؤيدهم. •••
والقارئ لنيتشه في حملته على المسيح يحس وجاهة الرأي الذي يقول به «أندريه جيد» وهو أن نيتشه يغار غيرة شخصية من المسيح، فإن كلماته تحمل أحيانا بذاء أكثر مما تحمل نقدا، وهو في كتابه «هذا ما قال زرادشت» يقحم الإنجيل ويكذب كلمات المسيح، بل نحس ونحن نقرأ هذا الكتاب أنه يقلب العبرة والدلالة من كلمات المسيح، ويضع مكانها كلمات أخرى لها نقيض الأخلاق المسيحية، ثم يزيد على هذا فيحاكي أسلوب الإنجيل، فكما أن المسيح كان يجادل الفريسيين ويناقضهم، كذلك نيتشه قد جاء كي يجادل «الطيبين العادلين؛ لأن عقولهم مقيدة في سجون ضمائرهم»، ثم يخاطب تلاميذه بما يشابه، أو يطابق خطبة الجبل حين خاطب المسيح تلاميذه، ولكن مع الفرق في العبرة والدلالة؛ إذ حيث يدعو المسيح إلى الرحمة والحنان والإخاء البشري في أبوة الله، يدعو نيتشه إلى القسوة وضرورة التفاوت. ولنيتشه كما للمسيح خلوته واستيحاؤه، وله أيضا «العشاء الأخير» الذي يقول عنه بلسان زرادشت: «هذا العشاء لتذكروني.»
ثم تزداد الغيرة إلى حد الجنون فيقول: «ما هي أعظم الخطايا على الأرض إلى يومنا هذا؟ أليست هي قول ذلك القائل: ويل لكم، أنتم الذين تضحكون في هذا العالم؟!» وهو هنا يشير إلى المسيح، ثم يحاكي ويناقض بما في قوله على لسان زرادشت. «صحيح أنكم إذا لم تصيروا كالأطفال الصغار، فإنكم لن تدخلوا ملكوت السموات (وهنا يشير زرادشت إلى السماء)، ولكننا لا نرغب في أن ندخل هذا الملكوت؛ لأننا قد صرنا رجالا، ولهذا نحن ننشد ملكوت الأرض.»
بل يتحدث في جنون، فيأسف على أن المسيح لم يعمر طويلا، ويقول: إنه لو كان قد عمر طويلا لنقض آراءه التي كان قد قال بها، ثم يقول: «حقا لقد مات هذا العبراني !
لم يكن قد عرف في حياته سوى دموع العبراني وأحزانه، مع كراهة الطيبين والعادلين، هذا المسيح العبراني، ثم إذا ببيداء الموت تطويه ...
ولم يعش في البيداء بعيدا عن الطيبين والعادلين، لعله لو كان قد فعل لكان قد عرف كيف يعيش، وكان عندئذ يحب الأرض والحياة أيضا!
ثقوا يا إخواني، إنه مات دون أن يعمل، ولو أنه كان قد عاش مثلما عشت، وعمر مثلما عمرت، لنقض ما كان قد قاله. أجل، إنه كان على شرف يحمله على أن ينقد ما كان قد قاله.
ولكنه لم ينضج وحبه، إنما كان حب الشباب الذي ينقصه النضج، وهذا هو علة كراهته للأرض والحياة.» •••
إن كثيرا من أقوال نيتشه يوهم الهوس إن لم نقل الجنون، وربما مما لا شك فيه أنه قضى نحو عشرين سنة وهو في جنون يكاد يكون مطبقا؛ إذ كان في الدور الأخير من السفلس، ولعل هذا الجنون كان قد تسلل وئيدا قبل أن يطبق عليه، ولعل أيضا بعض هذيانه يعزى إلى هذا المرض، على أن كثيرا من «الهذيان» لا يزيد أن يكون إسرافا وتوترا في التعبير، ولكن ليس من الصواب أن نحذف نيتشه بدعوى الهوى أو الهذيان أو الجنون، فإنه قد عرض لقضية إنسانية واضحة يجب على كل فيلسوف أن يواجهها في صراحة، وأن ينتهي منها إلى حكم فاصل، وليس ثم مفر من هذه المواجهة، وهذه القضية هي أن مصلحة البشر وارتقاء الإنسان يقتضيان محاربة الضعف والمرض والنقص، كما يقتضيان تشجيع وتأييد الصفات العالية كالصحة والقوة والذكاء، فما دام هذا هو الهدف، فهل من الخير للناس أن يؤسسوا المستشفيات لمعالجة المرضى؟ وهل من الخير أن يباح الزواج للأبله والمغفل والأشوه؟ ثم ما دمنا نؤمن بأننا كنا على مستوى منخفض من الذكاء قبل مليون سنة، حين كنا والحيوان سواء، فلماذا لا نعمل في اطراد التطور، كي نزداد صحة وقوة وذكاء؟
لقد كنا في الغابة نعيش بالفطرة، وكانت الطبيعة قاسية لا ترحم ولا تعرف دواء لمعالجة المرضى، وكان الموت يفشو ويفتك بالآلاف، ولا يبقى منا غير الصالح القوي القادر على المشقات، ثم جاءت الحضارة فجمعت الضعيف إلى جانب القوي، وسادتنا أخلاق الرحمة والإخاء والتصدق، فعاش بهذه الأخلاق ناس ما كانوا ليستطيعوا العيش في الغابة، ثم هم مع ذلك يتزاحمون ويتناسلون فيجعلون المرض والضعف والدمامة مخلدة في العناصر البشرية.
وصيحة نيتشه هنا: عودوا إلى شريعة الغابة، ثم عودوا إلى تنازع البقاء، هي صيحة تستحق النظر والتأمل، ولا يغني فيها القول بأنه كان مريضا بالسفلس أو أن هذا القول هذيان؛ إذ ليس هذا هذيانا.
لقد كان القرن التاسع عشر عصر الإيمان بالوراثة، وهي القدر الذي يعين لنا حظنا في الحياة بما ورثنا من كفايات من آبائنا. ومع أن القرن العشرين قد نقض كثيرا من هذا الرأي، وأدحض بعض الأركان لهذا القدر، فإن الوراثة لا تزال تحتل جزءا كبيرا من التفكير البيولوجي، وكلنا يثق هذه الأيام بقيمة الوسط في التغير والتطوير، ولكن مع اختيار السلالات التي تعينت لها صفات واستقرت فيها خصائص بحيث نعود فنستغل هذه الصفات والخصائص في الوراثة.
وقد ظهرت «اليوجنية» أي علم ترقية السلالات البشرية بناء على الإيمان بالوراثة، وهي إلى الآن يوجنية سلبية، بمعنى أن الأمم المتمدنة تعمد إلى تعقيم الناقصين والبله حتى لا يتناسلوا، وقد عمد هتلر إلى شيء من اليوجنية الإيجابية بتشجيع المتفوقين على التناسل وخصهم بميزات لم يكن يحصل عليها سائر أفراد الشعب، وذلك أيام النازية. وهذا كله من وحي نيتشه كما هو من التعاليم التي فشت عقب نظرية التطور.
وقد كان لكتاب البيولوجي فيسمان «الجرثومة المنوية» أكبر الأثر في الإسراف في الإيمان بالوراثة، وقد أفسد هذا الرجل ذهني بل أخلاقي مدة طويلة، ولكن رويدا رويدا تغيرت النبرة في التطور، فبدلا من القول بتنازع البقاء في الطبيعة أثبت كوربنكين أن التعاون، وليس التنازع هو شريعة الغابة، ثم انتهينا في السنوات العشر الأخيرة إلى التسليم بأن الوسط يغير الحي، نباتا أو حيوانا أو إنسانا، وأن هذا التغير الوسطي يعود فيثبت بالوراثة.
ففي ضوء التطورات، وفي تجارب الوسط لا نستطيع أن نسلم بمذهب نيتشه بأن نكون قساة لا نرحم، فالتطور يصبح بالتعاون، والوسط يستطيع أن يغير، ونحن البشر بما وصلنا إليه من معارف بيولوجية نستطيع أن نزيد سرعة التطور بالتنظيم الاجتماعي الذي يحقق الارتقاء البيولوجي. •••
كثيرا ما أعود إلى قراءة نيتشه، لا لأنني مقتنع بمنطقه؛ ولكن لأني أجد سحرا على الدوام في تعبيره وأحيانا في تفكيره، انظر إلى ما يقوله عن الرحمة:
إن الرحمة تناقض الشهوات الحية المنعشة التي ترفع نشاط البشر وتزيد إحساس القوة؛ إذ هي تكرب وتغم، ونحن نفقد حيويتنا حين نمارس الرحمة. وما نفقده من قوة وحيوية بسبب الألم مثلا، يزداد ويتضاعف بالرحمة، حتى ليصير الألم معديا بالرحمة، وقد يؤدي في بعض الظروف إلى أن نفقد الحياة ذاتها، وإذا شئت برهانا على ذلك فاذكر هذا النصراني الذي انتهت به رحمته لأبناء البشر إلى الصليب.
وأيضا تفسد الرحمة شريعة التطور التي تقول ببقاء الأصلح، وهي - أي الرحمة - تستبقي ما كان يجب أن يموت، كما تعمل لمصلحة الذين حكمت عليهم الطبيعة، وهي تضفي على الحياة لونا قاتما بعدد الناقصين الفاسدين الذين نعولهم، وهي تضاعف التعس كما تحافظ عليه، وهي الأداة الأولى لترويج الانحطاط، وهي تؤدي إلى الفناء، إلى إنكار الغرائز التي تنبني عليها الحياة.
وليس شك أن في هذا الكلام هذيانا كثيرا، ولكنه كان هذيانا يسحرني لأول وقعه في نفسي، وأنا خام أخضر في سن العشرين كان يسحر وينبه؛ إذ كان يبعث على المراجعة والفحص عن الأخلاق العامة والتقاليد الموروثة التي كنا نعيش فيها مستسلمين غير متسائلين أو مستطلعين. أو انظر على ما يقوله عن الحياة:
إنما الحياة في صميمها امتلاك واحتياز وإيذاء، ومحق للضعفاء والعاجزين عن التلاؤم والتكيف، وهدف الحي هو إبراز شخصه والتمكن من تأدية وظائفه غير معارض أو معطل.
وهذه المقتبسات التالية هي صورة المجتمع والحضارة كما يراهما نيتشه؛ إذ يقول:
إن نظام الطبقات هو السنة السائدة للطبيعة، وهي سنة لا تستطيع أية قوة بشرية أن تتغلب عليها، ففي كل مجتمع صحيح توجد ثلاث طبقات لكل منها أخلاقه وعمله وما يفهمه من معاني الكمال والسيادة. وتتألف الطبقة الأولى من أولئك الذين يمتازون بالتفوق الذهني على سواد الأمة، وتتألف الثانية من أولئك الذين يمتازون بالتفوق العضلي، أما الطبقة الثالثة فمن المتوسطين.
وللطبقة الأولى ميزة التمثيل للجمال والسعادة والطيبة على الأرض، وأفراد هذه الطبقة يقبلون هذا العالم كما هو، ويستخدمونه بما في مستطاعهم. وهم يجدون سعادتهم في تلك الشئون التي تدمر من هم دونهم في الصعوبات، والقسوة نحو أنفسهم ونحو غيرهم من الجهد ولذتهم في حكم أنفسهم. والنسك عندهم طبيعة وضرورة وغريزة، وهم يتحملون الواجبات الشاقة كما لو كانت امتيازات يمتازون بها، وهم يرتاضون بتحمل الأعباء التي تسحق غيرهم إلى الموت. وهم زبدة الناس وأكثرهم حبا وفرحا، وهم يحكمون عفو طبيعتهم، كما أنهم ليسوا أحرارا في أن ينتظموا في الصف الثاني.
أما الطبقة الثانية فتتألف من الأوصياء وحفظة النظام والأمن، رجال الحرب والأشراف والملك، وفوق هؤلاء القضاة حماة القوانين، وهم أسمى طرازا من المقاتلين الحربيين، فإنهم ينفذون أوامر الطبقة الأولى ويريحونها من الأعمال اليدوية أو الخشنة التي يحتاج إليها الحكم.
وفي أسفل توجد الطبقة الثالثة من أفراد الصناعات اليدوية والتجارة ومعظم الفنون والعلوم. ومن سنن الطبيعة أن يكون كل هؤلاء من المرافق العامة في الأمة أو دواليب تدور ووظائف تؤدى. والسعادة الوحيدة التي يستطيعها أفراد هذه الطبقة هي قدرتهم على أن يكونوا آلات ذكية؛ لأن الرجل المتوسط يفهم من السعادة أنها حال التوسط. والتخصص أو التفوق في تدريب معين هو غريزتهم، ولا يليق بالذهن الضيق أن يعارض حال التوسط هذه؛ لأن هؤلاء المتوسطين ضرورة للمجتمع البشري؛ إذ يتيحون للرجل الفذ أن يوجد.
من من الناس أكرهه أكثر من غيره؟
أكره ذلك الاشتراكي الذي يهدم الغرائز السليمة عند العامل، بأن ينزع منه إحساس القناعة بمكانه ويجعله حسودا ويعلمه الانتقام.
أجل يجب أن نعرف أنه ليس هناك ظلم في تفاوت الحقوق. •••
مات نيتشه في عام 1900، أي دفن في هذه السنة، ولكن الواقع أنه كان ميتا منذ حوالي عام 1885 للمرض الذي أشرنا إليه، وهو مرض لم يقعد جسمه فقط بل أمات ذهنه، ولم يكد العالم المتمدن يحس بوجوده إلا بعد وفاته، وكان الإحساس عندئذ حادا، فمنذ عام 1900 إلى عام 1950 ونيتشه يعلو على جميع المفكرين الأوروبيين، بل يمثل مشكلة الضمير الأوروبي، مشكلة السياسة الأوروبية، سياسة التنازع إزاء سياسة التعاون.
وهو لو كان فيلسوفا فقط، يكتب بالرطانة الفلسفية التي لا يفهمها غير المثقفين، لما كان خطره كبيرا، لكنه كان شاعرا يتغنى ويترنم؛ ولذلك كان ولا يزال يجذب إليه الشباب الذين يقودهم إلى الضلال أو يهديهم إلى الرشاد، فهو غواية وفتنة كما هو نور ومعرفة، هو جنون وعقل.
وأكاد أقول عندما أجد شابا يقرأ نيتشه: حذار! لا تقدم، إنك على طرف هاوية، وقد تنزلق فتتردى، ولكن اقرأ دستوفسكي وغاندي وشيفتزر وبرناردشو، فهم الترياق الذي تحتاج إليه إذا قرأت نيتشه. لا بل يجب أن تقرأ نيتشه؛ لأن أقل ما فيه أن يحثك على التساؤل والاستطلاع، ويحول بينك وبين التسليم المطلق للعرف والعادة؛ إذ هو قوة تحريرية عظمى، ولكنه أيضا يحملك تبعات سامية بشأن المستقبل البشري على هذه الأرض، ويكسبك العقلية الفلكية التكهنية في الفلسفة، وعندئذ ستعرف أن القيمة العظمى في الفلسفة ليست نظاما منطقيا يقول بأن اثنين واثنين يساوي أربعة، وإنما هي في تعيين القيم والأوزان الأخلاقية التي تخدم رقي الإنسان، وفي التكهن بالمستقبل البشري والاستعداد له. وميزة نيتشه هنا أنه استطاع أن يقنع أوروبا بأن الأخلاق يجب أن تنبني على أساس بيولوجي بشري. كتب نيتشه حوالي عام 1880 إلى أخته يقول:
عديني أنني عندما أموت لن يقف حول نعشي سوى أصدقائي، ولن يكون حولي أحد من الغوغاء المتسائلين، واعملي على ألا يلقي قسيس على قبري أكاذيب، وأنا عاجز عن حماية نفسي، وودعيني إلى قبري وأنا وثني شريف.
ومات في عام 1900 مغمورا لم ترثه جريدة، ولم تذكره جامعة، ولكنه بعث بعد موته؛ إذ أصبح الضجة الكبرى والصيحة العالية في جميع الأوساط المثقفة، ولا يزال دويه عاليا واسمه رمزا للتساؤل.
وفي نفسي له حب وأسف وإقبال وصدود.
إرنست رينان
في السنين الأولى من هذا القرن كان شاب لبناني يدعى فرح أنطون يصدر في مصر مجلة صغيرة تسمى «الجامعة»، وكانت الثقافة الغالبة على هذا الشاب فرنسية، وهو كان يكتب اللغة الفرنسية بكلمات عربية؛ وكان لذلك فهمه للثقافة والأسلوب والأدب يختلف عما كنا نفهمه من كتابنا المصريين البارزين الذين كانت تغلب عليهم الثقافة العربية القحة. وقد عرفت عن طريق فرح أنطون كتابا فرنسيين بعثوا في نفسي استطلاعا للثقافة الأوروبية، وغرسوا في ذهني شكا في العقائد والعادات الشرقية، ووصلوا بيني وبين الآداب البشرية بصلة القربى والرحم وحببوا إلي الطبيعة، وفتحوا عيني إلى الأجواء والآفاق، فلا يغرب عني نشاط فكري، ولا يفصل بيني وبين كاتب قديم أو حديث فاصل من دين أو عنصر أو لغة، وقد رأيت في حياتي كتابا أضلهم الاستغراق العنصري أو الديني أو القومي وعمرتهم موجاته، ومع أن هذه الموجات قد مستني بطلاوتها السطحية، فإني سرعان ما كنت أتخلص منها بل أتطهر منها، ذلك أن فرح أنطون قد وجهني نحو أوروبا الجديدة؛ أوروبا البشرية، أوروبا التي كانت تسترشد بفولتير وروسو ورينان. وما زلت أذكر طرب الحماسة الذي غمرني حين كنت أقرأ قصة صغيرة ترجمت إلى العربية باسم «الكوخ الهندي» لمؤلفها الفرنسي برناردن دو سان بيير، فقد كان هذا المؤلف يصف سذاجة العيش وجمال الحب وروعة الطبيعة بكلمات ساحرة تترك في النفس إحساسا دينيا نحو المرأة والشجرة والسماء والأرض، كما تفتح الذهن لمعاني القناعة والاستغناء. وكان هذا المؤلف من أولئك الذين دعوا دعوة الطبيعة مع جان جاك روسو، وأعطوا أوروبا عيونا جديدة رأت من خلالها وعرفت بها هيئة الجبال وروعة الأشجار، ومعنى الاصطياف على الشواطئ، والانغماس في الماء، بالرجوع إلى الطفولة التي أفسدتها الحضارة، والتي يجب ألا تفارقنا طوال أعمارنا في القدرة على الاستمتاع بحيوية الحياة ولذة اللعب والنفور من تعقد العيش وارتباكات الترف المرهقة. وهناك من لا يزالون يستصغرون قيمة الأديب العظيم في توجيه الحضارة وتكوين الأذواق ، ولهؤلاء نذكر جان جاك روسو، فإن العالم قبله لم يكن يعرف معنى التجوال في الحقول أو الاصطياف على الشواطئ. وهذه الحقول والشواطئ كانت مع ذلك في مكانها كما هي الآن قبل روسو، ولكنها كانت خالية ممن يجول فيها ويتأمل سماءها وأرضها وأشجارها أو ينغمس في مياهها، ولكن روسو بدعوته الحارة إلى الطبيعة، وتقديسه لها، رد إلى الناس هذا الإحساس وبسط لهم ميادين جديدة للاستمتاع النفسي كانوا يجهلونها قبله. وحين أجد شفيتزر يدعو إلى تقديس كل شيء حي، وحين أجد ثورو يتساءل: لماذا لا تقرع النواقيس في الكنائس حين تقتلع شجرة من مكانها نعيا لها وحزنا على الطبيعة المجروحة؟ وحين أجد غاندي يترك المدن، ويقنع بأن يعيش في كوخ بين الحقول بثلاثة قروش في اليوم، وحين أجد الطرب البشري يغمر سواحل الإسكندرية أو بورسعيد في أطفال وفتيات وشبان يمرحون و«يزأطون» في الماء والهواء، وقد خلعوا مركبات المدنية وعادات العرف، حين أجد كل هذا لا أتمالك أن أذكر جان جاك روسو نبي الطبيعة وأديبها، الذي غير أذواق الناس ووجه النفوس وجهات جديدة زادت البشر سرورا واستمتاعا وحبا. لقد عرفت روسو أول ما عرفته، بقلم فرح أنطون.
ثم عرفت أديبا آخر بقلمه أيضا كان له أبلغ الوقع وأبعد الأثر في ثقافتي وتربيتي، هو إرنست رينان، وهو الذي غرس في نفسي الروح البشري، وبهذا الروح أحببت تلك الشخصية السامية التي وصفها رينان في كلمات الحب والإعزاز، والتي أحاول مع العجز، ولكن مع الأمل، أن أرتفع إلى الأخلاق التي رسمها في شخصية المسيح.
وقد تحطم فرح أنطون بما وقع فيه من مناقشات تاريخية مع الشيخ محمد عبده بسبب إرنست رينان، وتحطم إرنست رينان بسبب كتابه عن المسيح، ومثل هذه المعارك الأدبية تحتاج إلى الشرح الذي لا يسمح له هذا الفصل، ولكن قصارى ما أقول: إن فرح أنطون نقل عن رينان اضطهاد الحكومات الإسلامية للأحرار، فرد عليه الشيخ محمد عبده بأن اضطهاد الحكومات المسيحية كان أكبر وأقسى، ودارت المساجلات بين الاثنين، هذا يكتب في الجامعة ، وهذا يكتب في المنار، ولم يكن الجمهور المثقف يتحمل في ذلك الوقت الوهج اللاسع من هذه المساجلات. وانهزم فرح ورحل إلى أمريكا كي يعود بعد ذلك إلى مصر وينغمس في الثورة الوطنية إلى حب سعد. أما إرنست رينان فكان تحطمه أكبر وأبلغ، فقد ولد هذا الأديب في عام 1823 ومات في عام 1892 وقضى من العمر نحو أربعين أو خمسين سنة وهو يخيم على أوروبا ويضيء عقولها ويربي نفوسها، وأوروبا بعده غير أوروبا قبله، بفضل ما كتب وبفضل ما تألم، وقد تعلم كثيرا.
وما زلت أحس كأن سكينا تمزق أحشائي حين أذكر أن هذا الأديب العظيم، بعد أن حرمته الكنيسة الكاثوليكية ومنعت رعاياها من قراءة مؤلفاته، وبعد أن حطت عليه الشيخوخة حتى كادت تقعده، بعث بخطاب إلى ناظر المدرسة الابتدائية التي كان قد تعلم فيها قبل ستين سنة يطلب منه أن يأذن له بزيارتها، كي يرى الفصل الذي تعلم فيه حروف الهجاء، والفناء الذي لعب فيه مع أقرانه، وكي يلمس جدرانها التي تمسح بها، ويصلي في إحدى غرفها على اختلاء، صلاة الحب والذكرى لهذه الأيام الماضية، والتي تنفصل عن حاضره بما يشبه قرنا من الزمان، وتسلم ناظر المدرسة الخطاب وكانت المدرسة دينية كاثوليكية، كما كان ناظرها راهبا يعرف أن رينان مطرود من الكنيسة وأن مؤلفاته من المحظورات، فلما قرأ الخطاب وتأمل الإحساسات الجميلة التي يحتويها، كتب إلى رينان في رقة بالغة يشكره على أن تذكر الرهبان الذين علموه طفولته، وتذكر الأقران من الصبيان، بل لعله تذكر صلاة الصبح التي كان يقولها في ابتهال قبل ابتداء الدروس، ثم بعد ذلك يقول له إنه لا يستطيع أن يأذن له بزيارة المدرسة؛ لأنه ... لأنه كافر منبوذ من الكنيسة، ولا بد أن رينان قد تضور على فرشه من ألم هذه الصدمة، بل لا بد أنه بكى وانهمرت دموعه وبللت هذا الخطاب. ولكن ليست هذه هي الدموع الأولى التي انهمرت من المؤلفين الذين علموا أوروبا، ولولا هذه الدموع، ولولا هذه الآلام، لبقيت أوروبا خامدة متأخرة مثل الشرق .
نشأ رينان نشأة كنسية؛ إذ تعلم في مدرسة للإلاهيات ولكنه تركها وآثر دراسة اللغات والأدب، ودرس اللغات السامية وأتقن اللغة العربية، ودرس فلسفة ابن رشد ونقلها ووضحها في اللغة الفرنسية. وقد نقل فرح أنطون عنه هذا الكتاب تلخيصا وترجمة تحت عنوان «ابن رشد وفلسفته».
وأوفدت الحكومة الفرنسية في عام 1860 بعثة إلى فلسطين لدراسة الآثار كان هو من أعضائها، وكانت أخته أفريت ترافقه، وعاد إلى باريس وحاولت الحكومة الفرنسية أن تعينه أستاذا للغات السامية، ولكن الكنيسة اعترضت؛ لأنه كان قد ألف كتابا عن المسيح بعنوان «حياة يسوع» في عام 1863 باعتباره إنسانا لا أكثر. وتتابعت مؤلفاته عن الشئون السامية، مثل «تاريخ إسرائيل» ومثل «محاورات فلسفية» ومثل «مستقبل العلم».
وزاره جمال الدين الأفغاني في باريس فوصفه رينان بأنه ملحد عظيم، وهنا مجال للتفكير ومراجعة الآراء في مصر، وقد سبق أن شرح لنا علي عبد الرازق (باشا) هذا الموضوع.
ولم يكتب أحد في سحر الأسلوب الذي كتب به رينان وضوحا ويسرا، وقد قيل عنه إنه كان يفكر كما لو كان امرأة، ويعمل كما لو كان طفلا، وهذا أحسن أو من أحسن ما يقال عن كاتب أرصد عمره للتفكير المثمر، فإن المفكر العميق يجب أن يكون عميقا أيضا في إحساسه، أما من حيث العمل فإن هذا ليس من شأنه، وإنما هو شأن زوجته أو صديقه؛ إذ ليس له وقت أو كفاءة للعمل.
وكانت ثقافته تنبسط إلى الآفاق أكثر مما تسير الأعماق؛ ولذلك نجد له الإشارات والإيضاحات عن العرب والإغريق واليهود والعلم والأدب، ولكننا نجد أنه حين يتخصص لا يتعمق.
وكتابه عن حياة المسيح الذي ترجمه فرح أنطون إلى اللغة العربية في تلخيص غير مخل، هو جوهرة من جواهر الأدب الفرنسي بل الأدب العالمي، ومع أنه قد جرد شخصيته من الغيبيات فإنه أبرز ميزاته الأخلاقية ودعوته الإنسانية، بحيث إن القارئ للكتاب سواء أكان تقليديا أم عصريا ينتهي بالحب والاحترام؛ إذ يجد في المسيح جمالا وفتنة كما يجد في دعوته تحديا لكل رجل في شرفه وأسلوب حياته . ومن هنا يعد إرنست رينان من دعاة البشرية، وهو إن لم يكن قد دعا هذه الدعوة مباشرة ومواجهة، فإنه بمؤلفاته العديدة قد دعا إليها مداورة ومواربة؛ إذ هو يجمع بين الأدباء والأنبياء والفلاسفة ويضعهم جميعا في صف لتربية الضمير البشري، فهو مسيحي مسلم يهودي بوذي، وهذا هو شأن الكثيرين من أدباء عصرنا الممتازين، بل كذلك هذا هو إيمان الساسة الممتازين أمثال غاندي ونهرو، بل ماذا أقول؟ لقد كان هذا إيمان السلطان أكبر الذي حاول أن يوجد ما أسماه «الدين الإلهي» حين عقد مؤتمرا في الهند من المسلمين والمسيحيين واليهود والهندوكيين والبوذيين، بل لقد كان هذا إيمان محيي الدين بن عربي حين قال هذه الأبيات الخالدة:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
أجل، دين الحب، هذا هو الذي دعا إليه رينان، وهو رسالة حياته.
دستوفسكي
ذكاء العاطفة
كان من حظي الحسن أن هبطت على الأدباء الروس وأنا حوالي العشرين، فارتفعت بذلك إلى مستوى من التقدير للفن القصصي، جعلني في مستقبل عمري أتأنق وأحجم عن قراءة تلك القصص الإنجليزية والفرنسية والأمريكية، التي لا ترتفع إلى مقام المؤلفات العظيمة التي ألفها تولستوي ودستوفسكي وجوركي وجوجول وتيشهوف وترجنيف. والحق أن الانتقال من دستوفسكي الروسي إلى أرنولد بنيت الإنجليزي هو وثبة إلى الحضيض يفزع منها الإنسان، والانتقال من تولستوي إلى أي أديب آخر في أوروبا أو أمريكا هو انهيار فادح.
وأحيانا أحاول أن أعلل حبي لهؤلاء الأدباء الروس بأن الحال الاجتماعية التي وصفوها كانت تشبه حالنا في مصر، وأن الوسط الاجتماعي الأوروبي الأمريكي كان يجري على نظم ديمقراطية حرة، لا تتيح للأوروبي أن يستمرئ هذا المجتمع الروسي القديم، وما حفل به من فوضى وفاقة واستسلام وركود. ولكن هذا التعليل لإحساسنا بتفوق الأدب الروسي على الآداب الغربية لا يكفي، وقد حدث لي ما يشبه ذلك في الموسيقا، فإني في مقتبل عمري عرفت الموسيقا الأوروبية الكنسية والمسرحية، فارتفع ذوقي إلى حد الكراهية، بل العداء للموسيقا الشرقية الباكية الجنسية المخنثة، فلست أطيق إلى الآن أغنية أو لحنا مصريين، بل إني أوثر عليها «موالا» من تلك المواويل التي يغنيها فلاحونا، فإن فيه أحيانا من الصدق والرجولة ما يبعث على الاحترام، في حين نشمئز من الأغاني والألحان المصرية الحاضرة لما فيها من التباكي والتخنث. ولعل ميزة أوروبا علينا في الموسيقا أنها أدخلتها الكنائس، فأكسبتها شيئا يقارب حرمة الدين، وهذا في الوقت الذي تركنا نحن فيه موسيقانا وأغانينا تعيش وترافق الرقص الذي كانت تمارسه البغايا، وقد كان رقصا جنسيا مخنثا فسقطت مكانة الموسيقا والأغاني في نفوسنا. •••
ولد دستوفسكي في عام 1822 ومات في عام 1881، وكان مريضا طوال حياته، تنتابه نوبات من الصرع، وقد أخرج قصته الأولى «المساكين» في عام 1846 ووثب بها إلى مصاف الأدباء الأفذاذ، وفي عام 1849 ألقي القبض عليه بتهمة الاشتراك في جمعية سياسية غير مشروعة، وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم إلى النفي إلى سيبريا حيث قضى أربع سنوات ألف عنها كتابا بعد ذلك باسم «ذكريات من بيت الموتى». وبعد سنوات أخرى في الجندية والسياحة استقر على التأليف القصصي، فأخرج «الإخوة كارامازوف» وهي الأولى بين قصص العالم جميعها، وأخرج أيضا قصة «الجريمة والعقاب»، وقد بعثتني حماستي لها أني في سنة 1911 ترجمت منها نصفها، ثم طبعت الربع بهذا الاسم ولم أتمم الترجمة.
وتتسم قصصه بحنان ورقة يشيعان في نفوسنا إحساس الدين، وهي جميعا دعوة إلى الخير وحب الأطفال وحماسة الأمومة، ولذة التضحية، وارتفاع عن الدنايا المادية ونحو ذلك، وقد كانت حياته هو نفسه مليئة بهذه العواطف. •••
ولنذكر شيئا مما وقع له، ولعله كان لهذه التجربة القاسية أثر في فنه. ففي يوم 22 أبريل من عام 1849 ألقي القبض في بطرسبورج على نحو ثلاثين شابا كان بينهم دستوفسكي، وكانت التهمة الخطيرة التي اتهموا بها أنهم اجتمعوا واحتفلوا بميلاد الكاتب الفرنسي فورييه، وكان فورييه مشهورا ببرنامج يقترحه لتغيير المجتمع، وهو حين نقرؤه هذه الأيام نجد فيه سخفا عظيما؛ ذلك أنه ينص على تأليف جماعات لا تزيد إحداها على 1600 شخص يعيشون معا متعاونين مستقلين عن الجماعات الأخرى. وقيل إن هؤلاء الثلاثين المجتمعين في بطرسبرج قد تآمروا على ترجمة كتاب فورييه هذا، ومما زاد في هذه «المؤامرة» الخطيرة أن أحد الحاضرين قرأ خطابا من أديب يدعى بيلنسكي إلى القصصي جوجول يوبخه فيه؛ لأنه عاد إلى الإيمان بعد الكفر، وبعد أن قضى المتهمون سبعة أشهر في السجن حكم عليهم بالإعدام، ثم قضوا شهرا آخر قبل التنفيذ، وفي يوم التنفيذ نصبت أعمدة في أكبر ميدان في بطرسبرج ثم ألبس المتهمون جلاليب بيضاء، وعلى رأس كل منهم طرطور وأخرجوا في الصباح من يوم 22 ديسمبر، والثلج يغطي الأرض. ثم حضر قسيس يحمل صليبا من الفضة، ويطلب إلى كل منهم تقبيله حتى يغفر لهم في العالم الآخر. ووقف ستة عشر جنديا يحملون البنادق، وربط كل منهم إلى العمود كي يتلقى الأعيرة النارية، ثم أمر الجنود بفتح الأزندة استعدادا لإطلاق النار، وفي هذه اللحظة فقط أعلنوا جميعهم بأن القيصر قد استبدل بحكم الإعدام الحكم بالنفي إلى سيبيريا أربع سنوات. وبعد هذه المأساة أو المهزلة سافروا إلى سيبريا، وقبل السفر كتب دستوفسكي إلى شقيقه هذا الخطاب التالي:
قلعة بطرس وبولس في 22 ديسمبر سنة 1849
أخي، صديقي الحبيب، كل شيء قد تم، وحكم علي بالسجن والأشغال الشاقة أربع سنوات في القلعة (أظنها قلعة أورنبورج)، وبعد ذلك ألتحق بالجيش جنديا، وفي هذا اليوم 21 ديسمبر نادونا إلى مكان العرض في سميونوف وقرءوا علينا الحكم بالإعدام، ثم أمرونا بأن نلثم الصليب، ثم كسروا سيوفنا فوق رءوسنا، ثم نزعوا ملابسنا وألبسونا القمصان البيض، وبعد ذلك ربطوا ثلاثة منا إلى عمود كي يضربوا بالبنادق، وكان ترتيبي السادس، وكان النداء على ثلاثة كل مرة، وكنت أنا بذلك في الفرقة الثانية فلم يكن باقيا لي من الحياة سوى دقيقة، وقد ذكرتك أيها الأخ أنت وأولادك، وفي هذه الدقيقة لم أذكر سواك يا أخي وحبيبي، وعرفت عندئذ مقدار حبي لك ، وقد تمكنت من أن أقبل بلاتسياف ودوروف، وكانا واقفين جانبي وودعتهما، وأخيرا نفخ البوق وأعلن الأمر بالرجوع، وحل الذين كانوا قد ربطوا إلى العمود، ثم قرئ علينا أمر صاحب الجلالة الإمبراطورية بمنحنا حياتنا، والحكم علينا بالأحكام الجديدة. ولم يفرج عن أحد سوى بالم الذي أرجع إلى الجيش برتبته السابقة. وقد أبلغت يا أخي الحبيب بأنهم سيرسلونني اليوم أو غدا، وقد طلبت رؤيتك، ولكنهم أخبروني بأن هذا محال، وأن كل ما يستطيعونه أن يسمحوا لي بالكتابة إليك، فأسرع وابعث لي الرد. وأنا أخشى أن يكون قد بلغك الحكم علينا بالإعدام، فقد نظرت من نافذة العربة التي حملتنا إلى ساحة الإعدام ورأيت في الطريق جمهورا كبيرا، وخشيت أن يكون من رأوني قد أبلغوك وآلموك بذلك، ولكن الآن يمكنك أن تهنأ بشأني. يا أخي، لا تظن أن الحكم قد هدني أو غم علي، فالحياة في كل مكان هي الحياة، هي في داخلنا وليست فيما هو خارج عنا، وسيكون قريبا مني أناس، وسأكون رجلا بينهم وأبقى كذلك إلى الأبد، ولن يهن قلبي أو تفشل عزيمتي أمام المصائب، وهذا في اعتقادي هو الحياة أو الواجب في الحياة، وقد حققت ذلك وصار هذا الخاطر جزءا من لحمي ودمي. أجل، هذا صحيح، فهذا الرأس الذي كان يبتكر ويعيش في أسمى الحياة الفنية، والذي حقق أسمى الحاجات الروحية واعتقادها، هذا الرأس قد قطع من عاتقي ولم يبق عندي سوى الذكريات والخيالات التي أخترعها، ولكنها لم تتجسم في بعد، وإني لأعرف أنها ستمزقني، ولكن ما يزال باقيا لي قلبي وهذا اللحم والدم الذي ما يزال قادرا على الحب والألم والرغبة، ولا تنس أن هذه هي الحياة، أجل ما زلت أرى الشمس. والآن وداعا يا أخي ولا تحزن من أجلي.
