الإنسان، ما أعظمها كلمة!
أجل، إن الإنسان سينتصر على بلادته وركوده.
واقعة جوركي جاءت من حياته السفلى مع أخواله وأعمامه، رومانسيته جاءت من آماله، بعد أن عرف الثائرين الاشتراكيين، وبعد أن اشترك معهم بعقله وجهده ، كان يعيش في الظلام الرأسمالي، ويؤمل في النور الاشتراكي، كان يعيش في الرق والفاقة، ويفكر في الحرية والرفاهية. إن القبح في الواقع جعله - في الخيال - يفكر في الجمال، وكان اليأس يبعث فيه الأمل. كان يحلم وهو في عبودية المجتمع الروسي أيام القيصر في سيادة الإنسان على الطبيعة وعلى الآلة، وفي قدرة الإنسان بعقله على محو الخرافات.
يجب ألا نتعب من تكرار القول بأن الأديب يجب أن يستنبط من شخصه «نفسا أدبية» قبل أن يؤلف في الأدب، يجب أن يكون رجلا مكافحا وإنسانا اشتراكيا، فأين هي عوامل الرجولة والإنسانية في جوركي؟ لقد صار يتيما وهو في السنة السابعة من عمره، وصار عاملا يكسب عيشه وهو في التاسعة من عمره، وبعد ثلاث سنوات من العمل المتواصل، وفي حيرة وتنقل من عمل إلى آخر وفق اختياره؟ هذه الأعمال كانت بعد ذلك المواد الخامة التي صنع منها قصصه. وفيما بين عامي 1904 و1913 أسس واشترك في دار نشر تدعى «زنانيا» لنشر الأدب الذي يحمل دلالة اجتماعية. وبقي طيلة حياته بعد ذلك يفهم من الأدب أنه وسيلة لتغيير المجتمعات والناس. وبقي أربعين سنة يكافح مرض السل (الدرن) الرئوي. وفي سنة 1908 وصف الشعب في كتابه «الاعتراف» بأنه «خالق الآلهة، خالق المعجزات.» ويقول فيه أيضا: «إن قوة الشعب حين يسترشد بالإرادة الذكية، لا تعرف حدودا تعوقها عن التقدم.»
هذا الأمل العظيم إنما أحس به بعد الكوارث العظمى التي جعلته يتألم من الفقر في صباه، ومن المرض أربعين سنة حتى حاول الانتحار والفرار من الدنيا، ولكنه خرج من هذا اليأس إلى الأمل الواسع، فأصبح أعظم مرشد للناس يرشدهم إلى طريق الخير الاشتراكي، وما زلنا نحن، بعد وفاته نسترشد به ونبني، أو نحاول أن نبني حياتنا على غراره. •••
ولد جوركي في عام 1868 ومات في عام 1936، ونفهم من هذين التاريخين أنه أمضى 32 سنة في القرن التاسع عشر و36 سنة في القرن العشرين، ونفهم أيضا أنه ألف قبل الثورة الروسية في عام 1917، وبعدها، فكان من دعاتها المكافحين المضطهدين ثم كان بعد ذلك من أبنائها الموالين. كان مولده، فيما كنا نسميه قبل الحرب «نجني نوفجورود» ثم صارت بعد الثورة تسمى باسمه «جوركي» على نهر الفولجا الذي نجد ذكره يتكرر في مؤلفاته، وكانت روسيا قد ألغت الرق الإقطاعي، ولكن ذكراه كانت لا تزال عالقة بالأذهان، ورأى جوركي في صباه ناسا كانوا أرقاء، لهم أخلاق إقطاعية في الدرجات السفلى، ولكنه رأى أيضا بزوغ الحركة الصناعية والرواج التجاري في المدن حيث المصانع والمتاجر.
كانت روسيا في فترة الانتقال تصطدم فيها الأخلاق الإقطاعية التي تعتمد على الإيمان والتواكل والمحافظة التي تقارب الجمود، والأخلاق الجديدة؛ أخلاق المتجر والمصنع. وكلنا - نحن أبناء القاهرة الذين أمضوا بعض حياتهم في الريف - نعرف الفرق بين الفلاح، هذا الإنسان القديم، الذي يخرج علينا بأخلاق الفراعنة، والذي تغلبت عليه الأخلاق الإقطاعية، ثم هذا الإنسان الجديد العامل في المصنع أو المتجر، بل أيضا صاحب المصنع أو صاحب المتجر، هؤلاء جميعا قد تغلبت عليهم الأخلاق التجارية الصناعية، وهم يعيشون في المدينة الصناعية المنبهة بينما الفلاحون يعيشون في القرى النائمة الغافلة.
رأى جوركي القرية التي لم تكد تتخلص من أخلاقها الإقطاعية، كما رأى المدينة الصناعية. ومع أنه عرف أن مكانه هو المدينة، هو الحضارة، هو الصناعة، هو استقلال الشخصية، هو التعقل والتساؤل بدلا من الإيمان والتسليم، فإنه مع ذلك وجد في المدينة ما يكره، وأعظم ما كان يكره هو المتاجر والعقلية التجارية.
كان ظهور المصانع نتيجة لإلغاء الإقطاع، وكذلك كان ظهور المتاجر، وهنا تثب إلى أذهاننا كلمة عصامي، أو الرجل الذي يصنع نفسه، ينشأ فقيرا، ثم لا يزال يجد حتى يجمع الثروة الطائلة، ثم يحصل على لقب ويشيد كنيسة في بلدته، هو رجل متحرر من قيود الإقطاع، يجد جيوشا من العمال يختار منهم ويعين الأجور لعملهم ويجمع للثروة بعرقهم وجهدهم. ونحن نعرف العصاميين في بلادنا، ينشأ أحدهم عاملا يقطع الحجر للبناء أو ينقله إلى القاهرة، ثم لا يزال يقتر على نفسه حتى يجمع ثمن عربة يجرها حمار أو جواد للنقل، ثم يسرف في التقتير حتى يشتري عربة نقل كبيرة، ولا تمضي عليه السنوات القليلة حتى يكون مقاولا يبني العمارات. والثروة الضخمة تأتي إليه عندئذ بلا عائق؛ لأنه يستطيع أنه يقتطع من الأجور مقدارا يدخره، ثم يعود «رأس مال».
قبل أكثر من خمسين سنة قرأت كتابا ترجمه «يعقوب صروف» مؤسس مجلة «المقتطف» عن صمويل سميلز، وكان عنوانه «سر النجاح»، وفي «سر النجاح» هذا قصص متوالية للعصاميين الإنجليز الذين نهضوا من الفقر إلى الثراء، كانوا عمالا فأصبحوا سادة، يملكون المتاجر أو المصانع ويستخدمون العمال. قصص نهوض رأس المال في القرن التاسع عشر.
Page inconnue