وما زالت أوروبا حتى هذا العام في سبيل هذه النهضة تغير عقائدها وأسلوب معيشتها، وهذا الزواج الانفصالي هو بعض تجاربها التي سوف تثبت الأيام أنها حسنة أو سيئة. والفرق بين أوروبا وأقطار الشرق أن الأولى دائبة في التجارب، تجدد وسائل عيشها وتغير في مؤسساتها، أما الشرق فيضفي على مؤسساته قداسة تجمد تطوره وتجعل أبناءه يعيشون في عام 1951، كما لو كانوا يعيشون في عام 951؛ أي قبل ألف سنة.
وقد رأى الأوربيون أن العائلة كانت في الماضي تربي الشخصية، أما الآن فإنها تعوق هذه التربية؛ لأن الإنسان الجديد قد زاد إحساسه الاجتماعي عما كان عليه قبل مائة سنة، فهو في المجتمع بذهنه وجسمه في عصرنا أكثر مما كان من قبل؛ لأنه يشترك في السياسة والتطور الاجتماعي، ويشتبك في المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
والعائلة بتأليفها الماضي هي إلى حد ما ضد المجتمع، كما نرى مثلا في ذلك الرجل العائلي المسرف في التزام بيته، من مكتبه إلى بيته، يعيش مع أولاده، ولا يفكر في غير سعادتهم، فهو «فاضل» من الناحية العائلية، ولكن اهتماماته الاجتماعية في هذه الحال ضعيفة.
ونحن نلاحظ أنه عندما يقوى المجتمع، ويتولى الحكم، وتكون له الكلمة العليا كما هي الحال في الأمم الديمقراطية، بريطانيا وفرنسا، والولايات المتحدة، تضعف الروابط العائلية؛ إذ يكثر الطلاق، وأيضا يتجه الرجل كما تتجه المرأة إلى نشاط آخر خارج البيت. ولكن ليس شك أن الرجل الاجتماعي، وكذلك المرأة الاجتماعية، كلاهما يمتاز بشخصية أكبر وأنضج من الرجل العائلي أو المرأة العائلية، وخاصة إذا كان هذا المجتمع حرا لا تدوسه حكومة مستبدة، ولا تطغى عليه قوات بوليسية تحرمه تطوره وارتقاءه، إننا نحس حنينا نحو العائلة، وما فيها من استمتاعات الطفولة بين الأبوين، ولكننا ننسى أن الأم في السنين الأولى من العمر هي كل شيء، وأن قيمة الأب ضئيلة، والزواج الانفصالي، كما هو شائع في أيامنا في الأمم الغربية، يجعل التصاق الأم بأطفالها مكفولا كما كان الشأن قبلا.
وبالطبع، هذا الزواج الانفصالي لا يمكن أن ينشأ، إلا إذا كان الزوجان يريان ضرورته لرقيهما، أما إذا لم يجدا هذه الضرورة فإنهما يعيشان معا، وأغلب الظن أن هذا الزواج الانفصالي لا يزيد في الوقت الحاضر على واحد في المائة، أو أكثر أو أقل قليلا في الأمم الغربية التي أشرنا إليها؛ وذلك لأن هذا الإنسان الجديد الذي ارتقت شخصيته وزاد إحساسه الاجتماعي على إحساسه العائلي لا يمكن أن يزيد على واحد في المائة من السكان في أرقى أمة.
وعبارة «الإحساس الاجتماعي» تعني الاهتمامات المتعددة بالعلم والفلسفة، والفن، والاختراع، والاكتشاف؛ لأن هذه الاهتمامات تحتاج إلى إرصاد القوى كلها لإتمامها في خلوة واستقلال. وقد كان هافلوك إليس من هذه الناحية إنسانا جديدا، ولكننا لا نستطيع أن نبت برأي في هذه الجدة، هل هي للسعادة والخير، أم للتعاسة والشر؟
جوركي والأديب المكافح
في القرن التاسع عشر، وخاصة في نصفه الثاني، كانت روسيا التي هي الآن جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفييتي، تتنازعها حركتان أدبيتان - أو الأحرى اجتماعيتان - إزاء ضغط الثقافة الأوروبية التي كانت تزحف إليها من أوروبا الغربية، والتي فتح لها بطرس الأكبر صدره حين أراد أن ينقل روسيا من الشرق إلى الغرب.
وكان إزاء هذا الضغط الزاحف، تنشط حركة أخرى يقول دعاتها إن الروس صقالبة لا شأن لهم بالأوروبيين، وإن لهؤلاء الصقالبة روحا وتقاليد وعادات يجب على الروس أن يحافظوا عليها وألا يتلوثوا بالحضارة الأوروبية الفاسدة.
وكان تولستوي ودستوفسكي داعيتي هذه الحركة الصقلبية، كما كان تورجنيف وجوركي داعيتي الاتجاه الأوروبي، وكان التصادم الفكري بينهما كثيرا، وهذا التصادم قد رأينا مثله في مصر، ففي الخمسين أو الستين سنة الماضية رأينا دعاة السفور للمرأة، مثل قاسم أمين، يتجهون نحو الغرب ويقولون بالأخذ بالحضارة العصرية، كما رأينا دعاة الحجاب، مثل طلعت حرب، يقولون بأننا شرقيون لنا تقاليدنا التي تفضل التقاليد الغربية.
Page inconnue