والآن هلم إلى الماديات، إن كتبي (باستثناء الكتاب المقدس الذي ما يزال عندي) وعدة أوراق من مخطوطاتي، وتخطيط درامة، وقصة (وقصة أخرى كاملة تسمى قصة طفل) قد أخذت كلها مني، والأرجح أنك ستتسلمها، وقد تركت معطفي وملابسي فيمكنك أن تأخذها . والآن يا أخي أظن أنني سأمشي مسافة طويلة وأحتاج إلى نقود، أخي الحبيب، إذا تسلمت هذا الخطاب وكان يمكنك أن تحصل على قليل من النقود فأرسلها إلي بأسرع وقت، فأنا أحوج الآن إلى المال مني إلى الهواء (لغرض خاص)، وابعث لي ببضع كلمات، ثم إذا جاءت نقود من موسكو فتذكرني ولا تنسى، وهذا كل ما أريده، وأنا أعرف أن علي ديونا ولكن ماذا أفعل. قبل زوجتك وأولادك واذكرني عندهم كثيرا ولا تجعلهم ينسونني فعلنا نلتقي يوما ما! أخي، أوصيك بالعناية بنفسك وأولادك، وأن تعيش في هدوء ويقظة، وأن تفكر في مستقبل أولادك، عش عيشا إيجابيا، إني ما شعرت قط بوفرة الحياة الروحية في شخصي كما أشعر بها الآن وأنا مريض بالإسخربوط، ولكني لا أبالي بذلك. أخي، لقد كابدت من الحياة الشيء الكثير حتى ما يكاد شيء يخيفني الآن في العالم، فليكن ما هو كائن، وسأكتب إليك في أول فرصة، وابعث لأسرة مايكوف بتسليماتي وتحياتي، واشكر لهم اهتمامهم بحظي، وقل بضع كلمات حارة يمليها عليك قلبك ليوجينيا بتروفيا، فأنا أدعو لها بالسعادة وسأذكرها على الدوام بجميلها، واضغط يد نيكولاي أبولو نوفتش أبولون مايكوف، وجميع الآخرين، وابحث عن يانوفسكي واضغط يده واشكره. وأخيرا صافح جميع أولئك الذين لم ينسوني، وقبل أخي كوليا، واكتب خطابا إلى أخي أندريه وأخبره بكل شيء عني واكتب لعمي وعمتي، وافعل ذلك باسمي وابعث لهم تحياتي، واكتب لأخواتي اللواتي أدعو لهن بالسعادة، وربما نلتقي يا أخي في المستقبل. لا تهمل العناية بنفسك بل عش وابق حيا حتى نلتقي ثانيا، فعلنا نتعانق يوما ونذكر شبابنا ذلك الوقت الذهبي، ذلك الشباب وتلك الآمال التي أمزقها الآن من قلبي ودمي كي أدفنها، هل يمكن حقا أني لن أتناول القلم بيدي مرة أخرى؟ أظن أني سأعود إلى الكتابة بعد هذه السنوات الأربع، وسأرسل لك كل شيء أكتبه إذا كتبت شيئا، وا رباه! كم من خيالات عشت فيها أو اخترعتها ستموت وتنطفئ في دماغي، أو تتمزق وتسير في دمي كالسهم، أجل، إذا لم يسمح لي بالكتابة فإني سأموت، وخير لي من ذلك أن أسجن خمس عشرة سنة، ويكون في يدي قلم. اكتب لي كثيرا، واكتب بالتفصيل والإسهاب واذكر لي حقائق، حقائق كثيرة، وفي كل خطاب اكتب لي عن شئون الأسرة مع التفصيل، ومع ذكر الأشياء التافهة، ولا تنس هذا فهذه الخطابات تعيد إلي الرجاء والحياة. آه لو تعرف كيف أحيتني وأتعستني خطاباتك التي أرسلتها إلي وأنا في هذه القلعة، وقد كان الشهران والنصف شهر الماضية، حين منعنا من كتابة الخطابات أو تسلمها، من أشق ما كابدته، وقد كنت مريضا. ولما أهملت أنت إرسال النقود إلي ساورني القلق من أجلك؛ لأني فهمت من عدم إرسالك للنقود أنك أنت في حاجة شديدة. قبل الأطفال مرة أخرى، فإن وجوههم الحلوة الصغيرة لا تغيب عن بالي، لتكن لهم السعادة! وأنت يا أخي كن سعيدا، كن سعيدا، ولكن لا تحزن، وبحبك الله لا تحزن لأجلي، وثق أني لم أهن وتذكر أن الرجاء لم يهجرني، وبعد أربع سنوات سيخفف عني ما فعلته الأقدار، وأصير جنديا فينقضي سجني، وتذكر أني سأعانقك يوما ما. لقد كنت اليوم في قبضة الموت ثلاثة أرباع الساعة، وعشت هذه المدة بهذا الخاطر وبلغت آخر لحظة من الحياة، وها أنا ذا حي مرة أخرى، وإذا كان أحد يتذكرني بسوء، أو إذا كنت قد تشاجرت مع أحد أو أسأت إلى أحد، فأخبره إذا لقيته بأن ينسى الإساءة، وليس في نفسي مرارة أو نقمة على أحد، وأود لو أعانق في هذه اللحظة كل واحد من أصدقائي السالفين، وقد شعرت اليوم بالراحة وأنا أودع أحبابي الأعزاء قبل الموت، وخطر ببالي في هذا الوقت أن خبر إعدامي سيقتلك، ولكن استرح الآن فإني ما زلت حيا، وسأعيش راجيا بأن أعانقك يوما ما، وهذا كل شيء في بالي الآن. ماذا تفعل، وبماذا فكرت اليوم، وهل عرفت شيئا عنا؟ وماذا كان مقدار البرد اليوم؟ آه ما أشوقني إلى أن يصل خطابي هذا إليك بسرعة، وإلا فإنه إذا تأخر فإني سأبقى أربعة أشهر بدون خطاب منك، وقد رأيت الظروف التي أرسلت فيها النقود لي مدة الشهرين الماضيين، وكان عنواني مكتوبا عليها بخطك وسررت برؤية الخط، وعندما ألتفت إلى الماضي وأتذكر مقدار الوقت الذي ضاع عبثا وكم منه ضاع في الأوهام والكسل والجهل بالعيش، وكيف أني لم أقدر الوقت حق قدره، وكيف جنيت على قلبي وذهني! أحس بأن قلبي يسيل دما، أجل إن الحياة عطية وهي سعادة، وكان من الممكن أن نجعل من كل دقيقة منها عصرا طويلا من السعادة. آه لو عرف الشباب ... والآن هذه حياتي تتغير، وأنا أولد من جديد في شكل آخر. أخي أقسم لك أني لن أفقد الأمل، وسأصون روحي وقلبي في الطهارة، وميلادي الجديد سيكون إلى حال أحسن من حالي الماضية، وهذا كل رجائي، وهذا كل عزائي. إن حياة السجن قد قتلت في جسمي مطالب اللحم التي لم تكن كلها طاهرة، ولم أكن قبل هذه الحياة أعنى بنفسي كثيرا، أما الآن فالحرمان لا قيمة له عندي؛ ولذلك لا تخش علي من المشاق المادية وتحسب أنها ستقتلني، كلا لن يحدث هذا، وداعا. وداعا يا أخي، إني أعانقك بقوة وأقبلك بحرارة، تذكرني ولكن بلا ألم في قلبك، فأرجوك ألا تحزن، وفي الخطاب الآتي سأخبرك بما يتم لي، وتذكر عندئذ ما أخبرتك به ألا تعش جزافا دائما، دبر حياتك ورتب حظك وتفكر في أولادك. آه لو أراك، وداعا، إني أنزع نفسي الآن من كل شيء أحببته، وهذا النزاع مؤلم ومن الموجع أن أقطع نفسي نصفين وأشق قلبي شقين، وداعا ... وداعا، ولكني سأراك، أنا واثق، واع أنا فلا تتغير، وأحبني، ولا تدع ذاكرتك تبرد ... وذكرى حبك ستكون أحسن شيء في حياتي، ومرة أخرى وداعا، وداعا، وداعا، وداعا لكم جميعا.
أخوك
فيدور دستوفسكي
لما قبض علي أخذوا مني كتبا عدة، ولم يكن بينها سوى كتابين ممنوع تداولهما، فهل لك أن تطلب الباقي لنفسك، ولكن لي طلبا، وهو أن أحد الكتب يحتوي على مؤلفات فاليريان مايكوف، وهو مقالاته الانتقادية، وهذه النسخة كنت أخذتها من أوجينيا بتروفنا ، وكانت تعدها كنزا، وقد أقرضتها لي، ولما قبض علي طلبت من الشرطي أن يرد إليها الكتاب وأعطيته عنوانها، ولا أعرف إذا كان قد رده، اسأل عن ذلك لأني لا أحب أن أحرمها هذه الذكرى، وأخيرا وداعا وداعا.
أخوك
ف. دستوفسكي «على الهامش: لا أعرف هل أمشي أو أركب فرسا، وأظن أنهم سيركبون الخيول، ربما، قبل يد إميلي فيدروفنا، وقبل الصغار واذكرني عند كريافسكي، اكتب لي عن القبض عليك وحبسك والإفراج عنك.» •••
هذا الخطاب هو جزلة حية ترشح بالدم من نفس دستوفسكي.
تمتاز قصص دستوفسكي بأن أشخاصها يتسمون بالإحساس والذكاء معا فإن بطل «الجريمة والعقاب» طالب في الجامعة يتأمل ويتفلسف ويتساءل: لماذا لا يقتل هذه العجوز الثرية المقترة التي لا تزيد قيمة حياتها على حياة برغوث؟ أليس هو أولى بثرواتها ينفقها في الخير والنفع؟ ثم يقتلها، ثم يعود إلى التأمل والفلسفة فيسلم نفسه في النهاية إلى البوليس حيث يحاكم ويحكم عليه بالنفي إلى سيبيريا، ويرضى لنفسه هذا المصير؛ لأنه وجد شيئا أكبر من ذكاء العقل هو ذكاء الإحساس.
وسائر قصصه على هذا الغرار، إحساس فوق الذكاء، وخيال فوق العقل، وقصصه تكاد جميعها تخلو من العقدة إلا القليل جدا، وفي النهاية نجد أنه يهدف إلى خيال الشعر، فهو يتناول الواقع ثم يسير به نحو آيات من الفن والشعر، وهذا هو ما يجب أن يكون؛ لأن القصة هي التفسير الخيالي للحياة حيث يرتفع المؤلف بالواقع إلى المثليات، فيكسب هذا الواقع دلالة جديدة، فالفتاة التي تبيع عرضها كي تنقذ إخوتها من الجوع، والسكير الفاني الذي يتعلق بالدين ولا يزال يؤمل الآمال، والراهب الذي يحب ولكنه لا يسقط، والشاب الذي يملأ الشرف صدره فيذهب إلى أحد الأثرياء، ويعرض عليه في غرارة وسذاجة مشروعا للخير فلا يجد سوى الاستهزاء، والأبله الذي يؤمن بالعلم فيرتكب جريمة الاغتيال استنادا إلى العلم، وهذا يذكرنا بالبله العلماء الذين اخترعوا القنبلة الذرية.
كل هذا يقع في قصص دستوفسكي، وهو بفرط حنانه وجمال خياله قد يناقض العقل والمنطق، ولكن كما كان يناقضه غاندي أو تولستوي ... وقد كسبت من دستوفسكي أكثر مما كسبت من غيره ، وهو ذلك الإحساس الأدبي الذي لا يختلف من الإحساس الديني أو الموسيقي، وذلك أننا إزاء الدين والأدب والموسيقا لا «نعرف» وإنما نحس. وقد قلت في أول هذا الفصل إن هبوطي المبكر على القصصيين الروس قد جعلني أستصغر شأن الأدباء الأوروبيين، والحق أني قرأت برنارد شو، وولز، وديكنز، وأناطول فرانس، وأندريه جيد، وكثيرا غيرهم فكان تقديري لهم اجتماعيا أكثر مما كان أدبيا، وقد وجدت عندهم الرأي والمعرفة أكثر مما وجدت الفن والإحساس، وعندما أتأمل هؤلاء الأدباء الروس جميعهم، حتى مكسيم جوركي، أجد أنهم ينشدون الدين، فإن الإحساس الديني البشري في هذا الكاتب الأخير على الرغم من إلحاده كبير جدا. وقد استطاع دستوفسكي وتولستوي أن يجعلا المسيحية دينا وأدبا معا، بل إنهما أبرزا الميزة الأصلية لهذه الديانة، وهي الحب البشري العام أكثر مما أبرزها كهنة هذه الديانة أنفسهم.
كان دستوفسكي يكره الشبان الثائرين على القيصر، وكثيرا ما نجد في قصصه ثائرا أو أكثر يستهزئ بأفكارهم ويسخر من عقائدهم، ولكن كراهيته لهم لم تكن تستند إلى حبه للنظام الاستبدادي الذي كان يسود حكومة القيصر ويوجهها، وإنما كان يكره أوروبا أيضا لهذا السبب، وقد دعا إلى مقاطعة الثقافة الأوروبية في الوقت الذي كان يدعو فيه تورجنيف إلى اعتناقها.
وعندما نتعمق أقوال دستوفسكي لا نتمالك الإحساس بأنه يكره العلوم المادية جميعها، ويكره الحركات الاجتماعية الارتقائية القائمة عليها، وأن في نفسه شوقا ملحا إلى أن يعيش الناس في إيمان بالله قانعين بكلمات الإنجيل التي يجب أن تكون الأساس الذي تنبني عليه الأخلاق، وقد عجز دستوفسكي عن أن يفطن للحقيقة الأوروبية البازغة وهي أن الأوروبيين قد شرعوا منذ أوائل القرن التاسع عشر في استبدال الرؤيا البشرية للرقي والأخلاق والدين برؤيا الكنيسة، وأن الإحساس الديني البشري الجديد، على الرغم من أنه لا يزال ضعيفا، يجد أنصارا أقوياء يسلكون في حماسة وحب للبشر، ويخدمون ويضحون للإنسانية.
ولكنه فطن إلى أن علما بلا دين هو دمار بشري عام ، بل نستطيع أن نقول إنه بصر بقوة العلم الطاغية في القنبلة الذرية التي يخرج بها طيار يشرب كأسا من الكونياك في نزق ومجانة، ثم يقتل ثمانين ألف إنسان في ثانية، ويعود ضاحكا إلى معسكره كما حدث في هيروشيما في أغسطس من عام 1945.
بعد أن قضى دستوفسكي مدة عقوبته في سيبيريا وأفرج عنه كتب إلى السيدة فون ويسين خطابا جاء فيه:
ومع ذلك فإن الله يمتعني أحيانا بلحظات من الهدوء الكامل، وفي هذه اللحظات أجد الإيمان الذي يتجلى لي فيه كل شيء في وضوح وقداسة، وإيماني هذا في غاية البساطة، وهو أني أعتقد أنه ليس هناك ما هو أروع وأحب وأعقل وأشجع وأكمل من المسيح، وليس هذا فقط بل إني لأقول لنفسي في إحساس المحب الغيور إنه لا يمكن أن يكون هناك شيء أكثر من هذا، وهو أنه لو أن أحدا قال لي: المسيح يجافي الحق، ولو أن هذا القول كان صحيحا، لآثرت البقاء مع المسيح على التزام الحق.
وقصص دستوفسكي جميعا تنشد الإيمان الذي يستطيع أن يستقر به الإنسان على هذه الدنيا حتى ولو كان هذا الإيمان يخالف منطق العيش وأسلوب البحث العلمي، وقد وجد دستوفسكي حافزا عظيما للاعتماد على الإيمان، هو هذا الاختبار المؤلم حين وقف أمام الجنود ينتظر إطلاق النار، فإنه بقي طوال عمره بعد ذلك ينظر إلى الحياة من موقف الموت، وهو موقف جدير بأن يغير النظرة والنبرة للحياة معا، وواضح أنه لم ينسه بتاتا في كل ما كتب.
وأكاد هنا أقول إن الدين ليس شيئا آخر سوى النظر إلى الحياة من موقف الموت، فإن الموت أكبر حقيقة بشرية، وهو عندما نتأمله نجد أنه يغير القيم والأوزان ويحيلها من التقدير الاجتماعي إلى التقدير البشري، فنحن في هرولة الحياة الاجتماعية نتعب ونلهث لأجل الثراء أو الوجاهة أو ننساق في أنانية بشعة، لا نبالي مصالح الغير، ولا نرحم من ندوسه في سبيل الاقتناء أو التغلب، وكلنا على هذه الحال بدرجات متفاوتة، ولكن فكرة الموت تنقدح فجأة في أذهاننا فنقف في طريق الحياة ونتساءل عن نهايته، وهذا وجدان أكبر الوجدان بالحياة التي تتخلص عندئذ من ملابساتها الاجتماعية، وعندئذ نحس كما أحس دستوفسكي، بل كما يعلم ويكرر في جميع قصصه، إننا نحن بنو البشر كيان واحد قد تعددت أجزاؤه وانفصلت، ولكن انفصالها لم يمنع بينها التراحم والحب والحنان، فكلنا عندئذ بعد تأمل الموت، أب وأم وأخ لأبناء البشر جميعا.
وهذا هو إحساس المسيح، وغاندي، وتولستوي، بل فولتير، وروسو، وشفيتزر بل كل إنسان استطاع أن يقف عن هرولته الاجتماعية ويتأمل حقيقة الموت. أجل، إن تأمل الموت هو كشف ديني، كأني - حين أوقن أني في إحدى اللحظات سأفارق هذا العالم فلا يبقى لي فيه جسم أو اسم أو ذكرى - لا أسأل عندئذ عن هذا الرجل هل هو باشا أو بك؟ وثري أو فقير؟ وهل يملك ضيعة أو أتومبيلا أو قصرا؟ وإنما أسأل عن ميزاته الإنسانية، بل إني لأهتم به وأتأمله كثيرا عندما أعرف أنه يحب الزهور، ويحنو على الأطفال، ويفرح لرؤية الشفق، وتلتمع في ذهنه أشعة الذكاء وشهوة الحرية، ويحس قرابته للحيوان بل للنبات.
إن يقيننا بالانعدام بعد الموت يزيدنا وجدانا بالحياة، وهذا هو إحساسنا عندما نقرأ دستوفسكي، فإن الحياة تصخب حولنا وتكاد تتجمع في بركان تحتبس فيه العواطف ثم تنفجر. ومع أن القارئ لقصصه يحس من وقت لآخر أن إيمانه بالله يتزعزع، هنا وهناك، فإن إصراره على الإيمان يتكرر في لهجة التأكيد والغضب من المنطق العلمي وتفشي المادية الأوروبية، فهل نستطيع أن نفسر ذلك بأن رهبة الموت حين وقف لتلقي النار قد حملته أيضا على التشبث بالإيمان فرارا من معاني القلق والشك والخوف، وجميعها من معاني الموت؟
قد يكون ذلك، ولكن هذا الإيمان قد جعل قصصه تذوب، رحمة وحنانا وإخاء وبرا حتى لنحس ونحن نقرأها هذه الفضائل تسري في كياننا، كما لو كانت بلسما، وترفعنا فوق أنفسنا. •••
لا نتمالك ونحن نقرأ دستوفسكي أن نقارن بينه وبين نقيضه نيتشه، وقد عرف داعية القوة وعدو المسيحية داعية الرحمة والمسيحي الأول من إحدى قصصه. والعجب أننا على الرغم من هذا التناقض بينهما نجد اشتراكا في الأسلوب الفكري ، حتى لقد أحب نيتشه دستوفسكي وقال عنه: هو الإنسان الوحيد الذي علمني شيئا عن السيكلوجية.
وهما يشتركان في الكراهة للحضارة العصرية، ولكن لسببين متناقضين، فإن دستوفسكي يكره أوروبا؛ لأنها تركت الإنجيل والمسيح، ونيتشه يكرهها لأنها اعتنقتهما، فالأخلاق العامة في أوروبا تحولت في رأي دستوفسكي إلى أخلاق المادية العلمية، والمباراة الاقتصادية، والبعد عن الإخاء والرحمة، ونيتشه يكره الأخلاق الأوروبية؛ لأنها ابتعدت عن الفطرة الحيوانية واستبقت الضعفاء والعجزة والمرضى الذين يفسدون المادة البشرية؛ لأنها أخلاق مسيحية. ولكنهما يتفقان من حيث إن لكل منهما رؤية بشرية، فكلاهما حالم، ولكن حلم دستوفسكي هو المسيحية العامة، وحلم نيتشه هو تنازع البقاء. وقد قال كلاهما: إن البطولة خير من السعادة، ولكن البطل عند دستوفسكي هو ذلك الذي يضع إحساسه البشري فوق عقله المنطقي، والإحساس هنا هو الرحمة والحب، وكذلك نيتشه يزدري العقل والمنطق، ويقول بالإحساس ولكن إحساسه هنا هو أن الصقر يجب أن يأكل العصفور ولا يرحم.
لقد انتهى رسكلنيكوف في قصة «الجريمة والعقاب» الذي قتل العجوز كي يحصل على مالها إلى أن يجحد عقله ويعود إلى إحساسه، ويرضى بالتكفير عن جريمته في سيبيريا، ولو أن نيتشه كان قد ألف هذه القصة لسخر من هذه النهاية، ولكنه مع سخره هذا، لم يكن ليقبل قتل العجوز؛ لأنه لم يكن داعية للفوضى، وإنما الأغلب أنه كان يطلب نظاما اجتماعيا منطقيا يؤدي إلى الاستغناء عن العجزة الذين انتهى نفعهم للبشر. وحين نقرأ قصص دستوفسكي لا نتمالك أن نحس أنه يريد أن نفهم منه أن الإنسان مزيج من الخير والشر، وأن في نفس المجرم الآثم أو الشرير القارح جواهر من الشرف والبر، وهذا صحيح.
وثلاثة يمثلون العبقرية البشرية، هم نابليون الذي يمثل عبقرية الإرادة، وأينشتين الذي يمثل عبقرية الذهن، وأخيرا دستوفسكي الذي يمثل عبقرية الإحساس.
ثورو ونداء الطبيعة
سبق لي أن أوضحت بعض الأسباب التي تجعلني أحب أحد المؤلفين دون الآخرين، ولكن هناك حالات من الحب تتعمق قلبي وتتغلغل في خلايا مخي بحيث أعجز عن التحليل، فلا أصل إلى الجذور التي تربطني بأحد المؤلفين، وقصارى ما أقول عندئذ إني أحبه كما أحب اللحن الموسيقي العظيم، أو أعجب به كما أعجب بالتمثال الرائع، وأتعلق به برباط من الحنان كما لو كان هذا المؤلف أبا أو أما.
فإني أعجب بتولستوي مثلا؛ لأنه ألف قصة خالدة رائعة تدعي «أنا كارنينا» هي في الذروة من الفن، ولكن حبي له لا ينبني على هذه القصة وحدها، بل أحرى أن تبعث هذه القصة في نفسي إعجابا بقدرته، ولكني لا أحبه لأنه قادر فقط، وإنما لأنه ضعيف عاجز أيضا، قد ارتكب أخطاء وتورط في مشاكل لم يعرف كيف يتخلص منها، فإحساسي نحوه هو الحنان والرقة، هو عندي: بابا تولستوي، لهذه الأخطاء والتورطات نفسها.
عاش تولستوي عيشة الفسق وهو شاب، ثم حاول أن يكون شيخا طاهرا وأسرف في معنى الطهارة حتى قال - وحاول أن يمارس ما كان يقول به: إن الزوج يجب ألا يتصل بزوجته إلا بغية التناسل. ولكن أخفق؛ إذ كان يصارع جسده وهو فوق السبعين، ويعود من هذا الصراع خائبا.
وقضى شبابه وهو لا يكاد يدري أن في هذه الدنيا أديانا يؤمن بها الناس ويجعلون منها دستور حياتهم، حتى إذا اكتهل شرع يشتغل بالدين ويحاول الإيمان، فإذا به يتورط في ارتباكات ذهنية وعادات سلوكية انتهت به آخر حياته إلى اثني عشر يوما من الضلال والدمار، ثم الموت. وكان شريفا له لقب كونت، وعنده آلاف الأفدنة، يستغل عشرات الفلاحين في زراعتها، ثم انبلج له نور جديد، فإذا به يجمع هؤلاء الفلاحين ثم يعرض عليهم أن يوزع الأرض بينهم؛ إذ لا حق له في استغلالهم، ويغادر الفلاحون منزله، وفي نفس كل منهم شك أو شبهة في سلامة عقله. ثم تدري عائلته بما جرى في هذا الاجتماع فتكفه عن التصرف وتمنعه من التنازل عن أرضه، وتستمر على الرغم منه في استغلال الفلاحين. وألف عشرات القصص الخالدة، وكلها فن ومجد وحب، ملأت الدنيا موسيقى وأدخلت السعادة إلى قلوب الملايين من البشر، ثم يختمر في نفسه الإيمان الجديد بأن الناس لا يحتاجون إلى الفن، وإنما يحتاجون إلى الحنان والخير والقناعة وسذاجة العيش، فيكف عن التأليف ويرفض أن يتناول قرشا من أرباحه من هذه القصص، ثم لا يكتفي بهذا بل يعمد إلى شراء الجلود ويصنع بيديه أحذية للفلاحين؛ لأن صنع حذاء يدفئ قدم الفلاح خير من إخراج كتاب يجد فيه القارئ لذة فنية، وتثور العائلة في وجهه، وتضرب عليه حصارا حتى لا يتورط في عمل أرعن جديد. وكان له صديق طبيب من أولئك الرجال الذين يحابي القدر بهم بعض الناس، فهم حب وإخلاص وتضحية، وهم سعادة لأصدقائهم ونور للعقل والقلب.
وكان تولستوي إذا جاءه هذا الصديق شهق شهقة الخلاص، فهو يستقبله ويدخله غرفته ويقفل الباب، ويبقى الاثنان يتناجيان. ولكن زوجة تولستوي لا تطيق كل هذا الحب ينحرف عنها من زوجها إلى هذا الطبيب، فهي تغار وهي تحقد، ثم تنفجر، فتكتب في مذكراتها بأنها نظرت من صير القفل، ولا تشك في أن بين تولستوي وبين هذا الطبيب حبا جنسيا شاذا، وكلا الرجلين قد أوشك على الثمانين. وهذا حقد الغيرة، وعمى الغيرة، وكفر الغيرة.
ويستقر في ذهن تولستوي أنه قد فشل في حياته، فلا هو استطاع أن يوزع الأرض على فلاحيه، ولا هو استطاع أن يؤمن بالإيمان الساذج الذي كان ينشده بإحساسه، ولا هو قادر على أن يعيش العيش الساذج الذي قال به ودعا إليه، بل إن نفسه لتهفو حتى وهو في هذا النسك إلى أن يؤلف قصة غرامية، وأنه مع دعواه بأن التناسل هو الغاية المفردة من التعارف الجنسي ليتقدم في ذل إلى زوجته.
والدنيا حوله في آلام، فقر وجوع ودنس وظلم، أجل، ليس له الحق في أن ينعم بطعام طيب أو فراش دافئ، وهو يحس أنه قد اقترب من الليل الطويل والنوم الأخير، وأنه يجب أن يتنكر الإنكار العظيم لحياته الماضية، وأن يفر من الدنيا إلى ... إلى الله، وكيف يفر إلى الله هذا الشيخ الذي بلغ الثانية والثمانين؟
في الساعة السادسة من صباح يوم 28 أكتوبر من عام 1910 تأتي إليه عربته التي ينتظرها بميعاد، ويحرص الحوذي على الصمت والسكون حتى لا يستيقظ أحد آخر، ثم تسير به العربة إلى محطة السكة الحديدة، فينزل ويجد صديقه الطبيب في انتظاره، ويأتي القطار فيركبان في إحدى عربات الدرجة الثالثة، وينزل كلاهما في إحدى المحطات، ويسيران إلى دير حيث تستقبلهما الراهبات، ولكن لا تمضي أيام حتى تعرف ابنة تولستوي - وهي فتاة في السادسة والعشرين - مكانه، فتذهب إليه وتدخل الدير وتقف إلى جنب والدها، ولكنه هو يحس من هذه الزيارة أن الدنيا قد شرعت تجره إليها بعد أن تركها، فهو يستيقظ في الرابعة من الصباح، والثلوج تكسو روسيا بأجمعها، فيفر مرة أخرى مع ابنته والطبيب.
ويحس قشعريرة تلجئه إلى أن يرتاح في غرفة بإحدى محطات السكك الحديدية، وبعد أيام بين يدي ابنته، يموت ... يموت موتا عظيما بعد أن عاش حياة عظيمة، لقد ألف تولستوي عشرات القصص الجميلة، ولكن قصة حياته أجمل بل أخلد، إنها كانت جهادا شاقا وأخطاء متوالية في سبيل الحق والشرف، ونحن أعجز من أن ننهج هذا النهج في الحياة، ولكن هذا العجز يزيدنا حبا له. وحياته هي رؤيا دائمة، هي دعوة إلى أن نتحرى الحق ونجرب التجارب في العيش، فننفض العادات، والتقاليد، والعرف، إذا لم نجد أنها تلائم العيش المثمر البار.
وتجارب العيش هي في النهاية أثمن ما يطلبه من المؤلف أو المفكر، ونحن ننتفع ونسترشد بحياة المؤلف كما ننتفع بمؤلفاته، بل ربما أكثر؛ لأن حياة المؤلف هي نهج جديد للبشر.
وكثيرا ما أقارن بين حياة فولتير ومؤلفاته، فأجد أن كفاحه الشخصي للتعصب الديني قد ربى أوروبا وعلمها معاني جديدة لشرف الفكر، رباها وعلمها بأكثر مما ربتها وعلمتها مؤلفاته، وكذلك الشأن في حياة غاندي أو شفيتزر؛ ذلك لأننا لسنا واثقين بأننا نعيش في حضارتنا الراهنة الحياة الفضلى على المستوى الأرحب، ومن الحسن أن نصدم من وقت لآخر بمن يوضحون لنا الخطأ والخطل في عيشنا الحاضر، أو على الأقل يغرسون الشك في نفوسنا حتى لا نسرف في عاداتنا الاجتماعية المورثة ونتقيد بها كما لو كانت شعائر دينية، فمجتمعنا الذي نعيش فيه مثلا هو مجتمع اقتنائي يعلمنا كيف نقتني، ويغرس في نفوسنا عواطف الكسب والجمع والغيرة والحسد، وكثيرا ما نسير إلى أقصى حد مع هذه العواطف فنقع في هموم هي سموم تأكل في نفوسنا وأجسامنا معا، ونشقى بما نقتني.
وقد رفض غاندي أن يعيش وفق المبادئ التي يدعو إليها هذا المجتمع، فقنع من الدنيا بشملة وعنزة، وعاش سعيدا إلى سن الثمانين تقريبا، ولعله كان يعيش أكثر لو لم يقتل، وكانت له مبادئ في الخير والبر والإخاء والحب هي ثمرة هذا العيش الساذج، أو على الأقل كانت بعض ثمرته؛ لأننا يجب ألا ننسى أن أسلوب عيشنا «يكيف» أفكارنا ويعين أخلاقنا إلى حد بعيد، وأسلوب الاقتناء في العيش يبعث الطمع والحسد، وأسلوب القناعة في العيش يبعث الطمأنينة. •••
وإني أذكر هنا رجلا جرب تجربة في العيش كانت إلهاما لغاندي هو هنري ثورو الكاتب الأمريكي، الذي كسب غاندي عنه أسلوب العيش، كما أخذ عنه شعار الثورة الهندية على الإمبراطورية البريطانية، وهو «العصيان المدني». وقد كان هنري ثورو يقصد من هذه العبارة إلى أننا نكون أحرارا بحيث لا يربطنا المجتمع بعاداته وأهدافه وأساليبه وقيمه؛ لأن لكل منا حق الاستقلال في تنظيم عيشه وفق مبادئه الشخصية، حتى حين يخالف العرف المألوف، وقد خرج غاندي هذه العبارة تخريجا آخر هو أن الهنود يجب ألا يتعاونوا مع الإنجليز.
ولد ثورو في عام 1817 ومات في سنة 1862، وقد ألف كثيرا، ولكن ميزته أنه أدخل الطبيعة في الأدب الأمريكي، وأثار الوجدان لجمال الريف والغابة والطير والوحش، وكان الروح التجاري والاقتنائي في أيامه على أشده في الولايات المتحدة، فعمد هو إلى صده، وترك المدينة وأقام في الغابة، وكتابه «والدين» هو أثره العظيم الذي يذكر لنا فيه تجاربه وإحساساته عن هذه الحياة الفطرية التي عاشها.
وهو يقول عن تجربته هذه: «لقد أردت أن أعيش عن قصد، وأن أجابه حقا عمق الحياة الأصلية فقط؛ كي أعرف ما يمكن أن تعلمني هذه الحياة، حتى إذا قاربت الموت أكون واثقا بأني قد عشت ، ولم أكن أرغب في أن أحيا بما لم يكن أصيلا في الحياة؛ لأن الحياة غالية، كما أني لم أكن أقصد إلى الاعتكاف ما لم يكن هذا ضروريا، إنما أردت أن أعيش في عمق وأن أمتص مخ الحياة، وأن أحيا في قوة حياة إسبرطية تبعد عني ما ليس من الحياة، وأن أدفع الحياة إلى مأزق، وأن أصل منها إلى أن أدون ما فيها، فإذا كانت خسيسة فإني سوف أعلن خستها للعالم، وإذا كانت سامية فإني أريد أن أعرف هذا السمو وأجربه وأقدم عنه حسابا.»
هذا كلام جد وعمل جد، فإننا لم نقف قط هذا الموقف من الحياة، وإنما الأنبياء وحدهم الذين وقفوه وجربوه؛ إذ لست تجد نبيا إلا وله فترة من الاعتزال والاعتكاف يترك فيها المجتمع، ويبحث فيها عن مراسيه في الدنيا، وهو في هذا الاعتكاف «عاص مدني» يحاول أن يتخلص من القيم والأوزان الاجتماعية كي يصل إلى ما يقابلها من القيم والأوزان البشرية التي تعلو على العادات والعرف. والأديب المخلص في حاجة إلى مثل هذا الاعتزال والاعتكاف من وقت لآخر، ولكن ثورو لم يكن يريد من فراره إلى الغابة أن يعتكف للتأمل فقط، وإنما كان يريد أن يجد ويجرب طريقة أخرى للعيش لعلها تكون أفضل من عيش المتمدنين.
لقد نشأ ثورو في مدينة صغيرة ولكنها مع صغرها كانت تحوي جميع التأنقات التي تمتاز بها المدن، هي مدينة كونكورد في الولايات المتحدة، وعاش ثورو فيها واحترف التعليم، ولكنه تركه للأدب، ولم يوفق كثيرا، بل الحق أن شهرته في أيامنا تزيد عشرات المرات على شهرته حين كان حيا يدعو دعوته الحارة إلى الطبيعة. وإحساس ثورو للطبيعة عميق، يدهشنا أحيانا بعمقه، انظر إليه حين يقول:
إن الطبقة العليا من التربة التي تحتوي جذور الأعشاب تحوي من الأدوات الميكانيكية ما هو أدق من أدوات الساعة، ومع ذلك نحن ندوسها بأقدامنا، وهذه الحركة التي تجري في التربة في الظلام، وهذه الكيمياء التي تتخلل ألياف العشب قبل أن تظهر ورقة واحدة منه فوق الفتات البالي لجديرتان ، لو أننا فهمناهما، بأعظم كشف في الطبيعة.
ولم يكن ثورو يدعونا إلى التخصص في دراسة الطبيعة، وإنما كان يطالبنا بأن نعيش في الطبيعة، وهو يوضح لنا أن ارتباطنا بالمجتمع أو الحرفة أو السياسة أو الحكومة أو غير ذلك من المؤسسات الاجتماعية إنما هو شيء ثانوي إلى جانب ارتباطنا بالطبيعة؛ بالأرض والجبل والنهر والشجر والحيوان والطائر، فيجب أن نعيش مع هذه الأشياء أو فيها. ثم يجب على الإنسان أن يكون قادرا على أن يعيش منفردا متوحدا يأنس إلى الطبيعة دون الحاجة إلى مجتمع. كما يجب أن ينشد سعادته واختباراته من الطبيعة وليس من النجاح المالي أو الاجتماعي، وهو هنا لا ينكر قيمة الصداقة بل يكبر من شأنها، ولكنها صداقة الزمالة في الطبيعة.
إن الإنسان الاجتماعي كائن صغير إزاء الإنسان الطبيعي؛ الأول يعيش في المدينة، وهو محدود الاختبارات والآفاق، له هموم صغيرة تستوعب نهاره بل بعض ليله، وهو يعمل جادا متعبا كي يجمع ثروة أو يحقق غاية اجتماعية طول عمره، ولكن الإنسان الطبيعي لا يحتاج إلى أن يكد ويتعب إلا للحصول على طعامه وكسائه، أما سائر وقته فينقضي في الالتصاق بالطبيعة. وهنا يصدمنا ثورو بقوله: لماذا يفرض علينا العمل ستة أيام في الأسبوع ثم يوما من الراحة؟ أليس العكس هو الأولى؟
وهو يعني أننا إذا عمدنا إلى ترك التكاليف الاجتماعية الباهظة، وارتضينا بساطة العيش بين أحضان الطبيعة، فإن يوما واحدا من العمل في الأسبوع يكفل لنا جميع حاجاتنا، أما الأيام الباقية فهي للاستمتاعات والاختبارات.
ترك ثورو مدينة كونكورد إلى بقعة نائية في عام 1843، وكانت سنه وقتئذ لا تزيد على ست وعشرين سنة، وهناك بنى بنفسه كوخا من الخشب، وكان قريبا منه غابة يحصل منها على خشب الوقود، وكذلك بالقرب منه بركة تحوي القليل من السمك. وكان عندما يحتاج إلى أكثر مما يحصل عليه من البركة والغابة، يؤجر نفسه للمزارعين المجاورين ويشتري بعض حاجاته بما يكسبه من أجر عمله. وقد كلفه بناء الكوخ ثمانية وعشرين دولارا، وكان طوله 15 قدما وعرضه 10 أقدام، وهو يصفه بأنه يحوي من المرافق أكثر مما يحتوي المسكن العادي في المدينة: «ولم يكن له قفل على الباب أو ستار على النافذة، وكان جزءا من الطبيعة بقدر ما كان جزءا من العمل البشري.»
وهو حين يصف الطبيعة تحس كأنه قد انتشى بها كما ينتشي أحدنا بالخمر، بل كأنه قد تزوجها ويحس فيها طربا جنسيا قد بلغ الذروة. وهو يستخرج منها لهذا السبب الإحساسات والمعاني التي تخطر على بال من يعيشون في المدن حيث معظم اللذات مصنوع، انظر إلى قوله: «الإنسان الحيوان ابن عم أشجار الصنوبر وأحجار الصخر. ليست الأرض التي أدوسها هامدة ميتة؛ إذ هي جسم وروح، وليس لأمعائها الدقيقة نهاية، هنا كيمان من الأنوار، من الأكباد، من الأمعاء، أليس لك أمعاء؟ إن للطبيعة أمعاء، ثم هي أم البشرية، وعندما نضع البذور فيها تتجرد ثم تنمو».
هذا هو الانتشاء بالطبيعة، وهو مثل كل انتشاء يحوي شيئا من الهذيان، ولكنه هذيان ملهم يدل على حقائق. وهو يقول أيضا: «يجب أن تصعد فوق الجبل كي تعرف العلاقة بينك وبين المادة؛ أي بين جسمك وبين المادة، لأن جسمك يجد بيته هناك.» «انظر إلى أصابعي، وكيف أتناول وأعبث بها! أجل، إنها هذه الأصابع، قد تكون جزءا من قمة هذا الجبل الذي أصعد إلى قمته، كي أرى أبناء عمومتي، إنه يحوي أصابع الأيدي والأقدام كما يحوي الأمعاء، ومن هنا اهتمامي.»
ثم يقول: «عش في كل فصل من فصول السنة، تنفس الهواء، واشرب الشراب، وتذوق الفاكهة، واستسلم لها جميعا، ولتدفعك جميع الرياح، وافتح مسامك جميعا، واستحم في مد الطبيعة وفي أنهارها ومحيطاتها في جميع الفصول.» «وإذا كنت تحس أنك تستقبل النهار والليل في طرب وفرح، وإذا كانت الحياة تنقل إليك أنفاس الزهر والعشب في أرج جميل، فأنت موفق، والطبيعة تهنئك، ولك الحق عندئذ في أن تحس أنه قد بورك عليك.» •••
لم يقض هنري ثورو عمره كله في كوخه؛ إذ هو رجع بعد سنة وشهور إلى المدينة، وهو بهذا يحملنا على أن نفهم أن عودة البشر إلى حياة الفطرة في الغابة لم تعد ممكنة، وإنما قصارى ما نفهمه من تجربته أنه أومأ إيماءة لنا بأن التكاليف الاجتماعية الباهظة نستطيع أن نستغني عنها، وأن في «الفقر الإداري» كما سماه قيمة يجب ألا نستهين بها، فإن حياة المدينة وما فيها من هرولة وعصبية وهموم، كل هذا يمكن النجاة منه بأن نجعل شعارنا: كيف نستغني؟ بدلا من كيف نقتني؟
والولايات المتحدة بعد مائة سنة من تجربة ثورو أحوج إلى عبرته مما كانت في عام 1851؛ لأن المباراة التي يعيش فيها الأمريكيون في هذه الأيام هي أقتل للنفس، وأبعث للقلق والخوف، مما كانت في أيامه. والأمريكي الذي ينبعث في عام 1950 إلى مثل تجربة ثورو هو رجل سعيد بالمقارنة إلى المهرولين العصبيين الذين يملئون أسرة المستشفيات للأمراض العقلية، وإنه لمن الحسن أن ينبهنا كاتب، بإسرافه في الحب للطبيعة، إلى أنه، إلى جنب الشارع والنادي وسهرات الكئول، وعد النقود، وشراء الأرض، واقتناء الضياع أو الأسهم في الشركات، إلى جنب هذا توجد أرض وسماء وأشجار وزهور وأنهار وجبال، وأن القمر يضيء في الليل ويكسو الحقول بأشعته، وأن النجوم تنادينا في الظلام كي نتأملها ونتحدث إليها، وأننا من وقت لآخر يجب أن نختلي ونستوحد، كي نعيد النظر في حياتنا، ونسأل هل نحن نعيش مسوقين بضغط العادات الاجتماعية التي لم نفكر من قبل في قيمتها؟ وألا يجدر بنا أن نغير هذه العادات أو ننقحها بإلهام الطبيعة التي تردنا إلى الأصول التي تردنا على الأصول والجذور؟
تولستوي
فيلسوف الشعب
ولد تولستوي في عام 1828 ومات في عام 1910، ومن هذين التاريخين نرى أنه عاصر القرن التاسع عشر كله تقريبا، ولكنه لم يكد يعيش في القرن العشرين، فقد مات قبل الحرب الكبرى الأولى بأربع سنوات، وما كان أحوجنا إلى أن نسمع صوته عن هذه المجزرة البشرية العظمى. ولكنه في القرن التاسع عشر رأى كثيرا واختبر كثيرا، فقد اشترك في حرب القرم في عام 1854، ورأى بعد ذلك حرب السبعين بين فرنسا وألمانيا، ورأى أحد القياصرة يقتل، ورأى تحرير العبيد في عام 1861، واصطدم بالكنيسة وطرد منها، واصطدم بعائلته حين أراد تسليم أرضه المورثة للفلاحين وانهزم، وصمت.
