ووقفت أمام اللوحة النحاسية التي تحمل اسمه أفكر، ولا أفكر، وقلت لنفسي في جرأة الضعيف، الذي يريد أن يمنح نفسه بعض الشجاعة: فلأدخل ... ماذا سيحدث؟ هل ستنطبق السماء على الأرض؟! لن يحدث شيء، سوف يقابلني بفتور غاية ما في الأمر، أو سوف يقابلني بحرارة أكثر ما في الأمر، ولن يكون هناك فارق كبير عندي بين هذا وذاك؛ فلقد انتهى ضياء من حياتي، وخرج من نطاق آمالي وأحلامي.
لكني أريد أن أراه، أريد أن أنظر في عينيه، وليكن ما يكون؛ فهو الوحيد الذي أحبه، وهو الوحيد الذي يفهمني، وتذكرت كرامتي التي منعتني من لقائه طوال هاتين السنتين.
ولكن اليوم، بل هذه اللحظة، لا أستطيع أن أراه، ولا أرى دخلا للكرامة في ذلك؛ فأنا لا أريد أن أتزوجه، فهو رجل متزوج، وإن لم يكن متزوجا فلست أفكر في الزواج منه.
أنا لا أريد سوى أن أراه وأحادثه، ودفعت الباب برفق، واخترقت الدهليز الطويل الذي يقود إلى حجرته، ورأيت باب حجرته مغلقا فانتابني اليأس، لكن الأمل دفعني إلى أن أدفع بابه فانفتح ، وخفق قلبي بشدة كأنني مقدمة على عمل جلل، وليست مجرد زيارة قصيرة لدقائق.
ورأيته جالسا إلى مكتبه فاشتدت خفقات قلبي، ورفع رأسه من فوق الأوراق المتراكمة على مكتبه، ورآني، وظل برهة قصيرة محدقا في وأنا واقفة على عتبة الباب لا أستطيع أن أدخل ولا أن أخرج، كأنما شلت قدماي، ثم أفاق لنفسه، وسمعته يقول وهو يقف ويقبل نحوي باسما: أهلا شوقية، اتفضلي.
وتحركت نحوه في بطء، وأنا لا أدري تماما بكياني، واقتربنا من منتصف الحجرة، ولم يكن يفصلني عنه إلا خطوة واحدة، ورأيته يمد يده إلي، ورفعت يدي لأصافحه فأحسست بها ثقيلة كأنها نصف مشلولة، واستقرت يدي في يده برهة قصيرة، أحسست فيها بكل عواطفي القديمة تتقد فجأة، ولم أستطع ... وجدتني من حيث لا أدري بين ذراعيه وفي أحضانه، رأسي على صدره العريض، وشفتاه الدافئتان تلثمان كل جزء من وجهي وشعري ... ودموعي تبلل وجهي!
وأفقت لنفسي بعد لحظة ... آه ... ما هذا الذي فعلت؟ وسحبت نفسي منه شيئا فشيئا، وابتعدت عنه، وجلست على كرسي رأيته أمامي، وجلس هو إلى جواري، وقلت بعد فترة صمت في صوت ضعيف ممزق: ضياء، أنا آسفة لأنني أتيت إليك اليوم، لكني تلقيت صدمة ثانية من «رءوف»، و...
وقاطعني قائلا: رءوف؟ من هو رءوف؟ - رجل مثل كل الرجال، عرفته صدفة بعد أيام من قراءتي لخبر زواجك، وكنت يائسة مغضبة مصدومة، وكان رقيقا مهذبا لطيفا، ورحبت بصداقته ثم حبه، الحق أني لم أحبه يا ضياء، لكني كنت في حاجة إلى أحد، رجل أو امرأة؛ ليسري عني، ليحدثني، ليملأ الفراغ الذي خلفه فراقك في حياتي.
وكان رءوف رقيقا حنونا، وكنت في حاجة إلى الرقة والحنان، وأحبني، أو هكذا قال، ولم أنفذ إلى أعماقه لأعرف هل هو صادق أم كاذب، ماذا كان يهمني من أعماقه؟ فليكن ما يكون، كاذبا أو صادقا، فأنا لا أريد منه إلا أن يظهر لي الحب، أن يعاملني برفق، أن يحنو علي ساعة لقائي به وكفى، لا أريد أكثر من ذلك شيئا.
لقد علمتني صدمتي فيك أن أقنع باليسير، أن أكتفي بالظاهر ولا أنبش في الأعماق، بل أهرب منها حتى لا تصدمني حقيقة أخرى، وقلت لنفسي فلأحاول أن أعيش في سعادة كاذبة على أن أعيش في واقع صادق مؤلم.
Page inconnue