لا نتمالك ونحن نقرأ دستوفسكي أن نقارن بينه وبين نقيضه نيتشه، وقد عرف داعية القوة وعدو المسيحية داعية الرحمة والمسيحي الأول من إحدى قصصه. والعجب أننا على الرغم من هذا التناقض بينهما نجد اشتراكا في الأسلوب الفكري ، حتى لقد أحب نيتشه دستوفسكي وقال عنه: هو الإنسان الوحيد الذي علمني شيئا عن السيكلوجية.
وهما يشتركان في الكراهة للحضارة العصرية، ولكن لسببين متناقضين، فإن دستوفسكي يكره أوروبا؛ لأنها تركت الإنجيل والمسيح، ونيتشه يكرهها لأنها اعتنقتهما، فالأخلاق العامة في أوروبا تحولت في رأي دستوفسكي إلى أخلاق المادية العلمية، والمباراة الاقتصادية، والبعد عن الإخاء والرحمة، ونيتشه يكره الأخلاق الأوروبية؛ لأنها ابتعدت عن الفطرة الحيوانية واستبقت الضعفاء والعجزة والمرضى الذين يفسدون المادة البشرية؛ لأنها أخلاق مسيحية. ولكنهما يتفقان من حيث إن لكل منهما رؤية بشرية، فكلاهما حالم، ولكن حلم دستوفسكي هو المسيحية العامة، وحلم نيتشه هو تنازع البقاء. وقد قال كلاهما: إن البطولة خير من السعادة، ولكن البطل عند دستوفسكي هو ذلك الذي يضع إحساسه البشري فوق عقله المنطقي، والإحساس هنا هو الرحمة والحب، وكذلك نيتشه يزدري العقل والمنطق، ويقول بالإحساس ولكن إحساسه هنا هو أن الصقر يجب أن يأكل العصفور ولا يرحم.
لقد انتهى رسكلنيكوف في قصة «الجريمة والعقاب» الذي قتل العجوز كي يحصل على مالها إلى أن يجحد عقله ويعود إلى إحساسه، ويرضى بالتكفير عن جريمته في سيبيريا، ولو أن نيتشه كان قد ألف هذه القصة لسخر من هذه النهاية، ولكنه مع سخره هذا، لم يكن ليقبل قتل العجوز؛ لأنه لم يكن داعية للفوضى، وإنما الأغلب أنه كان يطلب نظاما اجتماعيا منطقيا يؤدي إلى الاستغناء عن العجزة الذين انتهى نفعهم للبشر. وحين نقرأ قصص دستوفسكي لا نتمالك أن نحس أنه يريد أن نفهم منه أن الإنسان مزيج من الخير والشر، وأن في نفس المجرم الآثم أو الشرير القارح جواهر من الشرف والبر، وهذا صحيح.
وثلاثة يمثلون العبقرية البشرية، هم نابليون الذي يمثل عبقرية الإرادة، وأينشتين الذي يمثل عبقرية الذهن، وأخيرا دستوفسكي الذي يمثل عبقرية الإحساس.
ثورو ونداء الطبيعة
سبق لي أن أوضحت بعض الأسباب التي تجعلني أحب أحد المؤلفين دون الآخرين، ولكن هناك حالات من الحب تتعمق قلبي وتتغلغل في خلايا مخي بحيث أعجز عن التحليل، فلا أصل إلى الجذور التي تربطني بأحد المؤلفين، وقصارى ما أقول عندئذ إني أحبه كما أحب اللحن الموسيقي العظيم، أو أعجب به كما أعجب بالتمثال الرائع، وأتعلق به برباط من الحنان كما لو كان هذا المؤلف أبا أو أما.
فإني أعجب بتولستوي مثلا؛ لأنه ألف قصة خالدة رائعة تدعي «أنا كارنينا» هي في الذروة من الفن، ولكن حبي له لا ينبني على هذه القصة وحدها، بل أحرى أن تبعث هذه القصة في نفسي إعجابا بقدرته، ولكني لا أحبه لأنه قادر فقط، وإنما لأنه ضعيف عاجز أيضا، قد ارتكب أخطاء وتورط في مشاكل لم يعرف كيف يتخلص منها، فإحساسي نحوه هو الحنان والرقة، هو عندي: بابا تولستوي، لهذه الأخطاء والتورطات نفسها.
عاش تولستوي عيشة الفسق وهو شاب، ثم حاول أن يكون شيخا طاهرا وأسرف في معنى الطهارة حتى قال - وحاول أن يمارس ما كان يقول به: إن الزوج يجب ألا يتصل بزوجته إلا بغية التناسل. ولكن أخفق؛ إذ كان يصارع جسده وهو فوق السبعين، ويعود من هذا الصراع خائبا.
وقضى شبابه وهو لا يكاد يدري أن في هذه الدنيا أديانا يؤمن بها الناس ويجعلون منها دستور حياتهم، حتى إذا اكتهل شرع يشتغل بالدين ويحاول الإيمان، فإذا به يتورط في ارتباكات ذهنية وعادات سلوكية انتهت به آخر حياته إلى اثني عشر يوما من الضلال والدمار، ثم الموت. وكان شريفا له لقب كونت، وعنده آلاف الأفدنة، يستغل عشرات الفلاحين في زراعتها، ثم انبلج له نور جديد، فإذا به يجمع هؤلاء الفلاحين ثم يعرض عليهم أن يوزع الأرض بينهم؛ إذ لا حق له في استغلالهم، ويغادر الفلاحون منزله، وفي نفس كل منهم شك أو شبهة في سلامة عقله. ثم تدري عائلته بما جرى في هذا الاجتماع فتكفه عن التصرف وتمنعه من التنازل عن أرضه، وتستمر على الرغم منه في استغلال الفلاحين. وألف عشرات القصص الخالدة، وكلها فن ومجد وحب، ملأت الدنيا موسيقى وأدخلت السعادة إلى قلوب الملايين من البشر، ثم يختمر في نفسه الإيمان الجديد بأن الناس لا يحتاجون إلى الفن، وإنما يحتاجون إلى الحنان والخير والقناعة وسذاجة العيش، فيكف عن التأليف ويرفض أن يتناول قرشا من أرباحه من هذه القصص، ثم لا يكتفي بهذا بل يعمد إلى شراء الجلود ويصنع بيديه أحذية للفلاحين؛ لأن صنع حذاء يدفئ قدم الفلاح خير من إخراج كتاب يجد فيه القارئ لذة فنية، وتثور العائلة في وجهه، وتضرب عليه حصارا حتى لا يتورط في عمل أرعن جديد. وكان له صديق طبيب من أولئك الرجال الذين يحابي القدر بهم بعض الناس، فهم حب وإخلاص وتضحية، وهم سعادة لأصدقائهم ونور للعقل والقلب.
وكان تولستوي إذا جاءه هذا الصديق شهق شهقة الخلاص، فهو يستقبله ويدخله غرفته ويقفل الباب، ويبقى الاثنان يتناجيان. ولكن زوجة تولستوي لا تطيق كل هذا الحب ينحرف عنها من زوجها إلى هذا الطبيب، فهي تغار وهي تحقد، ثم تنفجر، فتكتب في مذكراتها بأنها نظرت من صير القفل، ولا تشك في أن بين تولستوي وبين هذا الطبيب حبا جنسيا شاذا، وكلا الرجلين قد أوشك على الثمانين. وهذا حقد الغيرة، وعمى الغيرة، وكفر الغيرة.
Page inconnue