وكان طيلة حياته في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ضمير أوروبا، يرتئي الرأي ويعظ الموعظة، ولكنه قلما كان يزيد على ذلك، وهنا أكبر إهماله أو خطئه، كان ضمير أوروبا، كما كان غاندي - منذ 1920 إلى 1948 - ضمير الهند والعالم، كلاهما تولستوي وغاندي، صورتان لشخص واحد، هما صورة الأستاذ وتلميذه، ولكن هذا التلميذ؛ غاندي، حاول أن يجعل آراء تولستوي ومواعظه أعمالا منفذة.
في هذه الحياة الطويلة التي عاشها تولستوي رأى أهوالا من الشقاء البشري كان أولها حرب القرم، فإنه يذكر أنه عقب هذه الحرب لم يطق إلا أن يأخذ قلمه ويكتب، وأن ينذر قلمه لمحو هذا الشقاء البشري؛ أي الحرب، ولكن حرب القرم يمكن، بالمقارنة إلى حروبنا الجديدة التي تخيم على عالمنا العصري، بالذرة المنشقة والذرة الملتحمة، يمكن أن تعد مباراة في كرة القدم، ولو أن تولستوي كان حيا في أيامنا، وكان يسمع أو يقرأ ما يقال عن الحرب المنتظرة، لطالب بإرسال جميع المسئولين إلى المارستان.
إنها الحرب التي جعلته يقول في عام 1854: لم أتمالك أن أتناول القلم وأكتب، وكل رجل شريف له قلم يجب أن يقول مثل هذا القول هذه الأيام.
والحرب بؤرة لمشكلات عديدة، اضطر تولستوي، كما يضطر غيره في مثل هذه الظروف، إلى أن يشتبك فيها، فاشتبك في معنى الدين، ودلالة الفن، وهدف الثقافة، وأسلوب العيش، وعادات الحب والزواج، وكتب القصة الفنية، والرسالة المناقشة وحاول أن يحس وفق ما يقول ويؤمن، ونجح قليلا وفشل كثيرا.
نجح من حيث إنه عمم الإيمان بأن المجتمع يعاني من الأسواء، ويحمل من الأوضار ما يجب أن يبعثنا على إصلاحه، فكانت بذلك مؤلفاته إيحاء للثورة، وفشل من حيث إنه كان يعتقد الاعتقاد الديني بأن إصلاح الفرد يؤدي إلى إصلاح المجتمع ... ولم يفقه قط إلى أن الفرد مسير بعادات المجتمع وأساليب عيشه، ونظم أخلاقه وعاداته، وأنه لن يتغير إلا إذا غيره المجتمع أو هيأ له أسباب التغير.
كان تولستوي مثاليا ولم يكن ماديا. •••
نجد في حياة تولستوي ظروفا أو حوادث رسمت له خطوط حياته، فإن حرب القرم بفظائعها جعلته كاتبا يكتب عن قهر وإلزام؛ لأنه لا يطيق الصمت، وهذه الحال أعظم ما يهيئ التفوق والنبوغ في الكاتب. ثم رأى هول النظام الإقطاعي في روسيا، والرق الزراعي الذي كان يقضي بخضوع الفلاحين لصاحب الأرض، لا يتركونها إلى غيرها؛ إذ هم عبيد تملكهم الأرض ولا يملكونها. وقد ألغي الرق في عام 1861، ولكن تولستوي حرر عبيده تطوعا قبل أن يسن هذا القانون.
ورأى تولستوي في حياته الأدبية صراعا بين المستغربين والمستشرقين، فإن دعاة الإصلاح انقسموا فريقين: أحدهما يقول بالتزام روسيا لمبادئها الشرقية، والآخر يقول بأخذها بالأساليب الغربية، وهذا التردد أوقع بالشعب في بلبلة كسب منها الرجعيون؛ أي القيصريون والكنسيون، أليست القيصرية والكنيسة مؤسستين شرقيتين وطنيتين يجب المحافظة عليهما؟ ولذلك كان القول بتحرير العبيد من الرق الزراعي، وتعليم المرأة في الجامعات، والتفكير الاجتماعي في معاني الدين، بل البرلمان نفسه، كل هذا كان من بدع المستغربين الذين يعدون خونة للمبادئ الشرقية الروسية. وكان في الجانب الآخر دعاة الحضارة الغربية العصرية الذين أخذوا بالمذهب الماركسي في الاشتراكية، والذين كانوا يطالبون بإلغاء القيصرية واحتضان الثقافة العلمية الأوروبية.
وانتقلت هذه المعركة إلى الأدب الروسي واحتلت مركز المناقشة فيه، ففي ناحية نجد دستوفسكي ينعي على أوروبا ماديتها ويدعو روسيا لاستيفاء شرقيتها، ومن ناحية نجد تورجنيف يدعو إلى الغرب.
ومن هنا نشأت كلمة «العدمية: النيهلزم» التي سكها تورجنيف؛ كي يبين البلبلة أو اليأس الذي يقع فيه شبان روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين كان يحملهم قنوطهم على طلب العدم؛ لأن الوجود لا يطاق، الوجود لا يطاق إزاء ناس أشرار يطلبون بقاء القيصرية والكنيسة المستبدين، وبقاء الرق الزراعي، وبقاء المرأة للبيت، وبقاء الاستسلام والخضوع والرضا بالفقر. •••
لكل كاتب أب روحي ينتمي إليه، أو هو يعتقد أنه ينتمي إليه، وفي هذا الانتماء أنسة تتولد منها شجاعة وإصرار، وإحساس بالسلامة بالبعد عن الأخطار. ولا عبرة بأن يكون الأديب المنتمي مخطئا، وإنما العبرة بالإيمان. وكان الأب الروحي لتولستوي جان جاك روسو، كما كان الأب الروحي بعد ذلك لغاندي، تولستوي نفسه.
وقد صرح تولستوي بأن في شبابه كان يعبد روسو، وأنه كان يحمل ميدالية عليها صورة هذا الأديب الفرنسي العظيم، ولقد قال في أحد مؤلفاته: «إني أحس، وأنا أقرأ لبعض الصفحات من روسو، كأني أنا قد كتبتها.»
ونحن نجد بين الاثنين قاسما مشتركا، فإن كلا منهما وجد في الرجوع إلى بساطة الحياة حلا للعقد الاجتماعية التي أوجدتها الحضارة العصرية، والتي جعلت حياتنا شاقة بالطموح المسرف، والمباراة القاتلة، واتخاذ القصد المخطئ في الجهد لجمع المال، والعيش في البذخ. لقد دعا روسو إلى العودة إلى الطبيعة وإلى المعيشة الساذجة، وقد عاش روسو في هذه الطبيعة الساذجة حين آثر الريف على المدينة، والالتصاق بالأرض والإنتاج الزراعي على مركبات الحضارة العصرية التي كثيرا ما تستحيل إلى عقد، ونحن نجد في اعترافات روسو، ثم اعترافات تولستوي، أمكنة عديدة للمشابهة، ولكن يجب أن نسأل قبل أن نلتفت إلى هذه الاعترافات: لماذا كتبها روسو وتولستوي؟ بل لماذا كتب غاندي، تلميذ تولستوي، اعترافاته أيضا التي سماها «تجارب في الحياة»؟
السبب هو القلق، فإن هؤلاء الثلاثة الذين هدفوا إلى الطمأنينة والسلام والسعادة في كتابتهم، كانوا قلقين لهذا السبب نفسه؛ أي إن جهدهم لتحقيق الطمأنينة والسلام والسعادة قد أحالهم إلى مفكرين مكافحين مخاصمين للمجتمع الذي عاشوا فيه، وقد تألموا جميعهم، فإن روسو طورد كما لو كان مجرما، بل إنه عاش بعض سني حياته وهو مختبئ أو هارب، وتولستوي طورد من الكنيسة التي كان يرفع دينها إلى أعلى مرتبة، وأما غاندي فقد ضرب وحبس، ثم أخيرا قتل.
ولسان هؤلاء الثلاثة جميعا يقول، كما كان يقول أرميا: «ربي، لم جعلتني مشاقا لأهلي؟» أي ربي، لم جعلتني على شقاق مع مجتمعي؟
ولكن أرميا كان يجهل أن كل من يطلب الإصلاح والتطور والارتقاء لن يمكنه أن يؤدي هذه الرسالة إلا بعد شقاق بينه وبين أهله. وهؤلاء الأهل، أو هذه الشعوب والمجتمعات، بعد أن تضرب النبي أو الفيلسوف والأديب، وتحبسه وقد تقتله، بعد ذلك تقيم له التمثال الذي يخلد صورته وتحتفل بذكراه وتدرس أقواله. وعظماء الأدباء في أيامنا هم الأنبياء، وهم الفلاسفة. •••
لما كان تولستوي في شبابه وجد نفسه نبيلا ممتازا على الشعب بالثروة والمقام، وله عبيد زراعيون يجري عليهم حكم الرق، فأعتق عبيده هؤلاء. ولكنه بعد ذلك وجد أن المباراة التجارية الجديدة، واستخدام رأس المال الوطني والأجنبي، وظهور طبقة جديدة من الأثرياء الذين يطلق عليهم اسم «بورجوازيين»؛ وجد أن المناخ الاقتصادي الاجتماعي الجديد، على ما يزينه من طلاء الحضارة والثقافة، هذا المناخ أسوأ من المناخ الزراعي القديم، فكره الحضارة الغربية العصرية ودعا دعوة الحياة الساذجة الفطرية، دعوى روسو قبل مائة سنة.
وهنا نحتاج إلى أن نتلبث قليلا ونبحث الموقف السيكلوجي، فإن جان جاك روسو حين خبر المظالم الملوكية والإقطاعية في فرنسا، وحين شاهد البذخ النجس في الطبقات البشرية إلى جنب الفقر الساحق المهين في عامة الشعب، حين رأى ذلك قال إن الحضارة كلها نجاسة يجب أن نتجنبها ونعيش في سذاجة، لا نشتري الذهب، ولا نبني القصور، ولا نأكل على الموائد المطهمة، ولا نقتني الحرير.
وكذلك تولستوي حين رأى غزو النزعات التجارية، والجشع؛ أي الاستكثار من الثراء بالمباراة القاتلة وسحق الفقراء من العمال، ثم ما ينبني على ذلك من مدن يحيا فيها الأثرياء مع التعطل والدعارة إلى جنب آلاف العمال الجائعين الذين يعيشون في البدرومات، حين رأى ذلك قال أيضا بأن حياة الريف خير من حياة المدن، وأن الصناعات الصغيرة في القرى خير من المصانع الكبيرة في المدن.
وقد تعلم هو صناعة الأحذية كي يحس راحة الضمير، وكان يحرث الأرض، وكان يقول إن المتمدنين الغربيين يلعبون الألعاب الرياضية؛ لأنهم لا يؤدون أعمالا مجهدة، ولو أنهم كانوا يعيشون مثل الفلاحين على الأرض لما احتاجوا إلى الرياضة البدنية.
ثم جاء غاندي فأحب تولستوي كما كان هذا يحب روسو، وأسس مزرعة باسم «مزرعة تولستوي» حين كان في أفريقيا الجنوبية يدرس مشروعاته في مقاومة الشر بالخير، وكان يعمل ويجرب في أساليب الحياة التي أصبحت مذهبا عاش به الهنود، فلبسوا الخيش وأكلوا الخضراوات، وصاروا يغزلون وينسجون كي يستغنوا عن الأقمشة الإنجليزية الواردة إليهم من إنجلترا. •••
أرجو ألا يفهم أحد أني أمدح هؤلاء الثلاثة على الخطط الأساسية التي زعموا أنها تصلح للحياة العالمية، وإنما وجدت أنه يجب كي نفهم تولستوي أن نذكر هذا الاتجاه الذي لم يخل منه عصر، ويكفي أن نقرأ قصة «نشيد الإنشاد» في التوراة كي نعرف أن هذا الاتجاه قديم؛ إذ إن هذا السفر لا يعدوا أن يكون دعوة إلى الطبيعة والسذاجة والقناعة ضد الحضارة، وفي قلب كل منا شيء يهفو إلى هذه الحياة، ونحن نزداد تفكيرا فيها عندما نجد أن مركبات الحياة المتمدنة قد استحالت إلى عقد يعسر علينا حلها، وأننا نقع في مضاعفات تقلقنا وتؤسينا وتمرضنا.
التفكير في العودة إلى الطبيعة، والتفكير في القناعة بحياة الريف، والتفكير في لبس الخيش وطعام النبات، كل هذا هروب من عقد الحضارة العصرية ومضاعفاتها والعجز عن حلها.
أما متى وجد الحل فإن أحدا لا يفكر كما فكر هؤلاء الأبطال الثلاثة. •••
تمتاز القصة الروسية على وجه عام بالواقعية، وهذا هو الأثر الذي تخلفه قراءة قصة روسية عند القارئ العربي الذي يعرف الآداب الروسية، وتولستوي واقعي يتعمق البواعث الخفية، ويكشف عنها في صراحة كثيرا ما فزعت منها الطبقات الحاكمة في روسيا. وهو في كل ما يكتب لا ينسى أن ينبه إلى أن الحضارة العصرية غير إنسانية، وأشخاص قصصه فضلاء مستقيمون إذا كانوا فلاحين ساذجين مثل «لفين» في قصة «أنا كارنينا»، وهم أرذال منحرفون إذا كانوا متدينين مثل «فردمنسكي» في هذه القصة نفسها، وهذا تحيز واضح له أصول في روسو معلمه الأول.
ثم هو، مثل روسو قبله، ومثل غاندي بعده، شعبي؛ أي مع عامة الشعب والفقراء والمسحوقين والمحرومين، ومن هنا دعوته إلى تبسيط اللغة الروسية، بل إن كراهيته لشكسبير تعزى إلى حد بعيد، إلى أن هذا الشاعر الإنجليزي يتعالى على الشعب ويسميه غوغاء لا يفهمون، وإلى أن معظم أبطاله ملوك وأمراء. بل إنه يسرف هنا حتى يقول إنه يفضل أغاني الشعب الروسي العامية على أشعار جوتيه شاعر ألمانيا العظيم، وأسلوبه لهذا السبب شعبي، هو حديث يكاد يكون عاميا، لا نجد فيه تلك الكلمة المضيئة أو العبارة المزوقة التي اعتدنا أن نجدها في كتب الأدب الأخرى، ولكنه في كل ما يكتب سيكلوجي عميق لا يعلو عليه هنا غير دستوفسكي الذي عرف سيكلوجية فرويد قبل فرويد. •••
وربما يكون من المنير هنا أن نقارن بين تولستوي ودستوفسكي، فإن كلاهما كاتب عظيم من كتاب القصة، بل لا نغالي إذا قلنا إنهما أعظم كاتبين للقصة في العالم كله، ومع ذلك أنا أوثر عليهما جوركي، ولكن ليس ذلك لأنه يعلو عليهما في فن القصة؛ وإنما لأني أجد فيه مزاجي ونزعتي واتجاهي في الثورة التي لا يرضى عنها تولستوي أو دستوفسكي المسيحيان.
وهناك فرق أصيل بين دستوفسكي وبين تولستوي، ذلك أن دستوفسكي يهدف إلى إيجاد أشخاص، بل أبطال، لكل منهم شخصيته الفذة التي يختلف بها عن سائر المجتمع، فهم فلاسفة أو مجرمون أو حتى مجانين، ولكنهم عباقرة، ولكن عبقريتهم في الإحساس أكثر مما هي في العقل. هم أذكياء في الإحساس فإن «رسكلنيوف» بطل «الجريمة والعقاب» وهي القصة التي كنت أول من حاول ترجمتها في عام 1912، هذا البطل يقتل امرأة عجوزا عن تعقل منطقي، ولكنه يعترف بعد ذلك بالجريمة، ويرضى بحكم الإعدام أو النفي المؤبد عن إحساس إنساني. ولهذا المؤلف أشخاص متدينون في قصته العظيمة «الإخوة كرامازوف» تتأمل دينهم العميق فتشك في إيمانهم: هل هم مسيحيون أم إنسانيون؟ وهل ينشرون النور أم الظلام؟ نحن نقرؤه ونحن نعاني لذة أليمة، وكأننا في قبضة محلل سيكلوجي نستجيب لأسئلته بومضات الذهن وارتجاف القلب.
جميع أبطال دستوفسكي شواذ، مرضى، ولكنهم عبقريون أذكياء. أما تولستوي فمن الشعب يكتب للشعب، رجاله عاديون، وهو يعبر عن أعمالهم وصفاتهم بلغة شعبية بعيدة عما يسميه الاحتيالات البلاغية. المثل الأعلى عند دستوفسكي هو الرجل الشاذ الذكي الذي يحس أكثر مما يتعقل.
والمثل الأعلى عند تولستوي هو الرجل العادي الذي لا يشذ عن المجتمع، ولكن هذا المجتمع يجب أن يكون ساذجا يحيا في الطبيعة والصلاح، هو الرجل الطيب في معنى الطبيعة الشعبية، بل أكاد أقول العامية. البطل عند دستوفسكي هو من ينفصل عن المجتمع، والبطل عند تولستوي هو من يندمج في المجتمع. وأحسن أشخاص القصص عند تولستوي هو «ليفين» صاحب الأرض في قصة «أنا كرنينا» وهو مزارع طيب يتسم بأفكار عرفية؛ أي اجتماعية، عن الحب والزواج والعائلة والصلاح، هو تولستوي نفسه وسائر المزارعين.
وأحسن الأشخاص عند دستوفسكي هو الطالب «رسكلنيكوف» القاتل الفاجر الذي يقتل العجوز كي يسرق أموالها؛ لأن حياتها «لا تزيد في القيمة على حياة برغوث» أليس هذا هو المنطق؟ منطق العقل وحده.
ولكن دستوفسكي يعود بعد ذلك فيشرح في أكثر من مائتي صفحة أن هذا المنطق خطأ.
وأبطال دستوفسكي يختلفون في معاني الحب من أشخاص تولستوي؛ البطل عند دستوفسكي يحب المرأة البغي، ويعبدها؛ لأنه يعبد آلامها وينغمس في دموعها، ويكرع تعاستها، وكأنه يبكي في هذا الحب تعاسة الناس وبغاء حياتهم وجوعهم، وهو يستنبط من هذا الحب المعاني الإنسانية التي تجعلك تسمو على نفسك.
أما أبطال تولستوي فيحبون هذا الحب الأفلاطوني الذي يتوهم الناس أنه الحب السطحي، مع أن أفلاطون قصد منه إلى الحب الشامل للإنسان والحيوان والنبات، والصدق والشرف، والحقيقة والفن والطبيعة، الحب عند تولستوي هو الحب للناس أولا، ثم بعد ذلك لهذا الكون بكل ما فيه من مخلوقات، ولهذا السبب كان تولستوي يقيس كل شيء بقيمته للشعب، فالكتاب أو الصورة أو اللحن إنما هي جميعها وسائل لزيادة الاتحاد، بل الاندغام بين أفراد الشعب، وعنده أنا كلما اندغمنا في الشعب كنا أسعد، وكلما انفصلنا كنا أتعس، ومن هنا كراهيته لشكسبير الذي يكتب أحيانا في وقاحة، ويصف الشعب أنه غوغاء، وكذلك كراهته لجوتيه، حتى قال إن الأغاني الشعبية الروسية تحوي من الفن أكثر مما تحويه أشعاره. وكذلك احتقاره لما كان يسميه «الاحتيالات البلاغية»؛ لأن فنون البلاغة للخاصة وليست للشعب، ثم أخيرا نجده يحرث الأرض ويصنع الأحذية بيديه، إنه يريد أن يكون من الشعب ويؤدي الأعمال الشعبية، وهو هنا بالطبع مسرف. ولكن لهذا الموقف وجها يستحق أن نبحثه من ناحية المزاج النفسي والإحساس العاطفي، وليس من ناحية الارتقاء البشري والتقدم العلمي، بل إن لهذا الموقف مغزى لا يستهان به حين نتأمل خطط غاندي الشعبية في الهند والنتيجة التي انتهت إليها. •••
تغمر إحساسات الحب حياة تولستوي، الحب الأفلاطوني الذي يشمل الحياة والطبيعة: حب روسو. وأكبر الظن أن روسو هو الذي نبه ذهنه إلى الحب، أو هو الذي أيده وبعث فيه الاستطلاع والتعرف؛ ولذلك لا نستغرب من تولستوي أن يلتفت إلى معاني الحب التي دعا إليها الإنجيل، ولكن التفاته هذا أدى به إلى الاصطدام بالكنيسة. والواقع الذي يثبته تاريخ أوروبا أنه كلما اقتربنا من الإنجيل، وحاولنا أن نفهم تعاليمه منه مباشرة، ونقرؤه مثل أي كتاب آخر، كلما فعلنا ذلك، ابتعدنا عن الكنيسة، ونعني بالكنيسة هنا كهنتها، فإن لوثر، المصلح البروتستانتي، حين شرع يدرس الإنجيل مباشرة طردته الكنيسة الكاثوليكية، وكذلك فعلت مع رينان، وكذلك فعلت الكنيسة الأرثوذكسية مع تولستوي.
إن للكهنة تفسيرات «رسمية» للإنجيل، فمن تجرأ من المسيحيين على أن يفهم كلمات الإنجيل، خارج هذه التفسيرات الرسمية، فإنه عندئذ يكون عرضة للوم والحرم، وليس هذا شأن الكنيسة أو الكنائس البروتستانتية، التي تعلمت من طرد لوثر ألا تطرد أحدا يخالفها. وكان طرد تولستوي أو إلقاء الحرم عليه، قائما على أنه نظر إلى المسيح النظرة الإنسانية، ووجد في الأخلاق التي دعا إليها، وعمادها الحب، أخلاقا لا تحتاج إلى وحي إلهي، بل إنه يقول إنه هو نفسه؛ أي تولستوي، كان يمكنه أن يقول بما قال به المسيح في الأخلاق دون أن يحتاج إلى وحي إلهي؛ لأن هذه الأخلاق هي أفضل ما نعرف وأليق ما تكون للمجتمع البشري، هي أخلاق علمية.
وهو يقول في إحدى مذكراته حين كان يقاتل في حرب القرم حوالي عام 1855: «... خطرت بذهني فكرة، هي تأسيس ديانة جديدة تتفق والحال الحاضرة للنوع البشري، أعني الديانة المسيحية التي تتطور من العقائد الجامدة، ومن الغيبيات بحيث تصير ديانة عملية لا تهبنا سعادة المستقبل (بعد الموت)، وإنما سعادة الحاضر على هذه الأرض.»
وهو يستخلص من موعظة الجبل في الإنجيل هذه الوصايا الخمس: (1)
لا تغضب. (2)
لا تزن. (3)
لا تقسم. (4)
لا تقاوم الشر. (5)
لا تكن عدوا لأحد.
هذا هو كل ما يؤمن به من الإنجيل، وما عدا ذلك فزيادات يمكن الاستغناء عنها. ولكن تولستوي مع ذلك لم يجابه كل الحقائق، ولو كان قد فعل لاستقر على العلم وحده. •••
حقيقة الموت من أعظم الحقائق التي تواجهنا عندما نفكر في الحياة البشرية، لماذا نموت؟ ولماذا نخاف الموت؟
وقد فكر تولستوي كثيرا في هذا الموضوع، وله قصة تسمى «ثلاث توبات» توضح لنا رأيه في الموت، وقد كتبها في عام 1858.
والموتات الثلاثة هي موت سيدة ثرية متمدنة، وموت فلاح فقير ساذج، ثم موت شجرة. وهو يصف تدرج الموت، منذ بدايته حتى نهايته، في هذه الأحياء الثلاثة، وله نظرية في ذلك هي أنا نتألم من الموت ونخشاه؛ لأننا نحيا في الحضارة على وعي بأن كلا منا فرد منفصل، ويزداد هذا الإحساس إذا كنا متمدنين متعلمين؛ ولذلك تخشى في السيدة الموت.
أما الفلاح؛ فلأنه ساذج، يحيا مع الطبيعة ولا يحس فرديته إلا بمقدار صغير؛ أي إنه ليس على وعي خاص بحياته، هذا الفلاح يتحمل الموت ويستقبله بأقل الألم وأقل الخوف.
أما الشجرة التي تخلو من الوعي، وليس لها أي إحساس بفرديتها؛ إذ هي جزء متم لا ينفصل من الطبيعة، هذه الشجرة لا تحس بتاتا بالموت، ونحن حين نقطع غصونها ونكسر ساقها لا نجد فيها ما يدل على ألم أو خوف.
والمغزى الذي يستخرجه تولستوي من هذه المقارنة بين الموتات الثلاث، أنه كلما ازددنا ثقافة وتمدنا ومعرفة، ازددنا أيضا وعيا وانفصالا من المجموعة البشرية، ونحن نتألم لهذا الوعي والانفصال وقت الموت، ولكن لو كان وعينا وانفصالنا ضعيفين أو معدومين لكنا مثل الفلاح، بل مثل الشجرة؛ لأن موتنا جزئي إذ نحن أحياء في المجتمع أو الطبيعة لأننا لم ننفصل منهما، إذ يكون موتنا بمثابة من تكسر أصبعه أو يده فقط.
إن تولستوي طبعة أخرى لروسو ، إنه يمدح الحياة البدائية، بل يمدح الطبيعة غير الواعية، ويجد فيها الفلاح آلام الموت والشقاء من الخوف من العدم.
وهو بالطبع لا يؤمن بالغيبيات التي تلي الموت، ولا يشتهي، ولا ينتظر أطباق الحلوى بعد الموت، هذه الأطباق التي يعتقد بعضنا أنها تخفف من ألم الموت وتزيد الخوف منه، مع أن الواقع يثبت غير ذلك. •••
إن تولستوي يستحق النقد هنا.
ذلك أنه نظر إلى الموت من حيث إنه مواجهة العدم للإنسان، وأنه نهائي ليست بعده حياة أخرى، ولكن عبرة الموت يجب أن تنعكس على الحياة.
إذن ما دامت الحياة تنتهي بالموت انتهاء تاما؛ فيجب لذلك أن نحيا حياتنا بأقصى وأعمق ما نستطيع، وأن نجعل من هذه الدنيا نعيما لأبناء البشر، نحيا في سعادة وسلام وعلم وثقافة واستمتاع، ونعم الخير والعدل، ونتحمل نحن وحدنا المسئولية في كل ذلك بدلا من إلقاء المسئولية على قوات غيبية، ولكن تولستوي لم يكن يرتفع إلى هذا التفكير؛ لأنه لم يكن ثوريا، والثورة وحدها؛ أي السعي لإيجاد ثورة تغير المجتمع، هي التي نقلت الاهتمام النفسي والذهني من التفكير في الدين إلى التفكير في الدنيا.
وكراهة تولستوي للثورة يعود إلى إيمانه المطلق بأن الشر يجب ألا يقاوم، وأن الموقف السلبي من المظالم والشرور جميعها هو الموقف الذي اتخذه بعد ذلك غاندي، وقد اتخذه غاندي نقلا عن تولستوي.
لم يكن تولستوي يؤمن بالثورة؛ إذ كان يقنع بالإيمان بالمسيحية، بالإخاء المسيحي، ولكننا مع ذلك نظلمه إذا قلنا إنه لم يعمل لتعجيل الثورة، ذلك أنه عمم السخط بين طبقات المثقفين في روسيا؛ لأنه أبرز مظالم المجتمع والحكومة والكنيسة، وهذا السخط كان الاختبار الذي سبق الانفجار بالثورة.
لم يكن اشتراكيا، ولم يكن له برنامج، ولم يكن له كفاح عملي مذهبي سوى تسليم الأرض للفلاحين، وقد حاول هو نفسه أن يفعل ذلك واصطدم بعائلته التي منعته من إنفاذ نيته. لم يكن تأثيره إرشاديا للثورة، ولكنه كان إيحائيا. •••
ولا نستطيع أن نقول إن غاندي قد أرشد الثورة في الهند بالتعاليم التي أخذها عن تولستوي ، وإنما قصارى ما نقول عنه إنه أوحى بها ولونها بلون الوداعة التي انتهت بالمقاطعة، مقاطعة الإنجليز المستعمرين.
وكلاهما؛ أي تولستوي وغاندي، يجهل الأساس الوحيد الذي تنبني عليه المجتمعات وتتغير بتغيره وتتطور بتطوره؛ هذا الأساس هو الأساس الاقتصادي. كان كلاهما «مثاليا» وليس «ماديا»، كان كلاهما يطلب الأخلاق ثم الإصلاح، الأخلاق عند كل من تولستوي وغاندي تؤدي إلى الإصلاح، وهذا هو الخطأ الفادح؛ لأن الأخلاق ليست شيئا سوى الثمرة أو الثمرات، التي يثمرها النظام الاقتصادي، فإذا كان هذا النظام حسنا عادلا فإن الأخلاق تكون حسنة عادلة. كان كلاهما يطلب إصلاح الفرد، ثم يؤدى ذلك في منطقه إلى إصلاح المجتمع، ولكن العكس هو الذي نؤمن نحن به الآن، فإننا نقول إننا نحتاج إلى مجتمع عادل لكي يتعلم أفراده بنظامه، محض نظامه، ويمارسون العدل في علاقاتهم الواحد مع الآخر.
موقف غاندي وتولستوي هو الموقف المسيحي، وهو أن على الفرد واجبات إذا أداها صار المجتمع صالحا. ولكن هل نجحت المسيحية في ذلك؟ إنها لم تنجح، بل انتهت بعد ألفي سنة من تعاليمها باختراع القنابل الذرية الهيدروجينية، أقوى أسلحة الشر في تاريخ العالم.
إن أسوأ ما في تولستوي وغاندي معا أنهما لم يفهما، ولم يدرسا التفسير الاقتصادي للتاريخ، ولكن هل معنى هذا أنهما لم يخدما عصرهما؟ لا؛ لأن الواقع أنهما كما قلنا، أوجدا سخطا أدى إلى اختمار، ثم انتهى الاختمار بالانفجار، فكانت الثورة الاشتراكية في روسيا، ثم ثورة الاستقلال في الهند.
السخط جعل الناس يفكرون ويغضبون، وانتهى التفكير والغضب إلى الثورة التي شبت بعد وفاة تولستوي بسبع سنوات في عام 1917. ولكن هذا السخط الذي جعل الناس يفكرون ويبتكرون جعل تولستوي نفسه يبتئس ويشقى؛ إذ كان هو يسخط ويتآكل ببخاره؛ لأنه لم يكن له برنامج اجتماعي للثورة، ولذلك أيضا وجدناه بعد حياة بلغت 82 سنة ينهض من فراشه في الفجر ويترك بيته وأولاده ويفر إلى حيث لا يعرف؛ إذ لم يكن له وجهة ولم يكن له قصد، كان يريد الفرار فقط، فر من الحياة البائسة إلى الموت، ومات .
وبموته أثبت أن ما كان ينشده من الارتباط العضوي بالمجتمع، على الطريقة التي رسمها لم يعد ممكنا؛ لأنه لم يعد من الممكن أن ننزل عن وعينا بالنزول عن ذكائنا وثقافتنا، ونحيا حياة الفلاح أو حياة الشجرة، ولكن هناك ارتباطا آخر يحسه الرجل المثقف الواعي في أيامنا، هو هذه الاشتراكية التي ننشدها، فنحن في حياتنا، بل كذلك في موتنا، أجزاء متممة للمجتمع، نرقى برقيه ... فلا نشقى من الحياة، ولا نخاف من الموت.
ومع كل ما ذكرت عن تولستوي وروسو وغاندي، ومع كل ما نجد في حياتهم وتعاليمهم من أخطاء، فإننا نهفو إليهم كما نهفو إلى النسيم المنعش، لما نجد فيهم من إخلاص وسذاجة وحب تفسدها علينا الحضارة العصرية.
فرويد وتشريح النفس البشرية
في النصف الأول من القرن العشرين خطا كثير من العلوم خطوات تقرب الوثبات، فإن انتهاء الطبيعيات بالطاقة الذرية يعد وثبة، وإن تكن وثبة جامحة في الظلام؛ إذ ما كان أحد ينتظر أن يصل عالمنا إلى هذا الكشف العظيم قبل مئات السنين؛ ولذلك فوجئنا بالقنبلة الذرية فكانت شر البدايات التي عممت الذعر.
والتقدم في الطبيعة والكيمياء والبيولوجيا كان منتظرا منذ أكثر من مائة سنة؛ لأن لهذه العلوم تاريخا يعود في بعضها إلى أكثر من مائتي سنة، ولكن السيكلوجية كانت إلى نهاية القرن الماضي علما مغلقا أو كالمغلق، ولعل أكبر ما عاق تقدمه بل ميلاده، هو أنه نشأ نشأة زائفة في حضن الفلسفة التي كانت تنأى عن التجربة، وتقتصر على التفكير المجرد.
ثم جاء فرويد فكشف عن النفس قناعاتها بمفتاح جديد هو «العقل الكامن» أو الكامنة.
وفكرة الكامنة هي إحدى الفكرات المحورية أو البذرية، فكرة خصبة ولدت، وتوالد أولادها، حتى ظهر من الأولاد ما عاق الأم، ولكنه في عقوقه قد أثمر ونفع. وفي العقد الأول من هذا القرن كان صوت فرويد هامسا خافتا، فما هو أن بلغنا العقدين الثاني والثالث حتى صخب وعلا بل طغى، وأحس العالم أن ها هنا قوة فكرية توجه الثقافة توجيها جديدا لم نكن نعرفه من قبل .
وإذا كان النصف الثاني من القرن التاسع قد حفل بالصراع الفكري بشأن داروين والتطور، فإن النصف الأول من القرن العشرين قد حفل بصراع آخر بشأن فرويد والعقل الكامن، وبين الفكرتين شبه كبير؛ ذلك أن نظرية داروين قد أثبتت لنا أن الجسم البشري هو ثمرة التطور، وأنه لذلك يخفي كثيرا من الأعضاء الأثرية القديمة التي ورثناها من الأرومة الحيوانية التي نشأنا منها. وكذلك الشأن في نظرية فرويد، فإنه أثبت أن النفس البشرية قد ورثت وظائف وحشية قديمة، وأننا نألم ونبتئس لأننا في صراع لا ينقطع بين هذه الوظائف الطبيعية القديمة، وبين قيود الحضارة التي تمنعنا من ممارستها.
وقد قضيت كثيرا من سني عمري في ضوضاء هذه النظرية، وتأثرت بها كما يبدو من مؤلفاتي، فإني أعد منها خمسة أو ستة ألفتها في هذا الموضوع بالذات، أو تناولت الموضوعات الاجتماعية والثقافية بالشرح والتعليل السيكولوجيين، فإن كتبي «فن الحياة» و«كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين» و«التثقيف الذاتي» و«الشخصية الناجعة» هي معالجات سيكلوجية لهذه الموضات، وهذا فضلا عن كتابي «أسرار النفس» و«عقلي وعقلك» و«محاولات سيكلوجية» وهي في صميم السيكلوجية الشعبية.
وقد انتفعت كثيرا بهذا الاتجاه السيكلوجي في ثقافتي، ولكني لم أنتفع به كثيرا في حياتي اليومية؛ لأني على الرغم من السيكلوجية ما زلت أعيش وفق ما نشأت وتدربت عليه أيام طفولتي إلا القليل، بل القليل جدا الذي استطعت أن أنفضه عن نفسي من أخلاق وعادات ذهنية طفلية، وأنا هنا شاهد على صحة التعاليم الفرويدية وهو أن للسنين الأولى من العمر أكبر الأثر في التوجيه الأخلاقي.
ولكن جمعي بين فكرة التطور وفكرة العقل الباطن قد أخصب ذهني، وحركني إلى تفكير أخلاقي جديد، فمن ذلك مثلا أني تجنبت الخبط الذي يرجم به الكتاب في موضوعات مختلفة مثل السعادة، فإني وثبت فورا وبداهة إلى أن السعادة هي الوجدان؛ أي ما يسميه عامة كتابنا «الوعي»، وأنه بمقدار ما عندنا من وجدان ودراية نكون سعداء، وبمقدار ما يستولي علينا العقل الكامن أو الكامنة نكون تعساء. وهكذا الشأن في موضوعات أخرى.
وقولي إن فرويد قد هداني ووجهني ليس معناه أنى قد سلمت له بلا قيد أو شرط، ولكنه كان البذرة التي أخصبت في نفسي، وأخصبت أحيانا ضد ما أراده فرويد. وحسبي من ذلك أن أقول إني أوشك أن أكون «بافلوفيا» هذه الأيام من حيث الإيمان بأن الأفكار البشرية جميعها إنما هي رجوع انعكاسية مكيفة؛ أي معدولة عن الرجع الأصلي، ولكني ما زلت في شك.
وقد كانت رحلتي في السيكلوجية وانية متعثرة، بدأت بفرويد ثم يونج ثم أدلر، ثم أولئك الأمريكيين التجريبيين، ثم كرتشمر ثم بافلوف، ولكن فرويد هو الذي فتح لي الكوة، وبسط لي الميدان، وأكسبني الحافز.
وفرويد هو بعد ذلك المفكر الأساسي بين السيكلوجيين، فإنه حط على الحقيقة الأولى، وهي الكظم العام للشهوة الجنسية، وما يؤدي إليه من اضطرابات شخصية. وهو حين يجعل هذه الشهوة حافزا أوليا للنشاط البشري لا يعدو الحقيقة في عالم الحيوان كله. ثم هو حين يعلق مستقبلنا الأخلاقي والمزاجي والعاطفي على السنين الأولى من الطفولة إنما يوضح حقيقة بل أكبر الحقائق في مبادئ التربية، وقيمة العائلة الحاسمة في التوجيه الاجتماعي الصحيح.
وأخيرا هو الذي جعلنا نعرف أننا نسير في هذا العالم بقوة العواطف المستترة في الكامنة أكثر مما نسير بقوة الوجدان اليقظ الذي ندري به ما نفعل، فنحن نحب ونكره، ونخاف ونشجع، ونشمئز ونقبل، بعواطف اندست في كامنتنا منذ الطفولة ونكاد لا ندري بها إلا بعد التحليل الشاق.
فقد يحب أحدنا فتاة ويتزوجها على اعتقاد أنه يحبها؛ لأنها جميلة أو وديعة، أو أن عينيها ساحرتان أو غير ذلك، وهو إنما أحبها لسبب طفلي هو أنها تشبه أمه أيام كانت تحمله على صدرها للرضاع، أو هو قد يكون مدللا نشأ على إحساس الحاجة إلى الأم، وقد وجد في هذه الفتاة رعاية الأم؛ لأنها أكبر سنا منه، فهو يستجملها لهذا السبب، أو هو وجد فيها كبرياء وتسلطا وهو «مازوكي» يحب أن يتألم فهو يحبها؛ لأنه يحس في جانبها أنه ذليل (وأيضا محمي)، أو قد يكون عكس ذلك؛ أي إنه سادي يحب إيقاع الأذى والقسوة بغيره، فهو يختارها صامتة منكسرة أو ضئيلة الجسم؛ لأن انكسارها وضآلتها يشبعانه ويزيدان إحساسه بالقوة، أو قد يكون شاذا، فهو يحبها لأنها تشبه الصبيان والشبان.
وقد يكره أحدنا بعض الأطعمة، بل لعله يشمئز من رؤيتها بحيث يكاد يعتقد أن هذا الاشمئزاز «طبيعي»، وهو إنما يردد في نفسه ظرفا معينا سابقا أو أسلوبا للعيش قد تعلمه في طفولته. وقد نجد شخصا له «إرادة حديدية» لا يتراجع ولا ينحرف عن هدفه مهما اعترضه من صعوبات، وكأنه معجزة عجيبة في التزامه هذا الهدف وفي توفيقه بتحقيقه، وحقيقة أمره أنه لظروف سابقة معينة قد تخيل هذا الهدف، وتجسم هذا الخيال الذي ربما يكون قد نشأ أيام الطفولة، ثم صار هذا الخيال يوجهه من حيث لا يدري، إلى هذا الهدف، ولبعض المجانين مثل هذه الإرادة الحديدية.
والإيحاءات المختلفة من أبوينا، ومن المجتمع، ومما نقرأ، ومما نصادف في شبابنا، توجهنا وتعين لنا الحسن والقبيح، بحيث نعتقد أننا نحن الذين نعين هذا الحسن وهذا القبيح، بل قد نتأثر بوحي أحلامنا ونحن نيام، ونسلك في الصباح وفق الرجوع التي أحدثها الحلم، ثم نبرر سلوكنا أو نسوغه بالمنطق.
وكل هذا يدل على أن ما نحسبه منطقا في سلوكنا إنما هو رجوع واستجابات لا شأن للمنطق فيها. ثم هو - أي «فرويد» - حين يوضح أن كلا منا - أي «الذات البشرية» - مؤلفة من ثلاثة أقاليم: أقنوم الإيد (id)
وهو طبيعتنا الحيوانية وغرائزنا البدائية الكامنة، ثم أقنوم الإيجو، وهو شخصيتنا الوجدانية الاجتماعية التي ندرى بها، ثم أقنوم السوبر إيجو، وهو ضميرنا وما نتطلع إليه من شرف وبر وفضيلة، في كل ذلك لا نستطيع أن نخالف فرويد.
وكذلك عندما يوضح لنا أن ضميرنا إنما يرجع في الأصل إلى مجموعة المحظورات التي تعلمناها منذ الطفولة، نضطر إلى التسليم بقوله. بل كذلك أيضا لا نستطيع أن نخالفه حين يقرر أننا في الطفولة نحس دوافع لذية مبهمة تتفاوت بين القوة والضعف، من الغرام الصريح إلى الحب الأفلاطوني.
كل هذا قد سلمت به وانتفعت به في مركباتي الذهنية، ولكني اضطررت إلى مخالفته في أساس نظريته وهو مركب أوديب هذا؛ ذلك أن فرويد يعتقد أن الطفل يحب أمه حبا جنسيا ويجد لذة جنسية في الرضاع والتمسح بجسمها، وهو يضطر إلى كظم هذا الحب خوفا أو حياء من أبيه، وأن هذا الكظم يدور في دورات مختلفة بعد ذلك في نفسه وهو يفرج عنه بنشاط بدلي كالتسامي، إلى إيجاد مؤسسات الحضارة أو إلى ألوان أخرى من الثقافة أو قد يمرض منه. ولم أستطع أن أقنع نفسي بكل هذا، ولكني مع ذلك أسلم بالعواطف المركبة في الطفل نحو الأب وهي حب وكراهة واحترام وعداء، وهي تعزى في بعضها إلى مركب أوديب، فإن الطفل يغار على أمه من أبيه غيرة أظنها غير جنسية، أو هي إذا كانت جنسية فإن الإحساس الجنسي فيها ضعيف حتى لا يكاد يؤبه به؛ أي إن مركب أوديب ليس ميزان النفس البشرية، وليس أساس المركبات النفسية في الشباب.
اختلافي هنا مع فرويد في الدرجة كما هو في الموضوع، فأنا أسلم بأن خيال الأم أيام الطفولة يلصق بالطفل سائر حياته حتى ليختار زوجته من طراز أمه، وهو ينظر إلى رئيسه الأعلى ومن دونه إلى الرؤساء نظرته الطفلية إلى أبيه.
ولكن إذا سلمنا بأن هناك دوافع جنسية بين الطفل وأمه فإننا يجب ألا ننسى ما هو أهم منها، وأحرى بأن يكون الميزان الذي توزن به السكينة أو الاضطراب النفسي طوال العمر؛ ذلك أن تعلق الطفل بأمه والتصاقه بها أيام الطفولة، يجعله يحس نحوها بأنها مركز أمنه وطمأنينته، وهي موئله ومكان استغاثته عند الخوف، ومركب أوديب في هذا المعنى هو مركب الاحتماء من الخوف والخطر أكثر مما هو مركب الاشتهاء الجنسي.
والأم هنا تمثل المجتمع، فإذا كانت قد أسرفت في حماية طفلها فإنه ينشأ عاجزا كارها للاقتحام ينشد السلامة مهما كانت وضيعة ... وإذا كانت قد أسرفت في تقييد حريته، فإنه ينشأ خائفا ضائقا بالصعوبات والأخطار الخفية، وهو ينشد من يحميه أو ما يحميه في شخص كالزوجة أو الرئيس، أو في عمل مستقر قد يكون قليل الكسب.
ولما كانت حياتنا الاجتماعية الاقتصادية حافلة على الدوام بالأخطار، غير مطمئنة إلى المستقبل، يكثر فيها الإفلاس والتعطل وخوف المرض والموت والقلق على الوظيفة أو الأبناء، وخوف الهزيمة في الحب أو المباراة الاقتصادية العامة، فإن القلق الذي يصيبنا من جميع هذه الحالات يتخذ الأسلوب الذي نشأ عليه مع الأم أيام الطفولة. ولكن إذا كانت علاقة الأم بطفلها أو مركب أوديب، قائمة على التوسعة للطفل في مجال الحرية، بحيث يتعود الجراءة ويقدم ويخترع اختراعاته الصغيرة، فإنه عندما يكبر يستطيع تحمل الصعوبات بل يضحك من الأخطاء، ولا يخشى عليه من نيوروز أو سيكوز؛ أي من مرض عصبي أو عقلي.
ولست أجد في كل هذا تناقضا مع بافلوف الذي يرد عاداتنا الذهنية وعقائدنا وأفكارنا إلى تلك الرجوع الانعكاسية الأولى أيام الطفولة، ثم ما ينشأ منها من رجوع مكيفة؛ أي معدولة عن أصلها. ويكاد الفرق بين فرويد وبافلوف يكون سيميائيا أو لغويا في اختيار الكلمة أو أسلوب التعبير، ولكني لست فرويديا من حيث إيمان فرويد بأن لنا غرائز ثابتة موروثة في الرغبة في العدوان أو الموت، أو في هذا الاتجاه الأخلاقي، أو نحو ذلك. فقد وصلت بدراساتي الاقتصادية إلى أن التربية وحدها: العائلية، والاجتماعية، هي التي تعين لنا عواطفنا من حب وكراهية واستلطاف أو اشمئزاز، وكفر أو إيمان، وخضوع أو تمرد، وظني أن هذا هو الفرق الأساسي بين فرويد وبافلوف؛ الأول يكاد يكون غريزيا مائة في المائة، والثاني يكاد يكون اجتماعيا مائة في المائة.
وبكلمة أخرى أقول إن المجتمع يفرض لنا أسلوبا للارتزاق، فيعين لنا بهذا الأسلوب ووسائله العواطف التي تسود نفوسنا من غيرة، وتحاسد إلى تعاون وحب، ومن مباراة تهدف إلى التفوق وتحمل في غضونها ما يلابسها من إحساسات القلق، وطينة تجمعنا في وجهة موحدة نحو خير المجموع، وعواطفنا التي تحرك نشاطنا هي جميعها ثمرة هذا النظام الارتزاقي الذي يرتب لنا معاني الضعة والشرف والخسة والسمو، ولن نستطيع أن نفهم معنى الانتحار أو الثأر والأمانة، أو الخيانة الزوجية، أو قوانين الزواج أو الطلاق، إلا إذا رجعنا إلى تلك النظم الأصلية التي يرتزق بها الناس من صناعة أو زراعة ونحو ذلك.
وأنا أعد نفسي ممتازا على فرويد من هذه الناحية التي أعجب من إهماله لها، وهو إهمال خطير؛ لأن سيكلوجية فرويد الغريزية تعد راكدة جامدة إلا من حيث إنها تدعو إلى التفريج كي يقل الكظم، ولكن هذه السيكلوجية الاجتماعية التي تعلل العواطف بنظام المجتمع تعد متحركة ارتقائية؛ لأنها تنشد ترقية المجتمع لإيجاد العواطف البارة السارة، بل إن العلاقات الجنسية نفسها، على ما تنبني عليه من أساس طبيعي، تتكيف بالمجتمع بحيث تكون سوية أو شاذة؛ لأن الشذوذ الجنسي العدواني مثلا هو اجتماعي في أصله، أو إذا كان هناك أساس طبيعي له فإن هذا الأساس لا يعلل أكثر من أربعة في المائة من الاتجاه العدواني. وكذلك الشأن في مركز المرأة العاطفي من الرجل، فإنها كما أثبتت «مارجريت ميد» ليست على الدوام مطلوبة مغرية مزدانة كما هو الشأن في مجتمعنا؛ إذ هي قد تكون عكس ذلك كله.
وقد يزدان الرجل ويطلب من المرأة أن تغازله وتحاول استرضاءه واجتذابه. ومع أن المدارس «التحليلية» قد تعددت واختلفت أساليبها، فإنها جميعها ترجع إلى فرويد، ولا يكاد يوجد فيها إلا القليل الذي أوجده أدلر بما أسماه «مركب النقص».
فرويد يعلق النشاط الذهني والاجتماعي والفني والديني إلى «اللبيد» الجنسي الذي نشأ من الكظم السابق أيام الطفولة بحب الأم وكراهة الأب؛ أي بمركب أوديب.
وأدلر يعلق هذا النشاط، أو النشاط الشخصي على الأقل، بالنقص الكامن الذي نشأ في الطفولة ثم حرك عواطف تحفز وتوجه سائر العمر.
و«يونج» يعلق هذا النشاط إلى الطاقة الطبيعية؛ أي الغرائز الأولى، وأيضا إلى تراث العقائد والممارسات القديمة وكلمات اللغة والعادات البدائية كالسحر القديم، وهو يرى أن هذا التراث يحيا في الكامنة من وقت لآخر.
لنفرض أن هناك كاتبا ثائرا نحاول أن نحلل ثورته التي ينشد منها الديمقراطية أو مكافحة الاستبداد، فإن من الواضح أن الناس ليسوا سواء في تحمل المظالم أو في الرغبة الحارة في التغيير الاجتماعي، فلماذا اختص هذا الكاتب بهذه الدعوة؟
فعند فرويد أن مرجع ثورته «مركب أوديب»؛ لأنه كان يكره أباه وخاصة إذا كان هذا الأب قد أساء إليه في طفولته واستبد به، وهو حين يكبر يضع الوزير أو الأمير المستبد مكان الأب، ويوجه إليه كراهيته وكفاحه.
وعند أدلر أن هذا الكاتب كان أيام طفولته يجد نقصا في جسمه أو شوهة في وجهه، وكان الخجل يحز فيه ويوجهه نحو التمرد على الرؤساء الذين أخذوا مكان المجتمع الذي كان يعيره أو يقف منه موقف التعيير أيام طفولته.
وعند يونج أن هذا الكاتب ورث روح البطولة وإحساس العدل من الثقافة البشرية العامة منذ نشأت الحضارات الأولى، فهو يمثل في كفاحه دعوة دينية ونهضة شعبية كثيرا ما تكررت في التاريخ البشري. ومن هنا قيمة الأحلام، وهي قيمة كبيرة عند فرويد ولكنها أكبر عند يونج، ولا تكاد تكون لها عبرة كبيرة عند أدلر. وإنما يكبر يونج من قيمة الأحلام؛ لأنها تبرز هذه الثقافات القديمة وقت النوم، فنحن نحلم كما لو كنا نعيش قبل عشرين ألف أو عشرة آلاف سنة؛ أي نعيش في بيئة الوحوش المفترسة، والغابات المظلمة، والكهوف الصخرية، والفزع والفرار مع الاستعانة بما يشبه قواعد السحر القديم والكيمياء المنقرضة.
والحق أن في الأحلام شيئا كثيرا من هذا، وليس لنا الحق في أن نرفض وراثة الأفكار أكثر مما لنا الحق في أن نرفض وراثة الأعضاء، فإننا في أيامنا ننزع إلى الإيمان بوراثة العادة - كما كان يقول لا مارك - التي تعين وظيفة للعضو في الجسم، كما نرى في طول العنق عند الزرافة أو الجمل؛ إذ إن هذا الطول نتيجة لمد العنق كي يصل كل منهما إلى الأعشاب. وكذلك الشأن في الأفكار، فإنها بالعادة والتكرار تورث وتعود كما لو كانت غرائز، وهذا الحلم العام الذي لا يكاد يخلو منه طفل، وهو السقوط، برهان على أن خوف السقوط من الشجر، وهو كارثة كان يجب على كل أسلافنا أن يتقوها بألا يستسلموا للنوم العميق، هذا الحلم التحذيري يدلنا ببقائه عندنا على أننا نرث الأفكار.
لقد كانت دراسة فرويد عندي بمثابة الخميرة التي تفشت في ذهني، وكانت علة العشرات بل المئات من الرجوع الذهنية، فإنه هو الذي كان يحفزني، من حيث أدري أو لا أدري، إلى دراسة المجتمع، وكيف يجب أن نتقي الإجرام أو نعين أصول التربية، أو نتقي الحرب، أو نفكر في الشئون الجنسية، أو نقدر الثقافة، أو نصف الشخصية الحسنة، أو نحدد المعنى من الذكاء أو البلادة.
وقد ألفت كتابي «أسرار النفس» في عام 1927 وأنا متأثر بفرويد؛ ولذلك لا يتجاوز موضوعه «العقل الباطن» - أي الكامنة أو العقل الكامن - ولكني عندما ألفت كتابي الآخر «عقلي وعقلك» في عام 1947 كنت قد تجاوزت فرويد إلى غيره من السيكلوجيين، وإلى شيء من الاستقلال الفكري الذي لم أكن أجرؤ عليه في عام 1927.
والعالم المتمدن أسعد حالا وأهنأ في عيشه بما حظي من التوجيه السيكلوجي الجديد على يد فرويد وتلاميذه، فإن فرويد حرر الأطفال من القسوة والخوف، وأبرز القيمة الكبرى للحياة الطفلية الهانئة في مستقبل العمر أيام الشباب والكهولة؛ لأنه أوضح لنا كيف تعيش المركبات، وكيف تنشأ الصعوبات التي ربما تؤدي إلى خيبة الشاب أو الفتاة أو إلى انتحار أحدهما بسبب الأخطاء التي تعرضا لها أيام طفولتيهما من أحد الأبوين. كما أنه أوضح لنا فداحة النتائج التي تنشأ من الكظم الجنسي، وقد عاد كثيرون ممن ذهب وجدانهم واضمحل تعقلهم لتغلب العقل الكامن عليهم، عادوا من ظلام الجنون إلى نور العقل بفضل التحليل النفسي.
وإنه لمما يؤلم جميع الذين انتفعوا بعبقرية هذا السيكلوجي العظيم أن يعرفوا أنه لم يستمتع بشيء من الرخاء الذي كان يمكن أن يخفف عنه الشيخوخة، فإنه عقب الحرب الكبرى الأولى خسر جميع ما ادخره من المال بسبب التضخم في النقد، وفي الحرب الكبرى الثانية طاردته النازية حتى مات في لندن بعيدا عن بيته ومدينته.
وتراثنا من فرويد هو «التحليل النفسي » وهو لا يمكن أن يموت، وقصارى ما سوف يحدث أن تتغير الأسماء والعبارات؛ لأن صميم التحليل النفسي هو الانتقال من الفكرة الكامنة المتسلطة بالعاطفة إلى الوجدان؛ أي إلى الدراية. وحتى مع اتجاه السيكلوجية في أيامنا إلى التجربة، وهو اتجاه عظيم القيمة جدا، فإن التحليل سيبقى مفتوحا للنفس البشرية نفهم منه خباياها ونتعمق أسسها.
وقد ولد فرويد من أبوين يهوديين في عام 1856، ومات في عام 1940 منفيا مطاردا من وطنه فيينا عاصمة النمسا، فإن النازيين الذين استولوا على النمسا طاردوا اليهود، وكان فرويد على الرغم من إلحاده معدودا بين اليهود.
وحفلت عواصم أوروبا فيما بين عامي 1900 و1940 بالمناقشات الحامية بشأن التحليل النفسي، كما حفلت بالانشقاقات والخصومات، مما دل على أن السيكلوجية الفرويدية كانت ولا تزال في طور المذاهب، ولا ينقص هذا من فضل فرويد.
ولما نزل في هذا الطور لم نستقر، ولكن فرويد كان كما قلت، بمثابة الخميرة التي بعثت سلسلة من الأفكار لما تنته حلقاتها، وهذا هو أكبر فضله في تربيتي.
إليوت سميث وأصل الحضارة
حين أتأمل الشخصيات العظيمة التي أثرت في حياتي تغييرا أو توجيها، وأبحث القوة الجذبية التي جذبتني إليها، أجد أنها ثلاثة طرز:
فأما الطراز الأول فهو أولئك الذين تتسم حياتهم أو مؤلفاتهم بغلواء حين يحيون أو يفكرون على القمة والذروة. فهم نيتشه في جنونه المقدس، يحيل حياته إلى مغامرة فلسفية، ويدعونا إلى أن ننسلخ من رواسب الخرافات الماضية ونتولى بأنفسنا مصير مستقبلنا، وهم دستوفسكي في غلواء الحب الغامر للبشر، والإحساس الديني الذي تتذبذب به أوتار نفسه. وهم غاندي الذي يكافح إمبراطورية سوداء بكلمات عذبة من الطهر والشرف فيخجل منه العالم ويسلم باستقلال الهند.
وأما الطراز الثاني فهو أولئك الذين أعطوني منهجا للحياة، فهم جيته الذي عاش طالبا مدى حياته يزيد وجدانه بالتوسع في الثقافة والزيادة من الاختبارات، ويشتغل بالسياسة والأدب والعلم والفنون، وهم برنارد شو يجعل من أدبه كفاحا للظلم والاستبداد والدناءة والقبح، وهم «ه. ج. ولز» يرفع الصحافة إلى مقام الفلسفة، فيدرس شئون العالم إلى تدين بشري جديد كأنه إحساس يغمر قلبه وعقله.
وأما الطراز الثالث فهم أولئك الذين أعطوني المعارف الخصبة أو الأفكار الحوامل، مثل فكرة التطور التي أحدثت لي مركبات ثقافية، كأنها العقدة النفسية في المريض تدأب في تفرع، ولكن مع التسلل والتستر. ولقد استطاعت هذه الفكرة الداروينية أن تجعل حياتي جميعها استطلاعا دائما. وهم فرويد الذي حملني على دراسة العشرات من الكتب. وهم «إليوت سميث» الذي فتح لي من أبواب التاريخ البشري ما لا أزال أنفذ منه إلى ميادين فسيحة من الفهم والعلم.
هؤلاء علموني ... أكسبوني بالحياة الغالية التي عاشوها على القمم إيحاءات كأنها صلوات بالقلب، أو أعطوني منهجا أعيش به عيش الخدمة والكرامة والشرف مع الرضا بالتضحية، أو غرسوا في ذهني غراسا صالحة تنمو وتتفرع كأنها نبت ينير خلايا المخ ويسطع أنوارا تقشع ظلام الجهل. •••
التاريخ هو في صميمه درس العوامل الجغرافية والاقتصادية التي أثرت وغيرت المجتمعات البشرية، التي عاشت في بقعة معينة من الأرض. وتاريخ مصر هو جغرافيتها، هو زراعتها التي أوجدت مجتمعا مستقرا يثبت في مكانه ثبات الزراعة في الأرض.
وليس لأمة تاريخ ما لم يكن هناك تفاعلات اقتصادية بين الأفراد بحيث تؤدي هذه التفاعلات إلى إيجاد مؤسسات، مثل المحاكم والمعابد ونحوهما، أما ما دام ليس هناك مؤسسات، كما هي الحال بين الإسكيماويين حول القطب الشمالي، فإنه لن يكون هناك تاريخ.
ثم ما دام كل فرد يكسب لنفسه وأولاده فقط، ولا يستطيع أن يزيد، فإن المجتمع لن يستطيع أن يدخر مقدارا من المال لإيجاد هذه المؤسسات الاجتماعية التي يحتاج إليها، ولذلك ليس عند الإسكيماويين حكومة؛ لأنه ليس هناك فائض من كسب الأفراد يكفي لإيجاد مجموعة المؤسسات التي نسميها حكومة، ولذلك أيضا ليس لهم تاريخ.
وقد كان الإنسان قديما يعيش في الغابات كما لا تزال تعيش القردة العليا، وكان يجمع طعامه ولا ينتجه، والفرق عظيم جدا بين الجمع وبين الإنتاج، فإن البشر ينتجون طعامهم هذه الأيام، ولذلك بلغوا 230 مليونا في حين أنهم كانوا لا يزيدون على أربعة أو خمسة ملايين حين كانوا يجمعون الطعام من الغابات جمعا، أي يلتقطون الثمرة البرية، أو يقتلعون الجذور الطرية، أو يصيدون الوحش، أو يأكلون الحشرات والزواحف وسائر الحيوان. ولكن ليس الفرق بين الجمع والإنتاج كميا فقط؛ لأن هذا الفرق هو في صميمه فاصل بين الإنسان البدائي الساذج الجوال، وبين الإنسان المتمدن المستقر الذي عرف الزراعة؛ أي عرف الإنتاج.
وهنا قيمة إليوت سميث. •••
كان إليوت سميث أستاذا للتشريح في كلية (مدرسة) قصر العيني، قبل نحو أربعين أو خمسين سنة، وقد تعلم على يديه كثير من أطبائنا مثل علي إبراهيم، وجورجي صبحي، وأحمد شفيق، وكانت له هواية إلى جنب الحرفة، وكان كما هو المألوف يهتم بهوايته وبحرفته، بل انتهى في أخريات حياته إلى احتراف الهواية، وهذه الهواية هي تاريخ مصر.
ولكنه لم يكن يدرس تاريخ مصر كي يتعرف على تاريخ مصر، وإنما كان يهدف إلى درس تاريخ الحضارة البشرية في العالم كله عن طريق الدرس لأصول الحضارة المصرية التي انتشرت حول ضفتي النيل في العشرة آلاف سنة الأخيرة.
واستطاع أن يثبت أن مصر هي أصل الحضارة للعالم كله؛ وليس ذلك لأن أسلافنا كانوا أذكى من سائر البشر؛ وإنما لأن جغرافية مصر قد تفاعلت مع الإنسان المصري بما لم يتفاعل أي وسط آخر مع الإنسان، فكانت النتيجة ظهور الحضارة في مصر.
وبهذه النظرية نقل إليوت سميث دراسة الحضارة من تعدد الأصل إلى وحدته، كما سبق أن فعل داروين حين رد الأحياء إلى أصل واحد، وأصبحنا نتتبع تطور الحضارة وتنقلها من قطر إلى آخر عن سبيل الكلمات والآثار والعادات الفرعونية. ولهذا الرأي الجديد مدرسة يعد تلاميذها بالألوف، ولا تقل المؤلفات في تأييد هذا الرأي عن ثلاثمائة كتاب في لغات مختلفة.
وقد كانت مؤلفات إليوت سميث عندي انبلاجا ذهنيا قادني إلى دراسات مختلفة، كما أثمر مركبات ثقافية ما زلت في اشتباكتها. وقد ألفت كتابي: «مصر أصل الحضارة» وأنا في غبطة الفرح بهذا الفهم الجديد للدنيا والبشر، ولا يعدل هذه الغبطة عندي سوى اهتدائي إلى نظرية «التفسير الاقتصادي للتاريخ» وهي النظرية التي جعلت التاريخ علما يقاس ويوزن، وليس روايات لذيذة أو مصادفات غير معللة ، والحق أن نظرية الأصل المصري للتاريخ البشري كله تستند في أساسها إلى العوامل الاقتصادية، وأهمها هذا النيل الذي يروي الوادي فينتج الزرع. •••
وبؤرة البحث عند إليوت سميث تنحصر في أن الإنسان البدائي الذي كان يجمع الطعام جمعا من الغابات رأى في مصر على توالي السنين أن فيضان النيل يعم الوادي في مواعيد معينة كل عام، حتى إذا انحسر انطلقت النباتات وكست الأرض بالخضرة النضرة التي كان يجد فيها طعاما، كما كان يجد فيها صيدا لوفرة الحياة الحيوانية، ففهم بالتكرار أن الماء هو أصل الحيوية، وهو أصل النبات، فشرع يحتجز الماء هنا ويطلقه هناك، ويضبط الري، وهذه هي الهندسة الأولى. وظهر عندئذ التخصص: مهندسون ينظمون الري، وفلكيون يعينون الأوقات الزراعية، وهؤلاء لا يزرعون وإنما يعيشون بالفائض من المحصول. وهنا تنشأ الحكومة التي يرأسها مهندس أو فلكي تنسب إليه صفات الألوهية؛ لأنه يدري ما لا يدريه غيره من الهندسة أو الفلك، وهو يعيش كأنه ملك، بل ملك يطاع، فإذا مات أصبح قبره معبدا، كما نرى في عصرنا كيف يميز العامة الممتازين بأضرحة يتبركون بها ويزورونها، وأرض مزروعة تحتاج إلى حدود تحترم من الجيران، وإلى أوصاف تعين للزراعة، وإلى محكمة تعاقب المعتدي على الحدود أو المحصول، وإلى صناع يصنعون الآلات الزراعية، وكل هؤلاء لا يزرعون. فنشأ من ذلك الحكومة والتجارة والفنون، وهذه هي الحضارة. ثم يموت العظماء فتنشأ الأضرحة العظيمة التي تستحيل إلى معابد، وهذا هو الدين البدائي.
ويجب ألا ننسى هنا أن كلمات القمح والبر والحنطة هي جميعا فرعونية؛ وذلك لأن أسلافنا هم الذين زرعوها لأول مرة في التاريخ، وعينوا أسماءها. ولعله كانت هناك فروق بين بذور القمح أدت إلى تعدد هذه الأسماء. والزراعة هي الأساس الأول الذي نبتت عليه الحضارة الأولى، أما قبل الزراعة فلم يكن هناك غير التجوال للبشر، بلا ثقافة غير المعارف القليلة الخاصة بالصيد، والتقاط الثمار، واقتلاع الجذور، فالزراعة أوجدت الاستقرار بدلا من التجوال، وبسطت الآفاق لثقافة الفنون والعلوم ونظام الحكم. •••
وإلى هذا نفهم كيف نشأت الحضارة الأولى في مصر، وبقي علينا أن نعرف كيف خرجت من مصر إلى سائر العالم. وقد استطاع إليوت سميث أن يكشف لنا عن أسرار النفس البشرية، أو بالأحرى يهتدي إليها عن طريق البحث في انتقال الحضارة المصرية الأولى إلى أقطار العالم المختلفة. فهو يوضح لنا أن غاية الإنسان البدائي أن يطيل عمره وأن يتقي الموت. ونحن نعرف من التحنيط أن المصري القديم كان يعتقد في سذاجة أنه ما دامت الجثة قد حنطت واستحالت إلى مومياء متقنة، فإن الحياة ستمتد بها في العالم الآخر. وكان التحنيط يحتاج إلى بعض المواد النباتية والمعدنية من الأقطار البعيدة، وهذه المواد كانت تقف الفساد في الجثة كما تكسبها عطرا حسنا. وتنقل المصريون في جلب هذه المواد، ونقلوا معهم حضارتهم إلى أقطار بعيدة، وخاصة عندما نعرف أن بعض البعثات المصرية كان ينقطع بها الطريق، فلا تعود بل تبقى في قطر ناء بين شعب غريب بدائي لا يعرف الزراعة، فتنقل هذه البعثة إلى هذا الشعب الفنون المصرية، وتعيش هناك إلى الأبد. ومن هنا نعرف لماذا وجد تمثال الرب آمون في روسيا بالقرب من جبال أورال، ولماذا عبد رب الشمس في مكسيكا، كما عبد في مصر، من حيث إحاطته بالثعبان، ولماذا حنطت الجثة في أمريكا على الطريقة المصرية، ولماذا وجدت الأهرام في إيطاليا والسودان، ولماذا توجد في اللغة الفنلندية كلمات فرعونية، ولماذا ترجع أبجدية الخطوط في جميع اللغات إلى الهيروغليفية المصرية، ولماذا يعمم التقويم المصري (الشهور والأيام) أوروبا بل العالم كله إلى الآن، ولماذا بنيت المعابد وذكرت الأساطير على الطريقة المصرية، بل لماذا يوصف إمبراطور اليابان بوصف الفراعنة، ابن الشمس؛ أي ابن رع، وأخيرا لماذا تكون الحبوب الأولى التي يأكلها الإنسان ولا يزال يأكلها مصرية الاسم كما سبق أن ذكرتها وهي: قمح، بر، حنطة.
وفي مصر يسمي الأقباط أسقفهم أحيانا باسم إيسوذوروس، وفي أوروبا تسمى المرأة باسم إيسيدورا، ومعنى الاسمين «عبد إيسيس»؛ أي الربة إيسيس، وكهنة مصر الآن هم ورثة الكهنة أيام الفراعنة، وكانت شارة الكاهن المصري القديم ذلك الثعبان الذي كان يحيط بالرب رع، وهو - أي الثعبان - لا يزال شارة الأسقف القبطي، وهو يرى على رأس عصاه إلى الآن. ولكن لما كان الكاهن المصري طبيبا وساحرا أيضا، فإن الثعبان هو الآن شارة الطبيب في أوروبا. وفي اللغة العربية لا يزال معنى الطب هو: السحر، الكهانة. بل هناك إشارات صغيرة تدل على تسلسل الثقافة الفرعونية من منف وطيبة إلى باريس ولندن، اعتبر قول الأوربيين: «يوم أحمر وليلة حمراء» للدلالة على أوقات السرور والقصف والاحتفال، ونحن نقول في مصر «ليلة حمراء» في هذه المعاني أيضا، والأصل هو عادة أسلافنا في كتابة أيام الأعياد بمداد أحمر، والعيد قصف ولهو.
هذه الثقافة المصرية القديمة التي تفشت في العالم القديم لم يكن من الضروري أن يكون القائمون بها مصريين؛ لأن البعثة المصرية التي وصلت إلى الصين مثلا حيث تركت التمساح وجعلت تمثاله شعارا للصينيين ليست هي التي ذهبت إلى أمريكا، وأوجدت التحنيط وعبادة الشمس التي تحيط بها هالة الثعبان؛ لأن هذه البعثة التي ذهبت إلى أمريكا كانت في الأغلب هندية أو صينية أو جاوية قد تأثر أفرادها بالثقافة المصرية.
وأذكر البقرة هاتور المصرية، وأذكر تقديس البقرة في الهند، وأذكر أيضا ملوك أفريقيا المتوحشين، وكيف يضربون الجهات الأربع بالقوس، كما كان يفعل الفراعنة عندما كانوا يتولون العرش رمزا إلى الاستيلاء على العالم. بل أذكر أيضا دعوى الحق الإلهي لملوك أوروبا، وهي الدعوى التي كافحتها الشعوب الديمقراطية، ولا ننسى دعوى الألوهية عند الفراعنة. بل هناك ما يرجح أن معظم الأسر المالكة في العالم يرجع إلى أصل فرعوني؛ وذلك لأن كل بعثة كانت تخرج من مصر لجلب المواد والطيوب للتحنيط كان يرأسها أحد أفراد أسرة فرعون، فإذا لم ترجع البعثة صار هذا الفرد ملكا على البقعة التي كانت تحتلها بعثته حتى إذا استقر العرش الجديد خرجت بعثة أخرى ... إلخ.
ولم يكن التحنيط الباعث الوحيد لهجرة المصريين إلى الأقطار البعيدة، فإن الإنسان المصري الذي كان يرغب في بقاء حياته بالتحنيط، كان أيضا يحب أن يطول عمره على الأرض قبل التحنيط، فكان يجمع الودع ويحمله للمشابهة العظيمة بين الودعة وبين عضو التناسل في المرأة؛ ذلك أنه كان يعتقد أن هذا العضو هو أصل الحياة، ومن هنا هذا الاشتقاق العربي وهو «الحياة من الحيا»؛ أي عضو التناسل في الأنثى. ثم صار أيضا يجلب الذهب ويصوغه ودعا لجماله، ثم نقل ميزة الودعة إلى الذهب، فصار الذهب يطلب لذاته؛ لأنه يطيل الحياة مثل الودعة، بل صار الذهب إكسير الحياة، الذهب حجر الفلاسفة، الذهب أصل النقود، كل هذا من الاعتقاد المصري القديم بأنه - أي الذهب - يطيل العمر.
ثم أذكر بعد ذلك الكيمياء التي نشأت من الرغبة في إحالة المعادن إلى ذهب، بل ماذا أقول؟ إن كلمة كيمياء نفسها مصرية، وهي خيمي أو كيمي؛ أي مصر، أي الأرض السوداء. والكيمياء هي «العلم المصري».
وبعد الذهب صار الإنسان المصري يجلب الأحجار الكريمة اعتقادا بأنها تطيل العمر، وما زلنا في مصر نشفي العين العليلة بتعليق حجر عليها أو فوقها ... وما زلنا ننشد البخت بضرب الودع، وكلمة «المرجان» تنطوي على معنى الحياة الطويلة في الفارسية.
وإطالة أعمارنا على الأرض بالذهب والأحجار الكريمة، وإطالة أعمارنا بعد الموت بالتحنيط، كلتاهما دفعت الإنسان المصري إلى الهجرة إلى الأقطار النائية، فتفشت الحضارة المصرية بهذه الهجرة في أنحاء العالم، وأخرجت الإنسان من التوحش وجمع الطعام من الغابات إلى التمدن وإنتاج الطعام بالزراعة، والزراعة أوجدت الحكومة، والدين، والفلك، والحساب، والهندسة، والبناء، والقانون. •••
نشأ الدين البدائي في مصر، وكانت غايته استبقاء الحياة بعد الموت بتحنيط الجثة، فإذا كان الميت عظيما صار إلها بعد موته. فلما عرفت الزراعة أصبح للدين مهمة أخرى هي إخصاب الأرض وإنتاج المحاصيل. وإلى عصر الإسكندر بقي هذا التفكير البدائي حتى إن كهنة مصر قد حالوا الإسكندر إلى إله، وقرن آمون لا يزال منقوشا على النقد الإغريقي الباقي من أيامه، ولا يزال الكهنة يباركون على الزراعة في أوروبا إلى الآن. ومن الممارسات الدينية الباقية نعرف الكثير من نشأة الدين المصري القديم، فإن البخور كان يطلق على تمثال الميت كي يكسبه رطوبة وعرقا كأن الحياة قد عادت إليه، وقد نشأت الفنون من هذه الثقافة الدينية القديمة، فإن التمثال صنع أولا كي تلجأ إليه الروح إذا كان الجسم قد فسد، والرسوم التي تروي لنا حياة الميت قد احتاجت إلى الرسامين والمعبد، وهو في الأصل الضريح الذي احتاج أيضا إلى البنائين والنحاتين.
وجميع الفنون الحديثة ترجع إلى بؤرة مفردة هي الضريح المصري ومركباته السيكلوجية، ورسم الميزان للعالم الآخر مألوف لا يخلو منه معبد، وهو يعين الجنة التي تحوي الشجر والثمر للبررة، كما يعين جهنم التي تحتوي النار للفجرة، ومن هنا ظهر معنى العدل. بل إن تحنيط الميت هو الأصل في توبلة الطعام؛ لأن الملح والطيب والأفاوية التي كان يحتاج إليها الميت صارت تستعمل في الطبخ كي يطيب الطعام، ومن هنا كان القول العامي المألوف في أيامنا أن الطعام «محنط»؛ أي متوبل.
ودراسة التاريخ المصري القديم هي دراسة البدايات: بداية الزراعة، وبداية الصناعة، وبداية الحضارة والثقافة. وإن الغيبيات التي سادت الأذهان البشرية نحو ستة آلاف سنة لتتكشف واضحة الأسس مفهومة البناء عندما ندرس الضريح المصري. •••
لم أكن أنبعث في دراساتي للفراعنة بباعث وطني، ولم يكن لفتوحات تحتمس ورمسيس وأمثالهما ذلك الوقع الذي يحسه أولئك الذين يستخدمون التاريخ لإشعال الوطنية، بل كذلك لم تكن دراسة التاريخ عندي محض السرد القصصي والتراجم والحروب، وظني أنه لو لم يكن وراء دراسة الفراعنة هذه النظرية القائلة بانتشار الثقافة من بؤرة الضريح المصري لما كان التفاني يزيد على المطالعة العابرة. ولكن هذه النظرية كانت تحوي العديد من المركبات الثقافية التي جذبتني وحملتني على التفطن لأصول الحضارة، ومن هنا إغراؤها القوي لاستمرار الدراسة، وإحساسي نحو الفراعنة هو لذلك بشري وليس وطنيا.
ولقد قرأت «فجر الضمير» للمؤرخ الأمريكي «بريستد» وهو يشيد بالأخلاق العالية للمصريين قبل أربعة أو خمسة آلاف سنة، بل إنه يقارن بين الأخلاق التي دعا إليها موسى في الوصايا العشر، وبين الأخلاق المصرية فيقول بأفضلية هذه على تلك، ويضرب المثل بأن موسى قد حرم الشهادة بالزور فقط، ولكن المصريين قد حرموا الكذب إطلاقا، والكذب بالطبع يشمل شهادة الزور، ولكن ليس العكس كذلك.
ولكني، أنا المصري، أحس أني أبعد ما أكون عن هذا الإحساس، يجب أن ندرس التاريخ بالروح البشري، وأن نذكر أنه إذا كانت مصر قد أنشأت الحضارة الأولى فإن الفضل في ذلك يعود إلى النيل الذي قهر المصري على أن يتعلم الزراعة لمواظبة فيضانه ولانبساط الوادي، وليس لذكاء فذ في أسلافنا. •••
والحضارة عالمية قد أسهم كل شعب بنصيب فيها، وإذا كان للمصريين فضل الاختراع للكتابة، فإن للهنود فضل الاختراع للأرقام، وما كان يمكن أن تكون هناك نهضة علمية لولا هذه الأرقام الهندية. ولولا الإغريق لما انفصلت الحقائق الفنية والعلمية عن «المعارف» الدينية؛ أي ما كان يمكن للمنطق أن يتغلب على العقيدة. ولولا الإمبراطورية الرومانية ثم الإمبراطورية العربية، لما تعارفت الشعوب هذا التعارف الذي انتهى بوجداننا البشري الحاضر.
ومع أني قد قرأت في هذه النظرية وارتباطها نحو خمسين أو ستين كتابا فإني ما زلت في اشتباكاتها أترصد مكتشفاتها الجديدة في جميع أنحاء العالم، وأحس بأواصر الأجيال الماضية التي تربطنا نحن المصريين بكافة البشرية.
هافلوك إليس والزواج الانفصالي
مات «هافلوك إليس» قبل الحرب الكبرى الثانية، ووصفته إحدى المجلات الأوروبية الكبرى حينئذ بأنه كان أعظم رجل متمدن في أوروبا.
وأنا أحاول هنا أن أروي للقارئ تاريخ حياته، ووصف مؤلفاته، كي يستخرج العبرة من هذا الوصف؛ لأني أعتقد أن عندنا في مصر من يخالف هذا الرأي، فيحكم بأن هافلوك لم يكن متمدنا وإنما كان متوحشا، وأنه لم يعش الحياة الصالحة، وإنما هو أفسد حياته بل حياة زوجته! والواقع أن شيئا من هذا الفساد قد وقع لزوجته، ولكن ليس هناك ما يدل على أن أسلوب الحياة الذي اتخذه هو الذي أدى إلى هذا الفساد، وإن كان هناك شبهات تبعث على هذا الظن.
وإذا أنت سألت عن هافلوك إليس في إحدى المكتبات بالقاهرة عرفت أنه معروف مشهور بمؤلفاته الجنسية، وهي نحو ستة مجلدات ضخمة هي أدب وعلم وفلسفة، تحس وأنت تقرؤها أن كاتبها رجل فن وعلم وفلسفة، وهو يكتب بأسلوب مكين قد أحكمت عباراته كما نقيت من الزوائد، وهو كثير الإشارة إلى أقوال الفلاسفة من الإغريق القدماء إلى الأمريكيين المحدثين. وهو لا يرتجل الفكرة ولا يلتزم مذهبا، وإنما يزن الآراء ويعرض لها في إسهاب شرحا ونقدا، ثم ينتهي إلى الخلاصة التي يستقر عليها ويدعو إليها. وهذه المجلدات الستة عن الشئون الجنسية هي أروع ما كتب عن هذا الموضوع في لغة من لغات العالم، وإنك لتعجب حين تقرأ له فصلا واحدا عن البغاء؛ إذ تدهش لما يروي لك عن تاريخه في الأمم القديمة والحديثة، وعن قيمته ومكانته من الحضارات المتعاقبة، وعن أقوال القديسين المسيحيين الذين أيدوه، وعن القوانين العصرية التي تناولته. وحبذا لو قرأ هذا الفصل ودرسه أولئك الذين عملوا لإلغاء البغاء في مصر، ولكن نكبة الساسة في مصر أنهم لا يدرسون الكتب الأوروبية المنيرة.
كان هافلوك إليس من الرواد الذين شقوا الطريق وبسطوا الآفاق لهذه الدراسات قبل فرويد، فإن نشاطه العلمي كان في ذروته فيما بين عامي 1890 و1920. وهناك فرق أصيل بينه وبين فرويد؛ ذلك أن هافلوك إليس كان يبحث الشئون الجنسية من حيث إنها نشاط سليم يتصل بالأصحاء من الناس، ويبحث أثرها في حياة الشبان العزب والمتزوجين، وفي الحياة العائلية وتربية الأطفال وملكاتها في الحضارة. أما فرويد فيبحث النشاط الجنسي من ناحية المرض لا الصحة.
وقد كان فيما بين عامي 1890 و1891 يرأس تحرير سلسلة من الكتب العلمية التي تتناول المجتمع بالبحث العلمي، وتضم مجلدات تبحث الإجرام، وأخرى تبحث المشكلة اليهودية، وأخرى تبحث الوراثة ... إلخ
كما أن له مؤلفات يكفي ذكر أسمائها كي نعرف أن موضوعاتها أدبية، مثل «رقص الحياة»، و«روح أوروبا».
وهو في كل ما يكتب يمتاز بالنضج والإحاطة والنزاهة؛ إذ هو لا ينتسب إلى حزب أو طائفة ولا يدافع عن مذهب، وإذا نحن اتهمناه بالغرض أو بشيء منه، فإن هذا الاتهام ينحصر في إكباره من شأن النظرية العلمية، وهو هنا يعذر فإنه عاش في أواخر القرن التاسع عشر وامتد نشاطه إلى الثلث الأول من القرن العشرين، وكان الإيمان بالحضارة والرقي يعتمد أكبر الاعتماد على العلم، فإن الأمم الأوروبية طوال القرن التاسع عشر كانت على اقتناع بأنها قد اهتدت عن طريق العلم إلى مفتاح يفتح لها جميع الأبواب المغلقة، وأن سعادة الإنسان وقوته وصحته وثقافته كلها ترتبط بالعلم. وقد نشأ طبيبا، ولكنه لم يمارس الطب؛ لأنه قنع بالتأليف وقضى معظم حياته وهو في فقر لم يشك منه. ولكن المتأمل لسيرة حياته التي كتبها بنفسه يحس الضيق الذي كان يعانيه، فإنه كان يسكن مسكنا وضيعا ويطبخ طعامه بنفسه؛ إذ لم يكن يكسب من قلمه ما يكفي لتناول طعامه في المطاعم أو يمكنه استخدام خادم. ولكنه في السنوات الأخيرة من عمره تمكن من الاتصال بإحدى الصحف الأمريكية التي كانت تستكتبه مقالا أسبوعيا عن شئون أوروبا، وقد صرح بأن الأجر الذي كان يتناوله عن هذه المقالات كان يزيد أضعافا على ما كان يحصل عليه من التأليف والصحافة معا في بريطانيا.
ومع أنه قد مات منذ أكثر من عشر سنوات فإن مؤلفاته ما تزال تقرأ وتجد الأنصار والخصوم لحيويتها، حتى لقد قرأت هذا الأسبوع إعلانا عن كتاب جديد ينشر له في الولايات المتحدة، ويقول الناشر إنه لم يسبق نشره.
وفي كل ما ذكرنا لا نجد شيئا فذا أو شاذا في حياة هافلوك إليس؛ إذ هو مؤلف أو صحفي مثل سائر المؤلفين أو الصحفيين، وإن كان يمتاز عنهم بأنه جاد مثابر نزيه مفكر متبصر، وليست هذه الصفات عامة بين من يؤلفون أو يكتبون للصحف، ولكن ميزته الأصلية أنه اتخذ أسلوبا معينا في عيشه لم يتخذه غيره، وهذا الأسلوب هو الذي حفزنا إلى كتابة هذا الفصل كي ننبه القارئ المصري إليه، ولسنا نشك أنه سوف يجد التقبيح والازدراء من تسعين في المائة من القراء كما قد يجد الاستحسان من عدد قليل، ولكن ليس هذا غرضنا إنما نحن نقصد إلى أن نوضح العوامل التي أدت إلى اتخاذ هذا الأسلوب وتقديره في الحضارة القائمة.
فقد عرف هافلوك إليس فتاة إنجليزية تدعى الآنسة «إديث ليز» قبل نحو ستين سنة، وكانت هذه الفتاة من أولئك الفتيات الجديدات اللائي كن يسمين في إنجلترا باسم المرأة الجديدة، وقد كن منذ عام 1890 أو قبل ذلك يدعون دعوات جريئة مثل التعليم الجامعي للمرأة، ومثل حقوق الانتخاب للمجالس النيابية، والمساواة الاقتصادية بين الجنسين، وتولي الوظائف العامة. وكانت إديث ليز أكثر إيمانا بهذه الحقوق وأكثر إسرافا في الدعوة إليها، وكانت سكرتيرة لأحد الأندية النسوية في لندن، وكانت تقول: إن البيت على حالته الحاضرة - أي حوالي سنة 1890 - هو طاحون تسخر فيه الزوجة، فتعمل طول نهارها وبعض ليلها، وهي مجهدة لا يتوافر لها الوقت للراحة أو الاستمتاع الاجتماعي أو الثقافي، وإن هذا الكد المستمر في البيت، من حيث الاشتغال بالطبخ والغسل والكنس، يمكن الاستغناء عنه بأن نتناول وجباتنا في المطاعم، وإنه يجب على كل امرأة أن تؤدي عملا اجتماعيا بأن تحترف حرفة تكسب منها كما يفعل الرجال؛ لأن الاحتراف هو تربية دائمة لها، وهو يكسبها المال الذي يرفعها إلى كرامة اقتصادية يحسها الزوج فيحترمها، وهي حين تحترف تحس مسئوليات كبيرة لم تكن لتحس بها لو أنها كانت قد قنعت بالنشاط المنزلي في الطبخ والغسل والكنس، وإن الحرفة هي الوسيلة لتكوين الشخصية، ولن تكون للمرأة شخصية إذا هي قنعت بأعمال البيت.
والحق أن هذه الآراء كانت عامة حوالي سنة 1890، ولكنها كانت آراء في الهواء؛ إذ لم تكن تجد ما يدعمها من النظام الاقتصادي السائد وقتئذ؛ لأن الرجال كانوا يستوعبون الأعمال، ولم يكن هناك غير عدد صغير جدا من النساء اللائي كن يعملن ويكسبن.
ويجب أن أقول إن هذه الحال قد تغيرت في أيامنا هذه، فإن نحو عشرين مليون امرأة يحترفن الحرف التجارية والصناعية والمكتبية كالرجل سواء في الولايات المتحدة، وليس هناك شك في أنهن قد كسبن الشخصية التي أشارت إليها إديث ليز، ولم تعم هذه الحالة الجديدة لدعوة نسوية، وإنما لأن هناك قوات اقتصادية جديدة دعت إليها، هي - قبل كل شيء - هاتان الحربان الكبيرتان؛ لأنهما لما جندتا للجيوش والمصانع الكثير من الرجال أكرهتا المجتمع الأمريكي، بل المجتمعات الأوروبية أيضا على استخدام المرأة في المصانع والمتاجر والمكاتب.
ومما زاد هذا الاتجاه قوة أن واجبات المنزل قد اختصرت بالمخترعات الجديدة، فإن الطبخ بالضغط وبالكهرباء قد جعل تهيئة الطعام عملا لا يتجاوز دقائق بينما كان يستغرق الساعات قبل خمسين أو ستين سنة والكنس الكهربائي، وكذلك الغسل الكهربائي، قد أصبحا في ميسور أفقر العائلات الأمريكية والأوروبية الغربية، بل إن التليفون قد أخذ مكان الخادم. وإذا كانت المرأة الأوروبية أو الأمريكية كانت تجد في المنزل ما يشغلها طوال نهارها قبل خمسين سنة، فهي لا تجد فيه ما يشغلها نصف ساعة في اليوم كله، فهي من ناحية تجد أن الأعمال العامة خارج البيت تناديها وتقدم لها المرتب الحسن في المتاجر والمصانع والمكاتب، ومن ناحية أخرى لم تعد تجد في البيت ما يغريها بالبقاء فيه أو يضطرها إليه.
فهذا الذي أبصرت به إديث ليز قبل نحو ستين سنة قد تحقق في أيامنا، ولا بد أنها قد بصرت بهذه القوات الاقتصادية التي كانت تعمل في الخفاء، وتسري في المجتمع، وتنقل المرأة من المنزل إلى المصنع. وهي في دعوتها إنما كانت تعبر عن هذه القوات، أو عن بوادرها الخفية كما كانت تحسها وتتوقع نموها.
كانت إديث ليز قبل نحو خمسين سنة تحلم بما تم في أيامنا من الوعود الاقتصادية التي حققت استقلال المرأة وكونت شخصيتها، وكانت آراؤها تغري أمثال هافلوك إليس بحبها والتعلق بها وقد تعارفا، وبقيا مدة غير قصيرة وهما يتعاونان في الدراسة ويتبادلان في عطف هذه الآراء التجديدية التقدمية ... وكانت لندن تختمر في تلك السنين بآراء تقدمية عديدة. وتم زواجهما، وهنا تبدأ قصتنا أو عبرة القصة التي قصدنا إليها حين قلنا إنه - أي هافلوك إليس - قد اتخذ أسلوبا معينا من العيش.
ذلك أننا نفهم من الزواج أنه ارتباط مادي كما هو ارتباط روحي، بحيث يعيش الزوجان في منزل مشترك، وإن لم يناما في سرير مشترك، يشتركان في الراحة والنوم، ويأكلان من مائدة واحدة، ولهما اقتصاديات منزلية مشتركة.
ولكن هذين الزوجين كانا على نية الابتداع لبدعة جديدة هي الزواج الانفصالي، فإنهما بعد انقضاء شهر العسل عاد كل منهما إلى منزله، يتلاقيان بمواعيد، ويشتركان في سريرهما بمواعيد، كأنهما عاشقان وليسا زوجين. ولم يكن هذا الانفصال يرجع إلى ضعف أو نقص في حبهما وإنما كان عن مبدأ، وهو أن كلا من الزوجين يجب أن يستقل بحياته وحرفته وسكناه وبرنامج يومه لا يفسدهما عليه ذلك زوجه الآخر. أو بكلمة أخرى: نحن نرى في الزواج حياة شاملة تحتوي على جميع التفاصيل الأخرى، في حين كان هذان الزوجان يريان فيه أنه بعض الحياة فقط، وأنه يجب أن يترك الزوج حرا لا يتدخل الزواج في تفاصيل حياته ولا يشملها؛ إذ هو - أي الزوج - إنسان أولا له طموحه وآماله وحرفته وهوايته وملذاته، وهو يحب أن يجد الحرية كي يمارسها جميعها في خلوة وفي استقلال لا يفسدهما عليه الزوج الآخر.
وقد عاشا على هذا الأسلوب أكثر من عشرين سنة يتزاوران كأنهما ضيفان، وفي كل عام يقصدان إلى قرية في الريف أو إلى أية بلدة على الشاطئ للتشتية أو الاصطياف، فيقضيان نحو شهر معا في بيت واحد، حتى إذا عادا إلى لندن استقل كل منهما بمنزله دون الآخر.
ومما يذكر أن غريبا لقيهما في القطار فلم يعرف من حديثهم أنهما زوجان؛ إذ كان كل منهما يداعب الآخر، ويلاطفه أو يناغيه وظن أنهما عاشقان.
على أن هذه السعادة «الزوجية» لم تدم، فإن الزوجة أحست هوى جنسيا استسلمت له، فأحبت شابا، ثم عادت فأحست انحرافا فأحبت فتاة، وفسدت العلاقة الزوجية بسبب ذلك، ولكنهما لم يعمدا إلى الطلاق. وهنا يعلل بعض القراء هذا الشذوذ الذي وقعت فيه الزوجة بأنه كان النتيجة المحتومة لهذا الانفصال. واعتقادي أن هذا الاستنتاج قد يكون صادقا، فإن الرجل حين يعيش منفردا معتزلا للمرأة، وكذلك المرأة حين تعيش منفردة معتزلة للرجل، كلاهما يعود عرضة للشذوذ الجنسي، وخاصة إذا كانت هناك زعزعة نفسية سابقة، كما نستطيع أن نستنتج مما حدث لهذه الزوجة المسكينة التي احتاجت في فترة من حياتها أن تلجأ إلى مستشفى الأمراض العقلية.
الواقع أننا نجد في أخلاق هذه الزوجة رعونة وتقلبا لا يدلان على عقل رصين متزن، فإنها احترفت الزراعة سنوات، ثم احترفت النشر؛ أي نشر الكتب، وأخفقت في العملين، وكان من رعونتها هذه أن طلبت الانفصال الشرعي، وهو في إنجلترا دون الطلاق.
فهل نعلل إخفاق حياتها بهذا الزواج الانفصالي، أم نعزوه إلى أنها كانت من الأصل مزعزعة النفس لم تستطع الاستقرار؟
أظن أن التعليلين مسئولان.
والذي نحسه حين نقرأ سيرة هافلوك إليس بقلمه أن حبه لها قد بقي إلى يوم وفاتها، بل هو يقص علينا إحساساته الأليمة حين رآها تجري وراء هذا الشاب الجميل، ثم بعد ذلك حين زاغت بها الشهوة إلى إحدى الفتيات، ثم هو يصف لنا في مرارة كيف حمل جسمها إلى المرمدة حيث أحرق، وكيف حمل اللحاد الرماد وذره في الجهات الأربع في الحديقة. •••
والآن نقف كي نتأمل هذا الزي الجديد للزواج أو هذا الأسلوب الجديد للعيش ... وهما زي وأسلوب يتفشيان هذه السنين الأخيرة في الولايات المتحدة بدرجة خطيرة، وفي أوروبا الغربية، ولكن ليس إلى المدى الذي بلغا بين الأمريكيين.
وكان «ليون بلوم» الرئيس الاشتراكي السابق للوزارة الفرنسية يدعو إليه، ويقول إنه خير الأساليب للعيش. وعلينا هنا أن نفترض الافتراضات والاحتمالات، فنقول إن خروج المرأة من البيت إلى المجتمع في النصف الأول من هذا القرن كان منتظرا، وقد زادته الحربان الأخيرتان تأكيدا لحاجات المصانع إلى عمل المرأة بدلا من الرجل الذي ذهب إلى ميادين القتال. ثم إن المساواة في التعليم قد جعلت للمرأة كفايات حرفية أهلتها للعمل والكسب، وأخيرا إحالة المنزل من مؤسسة تقوم على العمل اليدوي إلى أخرى تقوم على العمل الكهربائي، قد جعل بقاء المرأة في المنزل طوال النهار شيئا غير معقول.
وجميع هذه الاعتبارات قد بلغت ذروتها في الولايات المتحدة؛ لأن المنزل هناك «مكهرب» والمرأة تكسب كالرجل، وكلمة «الشخصية» قد اكتسبت لهذا السبب معناها العصري للمرأة في أمريكا. والمرأة التي تنشد تكوين شخصيتها إنما تنشدها بالتعلم والاحتراف والاختلاط بالمجتمع، وليس بالانزواء في البيت؛ وهي لذلك حين تتزوج تصر على استبقاء حرفتها ونشاطها الاجتماعي، وتزيد هذا الإصرار قوة بأن تطلب بقاءها منفصلة في منزلها وقت الزواج كما كانت أيام عزوبتها.
وحجتها أن حياتها الخاصة، وما جمعت حولها من أصدقاء وكتب واهتمامات يجب ألا تنقطع بالزواج، ولكن اشتراكها في منزل زوج يؤكلها ثلاث وجبات كل يوم، ويقحم أصدقاءه على حياتها الخاصة، وربما يعترض على أصدقائها هي، هذا الاشتراك لا يترك لشخصيتها المجال الحيوي كي تنمو وترقى؛ لذلك يجب أن تعيش حياتها الخاصة بعد الزواج كما يعيش هو حياته الخاصة، ووسيلة ذلك أن يعيش كل منهما في منزله الذي كان يعيش فيه أيام العزوبة.
وكثير من الأزواج الذين اضطلعوا بمهام واشتغلوا باهتمامات تزيد على مألوف العامة يحسون الوجاهة في هذا المنطق. وليست المرأة وحدها هي التي تطلب في أمريكا وأوروبا الغربية هذا الزواج الانفصالي، وإنما هو للرجل أيضا حين يرصد نفسه لأهداف اجتماعية يحس أن الروابط الزوجية تقيده وتحول بينه وبين بذل ماله وعمره لتحقيقها، فإن رجل العلم أو رجل الأدب أو رجل الفن أو السياسة كل هؤلاء يجدون أن الحياة العائلية بمألوفها وارتباطاتها لا تتفق وما يضطلعون به من مسئوليات جسيمة سواء أكانت لأشخاصهم أم لوطنهم. •••
عاش هافلوك إليس نحو عشرين سنة أخرى بعد وفاة زوجته، وقد شغفت به بعد ذلك سيدة فرنسية وعاشت معه إلى يوم وفاته منذ نحو عشر سنوات.
وقد قرأت معظم ما ألفه هافلوك إليس، وإني أحس أنه كان على فهم عميق للحضارة الأوروبية، وأعني بهذا الفهم العميق أنه كان يصل حاضر أوروبا بعصر نهضتها فيما بين عام 1450 وعام 1550 حين شرعت تغير عقائدها وأسلوب معيشتها.
وما زالت أوروبا حتى هذا العام في سبيل هذه النهضة تغير عقائدها وأسلوب معيشتها، وهذا الزواج الانفصالي هو بعض تجاربها التي سوف تثبت الأيام أنها حسنة أو سيئة. والفرق بين أوروبا وأقطار الشرق أن الأولى دائبة في التجارب، تجدد وسائل عيشها وتغير في مؤسساتها، أما الشرق فيضفي على مؤسساته قداسة تجمد تطوره وتجعل أبناءه يعيشون في عام 1951، كما لو كانوا يعيشون في عام 951؛ أي قبل ألف سنة.
وقد رأى الأوربيون أن العائلة كانت في الماضي تربي الشخصية، أما الآن فإنها تعوق هذه التربية؛ لأن الإنسان الجديد قد زاد إحساسه الاجتماعي عما كان عليه قبل مائة سنة، فهو في المجتمع بذهنه وجسمه في عصرنا أكثر مما كان من قبل؛ لأنه يشترك في السياسة والتطور الاجتماعي، ويشتبك في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
والعائلة بتأليفها الماضي هي إلى حد ما ضد المجتمع، كما نرى مثلا في ذلك الرجل العائلي المسرف في التزام بيته، من مكتبه إلى بيته، يعيش مع أولاده، ولا يفكر في غير سعادتهم، فهو «فاضل» من الناحية العائلية، ولكن اهتماماته الاجتماعية في هذه الحال ضعيفة.
ونحن نلاحظ أنه عندما يقوى المجتمع، ويتولى الحكم، وتكون له الكلمة العليا كما هي الحال في الأمم الديمقراطية، بريطانيا وفرنسا، والولايات المتحدة، تضعف الروابط العائلية؛ إذ يكثر الطلاق، وأيضا يتجه الرجل كما تتجه المرأة إلى نشاط آخر خارج البيت. ولكن ليس شك أن الرجل الاجتماعي، وكذلك المرأة الاجتماعية، كلاهما يمتاز بشخصية أكبر وأنضج من الرجل العائلي أو المرأة العائلية، وخاصة إذا كان هذا المجتمع حرا لا تدوسه حكومة مستبدة، ولا تطغى عليه قوات بوليسية تحرمه تطوره وارتقاءه، إننا نحس حنينا نحو العائلة، وما فيها من استمتاعات الطفولة بين الأبوين، ولكننا ننسى أن الأم في السنين الأولى من العمر هي كل شيء، وأن قيمة الأب ضئيلة، والزواج الانفصالي، كما هو شائع في أيامنا في الأمم الغربية، يجعل التصاق الأم بأطفالها مكفولا كما كان الشأن قبلا.
وبالطبع، هذا الزواج الانفصالي لا يمكن أن ينشأ، إلا إذا كان الزوجان يريان ضرورته لرقيهما، أما إذا لم يجدا هذه الضرورة فإنهما يعيشان معا، وأغلب الظن أن هذا الزواج الانفصالي لا يزيد في الوقت الحاضر على واحد في المائة، أو أكثر أو أقل قليلا في الأمم الغربية التي أشرنا إليها؛ وذلك لأن هذا الإنسان الجديد الذي ارتقت شخصيته وزاد إحساسه الاجتماعي على إحساسه العائلي لا يمكن أن يزيد على واحد في المائة من السكان في أرقى أمة.
وعبارة «الإحساس الاجتماعي» تعني الاهتمامات المتعددة بالعلم والفلسفة، والفن، والاختراع، والاكتشاف؛ لأن هذه الاهتمامات تحتاج إلى إرصاد القوى كلها لإتمامها في خلوة واستقلال. وقد كان هافلوك إليس من هذه الناحية إنسانا جديدا، ولكننا لا نستطيع أن نبت برأي في هذه الجدة، هل هي للسعادة والخير، أم للتعاسة والشر؟
جوركي والأديب المكافح
في القرن التاسع عشر، وخاصة في نصفه الثاني، كانت روسيا التي هي الآن جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفييتي، تتنازعها حركتان أدبيتان - أو الأحرى اجتماعيتان - إزاء ضغط الثقافة الأوروبية التي كانت تزحف إليها من أوروبا الغربية، والتي فتح لها بطرس الأكبر صدره حين أراد أن ينقل روسيا من الشرق إلى الغرب.
وكان إزاء هذا الضغط الزاحف، تنشط حركة أخرى يقول دعاتها إن الروس صقالبة لا شأن لهم بالأوروبيين، وإن لهؤلاء الصقالبة روحا وتقاليد وعادات يجب على الروس أن يحافظوا عليها وألا يتلوثوا بالحضارة الأوروبية الفاسدة.
وكان تولستوي ودستوفسكي داعيتي هذه الحركة الصقلبية، كما كان تورجنيف وجوركي داعيتي الاتجاه الأوروبي، وكان التصادم الفكري بينهما كثيرا، وهذا التصادم قد رأينا مثله في مصر، ففي الخمسين أو الستين سنة الماضية رأينا دعاة السفور للمرأة، مثل قاسم أمين، يتجهون نحو الغرب ويقولون بالأخذ بالحضارة العصرية، كما رأينا دعاة الحجاب، مثل طلعت حرب، يقولون بأننا شرقيون لنا تقاليدنا التي تفضل التقاليد الغربية.
بل كذلك حدث في اليابان والصين والهند، ولكن في جميع هذه المصادمات يتغلب دعاة الحضارة الغربية لسبب مفرد بسيط، هو أنها ليست غربية؛ إذ إن وصفها الحقيقي أنها عصرية جديدة، في حين أن ما يسمى حضارة شرقية، أو صقلبية، إنما هو تلك العادات والتقاليد القديمة التي أثبت الاختبار أنها ليست كفئا للوقوف في وجه الحضارة العصرية.
الحضارة العصرية الصناعية منتجة، توفر المال والقوة للغربيين، أما الحضارة الشرقية الزراعية القديمة فلم تكن منتجة إلى حد الوفرة؛ ولذلك يحيا أبناؤها في فقر وضعف يغري المستعمرين الأوروبيين باستغلالهم واستعمار بلادهم.
بقيت هذه المعركة بين دعاة القديم الشرقي والجديد الغربي مستعرة إلى عام 1881، حين قتل القيصر إسكندر الثاني، وعندئذ سادت البلاد رجعية سوداء كان من نتائجها أو وسائلها منع المؤلفات اليسارية الأوروبية من الدخول في روسيا واضطهاد المؤلفين الاشتراكيين، وفي مثل هذه الظروف تجري الدعايات المضطهدة في الظلام، وتختمر بأشد وأعنف مما كانت تختمر لو كانت مكشوفة؛ إذ عندئذ يدخلها العنف الذي لا يتفق والحركات المكشوفة؛ ولذلك فشت الجمعيات السرية التي يحدثنا عنها جوركي، الذي كان وقتئذ شابا حوالي العشرين، يجوس خلال الأفكار والناس، ويحيا شريدا يتنقل من حرفة إلى حرفة لسد الرمق. وفي هذا الضغط أو الكبت، عقب مقتل القيصر، تبخر الصراع بين دعاة الصقلبية، أي الشرق، وبين دعاة الحضارة الغربية، وأخذ مكانه صراع أعمق وأبعد بين الرأسمالية والاشتراكية. وكانت الرأسمالية بازغة في روسيا، قد جلبها المستعمرون - أي المستغلون - من الغربيين الذي ألفوا الشركات لإيجاد المصانع، واشترك معهم الأثرياء من الروس الذين آمنوا بالحضارة الغربية، والذين وجدوا الظروف ملائمة لاستغلال الثروة المادية، والبشرية الروسية، وذلك عقب إلغاء النظام الإقطاعي السابق وتحرير عبيد الأرض - أي العمال - الذين لم يكن يسمح لهم من قبل بترك الأرض إلا بإذن المالكين.
واتحد الاشتراكيون والأحرار في التوجيه السياسي للشعب الروسي، وحدثت ثورة عام 1905 التي كانت في صميمها مظاهرة أحالها طغيان الحكومة القيصرية إلى مجزرة قتل فيها أكثر من خمسمائة، غير آلاف الجرحى، وكان يقودها إلى الفشل الكاهن «جابون» الذي دعا المتظاهرين إلى ألا يحملوا السلاح ضد «الأب الصغير» - أي القيصر - ولكن الأب الصغير كان يحمل السلاح هو وآلاف من جنوده، استعملوا جميعهم السلاح لقتل الجماهير المتظاهرة، والتي لم تكن تطلب من القيصر أكثر من حكومة دستورية عادلة توفر الخبز والعمل لأبناء الشعب الجائعين. وهنا نجد مكسيم جوركي لأول مرة يشترك في هذه الثورة، ويتعلم منها. وكان أول ما تعلم من دروسها أن عرش القيصرية لن يهدمه الأحرار، وأن أحزاب الأحرار لم يعد لها مكان في القرن العشرين، وأن الاشتراكية وحدها تتحمل عبء التغيير المنتظر بإيجاد جمهورية بدلا من القيصرية.
وقصته العظيمة «الأم» التي ظهرت في عام 1907 هي التعليق على ثورة 1905 الفاشلة، كما هي إرشاد وإلهام للشباب الثائرين في روسيا حتى لا يقنطوا من النجاح المنشود في ثورات أخرى. •••
ذكرت الصراع بين دعاة الصقلبية الشرقيين، وبين دعاة الحضارة العصرية الغربيين، هذا الصراع تغير - أو تطور - إلى حركتين جديدتين فيما بين عامي 1900 أو 1914، فإن الاتجاه الاشتراكي بين المفكرين والأدباء حملهم على الانحياز للإنسانية ضد الوطنية. «نحن للعالم ولسنا لروسيا. لسنا وطنيين، نحن عالميون.»
هذا كان موقفهم، وكان منطقهم هنا أنه ما دمنا نعمل للاشتراكية فيجب ألا تكون هناك فوارق في الوطن، وإنما نهدف إلى خدمة الإنسان مهما يكن سواء أكان روسيا أم مصريا أم صينيا أم إنجليزيا، في حين كان خصومهم يقولون: روسيا أولا، نحن وطنيون.
وجاءت الحرب في عام 1914 فتغلب بالطبع الوطنيون، ولكن لفترة قصيرة، واستحالت الوطنية إلى نزعة حربية عنيفة ضد ألمانيا، وهذا ما كان ينتظر. ولكن جوركي بقي على ما كان عليه داعية للسلم حتى مدة الحرب، داعية للإنسان؛ الإنسان العالمي. •••
عاش جوركي أربعين سنة، وهو يكافح في صدره مرض الدرن - أي السل - وأمضى معظم حياته في جنوب إيطاليا ابتغاء الشمس والدفء، ولم يستسلم لهذا المرض، ولم ينم له، بل كان يعمل، ويخرج في الهواء ويمرن عضلاته؛ لأنه كان يحس أنه في سباق مع الموت. وعاش 68 سنة كان يمكن بالطبع أن تكون 80 أو 90 لولا هذا المرض، ولولا هذا الكفاح الآخر الذي كافح به الفقر والحرمان في صباه كله وبعض شبابه.
لقد نشأ جوركي في أسرة من الفقراء الذين جر عليهم الفقر طائفة غير صغيرة من الكوارث، فرأى بعينه الإجرام في أعضاء أسرته. كما أن الجوع قد حمله على أن يحترف أوضع الحرف، بل كان احترافه لهذه الحرف أقرب إلى التشريد منه إلى الاحتراف فعمل خبازا، وبائعا جوالا، وجامعا للخرق، وبستانيا، وبائعا للأيقونات المقدسة. بل إنه احتاج أن يصيد العصافير كي يأكلها ويشبع بها جوعه. وليس غريبا علينا أن نفهم أن قصته «من الأعماق السفلى» تحتوي أشخاصا يشهدون أو يطابقون أولئك الذين خالطهم في صباه وشبابه، بل ليس غريبا علينا أن نفهم أنه قد ألهم الواقعية في الأدب؛ لأن ما رآه من واقع حياة هؤلاء الناس قد ألهمه هذا المذهب، إنما الغريب أن نعرف أنه تغلب على هذا الوسط السيئ فلم يقتد بأحد من أولئك المجرمين، بل رفع نفسه فوق وسطه، فلم يتعود شرب الخمور، ولم يقنع بالبطالة والتشرد، ولم يقع في جريمة أو فساد آخر، وإنما خرج من هذا الظلام ينشد النور في درس المذاهب واقتناء الكتب والتفكير في الإنسانية، وترقية شخصيته. تغلب على وسطه، وتغلب على هذا الميكروب الذي كان يأكل رئتيه مدة أربعين سنة.
ونحن هنا إزاء رجل نجح في الأدب وأخرج الكتب العظيمة، ولكنه قبل أن يخرج كتابا من مطبعة أخرج لنا حياته التي نجح في تأليفها، وحياته هذه هي خير مؤلفاته، وهي التي تلهمنا أكثر من أي كتاب من كتبه، ولكن ما هو الحافز في هذه الحياة؟ •••
أعتقد أن أعظم نعمة أنعمت بها الأقدار على مكسيم جوركي أنه منذ بداية شبابه، كما يخبرنا هو عن ذلك في ترجمة حياته، عرف المذهب الاشتراكي، وكان هذا المذهب جديرا بأن يلصق بقلبه أكثر مما يلصق بقلب أي إنسان آخر؛ لأنه رأى بعينيه، واختبر بأسلوب عيشه في الفقر والتشريد والصعلكة، أكثر مما كان يرى ويختبر غيره، فكان للاشتراكية الوقع العميق في نفسه، وهذا الوقع هو الذي نقله من الواقعية إلى الرومانسية.
لقد اكتسب الواقعية مما رأى واختبر، فصار ينقل إلينا في أدبه صورا من الفقر والحرمان، وما يجران على الفقير المحروم من الانهيار النفسي والتفكك الأخلاقي في بعض الأحيان، كما يبعثان في أحيان أخرى قوة جديدة للتغلب والسيطرة على الوسط. ولكن هذه الواقعية التي اكتسبها من واقع حياته الأولى استحالت عنده بالمذهب الاشتراكي إلى رومانسية علمية، فصار يرسم لنا الأهداف الجديدة للارتقاء الشخصي، وأيضا للارتقاء الشعبي عن طريق العلم الذي خدم الإنسان، ويسخر الطبيعة ويغيرها لتوفير الرفاهية للجميع.
إن بعض الناس يؤمنون بالاشتراكية لأنها عدل ورحمة، ولكن المفكر العلمي يؤمن بها لأنها علم تتفتح لنا أبوابه في النظام الاشتراكي فقط حين تنطلق الطاقات لجميع أبناء الشعب للإنتاج والاختراع والاكتشاف والثراء والرخاء، وهذه هي اشتراكية جوركي، وهذا الأمل في تحقيقها هو الذي يجعله يحلم بالسعادة، ويعود رومانسيا يرسم لنا ما سوف نستمتع به بعد تعميم هذا النظام للعالم. •••
قبل ثورة عام 1905 الفاشلة كان جوركي يؤلف القصص القصيرة التي يعالج فيها أعماق الفقر والبؤس ويبعث فيها بخمائر الثورة، وكان موقفه الاجتماعي من مؤلفاته الفنية هو أن الفقر ساحق عام، ولكننا نستطيع أن نلغيه بالعلم والاشتراكية، وأن الفقير زري في معظم أحواله؛ لأنه يحيا في وسط سيء يحمله على الإجرام والرذيلة، بل يحمله على أن يفر من الجوع والبؤس بالخمر. ثم رأى بعد الثورة الفاشلة في عام 1905 أن هنا يأسا عاما، وأن السلطات الروسية قد استأنفت قسوتها ووحشيتها، فألف «الأم». ومغزى هذه القصة أن الثائرين يجب ألا ييأسوا، وهو يشرح، كأنه الدليل المرشد، كيف يجب أن يستعد المتآمرون، وكيف يعرفون الخائن فيتقونه، وكيف يحذرون الجواسيس. وقصة «الأم» من هذه الجهة ليست قصة فقط؛ إذ هي قبل كل شيء دليل يوضح أساليب الثورة، وهذا هو المغزى العام منها.
ولكن هناك مغزى آخر يمكن أن نسميه المغزى الشخصي من الثورة، هو أن العامل الفقير، عندما ييأس يفسد، ويهرب من الحياة بالخمر والرذيلة، ولكنه عندما ينهض، ويحس أنه رجل له آمال في الارتقاء العام وتغيير النظم الاستبدادية، عند ذلك يعمد إلى نفسه هو فيرقي شخصيته، ويغير أخلاقه، فيشرع في التعلم، أو ما نسميه التثقيف الذاتي، فما هو أن تمضي عليه سنوات قليلة حتى يكون قد انتقل من العامية المهنية إلى الثقافة العالية، وخاصة إذا كانت هذه الثورة التي ينشدها هي النظام الاشتراكي. •••
كما أن هناك «عقدا» أو «مركبات» في الأخلاق تعين لنا سلوكنا وأهدافنا، كذلك نحن في دراستنا وثقافتنا نجد أننا في أسر هذه العقد أو المركبات الذهنية النفسية التي تكسبنا الحوافز، وتبعث فينا النشاط للدرس، وتفتأ تملؤنا اهتمامات تكاد تكون هموما مؤلمة، لا نرتاح إلا بعد أن نحلها وننفرج من أسرها. وهنا كلمة عن شخصي أنا من حيث اختباراتي للشهوة الثقافية والإرشاد للعلوم والآداب، فقد وجدت عقدتين في حياتي كان لهما كل الأثر في توجيه أبحاثي ودراساتي.
العقدة الأولى: هي نظرية التطور التي طرأت علي، ولما أبلغ السابعة عشرة من عمري، وكانت مجلة المقتطف تسميها نظرية النشوء والارتقاء، وما هو أن عثرت عليها حتى وجدتني في عاصفة من التفكير والتردد. هذه النظرية، هذه العقدة، جعلتني أبحث الأديان، وأدرس البيولوجيا - أي علم الحياة - وأقتني عشرات بل مئات الكتب عن الإنسان البدائي ونشأة الحضارات، وأسلوب الحياة عند المتوحشين في أيامنا، وثورة العلم على التقاليد في النهضة الأوروبية، ومعاني التطور الاجتماعي، وتاريخ الأرض، وأصل الكون، ومستقبل الإنسان، وأخيرا السيكلوجية - أي علم النفس. كل هذه الدراسات كانت ولا تزال عندي، تعود إلى العقدة الأولى التي غرستها في نفسي نظرية التطور. والمهم الذي يجب أن أذكره أني ما زلت في أسر هذه العقدة، وأن استطلاعاتي الجديدة للثقافة تعود إلى جذورها الأولى حين كانت سني 17 سنة، وهي الأصل في اتجاهاتي العلمية.
والعقدة الثانية: هي الاشتراكية التي طرأت علي وأنا حوالي العشرين في لندن حين التحقت عضوا بالجمعية الفابية؛ فقد حفزني هذا المذهب على بحوث واستطلاعات اجتماعية جديدة.
ما هي علة الفقر؟
ما هو معنى الاستعمار؟
هل البغاء عند محترفاته استهتار أم فقر؟
هل الجرائم تعود إلى ما يسميه بعضنا «سوء الأخلاق»، أم إلى الفقر؟
بل كذلك المرض، يعود إلى عادات سيئة، أم إلى قلة التغذية؟
إلخ ... إلخ. ودفعتني هذه البحوث إلى أن أدرس العناصر التي يتألف منها الغذاء الحسن، بل إلى أن أدرس طرق الزراعة العلمية والتقليدية، وإلى أن أدرس مشكلة السكان ... إلخ.
ولكن نظرية التطور، ثم نظرية الاشتراكية، زيادة على ما حملتني كل منهما على الدرس، حملتني أيضا على الآمال البعيدة، بل أحيانا المسرفة، في مستقبل الإنسان القريب بالاشتراكية. والذي أفهمه من حياة جورجي أنه انبعث بدراسة العلم والاشتراكية إلى الآمال الإنسانية العظيمة التي نصفها بأنها رومانسية.
إننا في حديثنا العام نفرض على الدوام أن المذهب الاشتراكي مذهب إنساني بار، وأن الاشتراكيين يضحون ولا يكسبون منه شيئا، ولكني باختباراتي أستطيع أن أكذب هذا الفرض، وأنا أقول إني اكتسبت من إيماني بالاشتراكية هذه الدراسات والاستطلاعات التي لا تنقطع، والتي أحس منها أن ذهني حي، وأنه في شباب، ينمو وينضج، وأني أتفاءل في حياتي بالمستقبل، ولا أخشاه، ولا أتشاءم. •••
ولكننا نجد في جوركي شذوذا، أو فذاذة عجيبة فيما يختص بتأثير الوسط على الأخلاق، فإن الوسط الذي نشأ فيه وسط الأسرة من الجدود والأعمام والأخوال، هذا الوسط كان هاوية من الخسة والشراسة والإجرام والرذيلة، وأيما مفكر قد تشبع من الثقافة الاجتماعية، ويقرأ عن هؤلاء الأشخاص الذين نشأ بينهم جوركي، لا يتمالك الإحساس بأنه - أي هذا الوسط - كان جديرا بأن يخلق منه أعظم مجرم في العالم، ولكن جوركي كذب هذا المنطق ونشأ أعظم إنسان في العالم، وصحيح أنه كانت له في هذا الوسط جدة بارة أحبته وخدمته، ولكن هل يكفي للنشأة الحميدة أن يكون هناك شخص واحد فاضل بين عشرة من الأرزال؟
وإذا لم يكن الشأن كذلك فإلام تعزو هذه النشأة العصامية التي اتسمت بها حياة جوركي؟
كان جوركي عصاميا، ولكن ليس في جمع المال كما هو المعنى العرفي، وإنما في تأليف شخصيته وتربية إنسانيته. وليس عندنا من تفسير لهذه الظاهرة الفذة سوى أنه تقلب كثيرا في الحرف والمهن، ورأى وقارن بين الناس، واستعمل ذكاءه في الفهم والمقارنة، وعرف في غضون ذلك المذهب الاشتراكي، واستطاع أن يصوغ حياته وفق خياله، وخياله هو الاشتراكية.
وهنا العبرة لكل شاب، بل لكل فتاة، فإني لا أكاد أتخيل وسطا عائليا أسوأ من الوسط الذي نشأ فيه جوركي، ومع ذلك تغلب على هذا الوسط كما تغلب على مرضه؛ السل، مدة أربعين سنة، وامتلأ آمالا في المستقبل الاشتراكي. •••
ومع ذلك لا نستطيع أن ننكر تأثير الوسط أو قيمته في جوركي، أو بالأحرى في مؤلفاته، ونحتاج هنا إلى المقارنة بين تولستوي وجوركي، فإن الذي لا شك فيه أن نشأة المؤلف، ووسطه العائلي والاجتماعي يؤثران على موقفه من الدنيا وآرائه وفلسفته واتجاهاته، بل كذلك على أسلوب تعبيره وموضوع تفكيره، ولا يكاد أحدنا يتغير ويخالف هذه القاعدة إلا إذا عاش في وسط اجتماعي آخر يزعزع عاداته وعقائده السابقة.
فقد نشأ تولستوي على القمة، في أسرة يرأسها كونت. ونشأ جوركي في الهوة، في أسرة أكثر أفرادها من المجرمين؛ ولذلك نجد أن تولستوي على الرغم من يقظته وبغضه لمعيشة النبلاء مما يضارعونه في الجاه والثراء، لا يزال يحس إحساسهم، فهو لا يؤمن إيمانا كاملا بالاشتراكية، بل لا يؤمن بالحضارة الصناعية، وكل ما نجد فيه أنه إقطاعي رحيم بالفقراء الذين قلما يكتب عنهم؛ لأن أبطاله جميعهم تقريبا من النبلاء أمثاله أو من المتيسرين، والرحمة المسيحية عند علاج المساوئ الاجتماعية، وهو يؤمن بالدين، وإن كان يجحد الكنيسة.
العدل عند تولستوي هو الرحمة، وألا نقاوم الشر مقاومة إيجابية.
ولكن العدل عند جوركي هو الحق، ومذهبه مكافحة الشر بالسيف والنار.
وأبطال جوركي هم أولئك الذين أسقطهم الفقر على الحضيض، ولكنه يعمل على رفعهم بإيقاظهم، وإيجاد الوعي الإنساني في قلوبهم.
تولستوي لم يدع إلى الثورة، ولكنه أوجد السخط الذي هيأ لها.
وجوركي دعا إلى الثورة واشترك بنفسه في ثورة عام 1905، ثم عاد إلى روسيا بعد ثورة عام 1917، وخدمها في أمانة وحماسة إلى أن مات في عام 1936.
إن التصادم عند جوركي، بين واقع حياته وأماني نفسه، هو الذي ينعكس أثره في أدبه حين يصف لنا رجال قصصه، فيصف الإنسان بأنه بليد وخسيس وجاهل وراكد وأرعن ومغفل.
هذه هي الصفات التي رآها في الناس، في الواقع، ولكنه يعود فيثب من الواقعية إلى الرومانسية، فيقول لنا على لسان إبليس في قصة «الأعماق السفلى»:
الإنسان، ما أعظمها كلمة!
أجل، إن الإنسان سينتصر على بلادته وركوده.
واقعة جوركي جاءت من حياته السفلى مع أخواله وأعمامه، رومانسيته جاءت من آماله، بعد أن عرف الثائرين الاشتراكيين، وبعد أن اشترك معهم بعقله وجهده ، كان يعيش في الظلام الرأسمالي، ويؤمل في النور الاشتراكي، كان يعيش في الرق والفاقة، ويفكر في الحرية والرفاهية. إن القبح في الواقع جعله - في الخيال - يفكر في الجمال، وكان اليأس يبعث فيه الأمل. كان يحلم وهو في عبودية المجتمع الروسي أيام القيصر في سيادة الإنسان على الطبيعة وعلى الآلة، وفي قدرة الإنسان بعقله على محو الخرافات.
يجب ألا نتعب من تكرار القول بأن الأديب يجب أن يستنبط من شخصه «نفسا أدبية» قبل أن يؤلف في الأدب، يجب أن يكون رجلا مكافحا وإنسانا اشتراكيا، فأين هي عوامل الرجولة والإنسانية في جوركي؟ لقد صار يتيما وهو في السنة السابعة من عمره، وصار عاملا يكسب عيشه وهو في التاسعة من عمره، وبعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وفي حيرة وتنقل من عمل إلى آخر وفق اختياره؟ هذه الأعمال كانت بعد ذلك المواد الخامة التي صنع منها قصصه. وفيما بين عامي 1904 و1913 أسس واشترك في دار نشر تدعى «زنانيا» لنشر الأدب الذي يحمل دلالة اجتماعية. وبقي طيلة حياته بعد ذلك يفهم من الأدب أنه وسيلة لتغيير المجتمعات والناس. وبقي أربعين سنة يكافح مرض السل (الدرن) الرئوي. وفي سنة 1908 وصف الشعب في كتابه «الاعتراف» بأنه «خالق الآلهة، خالق المعجزات.» ويقول فيه أيضا: «إن قوة الشعب حين يسترشد بالإرادة الذكية، لا تعرف حدودا تعوقها عن التقدم.»
هذا الأمل العظيم إنما أحس به بعد الكوارث العظمى التي جعلته يتألم من الفقر في صباه، ومن المرض أربعين سنة حتى حاول الانتحار والفرار من الدنيا، ولكنه خرج من هذا اليأس إلى الأمل الواسع، فأصبح أعظم مرشد للناس يرشدهم إلى طريق الخير الاشتراكي، وما زلنا نحن، بعد وفاته نسترشد به ونبني، أو نحاول أن نبني حياتنا على غراره. •••
ولد جوركي في عام 1868 ومات في عام 1936، ونفهم من هذين التاريخين أنه أمضى 32 سنة في القرن التاسع عشر و36 سنة في القرن العشرين، ونفهم أيضا أنه ألف قبل الثورة الروسية في عام 1917، وبعدها، فكان من دعاتها المكافحين المضطهدين ثم كان بعد ذلك من أبنائها الموالين. كان مولده، فيما كنا نسميه قبل الحرب «نجني نوفجورود» ثم صارت بعد الثورة تسمى باسمه «جوركي» على نهر الفولجا الذي نجد ذكره يتكرر في مؤلفاته، وكانت روسيا قد ألغت الرق الإقطاعي، ولكن ذكراه كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ورأى جوركي في صباه ناسا كانوا أرقاء، لهم أخلاق إقطاعية في الدرجات السفلى، ولكنه رأى أيضا بزوغ الحركة الصناعية والرواج التجاري في المدن حيث المصانع والمتاجر.
كانت روسيا في فترة الانتقال تصطدم فيها الأخلاق الإقطاعية التي تعتمد على الإيمان والتواكل والمحافظة التي تقارب الجمود، والأخلاق الجديدة؛ أخلاق المتجر والمصنع. وكلنا - نحن أبناء القاهرة الذين أمضوا بعض حياتهم في الريف - نعرف الفرق بين الفلاح، هذا الإنسان القديم، الذي يخرج علينا بأخلاق الفراعنة، والذي تغلبت عليه الأخلاق الإقطاعية، ثم هذا الإنسان الجديد العامل في المصنع أو المتجر، بل أيضا صاحب المصنع أو صاحب المتجر، هؤلاء جميعا قد تغلبت عليهم الأخلاق التجارية الصناعية، وهم يعيشون في المدينة الصناعية المنبهة بينما الفلاحون يعيشون في القرى النائمة الغافلة.
رأى جوركي القرية التي لم تكد تتخلص من أخلاقها الإقطاعية، كما رأى المدينة الصناعية. ومع أنه عرف أن مكانه هو المدينة، هو الحضارة، هو الصناعة، هو استقلال الشخصية، هو التعقل والتساؤل بدلا من الإيمان والتسليم، فإنه مع ذلك وجد في المدينة ما يكره، وأعظم ما كان يكره هو المتاجر والعقلية التجارية.
كان ظهور المصانع نتيجة لإلغاء الإقطاع، وكذلك كان ظهور المتاجر، وهنا تثب إلى أذهاننا كلمة عصامي، أو الرجل الذي يصنع نفسه، ينشأ فقيرا، ثم لا يزال يجد حتى يجمع الثروة الطائلة، ثم يحصل على لقب ويشيد كنيسة في بلدته، هو رجل متحرر من قيود الإقطاع، يجد جيوشا من العمال يختار منهم ويعين الأجور لعملهم ويجمع للثروة بعرقهم وجهدهم. ونحن نعرف العصاميين في بلادنا، ينشأ أحدهم عاملا يقطع الحجر للبناء أو ينقله إلى القاهرة، ثم لا يزال يقتر على نفسه حتى يجمع ثمن عربة يجرها حمار أو جواد للنقل، ثم يسرف في التقتير حتى يشتري عربة نقل كبيرة، ولا تمضي عليه السنوات القليلة حتى يكون مقاولا يبني العمارات. والثروة الضخمة تأتي إليه عندئذ بلا عائق؛ لأنه يستطيع أنه يقتطع من الأجور مقدارا يدخره، ثم يعود «رأس مال».
قبل أكثر من خمسين سنة قرأت كتابا ترجمه «يعقوب صروف» مؤسس مجلة «المقتطف» عن صمويل سميلز، وكان عنوانه «سر النجاح»، وفي «سر النجاح» هذا قصص متوالية للعصاميين الإنجليز الذين نهضوا من الفقر إلى الثراء، كانوا عمالا فأصبحوا سادة، يملكون المتاجر أو المصانع ويستخدمون العمال. قصص نهوض رأس المال في القرن التاسع عشر.
ولكن صمويل سميلز لم يسأل، وهو يروي تواريخهم، كيف جمعوا هذه الثروات؟ وهل كانوا يجمعونها لو أنهم كانوا يؤدون الأجور الحقة لعمالهم؟ كما لم يسأل يعقوب صروف هذين السؤالين عندما ترجم الكتاب.
ويشير جوركي إلى هذا الكتاب بالذات ويسخر به، ويعلن كراهته للتاجر الذي أثرى بإذلال العمال وحرمانهم مما كانوا في حاجة إليه من طعام أو مسكن أو كساء، وفي جميع مؤلفاته تقريبا نجد هذه الكراهة للتاجر والصانع؛ أي للرأسمالي، صاحب المتجر أو صاحب المصنع الذي يثري بما يكسبه من عرق العمال.
شو
رفيق حياتي
أحسن ما اقتنيت في حياتي هو ذكرى برنارد شو، فقد لقيته حين كانت لحيته لا تزال صهباء، وتحدثت إليه وسمعت خطبه وقرأت مؤلفاته، وإني لأحس إحساس أولئك الذين نغبطهم ممن عاصروا أفلاطون أو أرسطوطاليس، واستمتعوا بحديثهما، وقرءوا وناقشوا مؤلفاتهما، ورأوا ضمائرهما الذهنية تتفشى في حياتهم. ولقد عرفته في عام 1909، ورافقته إلى سنيه الأخيرة إلى أن مات في الرابعة والتسعين، وهي أربع وتسعون سنة من الخلود. ولقد درست فلسفته فكان لي منها توجيه وإرشاد.
ولكني لم أنتفع بمؤلفاته قدر ما انتفعت بحياته، وفلسفته التي - إلى مدى بعيد - تنبع من حياته أكثر مما تتألف من أفكاره، أو أن حياته قد اندمغت في أفكاره فعاش عيشا فلسفيا. ولست أنكر النشوة الذهنية التي كنت أجدها عندما أقرأ له مؤلفا جديدا، ولكن الإيحاء الدائم والتنبيه المزعج لأسلوب عيشي واختيار أهدافي، إنما كانا ينبعان من حياته أكثر من مؤلفاته. فقد تناول برنارد شو حياته كما لو كانت مادة خامة، وجعل يعتملها ويصوغها حتى أخرجها تمثالا جميلا. وقد ألف نحو أربعين كتابا ودرامة، ولكن أعظم مؤلفاته هو حياته.
وإني ألتفت كثيرا إلى المؤلفين من هذه الناحية؛ أي كيف ألفوا حياتهم وصاغوها وجعلوا منها بناء جميلا، كما لو كانوا يرسمون صورة أو ينحتون تمثالا أو يصفون بطلا في قصة أو درامة؟
وإني لأذكر هنا روسو، وجيته، وغاندي، وفولتير، فإن كلا من هؤلاء قد ألفوا الكتب العظيمة، ولكن أعظم ما ألفوه هو حياتهم، ولو أنه طلب إلي أن أؤلف في ترجمة برنارد شو وفلسفته كتابا يحتوي عشرة مجلدات لوجدت هذا الواجب سهلا أنهض به راضيا في شهور. ولكني أجد صعوبة كبرى في كتابة هذا الفصل عنه، وهي صعوبة الإيجاز والضغط والاختيار، ويجب أن أبدأ بكتابه الأكبر وهو حياته، فإنه اتبع أسلوبا من العيش يتفق وكلمته:
وإنما يكون الإنسان فاضلا إذا أعطى المجتمع الذي عاش فيه أكثر مما أخذ منه.
ومعنى هذا أن المجتمع قد كسب بحياته فضائل وأخلاقا وعلما وأدبا وحكمة.
وقد نظر إلى جسمه كأنه تحفة غالية، وفهم من الطهارة أكثر مما نفهم فجعلها في أمعائه؛ إذ رفض أن يجعل جسمه خيانة لجثث الحيوانات. والتزم الطعام النباتي وعاش 94 عاما سليما، فبرهن على أنه كان بصيرا بالغذاء الملائم للتعمير والصحة، وقد كان التعمير بعض أهدافه، كما كان بعض فلسفته، فإنه كان يقول: إن أعمارنا قصيرة لا تتسع للدرس والعمل والاستمتاع، ويجب أن نعيش نحو ثلاثمائة سنة على سبيل العلاج الوقتي لمشكلاتنا الاجتماعية، أما الهدف الأخير فيجب ألا تقل أعمارنا فيه عن ألوف السنين؛ لأنه إذا طالت أعمارنا اهتممنا بالدنيا وأصلحناها، أما ما دامت أعمارنا قصيرة فإننا نخطف اللذة والمتعة، ولا نبالي إصلاح هذه الدنيا؛ لأننا زائلون منها قريبا.
وقد أحب واشتعل في نفسه لهب العشق فلم يطفئه، ولكنه أيضا لم يؤججه حتى لا يحترق به، فقد عرف الممثلة «إلين ترى» وكانت الروعة في الجمال والحكمة في العيش، وكانت تجمع إلى هذا ذكاء الإحساس، فكان يذهب إليها كل مساء ويراها وهي تمثل، فإذا كان الصباح التالي كتب إليها خطابا يتسامى فيه بحبه وبسط لها أعاجيب من إحساسه وذكائه في تفطن وحماسة. ولم يقابل أحدهما الآخر. وقد طبعت مراسلاتهما بعد ذلك، وهي جديرة بأن تكون دليلا للمحبين الذين يرتفعون بالحب إلى الثلث الأعلى من الجسم البشري.
ولم يحظ بتعليم جامعي ولا مدرسي، ولكن أوروبا الفهيمة عرفت فيه بعد ذلك أسمى نفس بشرية تعيش في عصرنا، ذلك أنه جعل سني عمره الطويل جميعها سني دراسة. ومؤلفاته هي مشكلات اجتماعية قد سلط عليها جهده وذكاءه فدرسها وأخرجها في درامة كوميدية فنية، نقرؤها أو نراها على المسرح، فنحس بالضمير الواخز، والعامل الحافز حتى حين نضحك من أشخاصها ووقائعها. وقد كان المسرح قبله ميدانا للشخصيات، فأحاله إلى ميدان للأفكار، وكان ميدانا للتبذخ بوصف الحياة في القصور، أو صلصلة السيوف، أو الخيانة الزوجية الرخيصة، بإيجاد الشخص الثالث بين الزوجين، فجعله مكانا للتفطن في معاني الحب والبطولة، ومعايش الفقراء والمبئوسين، ومعالجة الطموح الديني وتطور الإنسان بعد آلاف السنين. وكل هذه المشكلات كانت مشكلاته الخاصة التي درسها؛ لأنها بعض تربيته.
عرف برنارد شو الفقر والثراء، وعرف الكفاح في السياسة والفلسفة والعلم والأدب، وصرخ صرخة فولتير في مأساة دنشواي، وكشف عن لؤم السياسة الإمبراطورية البريطانية في الحرب الكبرى الأولى، ونال جائزة نوبل فسلمها لجمعية تنمية العلاقات بين نروج وبريطانيا. ودفع ثلاثين ألف جنيه لبناء منازل للعمال. ولم يعرف قط التدخين، وكان يقاطع الخمر إلى ما قبل وفاته بنحو عشر سنوات. وطاف حول الدنيا، وصادق العظيمين سدني ويب وزوجته، وكانا يرتفعان إلى مستواه في روح البر بالدنيا، وكانا يمتازان بالدراسة الاقتصادية. •••
قبل أن ألقى برنارد شو وجها لوجه كنت قد قرأت بعض مؤلفاته، فوجدت القوة التحريرية فيها تعادل أو تزيد على ما لقيته في فولتير ونيتشه، ولما التقيت به في الجمعية الفابية في لندن أحسست كأني إزاء أجمل رجل في العالم؛ فقد كان مهديد القامة، أحمر شعر اللحية والرأس، وكان في نغمات صوته صحلة خفيفة محببة. وكانت كلماته للساسة الإنجليز بشأن دنشواي قد جعلتني أحس كأنه واحد منا نحن المظلومين المضرورين المشنوقين؛ لأنه بكى كما بكينا. ولم أترك له كلمة بعد ذلك لم أقرأها إلى يوم وفاته، بل إن حبي له قد حملني إلى أن أقتدي به في التزام الطعام النباتي، وبقيت على ذلك سنة كدت أموت في نهايتها من الهزال، ولم يكن هزالي بسبب المذهب النباتي وإنما كان لجهلي قيمة البيض واللبن عند النباتيين.
كان برنارد شو يعد نفسه صحفيا قبل كل شيء، وقد رأينا نحن فيه الفيلسوف العميق، والمؤلف المسرحي المبدع، والأديب الرصين، بل أحيانا العالم الذي يستطيع أن يجادل العلميين في أخص نظرياتهم، ولكنه كان يجهل كل هذه الكفاءات بقوله إنها «صحفية» من حيث إنها تتصل بالمشكلات العصرية، والصحفي العالمي يجب أن يرتفع في تفسير هذه المشكلات ومعها إلى المستوى الفلسفي، وأن يكون العلم والأدب بعض شئونه الدراسية.
ولد برنارد شو في عام 1856، أي: قبل افتتاح قناة السويس بثلاث عشرة سنة، وكانت سنه 26 سنة حين وطئت أقدام الإنجليز أرض وطننا، ولست أذكر هذين التاريخين اعتباطا، ذلك أن الحادث الأول قد أبرز مصر في وجدان الأوروبيين، وأما الحادث الثاني فقد أبرز للمفكرين من الإنجليز رجال حزب الأحرار ودناءتهم ورياءهم بشأن الحرية التي داسوها في مصر، ونفوا زعيمها العظيم إلى سيلان، وكان من هذا أن مكر بعض الأحرار في ترك حزب الأحرار وإنشاء الجمعية الفابية لنشر الدعوة الاشتراكية، وكادت هذه الجمعية التي التحقت أنا بها، والتي أحالتني من شرقي خاف إلى أوربي متمدن، كانت السبب الأول لإيجاد حزب العمال الذي أسندت إليه رئاسة الحكومة البريطانية أكثر من مرة، وكان برنارد شو أحد مؤسسيها وأكبر داعية لنشر الاشتراكية الفابية؛ أي التدريجية التي تحلل وتعالج دون أن تثور وتهدم.
عاش برنارد شو طوال عمره وهو يدعو إلى الاشتراكية، وقد اتخذ الطرف اليساري منها هذه السنين الأخيرة من عمره، ولكنا على الرغم من أننا نجد أن نظرياته ثورية، فإن خططه كانت عملية؛ وهو لذلك يعنى أكبر العناية بالبحث في مسائل المجالس البلدية التي يجد فيها بؤرة العمل الاشتراكي، وهو أفلاطوني الذهن حين يتحدث عن العمال؛ إذ يستصغر شأنهم ويقول بإيجاد صفوة معينة لمعالجة الساسة، وكأنه هنا فاشي يتحدث، كما كان يتحدث موسوليني، ولكن فترات اليأس هذه قليلة عنده، وسرعان ما كان يفيق منها إلى الاعتماد على الشعب. وهو بالطبع عدو الاستعمار وعدم الاستغلال، ويقول بالتأميم. ومؤلفاته رسائل وكتبا عن الاشتراكية عديدة وهي تتسم جميعها بأنها شعبية وإيضاحية. واختصاص برنارد شو الأدبي هو التأليف المسرحي، وهو يضع لكل درامة أو كوميديا مقدمة قد تزيد أحيانا على مائة صفحة، يوضح فيها وجهته الفلسفية التي حملته على تأليف هذه المسرحية، بل هو أحيانا يزيد على المقدمة بملحق يبرز أو يشرح فيه بعض ما احتاج إلى إيجازه على لسان أحد الممثلين، ومن هنا نقرأ الدرامة أو الكوميديا كأنها كتاب مستقل زيادة على قيمتها المسرحية. وأسلوب برنارد شو هو الأسلوب العصري؛ أي الأسلوب الديمقراطي، فهو يكتب للشعب بلغة الشعب، وهو لا يعرف التبذخ أو التظرف فضلا عن التبهرج، ونحن نقرؤه كما لو كنا نقرأ مؤلفا في الدين أو الفلسفة أو التاريخ، ومرجعه - أي: مرد جذوره - في المسرح، هو «هنريك إبسن» الذي جعل الدرامة الأوروبية اجتماعية.
وقد ألف برنارد شو في بداية حياته الأدبية كتبا في الدفاع عن إبسن، ولكن إبسن كان فنانا مسرحيا قبل أن يكون باحثا اجتماعيا، أما برنارد شو فعكس ذلك؛ إذ هو باحث اجتماعي قبل كل شيء، وهو يستعمل المسرح وسيلة لشرح المشكلات الاجتماعية، وليس هو مع ذلك الوسيلة الوحيدة، وقد بحث الدين ومستقبل الإنسان، والحب، والحكومة، والبغاء، والفلسفة في نحو ثلاثين أو أربعين مسرحية، ومعظم مسرحياته كوميديات قد طعم فيها التفكير الاجتماعي بالفكاهة، وقد تجددت المسارح الأوروبية بهذا الاتجاه الجديد الذي ابتدعه هنريك إبسن، ودعمه برنارد شو، فالدرامة الأوروبية واقعية، تجابه الحقائق وتعالج المشكلات، وليست رومانتية خيالية تعيش في الأحلام والأماني. •••
الكلام عن فلسفة برنارد شو يحتوي أيضا بحث ديانته وأدبه وفنه؛ لأنه يعالجها جميعها بالروح الديني، وقد ولد قبل أن يظهر كتاب داروين «أصل الأنواع» بثلاث سنوات، ورأى واشتبك في المعارك الثقافية حول هذا الموضوع، ورأى الصدمة التي أحدثتها العقيدة الجديدة، وهي أن الإنسان والحيوان من أصل واحد.
وعندما نقرأ درامته الكبرى «الإنسان والسوبرمان» نحس أن هذا الكتاب هو الامتداد لكتاب أصل الأنواع، كما هو إيمان ديني جديد يدعو إليه برنارد شو خلاصته أن ارتقاء الحضارة في المسكن والملبس والتنقل ليس ارتقاء للإنسان، وإنما الارتقاء الصحيح هو أن يطول عمره إلى ألف سنة، ويزيد مخه إلى كيلو جرامين، وأن يكون حصينا من الأمراض منذ ولادته إلى يوم وفاته، وهذا هو السوبرمان الذي يجب أن يستولد من الإنسان بالانتخاب الحكومي، بحيث يكون منا كما نحن من القردة، أعلى في سلم التطور، وأذكى ذهنا وأسلم غرائز.
وقد اصطدم برنارد شو مع الداروينيين من حيث إيمانه بأن الصفات المكتسبة تورث، وأن الوراثة ليست جامدة كما اعتقد فيسمان. وفي السنة الماضية عندما احتدم النقاش بشأن هذا الموضوع بين ليسنكو الذي دافع عن وراثة الصفات المكتسبة، وبين القائلين بأنها لا تورث، وأن الوسط لا يؤثر في تغيير العناصر الوراثية، وقف برنارد شو إلى صف ليسنكو، أو قل إلى صف لا مارك قبيل مائتي سنة.
وديانة شو كما نفهمها من مؤلفاته ومن حياته أيضا هي الديانة البشرية التي تنأى عن الغيبيات، فإن درامته عن المسيحية «أندروكليس والأسد» تحملنا على الاعتقاد بأنه لا يختلف عن رينان في بشرية المسيح، وأن الله كائن في الإنسان، ولكن إله برنارد شو هو قوة الحياة التي تقف خلف التطور، وتعمل للارتقاء وتسير مكافحة نحو النور والحب. وإلى هنا تقف «غيبياته»، غيبيات لا ترضي المؤمن، ولا تقنع الملحد، وهي أقرب الأشياء إلى برجسون، وعندي أنها بعض رواسب القرن التاسع عشر التي علقت به هو وبرجسون، كما تعلق أساليب الطفولة بالرجل الناضج، وهو يقول: «إنسان بلا دين هو إنسان بلا شرف.» وهذه عبارة سلبية قد استنتجها من حياته؛ إذ هو لم يؤلف قط كتابا أو رسالة إلا بروح الدين، أي بروح المسئولية أمام المجتمع، بل ماذا أقول؟ أمام البشر والأحياء والتطور! ومن هذه العبارة أيضا نفهم أن نظرته للدين اجتماعية أخلاقية.
ومهمة الفلسفة هي في النهاية إيجاد النظريات، والجاهل يحتقر النظريات، ويزعم أنه عملي، ولكن ليس هناك من الأشياء العملية ما هو أفضل من النظرية الحسنة؛ لأننا نقتصد بها، ونستغني بها عن كثير من المجهود العابث. وكلاهما برنارد شو وبول سارتر يقول بحرية الفرد من حيث حقه في أن يعمل كما يشاء، ولكن الهدف يختلف بينهما، فإن برنارد شو يبغي من هذه الحرية خير المجتمع، من حيث إن حرية الإنسان تسير به نحو الخير إذا أدى الخير، ونحو الهلاك إذا قدم الشر، فالمجتمع كاسب من هذه الحرية، دعوا السكير والنهم والمستهتر والمجرم يمارس كل منهم حريته؛ لأنها في النهاية ستقضي عليه بالهلاك فينتفع المجتمع. ولكن بول سارتر يقول في خسة فلسفية ليس لها نظير: «أنا وحدي» وعلى المجتمع السلام. وبرنارد شو مثل ولز، ينظر النظرة البيولوجية للإنسان فيقول بضرورة التطور، أجل إن التطور هو الديانة الأصلية عند شو.
مات برنارد شو وكان أجمل الأساطير في حياتي، ولقد رافقته وتعلمت منه، وحاولت أن أقتدي به، فكنت أصل أحيانا وأقصر أحيانا، ولقد حرصنا بالقدوة والعمل على أن نمارس الأدب لخدمة الجمهور، وبعض هذه الخدمة أن نجعل ساستنا وقادتنا متمدنين مستنيرين، وهذا هو ما حاولت، ولكني للأسف لم أنجح.
ولقد أوصى بأن يحرق جثمانه في المرمدة، وقد أحرقت زوجته فيها من قبل، كما أحرق جثمانا صديقه ولز وزوجته، وهذا الاحتراق هو طهارة أخرى مارسها شو في موته كما مارس النباتية في حياته. •••
مما يستحق الملاحظة أن الأمم العربية جميعها فهمت النهضة على أنها التحرر من الأجنبي المستعمر، ومن الوطني المستبد، فطالبت بالاستقلال والدستور، واعتقدت أن كل شيء من أمانيها قد تم. ولكن الأمم الأوروبية فهمت النهضة أو النهضات المتوالية فيها على أنها قبل كل شيء تحرير الضمير البشري، ففصلت الدين من الدولة، وكافحت التقاليد، وتمردت على سلطة البابا، وألغتها واعتنقت العلوم، ومارست الفنون التي تعمل للتنوير الذهني والسعادة البشرية، وهذا ما لم تفكر فيه الأمم العربية إلى الآن مع أنها تحمل من أعباء الظلام ما يرهق الضمائر ويسود العقول.
والناهضون في أوروبا هم علماؤها وأدباؤها وليسوا ساستها، وهم جاليليو الذي خالف الكنيسة وأثبت أن الأرض تدور حول الشمس، هم لوثر الذي انفصل من البابا وترجم الكتاب المقدس، هم دافنشي الذي قال بأن الجبال كانت البحار تغمرها، هم داروين الذي أرجع الإنسان والحيوان إلى أصل واحد، هم رينان الذي قال ببشرية المسيح، هم إبسن الذي رفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية.
هؤلاء هم الناهضون الذين غيروا أوروبا، وبرنارد شو واحد منهم، فإنه بأسلوب عيشه ومؤلفاته المسرحية دعانا إلى حياة الطهر، ومكافحة النفاق الاجتماعي، وكانت مهمته تحرير الضمير البشري من الخرافات والتقاليد والجبن الفكري، وبعث الآمال في مستقبل البشر على هذه الأرض. وصحيح أنه كافح قوات الظلام التي يمثلها الاستعمار والاستبداد، ولكنه كافح أيضا، وبقوة أكبر، قوات الظلام التي تمثلها التقاليد وموروث العقائد الغيبية.
ولو فهمنا نحن المصريين دلالة النهضات الأوروبية وعملنا لتحرير ضميرنا، لكان لنا إلى جنب الحرية السياسية حرية أخرى أكفل للسعادة، وأعمل لتكوين الشخصية، ولكان لنا منها موقف آخر حيال المشكلات الاقتصادية والأخلاقية والثقافية، وفي هذه الحال ما كان لمستبد أن يحبس عقولنا بقوانين تحد من حرية الصحافة، أو يسلط علينا بوليس الأفكار؛ كي يعين لنا ما يجوز وما لا يجوز أن نفكر فيه ونكتب عنه.
أجل، إننا ما زلنا بعيدين عن دلالة النهضات الأوروبية! •••
ليس من الصدق أن أزعم أني اقتديت ببرنارد شو فإنه رفع نفسه إلى مستوى عال من «العيش الساذج مع التفكير السامي» وعاونه على ذلك وسط متمدن لم أجد أنا مثله إلى يوم خلع فاروق في مصر، حيث يكافأ الرذل على رذيلته، ويعاقب الفاضل على فضله، والأصل في هذه الحال المعكوسة هو الإنجليز من ناحية والتقاليد الشرقية من أخرى، ولكني حاولت، وكررت المحاولات، ولم أتعب ولم أسأم. وخير ما أخذت عن برنارد شو هو هذا الروح العلمي الذي يسود مؤلفاتي فإني مثله علمي الذهن، أدبي الوسيلة، فلسفي الهدف، أمتاز بالتفكير العلمي، والتعبير الأدبي، وهذا إلى أنه حبب إلي الاشتراكية ونقلها عندي من منطق العقل إلى عاطفة القلب. أجل إنه جعلها ديانتي العملية فليس البر عندي إحسانا وصدقة، وإنما هو البرنامج الاشتراكي الذي يوفر لكافة الشعب طعام الجسم، وغذاء الذهن، وحرية الضمير، والإقدام على المستقبل، وهو بعد داروين الذي جعلني أستمسك بالتطور، وأجعل منه الديانة المذهبية لحياتي، وفكري وموقفي البشري. وقد كان هو يقول بالحاجة إلى «وزارة للتطور» تعمل لترقية السلالات البشرية، وهذا تفكير يعلو علوا عظيما على الصغائر التي يشتبك فيها صغار الأدباء.
وحين أعود إلى الأفكار التي بثها في نفسي برنارد شو، وحين أنظر إلى الدنيا من عدسته، أحس السرور والغضب والإقدام والشجاعة والجهد والإرادة، أجل أحس أن حياتي ترتفع إلى مقام التاريخ وأن لوجودي دلالة فلسفية. •••
مات برنارد شو بعد أن ملأ الدنيا بفكاهاته، وهي فقاقيع الحكمة فكنا نضحك ونتعلم. نحن الآن أقل ثراء في النفس وذكاء في العقل مما كنا في أيامه، وقبل أن يموت بأيام قال زعيم الفكاهة هذا يصف عالمنا في عام 1950: إن بين كل أمة وأمة حربا باردة، وبين كل فرد وفرد من أبناء الأمة الواحدة حربا باردة، وبين كل إنسان ونفسه حربا باردة!
هذا ما قاله زعيم الفكاهة، وهي كلمات موجعة تصف عالمنا التعس الحاضر. •••
لما مات برنارد شو أطفئت الأنوار في نيويورك خمس دقائق، وكذلك أغلقت المدارس في الهند يوما كاملا، وجرى مثل ذلك أو قريب منه في أقطار أخرى، ولكن مصر لم تفعل شيئا من هذا، كأنها تعيش في ذهول لا تقدر القيم الأدبية والاجتماعية في العالم، والواقع أنها كذلك.
ولو كانت هناك أمة مدينة لبرناردشو لكانت مصر، فإن الصفحات القليلة التي كتبها عن دنشواي تحمل من غلواء الذهن والعاطفة ما ينظمها في عداد الأدب العالمي والبلاغة السامية، وستعيش هذه الصفحات وسيقرؤها - كما قرأها - الملايين الذين سيغضبون من الاستعمار وسيعرفون منها حق مصر وباطل بريطانيا. ولو كنا أمة عصرية لنقلنا إلى لغتنا جميع مؤلفات برنارد شو، ولكانت هذه المؤلفات جديرة بأن تحدث نهضة اجتماعية وأدبية، فإن تفكيرنا السياسي جامد، ونشاطنا الأدبي إما رجعي يتعمق ظلام القرون الماضية، وإما سطحي يتبهرج بالألوان على صفحات الجرائد والمجلات كأنه عبث الصبيان؛ ولذلك ما كان أحوجنا إلى التوجيه السيكلوجي الاجتماعي الذي يتسم به أدب برنارد شو، بل ما أحوج الأديب والسياسي معا إلى هذا التوجيه.
غاندي
داعية الاستغناء
ولد غاندي إنسانا ومات قديسا. ولم يكن غاندي مؤلفا من حيث فن التأليف الكتابي وإخراج الكتب، ولكنه ألف ما هو خير من الكتب، ألف حياته التي كانت مصباحا منيرا نحو أربعين سنة للبشر من جميع الطبقات، وقد كانت دعواته أو رسالاته متعددة، فقد دعا إلى الوطنية الهندية ومحاربة الاستعمار وإلى الاستقلال والحرية، كما دعا إلى المغزل والمنسج وإلى الطعام النباتي، ولكن كل هذه الدعوات كان يسودها روح القداسة. ولذلك نستطيع أن نقول إن دعوته الأولى هي القداسة؛ ذلك أن وطنيته لم تكن للهند وحدها، وإنما كانت إخاء بشريا لسكان هذا العالم كله. ولم يكن كفاحا دمويا قائما على البطش والدم، وإنما كان مقاومة سلبية تنهض على حض الهنود على ألا يتعاونوا مع المستعمرين لهضم حقوقهم وضغط حرياتهم، ولم يكن تدينه لديانة آبائه فقط - أي الهندوكية - إذ هو كان يجعل صلاته حافلة جامعة للإنجيل والتوراة والقرآن، والكتب الهندوكية المقدسة، وقد صام أكثر من نصف عام على فترات كي يحمل الهندوكيين والمسلمين على الإخاء، وبذلك رفع السياسة إلى مستوى القداسة. وقد كتب تاريخ حياته في أسلوب شعبي ساذج يخلو من التبرج؛ لأنه لم يكن كاتبا أديبا لعوبا، ومن هذا الكتاب نحس قداسته، ونهفو إلى ذكراه في حنين وحنان معا، كما نهفو إلى ذكرياتنا للأم الحبيبة أو للعشيقة التي أوسعتنا سعادة السنين، أو للابن الذي حملناه على صدورنا وقبلنا وجنتيه الطريتين. وذكرى غاندي عندي هي نشوة يغمرني فيها إحساس فني كذلك الإحساس الذي أنتعش فيه حين أرى الشفق الزاهي والحقول النضرة والرسم الرائع. وليست عظمة غاندي من ذلك النوع الذي يحملنا على احترامه؛ إذ ليس هناك مكان في قلوبنا لذكراه سوى الحب ، وحيث يكون الحب العميق لا يكون الاحترام.
وإني لأكتنز كنوزا نفيسة في حياتي لا أرضى بها بدلا، هي أني عشت وعاصرت تولستوي وبرنارد شو وشفيتزر وغاندي، وكلهم قديس، وليست قداستهم من ذلك النوع القديم حين كان ينزوي الراهب في صومعته بعيدا عن المجتمع كي ينشد خلاص نفسه بالصلاة؛ لأن هذا الراهب هو في صميمه أناني يطلب الخلاص لنفسه فقط، ولكن هؤلاء القديسين العصريين كانوا يتألمون ويصومون ويكافحون من أجل خلاص البشر، وقد استطاعوا أن يغيروا الأوزان والقيم البشرية، وأن يغرسوا في قلوبنا حبا جديدا وأن يعلمونا أسلوبا فلسفيا للعيش.
مات غاندي في سنة 1947 وهو أعظم رجل في العالم، ومع ذلك كان كل ما يملك عنزة تدر له اللبن، وشملة تكسو جسمه لا يزيد ثمنها على ثلاثة أو أربعة قروش. وكان يغزل بيده ويكتب ويشتري القليل من الفواكه أو الجبن بما يكسب؛ وبذلك نصب غاندي أمام العالم كله مثالا يحتج به على أساليب عيشتنا الاقتنائية، ويوضح لنا أن السعادة والشرف والمكانة أيسر من أن نتكلف من أجلها جميعا هذا الجهد، بل هذا العذاب في اقتناء المال والهرولة التعسة التي نعيش بها من أجل التكاثر بهذا المال.
والفهم العام للنسك هو أنه عادة أو رهبنة دينية قد نشأت في الأمم الشرقية، وهو كذلك إذا فهمناه على أنه انزواء في صومعة. ولكن الحرمان الذي فرضه على نفسه كل من برنارد شو وتولستوي وغاندي وشفيتزر هو نسك آخر، نسك غربي ينهل على أسس من الثقافة الغربية غايته خدمة المجتمع، وإنهاض البشرية وتجديد القيم الاجتماعية، بل إنه ليس نسكا؛ لأن المعنى الأصيل للنسك أنه الحرمان من بعض الملذات في الطعام أو الشراب أو اللباس أو السكنى أو إشباع الشهوات، ولكن هؤلاء الأربعة الناسكين لم يحسوا، وهم يحرمون أنفسهم ما نحسب أنه متاع، أنهم قد فقدوا شيئا لأنهم قد أخذوا بقيم جديدة تجعل ما نعتز أو نلتذ أو نفخر به من ثراء أو اقتناء تافها لا يحرص عليه الرجل العظيم بل لا يباليه.
حادثة واحدة في حياة غاندي تدلنا على أن استغناءه لم يحمل معنى القهر، وهو انقطاعه عن الاتصال الجنسي منذ بلغ الرابعة والثلاثين، فهو لم يكن يقصر نفسه على هذا الحرمان، ولم يكن يحس أنه حرمان؛ ذلك لأن الآمال والآفاق التي كان يترامى إليها تفكيره كانت تغمر نفسه، وتشغل كل وقته وتهيب به، بما تحمل من عظمة ومجد، أن ينسى ما دونها من ملذات أخرى. فهو لم يكن يشتهي طعام اللحم، أو الاتصال بالمرأة، أو اقتناء الثراء؛ لأن نفسه كانت مغمورة بما هو أسمى. فالانكفاف هنا ليس قهريا أمريا، وإنما هو سيكلوجي؛ أي إن غاندي قد سد القنوات في شهواته؛ لأنه جمعها كلها نهرا واحدا نحو غاية موحدة هي الإنسانية.
وكي يفهم القارئ هذه الحال عليه أن يذكر مثلا ذلك الأب الذي يفقد ابنه الحبيب، فإن كثيرا من الآباء في هذه الحال يحسون صدودا عن المرأة كأن الشهوة الجنسية قد أصبحت حراما لا يجوز لهم الاستمتاع بها بعد أن ثكلوا الابن الذي أحبوا. وهذا الصدود هو في منطق النفس نذر لشيء آخر، وكان نذر غاندي الذي سد قنوات شهواته جميعها تقريبا هو حب البشر، واستقلال الهند، ومحو النجاسة، وطرد الإنجليز. •••
ومما ينبهنا في حياة غاندي أنه على الرغم من المسحة البدائية الساذجة التي تبدو بها صورته لنا، إنما كان غريبا في ذهنه عصريا في فكره، بل أكاد أقول إنه كان ماركسيا في أسلوب كفاحه للإنجليز، من حيث إنه فهم الاستعمار على أنه استغلال للأرض والبشر في الهند لمصلحة الإنجليز فجعل مكافحته قائمة على الاستكفاء الاقتصادي بتعميم المغزل والمنسج ومقاطعة المصنوعات الإنجليزية.
ولم تكن دعوته للمغزل إطارا لهذه الآلة اليدوية الصغيرة على مصانع الغزل والنسيج التي يعمل فيها على الحديد والنار، وإنما هو وجد أن ظروف الهند، وهي ظروف الحرمان والفاقة والفراغ، مع الجوع في الريف وترصد الإنجليز لأية نهضة اقتصادية وتصديهم لقتلها في المهد، كل هذا جعله يفكر في الوسيلة التي تعم البيوت الهندية حيث يعمل الأب والأم والأبناء في العمل دون أن يستطيع الإنجليز أن يتدخلوا ويمنعوها.
والمتأمل للحركات الوطنية في مصر والهند وتركيا يجد ظاهرة تستحق الالتفات، هي أن جميع الوطنيين في هذه الأقطار الذين قادوا هذه الحركات قد امتازوا بثقافة أوروبية وأخذوا بالقيم والأوزان الأوروبية. أما الشرقيون الذين نشئوا في حضن الثقافات التقليدية الدينية أو الاجتماعية فلم يدركوا هذه الحركات، ولم يستطيعوا أن يعدوها بتفكيرهم؛ فإن دعاة الوطنية الهندية طلاك وغاندي ونهرو قد تعلموا جميعهم في أمر واحد هو أن أتاتورك مقاطعا مجاهدا في مقاطعته للأخلاق الشرقية.
وهذا هو الشأن أيضا في مصر حيث نجد أن الزعامة الوطنية والانتهاض القومي العام والدعوة للاستقلال يحمل علمها ولا يزال يحمله أولئك المصريون الذين تعلموا في أوروبا أو أخذوا بالثقافة الأوروبية، وما تحمل من أوزان ونظم جديدة في السياسة والأخلاق والاجتماع.
وقد كان الاستعمار البريطاني في الهند يؤيد تقديس البقرة، ويؤيد نظام المنبوذين ويؤيد حجاب المرأة؛ لأن أعظم ما يؤخر هذه الأمم الشرقية هو هذه التقاليد المحجرة، بل لولا هذه التقاليد لما استطاع الاستعمار أن يطأ بقدميه أرض الهند أو مصر. ولعلنا لا ننسى هنا أن الإنجليز كانوا يعارضون حركة قاسم أمين بشأن تحرير المرأة، وكانت ناظرة المدرسة السنية الابتدائية للبنات تصر على اتخاذهن للبرقع، ولكن الاستعمار مذهب غربي وهو مع أنه يدوس الأمم الشرقية، لا يزال يحمل في طياته السم الذي يقتله في النهاية؛ لأنه ينقل معه الثقافة الأوروبية التي تحيل بعض الشرقيين إلى أوربيين في الذهن والعاطفة والنظرة، وهؤلاء يفكرون وينتهون إلى دعوة الاستقلال والتحرير من شيئين معا؛ وهما الاحتلال الأجنبي وأيضا التقاليد المحتجرة. ولذلك ما كاد الهنود يجلون الإنجليز حتى عمدوا أول ما عمدوا إلى إلغاء نظام الطبقات الذي كان يؤيد بقاء المنبوذين، وولوا منبوذا وزارة المعارف، كما منحوا المرأة حق المساواة بالرجل في الميدان الاجتماعي، وأيضا حق الانتخاب للبرلمان وللوزارة، وهم في ذلك يشبهون مصر.
وليس شيء في الدنيا أسوأ من الاستعمار الأجنبي سوى التقاليد الشرقية المتحجرة، وليس شيء في الدنيا أسوأ من التقاليد المتحجرة سوى الاستعمار الأجنبي، ولكن مع ذلك حين أتأمل بعض الأمم التي لا تزال تعيش في استقلالها واستبداد تقاليدها أحس كأني أرغب في استعمار أجنبي يصفعها الصفعة المنبهة التي توقظها وتنبهها وتحملها على إلغاء تقاليدها. •••
ثلاثة رجال يبرزون في حياة غاندي من حيث تكوينه وتوجيهه في التفكير الاجتماعي، وهؤلاء هم: ثورو وتولستوي وروسكين، وكانوا جميعا من المتمردين على الحضارة الأوروبية يحاولون الارتداد عنها إلى ما هو أبسط وأقل تعقدا، وأميل إلى الخدمة والتعاون دون السلطة والاستثمار، ولا يستطيع المتأمل لنشاط هؤلاء الثلاثة، الدارس لأفكارهم ونظرياتهم ومثلياتهم، أن يقول إنهم كانوا على بصيرة تامة بالحضارة الأوروبية ومنتهاها، ولكن تمردهم كان بمثابة التنبيه إلى ما فيها من أخطار تلصق بالمجتمع الاقتنائي الذي انتهت إليه حيث يعيش كل فرد وغايته الاقتناء والإثراء في مباراة عنيفة قاتلة.
كان ثورو أمريكيا، ولد في عام 1817 ومات في عام 1862، واشتغل بالتعليم وبغيره، ولكنه في عام 1845 ترك حياة المدن وهاجر إلى الغابة، حيث بنى لنفسه كوخا، وجعل يعيش حياة بدائية بصيد السمك من بحيرة قريبة، ويأكل الثمار البرية، ويعمل بالأجرة في الحقول القريبة، وكان يقضي معظم وقته في تأمل الحيوان والنبات في الغابة وهو واضع عبارة «العصيان المدني» التي أخذها عنه غاندي، وكان يعني بهذه العبارة أن لكل فرد الحق في أن يستقل بشخصيته، ويرفض العادات والمطامع الاجتماعية، ويعيش وفق مثلياته الخاصة، وهو عاص لا يخضع للمجتمع، وبقي إلى عام 1847 بالغابة حين عاد إلى المدينة وعاش مع صديقه «إمرسون» وألف كتابا بعنوان «والدن أو الحياة في الغابة»، وهو يروي في هذا الكتاب اختباراته، وكيف أن حاجاته جميعا من لباس وغذاء وسكنى لم تكن تكلفه سوى القليل من الجهد والقليل جدا من النقود.
وواضح أن غاندي حين ترك المدن وآوى إلى معتكفه في الطبيعة يقنع بما تدره عليه عنزته من اللبن والجبن، وأيضا بقنوعه بتلك الشملة التي كان يشتمل بها دون أي لباس آخر، إنما كان يستضيء بثورو في حياته في الغابة. ومكافحته للإنجليز الاستعماريين بشعاره «العصيان المدني» يعود إلى القدرة على الاستغناء، فإنه نبذ الرفاهية فضلا عن البذخ وقنع بالقليل الذي لا يستطيع الإنجليز أن يحرموه منه، وكان ثورو على الدوام في ذهنه: رجل قانع يعمل عندما يحتاج ويرتاح ويتأمل الشمس والشجر والماء والسحاب عندما لا يحتاج، والحضارة القائمة تدعونا إلى الاقتناء والإثراء والجهد والمباراة، ولكن عبارة ثورو هي كيف نستغني؟ وليس كيف نقتني؟
أما تولستوي فليس هناك من يجهله، فقد ولد في عام 1828، ومات في عام 1911، وكان فنانا عظيما يؤلف القصص الخالدة كما كان أخلاقيا متمردا على الحضارة أيضا مثل ثورو، وقد حرمته الكنيسة الروسية؛ لأنه ألف كتابا عن إيمانه وصف فيه المسيح باعتبار أنه إنسان عظيم لا أكثر، وأن دعوة المسيح إلى الحب البشري هي الخلاص لجميع الناس وأن «ملكوت الله» كما جاء في الإنجيل ليس حياة أخرى بعد الموت، وإنما هو في قلوبنا وأنفسنا وعالمنا هذا، وأنه يتحقق بالحب بين البشر. وقد عاش في الأرض التي ورثها عن عائلته، وحاول تسليم هذه الأرض للفلاحين، ولكن عائلته منعته، وكان يصنع الأحذية بنفسه للفلاحين، كما أنه أنشأ مدرسة لأولادهم وأصدر مجلة في التربية، وقبل وفاته بنحو عشرة أيام خرج هاربا من بيته يريد أن يرضي ضميره ويعيش كأحد الفلاحين.
وقرأ غاندي مؤلفاته وهو في أفريقيا الجنوبية فتأثر بها كثيرا، وكان أن أسس ما سماه «مزرعة تولستوي» حيث كان يعلم أبناء الهنود ويزرع أرض المزرعة، ومن هنا نشأت عنده فكرة التعلم بالعمل، وهي الفكرة التي أحالت التعليم إلى تربية.
ويرى كثير من الناقدين أن الخطة التي اتبعها غاندي في مكافحته للاستعمار في الهند وهي «المقاومة السلبية»؛ أي تقبل العدوان في صمت وثبات إنما ترجع إلى تعاليم تولستوي في شرحه للمسيحية، هذا الشرح الذي جلب عليه حرمان الكنيسة له حتى قال رومان رولان الأديب الفرنسي المعروف: «وحسبي ما قلت كي أبين أن غاندي كان ينطوي على قلب إنجيل خافق تحت كساء من الإيمان الهندوكي.» أما روسكين الذي أحبه أيضا غاندي فكان من الأدباء الإنجليز، وقد ولد في عام 1819، ومات في عام 1900، وألف عددا كبيرا من الكتب في الفنون والأخلاق والاجتماع، ولما مات أبوه عام 1855م ترك له ثروة قدرت وقتئذ بمبلغ مائة وخمسين ألف جنيه، فلم يمتلكها بل تبرع بها للمنشآت الاجتماعية والتعليمية وقنع هو بأن يعيش بقلمه. •••
لم يكن غاندي يضع القواعد كي يتقيد بها، وإنما كان يفرض القاعدة أو المبدأ للاسترشاد الأخلاقي في الخطة العملية؛ ولذلك نجد أن التزامه للمقاومة السلبية لم يكن جامدا؛ إذ هو كان يلجأ إلى العمل الإيجابي من وقت لآخر؛ أي إن «العصيان المدني» لم يكن عنده ركودا أو اعتزالا أو خمودا، وإنما كان أيضا عصيانا مباشرا كما نرى في حادث الملح. ذلك أن الحكومة الهندية كانت في استغلالها الإمبراطوري تحتكر صناعة الملح، وهو إدام أو تابل يحتاج إليه كل فرد، فالكسب عظيم منه والضرورة تكفل رواجه الدائم، ورأى غاندي في سنة 1930 أن ها هنا فرصة يجب أن تستغل لتحريك التمرد على الاستعمار وتجرئة الشعب الهندي على عصيان القوانين، والأخذ بالشجاعة فدعا إلى مظاهرة شعبية تبدأ من معتكفه حيث كان يقيم إلى شاطئ البحر حيث الملاحات الحكومية.
وهناك يخالف غاندي القانون عمدا وينزل المتظاهرون إلى الملاحات ويحملون الملح مجانا، وكافح المستعمرون هذه المظاهرة بكل الوسائل ووجدوا من الهنود أنفسهم من أيدهم في تزييف هذه الحرية أو شلها، فمنعوا القطارات من السفر إلى الشاطئ، ومنعوا الخطابات، وعطلوا الصحف وراقبوها وأوفدوا البوليس والجيش يحمل كل فرد منهم هراوة ضخمة، ثم أنحوا على المتظاهرين بالضرب أو بالأحرى بالخبط حتى تحطمت الرءوس والأجسام، وخضبت الأرض بالدماء، وألقوا القبض على رأس الفتنة، وداعية العصيان غاندي.
ولكن كل هذا لم يهزم المتظاهرين، وبقي العصيان يفشو ويزداد وامتلأت السجون وفاضت، فأسس الإنجليز حظائر من الأسلاك يحبسون فيها الثائرين، وأصبح المسجونون يعدون بمئات الألوف، وانتشر روح التمرد في جميع أنحاء الهند فامتنع المالكون من أداء الضرائب، واستقبال ألوف الموظفين، وتراءى للإنجليز أن الثورة تسير في طريق النجاح وأن الأداة الحكومية قد شلت، وعندئذ فكروا في أسلوب آخر للمكافحة، فإنهم إلى جنب الضرب والاعتقال عمدوا إلى الحكم بالغرامات، ولكنها كانت تجربة تعلم منها غاندي وتعلم الهنود كيف يكافحون وفهموا وفكروا ودبروا.
وفي عام 1939 عند شبوب الحرب الكبرى الثانية ترك غاندي هذا الأسلوب القديم للمكافحة، ودعا دعوة أخرى هي «اتركوا الهند»، وترك الإنجليز الهند في عام 1948 وتحقق الاستقلال. •••
وكان الهنود يعيشون أيام الإنجليز في تقاليد الفقر والجهل والمرض، وليس شيء يعمل للذلة والهوان مثل هذه العناصر الثلاثة التي تجمع شرور العالم كلها، وهي العون الأول للاستعمار؛ ولذلك حاربها غاندي جميعها بطراز جديد من المدارس يلائم ظروف القرية الهندية، وهذا الطراز هو ما يسمى الآن «التربية الأساسية».
في عام 1945 كتب أينشتين عن غاندي هذه الكلمات البليغة:
إن غاندي يتزعم الشعب الهندي، لا تؤيده في هذه الزعامة أية سلطة خارجية، وهو سياسي لا يقوم نجاحه على الحيلة أو المهارة في الوسائل الفنية، إنما على القوة الاقتناعية في شخصيته، وهو مكافح مظفر يحتقر على الدوام أساليب العنف، وهو حكيم متواضع قد تسلح بالإرادة كي يتناسق سلوكه، وقد أرصد كل قواه لأن ينهض بشعبه ويرقى بمصيره، وقد جابه توحش أوروبا بوقار إنسانيته، ولذلك كان على الدوام يرتفع عليها. إن الأجيال القادمة سوف تشك في أن إنسانا مثل هذا سعى بقدميه على أرضنا.
وهذه كلمات عظيم قد رأى العظمة في غيره وفطن إليها. •••
علمنا غاندي أيضا أن حكمة الحكيم ليست بالاقتناء، وإنما هي بالاستغناء، وأننا نستطيع أن نحقق السعادة والمكانة، وأن ننجز وعد حياتنا على الأرض، بالقليل من الحاجات دون هذا البذخ الذي يضنينا بلوغه ثم لا يسعدنا الحصول عليه، وأن ضرورات العيش من مسكن وملبس ومطعم قليلة، بل إننا إذا أقللنا منها عشنا على أحسن حال كما تتوافر لنا بهذه القلة القوة والوقت للاستمتاعات العالية، وعلمنا نحن الشرقيين أن الاستعمار عدو لا شك فيه، ولكن هناك ما هو أعدى منه لنا، وهو الاستمساك بعادات وتقاليد وقيم ثقافية واجتماعية شرقية لا يصلح أن تبقى في القرن العشرين .
ويلز
فيلسوف الصحافة
الصحافة أدب جديد لم يكن يعرفه أسلافنا، غايته أن يرتبط الكاتب بمجتمعه ويكتب عن عصره ويدرس مشكلاته. ولهذا الأدب قواعده بل سننه التي يجب أن يلتزمها الصحفي. وإذا كانت البلاغة لم تدرس إلى الآن هذا النوع من الأدب؛ فذلك لأنها تبني قواعدها على حال اجتماعية قد مضى عليها أكثر من ألف سنة، ومن هنا عقم هذه القواعد في عصرنا وخيبة نتائجها.
قواعد البلاغة القديمة تعلمنا كيف نكتب في جد الجاحظ، أو هزل الحريري، ولكن الصحفي الذي يكتب عن شئون البورصة، أو الفيتامين الجديد في الخميرة، أو مناقشات مجلس النواب، أو نقل البريد بالطائرات، أو القنبلة الذرية يجد قصورا عظيما في لغتي الجاحظ والحريري وبلاغتيهما. وإذا كان الأديب يكبر بمقدار مسئولياته، فإن الصحفي هو أعظم الأدباء في عصرنا؛ لأن أعظم ما يؤثر في الجمهور ويغيره ويوجهه للخير أو للشر هو الجريدة؛ وذلك لقوة الإيحاء الذي ينشأ من تكرار ظهورها كل يوم أو كل أسبوع. ولذلك أول شرط لبلاغة الأدب الصحفي أن يكون من يمارسه أمينا لقرائه مخلصا لمثلياته ومبادئه، لا يخون ولا ينحرف؛ لأن في خيانته أو انحرافه إفسادا للقراء وبعثا للشر. ثم يجب أن يكون على دراسة مثابرة للمشكلات العامة؛ إذ هي موضوعه الذي يتجدد كل يوم.
ومهمته هنا أن ينير ويرفع مستوى البحث من ظلام الجهل والعمية إلى نور المعرفة والثقافة، وأيضا من العاطفة إلى التعقل. ويجب أن تكون له أهداف فلسفية يتجه بها ويوجه قراءه إليها. والفلسفة ألزم للصحفي مما هي لأي أديب آخر لقوة التوجيه التي يملكها أكثر مما يملكها أي أديب آخر.
وقد يضحك قارئ الصحيفة الأسبوعية المبهرجة من كلماتي هذه، ولكني أذكره بأن أعظم من مارسوا الصحافة في مصر هو لطفي السيد، وهو فيلسوف يهتم بأرسطوطاليس كما يهتم بترقية الزراعة أو الصناعة. وكذلك الشأن على مدى أوسع في صحف أوروبا وأمريكا، وصحافة بلا فلسفة هي صحافة العوام يكتبون للعوام.
لقد عرفت أديبين صحفيين من أعظم أدباء العصر هما برنارد شو وه. ج . ويلز. كان كلاهما يكتب في الصحف، ويؤلف الكتب، ولكن مؤلفاتهما هي أدب صحفي ممتاز؛ ولأنه ممتاز قد جمع وحفظ في صيغة الكتاب. وما من كتاب ألفه هذا الاثنان إلا وهو يعالج مشكلة بشرية أو اجتماعية أو اقتصادية يجب أن تعالجها الصحيفة اليومية أو الأسبوعية. ومؤلفاتهما قد لا تقل عن مائة مجلد، وقد كان من حظي أن أرافقهما وأتعلم منهما نحو نصف قرن، فقد كتب برنارد شو عن فضائح الإنجليز في دنشواي، وعن الأثمان والأسهم في البورصة، وعن المجلس البلدي في لندن، وعن الحب والزواج، وعن الإلحاد والإيمان، وعن التأميم، وعن الحرب والسلم، وعن اللغة والهجاء، وكل هذه الموضوعات صحفية. وكذلك الشأن في ه. ج. ويلز، فقد كان آخر ما كتبه قبيل وفاته بأيام مقالا عن أخطار القنبلة الذرية، وقد دعا إلى الإيمان بالأديان بقوة وتكرار وإلحاح، ثم رأى أن يدعو دعوة أخرى مضادة استغرقت سائر حياته. ولكنه كان مخلصا حتى عندما نعده ضالا منحرفا، وكان مخلصا في الدعوتين؛ لأنه كان متطورا.
وحياة ويلز الأدبية منذ شرع يكتب حوالي عام 1895 إلى وفاته في عام 1945 هي تاريخ نصف قرن من التطور الذهني لكاتب عظيم إزاء التطورات والانقلابات العلمية والاقتصادية والسياسية، ومؤلفاته الأولى كلها تفاؤل واستبشار بالمستقبل؛ العلوم تسود المعارف وتغربلها، تزويد سلطة الإنسان على الأرض والماء والسماء، الأمراض تهزم وتنمحي، المحصولات الزراعية تزيد وتلغي الجوع، الروح التنظيمي يعم العالم بالاشتراكية والتعليم يزداد. أجل وسوف تؤلف لجنة عالمية تتصل بعصبة الأمم أو بالأمم المتحدة تؤلف موسوعة من نحو ثلاثين أو أربعين مجلدا، ثم تترجم إلى جميع لغات العالم، وعندئذ تتداول جميع الشعوب هذه المعارف المثقفة بأرخص الأثمان، ويدخل ويلز في التفاصيل فيقول: يجب أن نؤلف هذه الموسوعة على مبدأ الورق السائب بحيث يستطيع المقتنون للموسوعة أن يستبدلوا بالأوراق التي قدمت وعقمت معارفها أوراقا جديدة تحوي المعارف الجديدة، وتبقى الموسوعة بهذه الطريقة يطرد تجددها على مدى السنين.
وهذا الاستبشار بالمستقبل يملؤه طربا، فهو داعية حب وخير وإيمان، حتى ليكتب عن الكوارث التي وقعت بأيوب ، وهو أيوب عصري، وليس نورانيا، بحيث يذهب المال والولد والنسل والضرع، يذهب كل شيء، ولكن يبقى الإيمان، الإيمان بالله ملك الملوك.
ثم تأتي الحرب الكبرى الأولى فيخمد شيء من هذا اللهب، ولكن يبقى منه شيء كبير. إذا هو يؤلف لنا في عام 1919 تاريخا للعالم كله يقول فيه إننا أمة واحدة، وإن هذه الدنيا قريتنا الكبرى التي يجب أن ننظمها ونخطط حركة المرور فيها، وإننا يجب أن نتهيأ لإيجاد حكومة واحدة مع إدارة عامة موحدة للتعليم في دول الدنيا. ولكن بعد عشر سنوات نرى هذا الاستبشار بالمستقبل يتقهقر، فهو غاضب حانق يائس، وهو يدعونا إلى مادية صرفة، مادية منظمة يتوافر فيها الطعام والمسكن والمعرفة، ويقول إن هذا هو الدين. وبعد أن كان يستخرج من التوراة شخصية معذبة ينقلها إلى عصرنا ويثقلها الهموم والمتاعب، وينتهي بها بعد كل ذلك إلى الإيمان والرضا والفرح، يعود بعد عام 1930 فيجمع أشياء أخرى من التوراة يهاتر بها ويسب ويقدح. حتى إذا بلغ عام 1945 يعمه اليأس العلمي الذي كان أساس الأمل من قبل، فيتحدث عن انقراض البشر بالقنبلة الذرية. •••
لقد عشت مع هذا الإنسان وأحببته، وإليه أعزو روح الجد في برنامجي الثقافي والآفاق الموسوعية في معارفي، والاتجاه الديني الذي أتجهه في الصحافة فضلا عن التأليف، فإني أدرس جغرافية هذا العالم وتاريخه بالروح الديني، واهتمامي بما يجري في إسبانيا على أيدي الفاشيين، أو في الصين على أيدي الشيوعيين، يفوق اهتمامي بشئوني الشخصية، وأحداث العالم الكبرى يزيد وقعها في نفسي على الكوارث التي تقع بشخصي ومشكلة القنبلة الذرية هي أكبر من أن أقول إنها مشكلة لي. ولم أكره ولز إلا في يوم واحد، وذكري لهذه الكراهة يدل على أنها حزت في نفسي حزا لم يبرأ إلى الآن؛ ذلك أنه قال في مقال صحفي إنه لو كان على سفينة ومعه برنارد شو وبافلوف العالم الروسي، ثم تعرضت السفينة للغرق واضطر إلى الاختيار بين إنقاذ شو أو إنقاذ بافلوف لأنقذ بافلوف دون شو.
وآلمتني هذه الكلمة كما آلمت برنارد شو كثيرا حتى إنه كررها في مضض. وعندي أنه لو كانت نفس برنارد شو من ذهب، فإن نفس ويلز من طين، حتى لو قيل لي إن الطين أنفع من الذهب. وأستطيع أن أقول لروح ويلز: أنت روح من طين؛ لأن ويلز لم يجن هذا الجنون المقدس الذي رأيناه من شو في حادث دنشواي، أين كانت بشريتك التي تزعم أنها ديانتك السيامية حين شنق أبناؤنا وجلدوا أمام أمهاتهم وأبنائهم وزوجاتهم وآبائهم؟ لقد كنت أنخرس حين نطق، بل حين صرخ برنارد شو.
وبافلوف عالم سيكولوجي، وشو أديب ولكنه في أدبه يعلو على العلم، ونزعة ويلز العلمية هي التي أسقطته هذه السقطة.
نشأ ويلز في بدرون الحياة الاجتماعية؛ إذ كانت أمه خادمة في منزل لأحد الأثرياء، وأول ما يذكره من ذكريات الطفولة هو رؤية لأحذية الناس وهم يسيرون على طوار الشارع، وهو قاعد في أسفل الطبقة البدرونية يتطلع من النافذة إليهم فيرى أحذيتهم دون وجوههم، وله كتاب أو رسالة تدعى «تعس الأحذية».
واستطاع أن يتعلم ويصل إلى كلية العلوم حيث تخصص في البيولوجي - أي «علم الحياة» - وألف كتابا عن تشريح الأرنب. وكان الدكتور هيوم، الذي كان يدير مصلحة الجيولوجيا في حكومتنا، زميله في الكلية. وحوالي عام 1890 حين شرع ويلز يكتب كانت الأصداء للمناقشات الفلسفية والعلمية لنظرية التطور تتردد في ذهنه، ومن هنا مؤلفاته الأولى التي تنزع إلى الخيال العلمي وتجري على نسق «جول فيرن»، وإن تكن على مستوى أعلى، وهي تتدرج من التافه مثل قصة «طعام الآلهة» إلى الجليل مثل «حرب العوالم».
ورويدا رويدا ينجذب العالم ويلز إلى الأدب والفلسفة والاقتصاد والسياسة بضغط الحوادث؛ إذ هو يعيش في مجتمع حي ويقرأ صحفا مرآوية تنقل إليه صورة العالم المعذب بالإمبراطورية البريطانية والاستعمار الفرنسي، والتعطل الذي يشقي ملايين العمال، والجهل إلى يعم الفقراء والمرض الذي يبليهم، فيشرع في الدراسة وينتهي إلى تأليف كتاب «عوالم جديدة للقدامى» يقول فيه إن العلاج الوحيد للعالم هو الاشتراكية، وليس شيء غير الاشتراكية.
وهنا يتعين موقفه فهو اشتراكي ارتقائي يساري، وعندئذ يدعوه زعماء الجمعية الفابية كي يكون عضوا فيها حتى تنتفع بمواهبه الأدبية في نشر الاشتراكية. ويدخل الجمعية ويلقي المحاضرات ، ولكنه يصطدم ببرنارد شو، وينهزم فيخرج من الجمعية، فهذه هي الحزازة الأولى بين الأديبين، وقد تركت على لسانه مرارة جعلته ينطق بتلك الكلمات الحاقدة عن موت برنارد شو وحياة بافلوف.
وكان الخلاف بشأن برنامج الجمعية، فإن ويلز أصر على أن يكون ضمن هذا البرنامج، وفي أساسه تحرير المرأة، والتحرير هنا يزيد عشرة أضعاف على ما يفهمه القارئ المصري عن معنى التحرير. وعارض برنارد شو هذا الاقتراح، لا لأنه يكره التحرير؛ بل لأنه كان يرى أن الجمعية يجب أن يقتصر نشاطها على نشر الاشتراكية، وحسبها هذا دون التطلع إلى أية دعوة أخرى.
حدث هذا حوالي عام 1906، ومن ذلك العام إلى يوم وفاته في عام 1945 نجد في ويلز المجاهد المتوسع في جهاده، وجهاده هذا للعالم وليس لبريطانيا وحدها، فهو يدعو إلى إيجاد قانون أساسي عام ينص فيه على حق كل إنسان، فلكل إنسان الحق في العيش وفي العمل، كما أن له حق التفكير والعمل، وكذلك الحق في المعرفة؛ أي يجب أن يتعلم.
وهو يدعو إلى ارتباطات ونظم عالمية لا تزال في نمو وارتقاء، حتى تتقلص الحكومات العديدة القائمة وتزول في حكومة عالمية واحدة، وهو يدعو إلى إيجاد قانون عام لصيانة الثروات العامة باعتبارها ملكا مشاعا للأمم، للبشر، أي يجب أن يحافظ على مناجم الفحم في إنجلترا أو عيون البترول في إيران، وغابات أفريقيا والهند ووحوش الغابات، باعتبار أن كل هذه الكنوز إنما هي ملك عام مشاع للبشر، وليس للأمة أن تستأثر بواحد منها.
وهو يطلب التنظيم العلمي للإنتاج، ويذكرنا أن مدينة برمنجهام وحدها تستخدم من القوة في أيامنا لإنتاج مصنوعاتها مقدار ما كانت تستخدمه بريطانيا جميعها أيام الملكة إليصابات حوالي عام 1600، وأن العلم هو الذي أدى إلى ذلك، وأننا حين نستخدم العلم في الزراعة والصناعة والبناء في أقطار العالم، فإن الجوع يزول كما أن الوقت يتوافر لجميع أبناء البشر كي يهنئوا بالسعادة، وكي يتعلموا طوال أعمارهم.
والتعليم هو وسواس ويلز، وسواسه النبيل؛ فإنه يرى أن التنظيم العلمي لأحوال عالمنا جدير بأن يهيئ الفرصة لكل إنسان كي يحظى بتعليم جامعي. وبداية هذا التعليم هو إخراج الموسوعة التي أشرنا إليها.
لست أشك في أن هناك من يحبون أن يسألوني حين أكتب عن أحد الأدباء عن قيمته الفنية، وإذن ما هي قيمة ويلز الفنية؟
وجوابي أن الفن؛ أي العناية بالتعبير الجميل، وتصوير الأهداف، والصور الجميلة ليست في ويلز أو شو أو تولستوي أو أي أديب آخر أحببته، وإنما أحببته لأنه انغمس في مهمة أكبر وأخطر وأجل وأسمى من هذا الذي يسميه البادئون والذاهلون والمموهون فنا.
أين يكون الفن في حبل المشنقة الذي يمسح بالصابون كي يأخذ بعنق المشنوق، ويضغطه كما يقول تولستوي؟ أين يكون الفن في البغي تبيع عرضها لكل قادم كي تجد القروش التي تأكل بها كما يقول برنارد شو؟ أين يكون الفن في ويلز وهو يكافح من أجل التنظيم العالمي، ويبحث الوسائل لإلغاء الحروب والجوع والجهل؟
الحق أن قصص ه. ج. ويلز ودرامة برناد شو هي جميعها لإبراز الأفكار، وليست لإبراز الأشخاص، وهي جميعها لعرض المشكلات وليست للفن، لقد عالج هؤلاء المؤلفون أقذارنا وقروحنا، ولطخوا أيديهم في المعالجة بالوحل والدم، كي نتعلم النظافة والصحة، فلم يجدوا مع الوحل والدم مجالا للفن، فإذا ذكرت لي أن دستوفسكي قد عالج الوحل والدم وكان مع ذلك فنانا، فإني أجيب بأنه لم يكن من البشر إنه كان قديسا فوق البشر. وأخيرا يجب أن نختم الكلام عن ويلز بأن نتعمق قلبه ونسأل عن إيمانه وديانته.
والقارئ لمؤلفاته العديدة يستطيع أن يقول إن هذا الإيمان أو هذه الديانة هما العالمية أو البشرية، من حيث إن تنظيم العالم يؤدي في النهاية إلى خدمة البشر. وقد انتهى إلى النفور من الغيبيات، بل إلى القول بضرورة مكافحتها، وألف في ذلك رسائل وكتبا. وعند ويلز أن الدين، وهو الدين البشري، ضرورة حتمية للنفس، وهو يعرفه بأنه تشوف الإنسان إلى ما هو أعلى منه وسعيه لمصلحة عالمية تعلو على مصلحته الشخصية، وهو يقول هنا إنه ليس هناك هناءة أو سعادة إلا حين نلغي ذواتنا ومصالحنا في سبيل ذات ومصلحة تعلوان علينا، وهذه الذات هي البشرية جميعها وهذه المصلحة هي العالم كله، والهدف الذي يهدف إليه هذا الإيمان هو بكلمات ويلز نفسها: «الانتصار المتدرج على الجوع، والعطش، والمناخ، والمادة، والقوة الآلية، والألم الجسمي، أو العقلي، والفضاء، والمسافة، والوقت، وعلى الأشياء التي تبدو لنا كأنها قد فقدت في الماضي، وكذلك على الأشياء الممكنة في المستقبل. وسيبقى نوعنا، النوع البشري، في امتداد هذا الكون الأوسع كي نعيش فيه على وجدان أكبر.»
كلمات مادية صرفة، ولكنها تهدف إلى خدمة البشر فاختراع آلة «لتكييف الهواء» هو انتصار على المناخ فهو دين، ومخترع البنسيلين هو رجل دين أيضا؛ لأنه تغلب بهذا العقار على ألم جسمي أو عقلي، فإذا سألنا ويلز: ما هي هذه البشرية التي تهدف في ديانتك إلى خدمتها، لأجاب بأنها البشرية المتدرجة في التفوق، وقبل سنين دعته جريدة الماتان الفرنسية إلى أن يدلي برأيه بشأن المشروع الذي كانت تعده الحكومة؛ كي تصدر قانونا لمساعدة العائلات على زيادة التناسل، فكتب يقول بأن الآباء الذين يستحقون هذه المساعدة هم الأكفاء جسما وعقلا، أما من كانوا غير أكفاء؛ أي من كانوا ناقصين في صحة الجسم أو صفاء العقل، فليس من المصلحة البشرية أن ندعوهم إلى زيادة التناسل، وهذا اتجاه تطوري دارويني. أجل إن نظرية التطور قد غمرت العالم المثقف بروح ديني جديد؛ لأن الإنسان يجب أن يعلى عليه؛ إذ هو معبر بين القرد والسبرمان.
ويلز فيلسوف الصحافة، هو ثمرة الاندفاع العلمي في القرن التاسع عشر، قد وجد في ديمقراطية القرن العشرين الجديدة ميدانا لتعاليمه؛ لأن هذه الديمقراطية عممت التعليم بالمدارس، حتى أصبح العالم الإنجليزي يطبع في العام أكثر من عشرين ألف كتاب جديد، وهذه زيادة على مئات الجرائد اليومية والمجلات التي تعلم وتثقف هؤلاء المتعلمين الديمقراطيين وكان ويلز قوة توجيه لهم، وكانت النبرة العالمية في صوته هي: هذا العالم هو عالمنا، هو قريتنا ، هو حديقتنا وعلينا أن نصلحه وننظمه.
وإني أكتب هذه الكلمات في صبيحة أول يناير من عام 1951 اليوم الأول من النصف الثاني من القرن العشرين فأحس كلمات ويلز بل أحس قوة الصدق فيها؛ ذلك أننا قبل أربعين أو خمسين سنة كنا نقول إن حربا قد تقع بين دولتين أو ثلاث دول لا شأن لنا بها، ولكن هذا القول لم يعد يصدق في أيامنا، فإن حربا تقع بين روسيا وأمريكا هي حرب أهلية للعالم كله، هي قتال جنوني يشتبك فيه جميع سكان هذه القرية، هذا العالم، في تشنجات دموية تزلزل وتحطم ... هذه هي عبارة ويلز وهذه هي رسالته.
شفايتزر
صديق الزنوج
السيكلوجية هي التجسس على النفس، وقد تعودت بما كسبته من الدربة السيكلوجية، أن أتجسس على المؤلفين وأن أسأل عن حياتهم ومكانتهم الاجتماعية، وتربيتهم حين أرغب في الوقوف على البواعث التي حملتهم على الدعوة إلى فكرة معينة أو اتخاذ أسلوب خاص. ثم كثيرا ما أحس كما سبق لي أن أشرت إلى ذلك، أن حياة المؤلف هي نفسها كتابه الأول، وأنه إذا لم يكن قد أحسن تأليفها فإنه لن يحسن شيئا آخر، وأن مشكلاته الخاصة التي عاناها في حياته هي نفسها المشكلات العامة التي عالجها في مؤلفاته.
اعتبر مثلا تولستوي فإنه جحد مناعم الحضارة، والانغماسات الكئولية والجنسية، وحياة الترف والثراء، بل إنه بعد أن قضى سني النضج والإيناع وأخرج المؤلفات الفنية البديعة، عاد فجحد الفن وعده استهتارا يجب أن نتجنبه وأن نقنع بسذاجة العيش بل بالفقر والكفاف، وكل هذه المؤلفات كانت ثمرة حياته أو مرآة حياته، فقد انغمس في اللذات الجنسية أيام شبابه ثم نفضها وجحدها، ولكنه أحس من التوترات ما جعله يكافح جسمه ويضغط أعصابه، وكانت مؤلفاته تفريجا أو شرحا أو علاجا لهذه التوترات والضغوط. وكان يقول بأننا يجب أن نتجنب المرأة إلا بغية التناسل، ثم كان ينهزم أمام هذا العزم فيطلب زوجته ويترضاها، وبلغ من كراهته للفن أن قاطع تأليف القصة باعتبارها تسلية وخيمة تنأى عن جد الحياة، ولكنه وهو فوق الثمانين، كان يؤلف القصة ثم يخبئها في درج المنضدة. وكان يحاول أن يعيش بالكفاف، وأن يحترف صنع الأحذية وأن ينزل عن أرضه للفلاحين، ولكنه كان ينهض في الفجر و«يأمر» خادمه بأن يلجم جواده ويخرج به إلى الحقول فيعدو به في وجه الريح ويلتذ هذه «السيادة» على الأرض بل هذا الكفاح للريح والطبيعة.
وليس شك أنه كان بعد أن يعود إلى غرفته، يندم على ضعفه ويحاول أن يكف، لا بل أن يربي نفسه من جديد، فيخرج من درج المنضدة المشرط والأديم كي يصنع حذاء سخيفا ركيكا لأحد الفلاحين. وما أعتقد أن حملته على شكسبير كانت إلا تفريجا عن إحساسه بالخطيئة التي كان يرتكبها هو بانغماسه في الفن، فإن شكسبير كان فنانا عظيما، وكان تولستوي فنانا عظيما أيضا، وقد رأى صورته في شكسبير فلعن في شخصه هذا الشاعر الإنجليزي العظيم، وهو إنما كان يلعن نفسه ويحاول التخلص من هذه المتناقضات التي كانت تحطم أعصابه. وأي تناقض أكبر من هذا الانفصال بين ناس يعيشون في ترف الفن يؤلفون الأشعار والقصص، وبين الملايين الكادحة التي تحيا بلا حياة وبلا فن؟ إن عقولنا تزداد فطنة وبصيرة حين نتعمق حياة المؤلف ونسأله من أين لك هذا؟ من أين لك هذه الأفكار؟ وما هي الأحداث التي نزلت بك ثم أنتجت هذه الأفكار في مؤلفاتك؟ ومن أين لك هذا الأسلوب؟ وما هي العلاقة بينه وبين مكانتك الاجتماعية؟ هل أنت مع الشعب تخاطب الشعب بلغته؟ أم أنت في مكانة اجتماعية عالية تعلو على الشعب فتتعالى عليه بأسلوبك؟
إني حين أجد مؤلفا يبغض التعصب الديني ويكافح الغيبيات ويدعو إلى مذهب العقليين، ويقول بضرورة الاشتراكية، أسأل: هل هو فرد في طائفة من طوائف الأقليات تعاني ضغطا اقتصاديا أو اجتماعيا بحيث يحب هذه المبادئ وينقلها إلى الوجدان الفني؟ أليست علة ذلك أنه قد أحس أن الغيبيات تفصل بين البشر، وأنه لذلك بشري العقيدة اشتراكي المذهب؟
واعتقادي أنه إذا كان رجل السياسة مكلفا أن يجيب عن سؤالنا: «من أين لك هذا؟» بتقديم الحساب المفصل عن ممتلكاته، فإنه يجب على الأديب أن يجيب عن مثل هذا السؤال بأن يكتب تاريخ حياته حتى نفطن إلى البواعث ونتعمق الأسرار ونتربى ونستبصر بكوارثه. •••
ولكن هناك من المؤلفين والمفكرين من لا يحوجنا إلى مثل هذا السؤال؛ لأن حياتهم مكشوفة، وقد كشفوها هم بأعمالهم أو كفاحهم؛ ولذلك نحن نقرأ سيرتهم في هذه الأعمال أو هذا الكفاح لنسترشد ونتعلم ونقتدي، فضلا عن النور الذي نستضيء به من مؤلفاتهم، وهذا هو الشأن في ألبيرت شفيتزر.
هو مؤلف في الأدب والاجتماع والفلسفة والمسيحية قد استطاع أن ينير الأذهان ويهذب الحيوان في الإنسان، ولكنه زيادة على المؤلفات قد عمل وكافح، حتى إننا لنجد في هذا الكفاح ما يغنينا عن قراءة مؤلفاته، كما نجد في كفاح غاندي ما يغنينا عن مؤلفاته.
قضى شفيتزر قرابة أربعين سنة وهو في «لا مبارينيه» في سنغال الفرنسية بأفريقيا الغربية يعالج أمراض الزنوج بالمجان، ويجمع لهم التبرعات من أوروبا وأمريكا، وقد بنى لهم مستشفى وأعد له كل ما يحتاج إليه من عتاد صحي وعلاجي إلى الأطباء الذين أقنعهم بترك أوروبا والرضا بالعيش لخدمة المرضى من الزنوج في شمس أفريقيا المحرقة، وكان هذا عملا جليلا أرصد له حياته وعاد إلى بلاده وهو أعمى إذا لم تتحمل عيناه شمس أفريقيا، ولكنه عاد بعد أن أنجز وعد حياته كما ينجز أحدنا وعدا من وعود المجد والشرف والإنسانية. وهو يقيم هذه الأيام (عام 1951) في قريته القريبة من «استراسبورج» ينتظر الموت بعد أن جاوز الثمانين.
كان ألبرت شفيتزر صبيا ألمانيا نشأ في أسرة ألزاسية حيث تتاخم ألمانيا فرنسا، وأحيانا تخالطها وكانت نية أبويه أن ينشأ نشأة دينية. وقضى ألبيرت تلمذته والتحق بالجامعة في استراسبورج، وحصل على الشهادة الجامعية في الإلهيات، ولكنه طوال دراسته يكب على الموسيقا دراسة ومرانة، ونبغ في العزف على الأرغن، وهو أكبر آلة موسيقية لا تخلو منها كنيسة كبرى في أوروبا. واحتضان الكنائس للموسيقا قد رفع من قيمة هذا الفن وأكسبه الاحترام الذي لا نجده للأسف في بلادنا. وكان يحصل من العزف في الكنائس على أرباح كبيرة، وذاع اسمه حتى كانت الكنائس الكبرى تدعوه في الأعياد والحفلات، وله مؤلفات عن باخ وعن الموسيقا تعد صفحاتها بالآلاف.
وإلى هنا يتساءل القارئ: رجل حصل على الثقافة وعلى الحرفة وعلى الكسب! ما الذي بقي من حياته يذكر فيؤثر؟
والجواب أن الباقي كان كل شيء، فإنه جحد حياته الماضية كلها وآثر عليها كفاحا إنسانيا يحتاج إلى الدم والدموع؟
فقد تساءل شفيتزر وهو شاب: ماذا أفعل كي أخدم الزنوج الذين سحقهم الاستعمار؛ البريطاني والفرنسي والهولندي والبلجيكي، وكيف أستطيع خدمتهم؟ وأجاب المبشرون بأنه يمكنه أن يرحل إلى أفريقيا حيث يبشر الوثنيين من الزنوج بالمسيحية، أليس هو دكتور في الإلهيات؟ ولكنه أحس مرارة التهكم في هذا الاقتراح، فإنه كان يعرف بل يوقن أن كثيرا من المبشرين كانوا أعوانا للاستعمار، وزيادة على ذلك تساءل هو: كيف نقدم للزنوج تعاليم المسيحيين، وهم قد عرفوا أن هؤلاء المسيحيين الذين تعلموا هذه التعاليم هم أنفسهم الذين ينهبونهم ويذلونهم ويحرمونهم الثقافة والمدنية والعدل والشرف؟ لا، إنه لن يكذب عليهم، ولن يزعم لهم أن المسيحيين المستعمرين أشراف، وإذن ماذا يفعل؟ لقد بلغ الثالثة والثلاثين، وكل ما يحذقه من المعارف دراية ومرانة عظيمتان في فن الموسيقا، وأيضا فقهيات جدلية في المذاهب المسيحية، وإنها لسوف تكون سخرية حقا أن يقصد إلى الزنوج ويعرض عليهم هذه البراعات، لا إنه لن يفعل ذلك.
وحزم رأيه، ثم حزم أمتعته، ورحل من ستراسبورج إلى باريس، وهناك عاد تلميذا وهو في الثالثة والثلاثين، والتحق بكلية الطب.
إنه حين يكون طبيبا يستطيع أن يرحل إلى أفريقيا وأن يعالج المرضى من الزنوج، حتى يعرفوا أن بين الأوروبيين من يواسي جراحهم، ويعالج أمراضهم كما عرفوا من آلاف الاستعماريين المجرمين.
وبعد أربع سنوات نال شهادة الطب فحزم رأيه وحزم أمتعته ورحل إلى «لامبارينيه» في سنغال الفرنسية، وهناك أسس مستشفى وأقام مع زوجته يخدمان الزنوج نحو أربعين سنة عاد بعدها في سنة 1949 إلى قريته التي عرفها وهو صبي بالقرب من ستراسبورج، عاد وهو أعمى.
وإلى هنا نستطيع أن نقتنع بأننا عرفنا إنسانا بارا بالإنسانية، ولكن شفيتزر، كما كان رجل عمل وكفاح، كان مفكرا عميقا يبحث ويستقصي ويحاول أن يهتدي إلى يقين، ومن هنا مؤلفاته العديدة، فقد ألف عن الموسيقا، ثم ألف عن المسيح وحواري المسيح بولس. ولا بد أنك، أيها القارئ، ستقول: إن ها هنا إنسانا مسيحيا قد درس الإنجيل، وعمل بتعاليم المسيح. وهذا حق، ولكنه ليس كل الحق؛ ذلك أن شفيتزر ألف كتابا عن المسيح الذي أحبه وعمل بتعاليمه، ولكنه عالج حياته بمشرط فرويد بما لا يرضى المسيحيين. وقد قرأت الكتاب وأحسست وأنا في الفصول الأخيرة أن الحلوى التي كنت ألوكها بلساني قد استحالت إلى علقم مر لا أسيغه ولا أطيقه، ولكنه - أي شفيتزر - يقول وكأنه يحس برعشة الاشمئزاز الذي أحدثه تحليله السيكلوجي القاسي: وماذا علينا أن نؤمن بالفلسفة العظيمة حتى ولو كان داعيتها؟ إنها مأساة، وإننا نحن البشر لا نطيق كل الحق، وإذن ما هو اليقين الذي يستند إليه شفيتزر؟ ما هو اليقين الذي يحمله على أن يترك الثراء والمجد والراحة والمدنية ويرحل إلى أفريقيا، ويقضي هناك أحسن سني عمره في خدمة الزنوج بعد أن يستعد لخدمتهم بالدراسة أربع سنوات في جامعة باريس؟
هذا اليقين هو احترام الحياة، إننا يجب أن نحترم الحياة كائنة ما كانت، ولا نقتل نملة إلا إذا حتمت الضرورة ذلك، ألسنا نحن الأحياء جميعا من العشب الذي ندوسه إلى الجواد الذي نركبه، إلى الكلب الذي يرافقنا إلى الشجرة الخضراء؟ ألسنا جميعا ننتمي إلى أصل واحد ونسير في موكب التطور نحو المستقبل؟ ثم احترام الحياة هو مفتاح يهيئ لنا التفكير السليم في تطور المجتمع البشري. فهل نقنع من شفيتزر بذلك؟ إنه يستطيع أن يقول: انظروا إلى حياتي.
لقد أحببت شفيتزر على الرغم من العلقم الذي ملأ به فمي، وعلى الرغم من السحب الباهرة الناصعة التي أحالها إلى قتام أسود، ورضيت وأنا كاره أن أستمع بعقلي إلى أقواله، كما هدأت نفسي إلى عجزي عن الرد عليه، وتقبلت دعوته إلى الحياة في ترحيب وسرور؛ لأن دراستي للتطور قد جعلتني على إحساس عميق بوحدة الحياة نباتا وحيوانا وإنسانا. ثم هو بعد كل هذا، لم يعترض بكلمة واحدة على سمو الأخلاق التي دعا إليها المسيح.
جون ديوي
فيلسوف العلم
كنت أتحدث ذات مرة مع الدكتور كليلاند مدير الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن مركب أوديب أو مركب النقص لا أدري، فأنصت إلي ثم رفع عينيه في وجهي يسأل في خبث: هل هناك إحصاءات عن هذا الموضوع؟ وبهذا السؤال أفحمني وأضحكني معا.
فإني أحسست أن السؤال أمريكي، هو سؤال ينبع من الوسط الأمريكي الذي يعتمد على العلم، ويحيا على أساس المعارف العلمية، وهو التجربة، والإحصاء يقوم في علم الاجتماع مقام التجربة في الطبيعيات أو الكيمياء من العلوم المادية. ويجب أن نسلم بأن الكثير من معارفنا السيكلوجية لم يرتفع إلى مقام العلم، وقصارى ما نقول عن هذه المعارف: إنها «فروض» ننتفع بها في تفكيرنا، وإن هناك ما يرجح صحتها؛ لأننا حين نعمل بها نجد النتائج الحسنة، ولكنها ليست علما، وإنما العلم هو ما قام به بافلوف الذي جرب التجارب في الكلاب واستنتج النتائج، هو أيضا تلك الحقائق التي استطاع السيكلوجيون أن يستخرجوها بالإحصاء بالتجارب التي قاموا بها بين الطلبة أو العمال أو الأزواج أو المسجونين أو نحوهم. والعلم هو شيء جديد في عصرنا؛ إذ ليس هو محض التفكير والاستنتاج، وإنما هو التخيل أولا، ثم التجربة باليد، ثم التفسير بما يتلاءم مع النتائج من هذه التجربة.
وشيوع الأسلوب العلمي في أيامنا قد جعل الفلاسفة والأدباء يتشككون في قيمة ما يمارسون من فلسفة وأدب؛ ولذلك أصبحت الفلسفة «تجريبية»، وصاحب هذا الرأي أو هذه الدعوة إلى اتخاذ الأسلوب العلمي في الفلسفة هو جون ديوي الذي مات قبل سنتين، والذي يعد من أكبر الفلاسفة الأمريكيين، كما أنه مؤسس المدارس «الارتقائية» الجديدة التي دعا فيها إلى أن تكون المدرسة مجتمعا صغيرا يمثل المجتمع الذي سيعيش فيه التلميذ أو الطالب بعد ذلك، وفلسفته عن التعليم تندغم في فلسفته عن الحياة، وأنا أحاول هنا أن أشرح فلسفته التي تأثرت بها، والتي ما زلت أسترشد بها وأعتمد على أسلوبها في حياتي الذهنية.
وأبدأ بما أستطيع أن أسميه «مفتاح» التفكير الفلسفي «ديوي»، وهو أنه ليس في هذا الكون شيء كائن - أي ثابت لا يتغير - لأن كل ما فيه من ناس أو حيوان أو نبات أو جماد هو أشياء «صائرة»؛ أي إنها في تغير لا ينقطع، أو بكلمة أخرى هي في تطور.
نحن وكل شيء حولنا في صيرورة تغير، ولسنا في كينونة ثابتة، واعتقادي أن الذي غرس هذه الفكرة في الأذهان العصرية هو داروين حين أثبت أن التطور هو الأصل، والمبدأ في عالمنا، وما دام التغير أو التطور هو الأساس لوجودنا فيجب لذلك أن نقول بالتجربة؛ أي التجربة في الفلسفة والتجربة في الاجتماع، والتجربة في التربية، ذلك أن مجتمعنا ليس نهائيا؛ إذ هو سيتطور، وما دام هذا شأنه يجب أن نتناول بالتغير كلما وجدنا الحاجة إلى هذا التغيير.
هذا هو المفتاح الأول، أما المفتاح الثاني الذي يفتح لنا أبواب الفلسفة عند ديوي فهو أن الفصل بين الماديات والمعنويات الذي قال به أفلاطون ليس حقيقة، وإنما هو وهم؛ فالمادة والروح، والجسم والعقل، والفكرة والمادة، كلها شيء واحد، وهو يجبهنا بالقول بأننا لم نعرف قط عقلا بلا جسم، ولا فكرة بلا مادة.
أما المفتاح الثالث فهو التسليم بأن معارفنا عن الكون والأشياء موقتة؛ أي لوقتنا أو لعمرنا هذا فقط، وهي ليست نهائية، ولا نستطيع لذلك أن نقول إنها صادقة؛ لأن هذه الأشياء في تطور، وقصارى ما نستطيع أن نقوله عن المعارف البشرية أنها «آلة» و«وسيلة» نفهم بها الأشياء. وغاية هذا الفهم غير النهائي إنما هي التسلط على الطبيعة واستغلالها لمصلحة البشر، لو كانت الأشياء ثابتة، ولو كان الكون ثابتا، ولو كانت عقولنا ثابتة، لكان فهمنا لهذه الأشياء ثابتا نهائيا، ولكننا نحن جميعا في صيرورة، نصير ونتغير؛ ولذلك فإن هذا الفهم أيضا سيتغير، ولا يمكن أن يكون نهائيا، وما عندنا من فهم عن الكون والأشياء إنما هو صورة وقتية ننتفع بها، ويجب أن ننتفع بها في استخدام قوى الطبيعة لمصلحة الإنسان لا، ليست الغاية من الفلسفة أن نعرف أسرار الطبيعة، وإنما هي أن نستخدم قوى الطبيعة.
أما المفتاح الرابع فهو أن الذكاء البشري اجتماعي، فما عندنا من أفكار وآراء وعقائد، وعواطف وفلسفات إنما مرجعها جميعها إلى المجتمع الذي نعيش فيه، وكان يمكن ديوي هنا أن يقول إن اللغة اجتماعية، وإنها الوسيلة للذكاء؛ إذ لا يستطاع التفكير بلا لغة.
هذه هي الأسس لفلسفة ديوي التي يسميها «الآلية»؛ أي إن الفلسفة يجب أن تكون آلة أو وسيلة للفهم وللتسلط بهذا الفهم على الطبيعة.
وربما يكون من الحسن أن ألخص هذه الأسس الأربعة فيما يلي: (1)
أننا وكل شيء حولنا في صيرورة ولسنا ثابتين على حال لا تتغير. (2)
كل ما في هذا الكون هو وحدة لا تنقسم، فليس هناك فرق بين الماديات والمعنويات، ولا بين الحياة والمادة ولا بين الجسم والعقل، بل ليس هناك عقل مستقل أو نفس مستقلة. (3)
معارفنا عن الأشياء مؤقتة؛ إذ هي في تغير كما أن عقولنا التي نعرف بها في تغير. (4)
الذكاء البشري اجتماعي؛ أي إننا ننبعث بنظرياتنا وعقائدنا وأفكارنا بقوة الإيحاء الاجتماعي الذي ينغرس في نفوسنا في المجتمع الذي نعيش فيه.
هذا هو ديوي الفيلسوف فما هو ديوي المربي؟ إن شهرته في التربية أكبر من شهرته في الفلسفة، وقد دعته تركيا وروسيا والصين كي ينظم لها وسائل التعليم، وإليه تعزى هذه الأساليب الجديدة في التعليم في الولايات المتحدة نفسها.
التربية عند ديوي هي النمو الذهني، ولكن لما كان الذهن في كل حال اجتماعيا، فإن المدرسة يجب أن تكون اجتماعية، فإذا كان المجتمع الأمريكي مثلا يتنقل أفراده بالسيارة، فإن التلميذ يجب أن يتعلم قيادة السيارات، وإذن يجب على المدرسة أن تخلق لتلاميذها اختبارات اجتماعية، بحيث يختبرون ويحاولون حل المشكلات كما لو كانوا كبارا على اهتمام يقظ بكل ما يحدث في بلادهم بل في الدنيا أيضا.
المدرسة عند ديوي هي جنين المجتمع، وحين تنطوي المدرسة على نفسها، وتعلم النظريات وتلقي الدروس التي لا علاقة لها بالمجتمع العصري، حين تفعل ذلك، تعود بالضرر على تلاميذها؛ ولهذا يجب ألا تنقطع بتاتا عن الاتصال بالمجتمع.
وقيمة المدرسة عند ديوي تقاس بدرجة ما تخلقه في التلميذ من الرغبة في النمو، وهذا النمو هو في النهاية تجدد ذاتي، وهو دءوب في التوسع الذهني بالاستطلاع والاختبار والدرس.
وكان أول مؤلفاته كتاب «المدرسة والمجتمع» في عام 1899 واسم الكتاب يدل القارئ على الاتجاه الذي اتخذه ديوي في فلسفته الاجتماعية. في هذا الكتاب يصف النشاط الذهني بأنه لا يختلف عن أي نشاط آخر نؤديه بعضلاتنا؛ أي إنه تفاعل مع الوسط، هو أقرب الأشياء إلى الرؤية، فإننا حين نرى شيئا بعيوننا لا نحس أن الرؤية هي شيء داخلي فينا، إنما هي تفاعل بيننا وبين هذا الشيء؛ أي إنها حدث قد حدث بيننا وبين هذا الشيء. وكذلك الشأن في التفكير فإننا لا نفكر إلا لأننا قد التفتنا إلى شيء خارج عنا أو اهتممنا به؛ وإذن ليست التربية ادخار المعارف، وإنما هي غرس العادات الحسنة في التفكير حتى نصل إلى أحسن النتائج، وأحسن النتائج هي استخدام المعارف كما لو كانت آلات لخدمة البشر؛ أي المجتمع.
والهدف من التربية هو إيجاد التلاؤم بين الفرد والمجتمع. وليست الأخلاق عند ديوي شيئا مطلقا، وليست هناك أخلاق مثلى دائمة، وإنما هناك تغيرات اجتماعية تؤدي إلى تغيرات أخلاقية، وما دامت غايتنا هي سعادة العيش، فإذن يجب أن نجعل الملاءمة بين الفرد والمجتمع غاية التربية.
ثم ينتهي بأن الأخلاق المثلى في مجتمع ما ليست سوى الأخلاق العلمية، كما أن خير المجتمعات هو المجتمع العلمي. وبالطبع هنا شطط؛ فإن ما يزعمه ديوي من أن غاية التربية يجب أن تكون الملاءمة بين المجتمع والفرد قد يحملنا على القول بأن هذه الملاءمة تقتضينا أن نعيش فيه، حتى ولو كان ظالما، ورجل الثورة الذي يحتاج إليه رقي الأمم من وقت لآخر هو رجل لا يتلاءم مع المجتمع، ومن هنا ثورته، وهي فضيلته.
والواقع أن ديوي رأى قبل أن يموت شطط هذا الاندفاع في التساوق مع المجتمع، فقد عقد مؤتمر أمريكي بلغ أعضاؤه نحو 600 من خريجي الجامعات وأساتذتها، وعرض هذا الاقتراح على المؤتمرين:
أيهما أنفع، أن نعلم الطلبة اللغة الإغريقية أم نعلمهم فن الرقص؟ فكانت الأغلبية الساحقة في جانب الرقص؛ وذلك اعتقادا بأن المجتمع العصري يحتاج الفرد فيه كي يكون متلائما معه إلى الرقص، أما لغة الإغريق فيمكن الاستغناء عنها أو على الأقل تركها للمتخصصين.
لا، ليست التربية الحقة أن نتلاءم على الدوام مع المجتمع. والأغلب أن ديوي قد احتاج إلى الإكبار من شأن الاتصال بالمجتمع، وإلى جعله الأساس للتربية كي يحمل المعلمين والمربين على أن يضعوا القيمة العملية فوق القيمة النظرية في التربية، وعلى أن يجعلوا من المدرسة مجتمعا يتهيأ فيه التلميذ أو الطالب لأن يكون فردا اجتماعيا له عادات اجتماعية ارتقائية، وليس محض خزانة للمعارف الكيماوية والرياضية والتاريخية والجغرافية.
عضو نافع متطور في مجتمع ارتقائي متطور.
وقد نجح في هذا الشأن، فإن «المدارس الارتقائية» في الولايات المتحدة هي ثمرة فلسفته هذه، وهي جنات للصبيان والشبان يجدون فيها سعادة كان أسلافهم يحرمونها بالدءوب في دراسة واختزان المعارف.
أعتقد أنني انتفعت كثيرا في تربيتي الذهنية بجون ديوي، وأول انتفاعي به أنه ألح علي مرارا وتكرارا بضرورة الالتزام للأسلوب العلمي في المشكلات الاجتماعية، وبالطبع كلنا يعرف قيمة الأسلوب العلمي، ولكن هناك من الأفكار ما نحتاج إلى أن نكرر القول فيه، ونبدي ونعيد حتى يصير عادة ذهنية ثابتة، وليس فكرة عابرة أو طارئة. ••• «هل هناك إحصاءات عن هذا الموضوع؟»
هذا السؤال الأمريكي الذي سألنيه «كليلاند» هو ما يسأله جون ديوي في كل مشكلة؛ ولذلك هو لا يفتأ ينشد التجربة التي تصحح منطق الفكر المجرد وتوضح ما لعله قد أهمله هذا المنطق.
التجربة في كل شيء؛ في الفلسفة، وفي الأدب، وفي الموسيقا، وفي الأغاني، وفي الاجتماع ...
ولم لا؟
أذكر أنه عندما عمدت إحدى الوزارات الماضية إلى إلغاء البغاء بالأحكام العرفية أني طلبت التجربة، فقلت: إننا نستطيع أن نلغي البغاء الرسمي في القاهرة، وندعه في الإسكندرية مدة عام ، ثم نقوم بتحقيقات بشأن الصحة الجسمية والنفسية بين فريقين مختلفين من الشبان آخر هذا العام، فإذا ثبت لنا أن الإلغاء في القاهرة قد نقص من الأمراض الزهرية، ولم يؤد إلى تفشي الأمراض النفسية، وتفشي الشذوذات التي تنشأ من التوترات الجنسية، فإننا نعمم الإلغاء في القطر كله، أما إذا ثبت العكس فإننا نعيد البغاء الرسمي.
هذه تجربة اجتماعية نحاول بها حل مشكلة معينة في مجتمعنا حلا علميا يقوم على الإحصاءات، وقل مثل ذلك في الفلسفة التي تنشد صلاح العيش، وتحقق السعادة للإنسان، بل كذلك في الفن الذي ينشد سعادة النفس، وجمال الذهن، وجلال العاطفة، نجرب ألحاننا وما يحدث في نفوسنا من إحساسات الشجاعة والشهامة أو الخسة والدعارة. ونجرب أشعار شوقي أو حافظ أو أبي نواس أو المعري، بحيث نجعل أحد الفصول في الأقسام الثانوية يدرس واحدا من هؤلاء ويستغرق في إحساساته وقوافيه، ثم نحقق آخر العام أثر هذا في النفس والذهن والعاطفة ونخرج بالنتيجة التي توضح لنا ما نجهله.
بل كذلك التجربة في أغانينا وموسيقانا بالمقارنة إلى الأغاني والموسيقا الأوروبية، أيتهما تبعث على الانتعاش الروحي والصحة النفسية والإحساس الفني؟
أجل ليست التجربة في الكيمياء والطبيعيات وما إليها فقط؛ إذ هي يجب أن تشمل حياتنا الاجتماعية كلها، نجرب في نظام الدولة، ونجرب في نظام المجتمع ونجرب في الزواج والطلاق ونجرب في طرق التعليم، وفي معايش الناس حين يمارسون الزراعة أو الصناعة.
هذه واحدة مما تعلمت من جون ديوي. وأخرى هي أن المجتمع هو الذي يربينا؛ ولذلك هو يقول إن المجتمع كان يمكن أن يكون هو المربي الوحيد لنا بلا مدارس، ولكننا نحتاج إلى المدرسة كي نجمع الاختبارات المختلفة التي تزيد قيمتها على غيرها فنلتفت إليها دون غيرها مما هو أقل خطورة؛ وبذلك نستطيع أن نكسب الطالب من هذه الاختبارات المختارة في عام أكثر مما يستطيع أن يكسب من المجتمع في سنين حين ينتظر طروء هذه الاختبارات عليه جزافا.
التربية للمجتمع والمجتمع للتربية، وإذا انفصلت المدرسة عن المجتمع، وإذا انفصل إنسان، رجلا كان أو امرأة، عن المجتمع فهو - بقدر هذا الانفصال - تنقص أو تنعدم تربيته. •••
وقصة صغيرة أخيرة أرويها عن جون ديوي؛ لأنها تكاد تلخص لنا إيماءة حياته وهدف فلسفته، فإن هذا الرجل كان يحيا كي ينشد الاختبارات في هذه الدنيا، وهو يختبر كي يفلسف ويستقطر الحكمة والسعادة من اختباراته؛ ولذلك نجده قبل نحو ست سنوات يقصد إلى قرية أو مدينة صغيرة يعيش فيها آخر أيامه بعيدا عن صخب العواصم وهرولتها. وهو يحب حتى في سني شيخوخته في هذا المعتكف أن يؤدي عملا أو خدمة للمجتمع، فهو يربي البقر ويستدر اللبن، فإذا جاءت طلائع الصباح حمل اللبن على عربته وهرع إلى البيوت يوزعه بالثمن المجزي. وهو يقص علينا في فكاهة أن إحدى السيدات التي فتحت له الباب كي تتسلم منه زجاجات اللبن طلبت منه ألا يقرع هذا الباب، وإنما يقصد إلى الباب الخلفي الذي يؤدي إلى المطبخ.
فيلسوف لا غش فيه!
سارتر
زعيم الانفرادية
الفلسفة الوجودية، المذهب الوجودي، بول سارتر؛ كلمات تجري على الألسنة للمناقشة والمداعبة، تجري على ألسنة الأساتذة الذين تعمقوا الفلسفة، أو العلميين الذين ينشدون دينا أو مذهبا يتفق مع الثقافة المادية التي تغمرهم.
وتجري على ألسنة الشبان والفتيات الذين وجدوا في مذهب الحرية التي تدعو إليها الوجودية، أو تضطر إلى الاعتماد عليها، أساسا قويا تنهض عليه، وجدوا فيها ما يقارب الإباحة فاستهتروا، ولكنهم لم يخدعوا أحدا بأنهم فلاسفة أو أن بول سارتر يؤيدهم ... لا، هم شبان يضحكون ويمرحون لا أكثر.
حضرت درامة لبول سارتر في باريس، ولم أستطع الحصول على تذكرتي إلا قبل ميعادها بخمسة أيام لفرط التزاحم على رؤيتها، وكان ثمنها جنيها كاملا، وهذه الدرامة هي: «إبليس والله الطيب»، وهي تحوي من الزندقة أو الهرطقة ما لا يطيقه مؤمن، ولكن المتفرجين أنصتوا وكأنهم كانوا في قاعة جامعية يتعلمون.
إنهم شعب قد تعلم معاني التسامح، وهو أن تتقبل في يسر وصمت ما تتألم منه؛ لأنك تعرف أن لغيرك الحق في أن يعتقد غير ما تعتقد، ولقد رأيت أحد الممثلين ينظر إلى أقدس شخصية عند المسيحيين فيقول: أنت أصم أنت أبكم!
ثم يقف ممثل آخر فيقول: «الناس متساوون، الناس إخوة، وهم جميعهم في الله، والله فيهم، والروح القدس ينطق من جميع الأفواه، وجميع الناس إنما هم كهنة وأنبياء، وكلهم قادر كفء لأن يقوم بالتعميد، وأن يشهد بالزواج، ويعلن بالبشارة الطيبة، ويغفر الخطايا، وكلهم يحيا الحياة العامة على الأرض في مواجهة الناس كما يحيا الحياة الخاصة مع نفسه في مواجهة الله.»
وهذه كلمات يستطيع القارئ المسلم أن يتحمل الكثير منها دون معارضة، ولكن المسيحي يجد فيها المناقضة للمبادئ الكنسية إن لم نقل للمبادئ المسيحية المعروفة، ومن هنا الصدمة التي أحدثتها هذه الدرامة في باريس للكثيرين من المؤمنين، ولكن حتى هنا نجد سارتر رقيقا مهذب الكلمة لطيف الإيماءة، أما في كتبه فإنه يصارح بالإلحاد، بل يجعل الإلحاد أساسا لفلسفته ومذهبه، وهذا على الرغم من أن هناك وجوديين، مثل جاسبر، وجبرايل مارسيل، يأخذون بمذهب الوجودية مع الإيمان بالله.
وعندي أن وجودية سارتر ليست شيئا جديدا على أوروبا إلا من حيث لهجتها الهجومية، وهي عندي أيضا ليست فلسفة، وقصارى ما أفهمه منها أنها مذهب أخلاقي هو في النهاية ثمرة النزعة المادية في العلوم، كما هو ثمرة النزعة الانفرادية التي كانت تسود القرن التاسع عشر في السياسة والأخلاق.
ما هي الوجودية؟
هي أنك موجود، هي أنك قد وجدت، ولكن وجودك هذا لم يكن ليزيد على سائر الأشياء الموجودة مثل الحجر والشجرة والملح والسكر، ولكنك أنت تختلف عن هذه الأشياء بأنها هي تبقى «موجودات» لا تزيد على ذلك، أما أنت فإنك تتناول وجودك هذا بعقلك ويدك فتصوغ نفسك وتستخرج أو تستخلص جوهرك. أنت وجود أولا ثم جوهر ثانيا.
أنت تولد وتحيا على هذه الأرض سبعين أو ثمانين سنة، ونحن نعرفك وأنت في السنة الأولى من عمرك مثلا شيئا «موجودا» لا أكثر، ولكن بعد أربعين أو خمسين سنة نجد أنك قد «تجوهرت» فظهرت خلاصتك وأصبحت لك دلالة، فأنت وزير أو مؤلف أو ثري أو محام أو فيلسوف، وهذا هو الجوهر بعد الوجود، ومن الذي أحالك من الوجود إلى الجوهر؟
أنت نفسك؛ لأن كلا منا يتناول حياته من حيث يدري أو لا يدري، كأنها «مشروع» يقوم بإتمامه، وقد يشرع أحدنا في بناء بيت أو متجر أو غير ذلك من المشروعات، ولكن حياتنا «مشروع» أيضا؛ إذ نحن نبنيها منذ طفولتنا تقريبا إلى أن نموت، وعلى قدر مهارتنا في البناء تكون حياتنا سامية أو متوسطة أو دون المتوسط، وما دامت الحياة مشروعا، وما دمت أنت تقوم بإنجاز أو إتمام هذا المشروع، فأنت مسئول عن حياتك، عن جوهرك.
أنت مسئول؛ لأنك حر في اختيارك للأشياء التي انتهت بك إلى هذا الجوهر، وواضح أنك قد أخذت أحسن ما وجدت في هذه الدنيا، وهنا يقول سارتر بالحرف:
ليس الإنسان شيئا أكثر من أن يكون المشروع الذي شرعه وخططه لنفسه، ووجوده نفسه ليس قائما إلا على الحدود والقياسات التي يحققها لنفسه، وهو إذن ليس شيئا أكثر من مجموع أعماله، ليس شيئا أكثر من حياته.
نحن أحرار؛ إذ نحن نختار أحسن ما نجد فنخطط مشروع حياتنا، وإذن نحن نخترع شخصيتنا. أجل، إن سارتر يقول: إن الإنسان يخترع الإنسان. ويقول بالحرف:
ليس الإنسان شيئا آخر غير مجموع مشروعاته، هو مجموع علاقاتها الواحد مع الآخر.» وهو يلحظ هنا أن هذا المذهب يكرهه كثيرون ممن لن يصيبوا نجاحا في الحياة، ولكننا نحملهم مسئولية فشلهم؛ لأنهم أساءوا الاختيار حين اختاروا عملا معينا يرتزقون منه، أو أخلاقا معينة اتخذوها للسلوك العام أو الخاص، أو حين اختاروا زوجاتهم أو أصدقاءهم أو نحو ذلك، ويقول: «هاك رجلا يرتبط بعمل ويؤدي خدمة، وهو بهذا قد رسم حياته بل ليس هناك من حياته ما يزيد على ذلك، وواضح أن هذه الفكرة تبدو قاسية عند أولئك الذين لم ينجحوا في الحياة.
ما هي النقطة البؤرية عن سارتر؟
هي إلحاده، هي أن يقول إننا - نحن البشر - يتامى في هذا الكون ليس لنا سند نستند إليه في اتخاذ الأخلاق أو تعيين الأهداف، «نحن همل» نحن سدى، قد حكم علينا بالحرية، هي حكم علينا، وهي ليست ميزة لنا.
ولذلك، لأننا أحرار، نحن في قلق، نحن في حيرة ، كيف أختار؟ كي أخطط حياتي؟ كي أنجز مشروع حياتي؟
ويتذكر سارتر هنا قول دستوفسكي: «إذا لم يكن الله موجودا فكل شيء «يجوز»؛ أي إن الإنسان عندئذ يصبح مجرما يرتكب ما يشاء من جرائم كما تمليها عليه شهواته.» ولكن سارتر يرد فيقول: لا، إنما الإنسان حر؛ لأنه مسئول، وهذه الشهوات لا تقود الإنسان، إنما الإنسان هو الذي يقودها، وهو مسئول عن التصرف بها.
هذه المسئولية هي التي تدفعه في النهاية إلى أن يكون مسئولا عن المجتمع؛ لأنه ما دام يختار أحسن الأشياء لنفسه فهو أيضا يختار هذه الأشياء ذاتها للمجتمع الذي يعيش فيه، وهو يقول بالحرف:
إننا حين نطلب الحرية لأنفسنا نجد أنها تتوقف على حرية الآخرين كما تتوقف على حريتنا.
وهذا عنده الرد الكافي على دستوفسكي. وإليك منه هذه المقتبسات المثيرة:
يجب أن نجعل الاختيار للأخلاق مثل صياغة العمل الفني، نصوغ حياتنا كما لو كانت تحفة فنية.
ثم يقول:
يصف الوجوديون الرجل الجبان بأنه هو المسئول عن جبنه، وهو ليس جبانا لأن له قلبا أو رئة أو مخا، ليس جبانا لأن له نظاما فسيولوجيا معينا؛ وإنما هو جبان لأنه بنى نفسه على هذه الصورة بأعماله، وأيضا «الجبان قد صاغ نفسه بالجبن، والبطل قد صاغ نفسه بالبطولة.
هو مذهب انفرادي ممعن في الانفرادية، كأن المجتمع ليس مسئولا عن الفرد، وأن الفرد ليس مسئولا عن المجتمع. وما دام الشأن كذلك فأنت مضطر إلى أن تقول إنك حر، وإنك تختار، وإنك تجمع حياتك، وإنك مسئول عن كل ميزاتك أو نقائصك.
اعتبر كلماته هذه: «أنا محتاج إلى أن أعين القيم الأخلاقية، وإذن يجب أن نعتبر الأشياء كما هي في الواقع، وإذا قلنا إننا نخترع هذه القيم الأخلاقية فمعنى هذا أنه ليس للحياة أولا معنى؛ أي قبل أن تولد أنت لم تكن الحياة شيئا له معنى، والقيمة الأخلاقية ليست شيئا أكثر من هذا المعنى الذي تكسبه أنت للحياة. وإذن تجد أنه من الممكن إيجاد مجتمع بشري على هذا الأساس.»
أصحيح هذا؟ هل يمكن إيجاد مجتمع بشري إذا كنا نفرض قبل كل شيء أن كل إنسان حر في أن يخترع أخلاقه بنفسه لنفسه؟
إن هذا إمعان في الانفرادية التي قد تنتهي بالفوضى الاجتماعية والأخلاقية. •••
إني عندما أتأمل الوجودية التي طغت على الباريسيين هذه الأيام، أراني أفتقد فيها الفلسفة فلا أجدها، وأنتهي إلى أنها «مذهب» ولكنها مذهب ضار.
ذلك أن الفلسفة تمتاز بأنها يمكن البرهنة على صحة قواعدها، ولكن الوجودية تلقي بقواعدها كما لو كانت عقائد دينية، وإن خلت من الأساس للأديان الكبرى من حيث الإيمان بالله. أما أنها مذهب ضار فذلك لإسرافها في الفردية، فالإنسان عند الوجوديين مسئول أمام نفسه ولنفسه فقط، وليس مسئولا أمام المجتمع ولا أمام الله.
ثم هي مع ذلك تفرض للإنسان حرية الاختيار، كأن المجتمع بعاداته ولغته، وسني الطفولة التي تتكون فيها المركبات وتكاد تتجمد، والوسط الثقافي والاجتماعي، ووطأة الحوادث وتنوعها، كل هذا لا يؤثر في تكوين الفرد أو توجيهه؛ إذ هو حر في الاختيار. وينسى سارتر أنه اختيار الضرورة، اختيار الجبر.
ولكن السؤال هنا: لماذا نجحت الوجودية في فرنسا بل أوروبا؟
اعتقادي أن نجاحها يرجع أولا إلى التفكير المادي الذي عم أوروبا وجعل الأوربيين ينفرون من الغيبيات بأنواعها جميعا. ويرجع ثانيا إلى إحساس الزهو الذي تضفيه الوجودية على المؤمن بها، من حيث إنه مستقل في هذا الكون له حق الاختيار دون أية قوة أخرى. ويرجع ثالثا إلى اليسر البديع في أسلوب سارتر الذي يجعل الأستاذ والطالب والحوذي والسمكري يفهمونه بلا استغلاق، ولعل الوجودية أول ما فهموه من أنواع الرطانة الفلسفية، وهم بهذا الفهم سعداء مزهوون. ويرجع هذا النجاح أخيرا إلى أنها تناقض الأخلاق الاشتراكية التي تقول، أول ما تقول، بأن الإنسان قد تكون بالمجتمع ثم هو يجب أن يكون المجتمع الأمثل.
ومعنى هذا أنه أصبح للوجودية معنى سياسي، حزبي؛ فهي لذلك تتسلسل إلى المنابر ويأخذها الخطباء بالقدح والمدح وتذكر كلماتها وعقائدها أيام الانتخابات البرلمانية؛ ولذلك هي أكثر من «فلسفة»، هي كفاح، هي سياسة، هي حزبية. •••
ولو كنت أخاطب الشبان وأنشد لهم القوة والمجد لدعوتهم إلى الوجودية، وعندئذ أكون معتمدا على ما يسميه القانونيون «أكذوبة شرعية»؛ أي أكذوبة أهدف منها إلى أن أجعل الشاب يحس أنه مسئول، وأنه يستطيع أن يتسلط على القدر، ويصوغ حياته كما يشاء، وأن عليه أن يأخذ حياته بالجد والبصر؛ إذ هو مستقل، وهو حر، وهو قادر، إذا شاء أن يصل إلى أعلى قمة في المجتمع الذي يعيش فيه.
وحين أقول هذا القول أعرف أني، من حيث الفلسفة والسيكلوجية والاجتماع كاذب؛ إذ إن الإنسان ليس حرا وأن الحقيقة أن المجتمع يصوغه.
وموقفي هنا لا يختلف عن موقف القضاء، فإننا نحاكم المجرمين «كما لو كانوا» مسئولين ليس للمجتمع تأثير عليهم، وعلى هذا الأساس نعاقبهم.
وهكذا الشأن أيضا في الأخلاق يجب أن نقول إن كل إنسان مسئول عن أخلاقه، ونعامله كما لو كان حرا قد اختار هذه الأخلاق، وإذن لا تزيد الوجودية على أن تكون مذهبا ارتقائيا في الأخلاق ووسيلة إلى بعث النشاط والحيوية والجد. •••
سبق أن قلت إن «إلحاد» بول سارتر يعد نقطة بؤرية في فلسفته، ولكننا يجب أن نبين هنا أن هذا الإلحاد ليس هوى وليس طارئا؛ لأنه إنما يتفق ويتناسق مع فلسفته إذ هو يقول: إننا نوجد أولا ثم نتجوهر ثانيا.
أي: الوجود، الظاهر لنا، نعرفه أولا.
ثم الجوهر، أو الماهية، أو الأصل خلف الوجود، نعرفه ثانيا إذا استطعنا ذلك. وإذا عددنا أن الله هو أصل الكون فمحاولتنا لأن نعرفه يجب ألا تكون بداية البحث؛ لأن بداية البحث هو الوجود الظاهر وليست الماهية المستترة، بل ليست هناك عند سارتر ماهية لأي شيء، وإنما هناك وجود فقط. وقد نقول إنك تتجوهر بعد أربعين سنة، ولكن هذا المعنى مجازي هنا؛ لأننا نقصد منه أنك تتكامل وتصل إلى أقصى كفاءاتك وميزاتك.
ولذلك سارتر ينكر الإيمان بالله، بل هو يكافح هذا الإيمان. •••
ويحب أخيرا ألا نقلل من إقدام سارتر على أن يكتب الفلسفة للشعب، أو على حد قوله إنه قد أدخل الفلسفة في السوق، فإنك تقرؤه فلا تجد تلك الكلمات النابية أو العبارات المعقدة التي تجدها عند من كتبوا قديما حين كانت الفلسفة تكتب للفلاسفة وليس للشعب، أو كما كان يكتب الفقه للفقهاء، وليس للشعب.
وهو هنا مبتكر ونافع وجريء، ولكن الأدباء العصريين قد سبقوه بأن صاروا يكتبون منذ نحو مائتي سنة للشعب أيضا. وهنا فرق عظيم بين الأدب الأوروبي والأدب العربي، أو على الأقل الأدب العربي القديم، فإن أمثال المتنبي والجاحظ والفرزدق وابن الرومي كانوا أدباء يكتبون لأدباء مثلهم وليس للشعب، بل إن المتنبي كان يفخر بأن الأدباء أنفسهم لا يفهمونه؛ إذ يختلفون عن معانيه ويناقشونها وهو قاعد هانئ.
وهذا التغير إنما يعزى إلى أن «الشعب» لم يكن موجودا عند الأمم القديمة، والذي أوجده في أوروبا هو الحركة الصناعية الجديدة التي عممت الثراء بين أفراده ثم عممت التعليم، فصار الأدباء والفلاسفة يكتبون للشعب وليس للأدباء والفقهاء والفلاسفة.
Page inconnue