ثمن الكتابة
حنان قليل
كرامة
الطريق
الكوافير سوسو
لن تجديه يا ليلى
ليست عذراء
هيتروفس ... هيتروفس
الشيء الصعب
مجرد صورة
الدوسيه الضائع
ومات الحب
سوسن
فراغ
لا شيء
حينما أكون تافهة
قصة من حياة طبيبة
من أجل من؟
ثمن الكتابة
حنان قليل
كرامة
الطريق
الكوافير سوسو
لن تجديه يا ليلى
ليست عذراء
هيتروفس ... هيتروفس
الشيء الصعب
مجرد صورة
الدوسيه الضائع
ومات الحب
سوسن
فراغ
لا شيء
حينما أكون تافهة
قصة من حياة طبيبة
من أجل من؟
حنان قليل
حنان قليل
تأليف
نوال السعداوي
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمدا لله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير ، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
22 مارس 2017
حنان قليل
كانت تجلس القرفصاء على بلاط الحمام البارد، وجسمها الضئيل الضامر ينتفض من البرد، وأسنانها تصطك ...
وأخذت تتلفت حولها في الحمام الواسع مذهولة! أهذا هو الحمام؟! لم تكن تتصور أنه يمكن أن يكون في العالم حمام بهذا الشكل؛ فإن الحمام الوحيد الذي رأته في حياتها هو حمام العمدة، وقد دخلته مرة واحدة صدفة، حينما كانت تلعب «المساكة» مع ابنة العمدة، وابنة شيخ الغفر، ودخلت لتختفي في حجرة في آخر الدوار، قالت عنها ابنة العمدة إنها الحمام، ورأت فيه طشتا كبيرا وزيرا، وفنطاسا ضخما في نهايته صنبور صغير، ولم تكن قد رأت صنبورا قط في حياتها، أو حماما، وكان كل ما رأته في دار أبيها طشتا وكوزا من الصفيح، تنقلهما أمها من قاعة إلى قاعة، كلما رغب فرد من أفراد البيت في الاستحمام، وكانت ترى أمها تضع في هذا الطشت نفسه الدقيق لتنخله، وفي موسم الحصاد ترى الطشت مملوءا بالشعير، وفي موسم «الذرة» مملوءا «بالذرة».
وتلفتت حولها في دهشة، ومسحت بطرف جلبابها عينيها الملتهبتين وأنفها، وأخذت تتأمل ذلك الشيء الأبيض اللامع، الذي يشبه الحوض الواسع، والذي لو ملئ بالماء لغرقت فيه، وتلك الصنابير الفضية الكبيرة التي تعلوه.
ورأت حوضا آخر صغيرا معلقا في الحائط، تعلوه أيضا صنابير كبيرة براقة، ورأت شيئا عجيبا أبيض، يشبه الكرسي وليس بكرسي، وشيئا آخر يشبه سلطانية الشوربة، ولكنه كبير الحجم جدا، يتسع لسلق جدي أو خروف.
وكفكفت دمعها وأخذت تتحسس بيديها السمراوين الخشنتين، أرض الحمام الملساء الناعمة، في مثل نعومة الصحن المصنوع من الخزف. - بت يا بهية ... يا بهية!
جاءها صوت رفيع حاد من خلال باب الحمام المغلق، فانتفضت لسماع اسمها، ووقفت مذعورة حائرة ... ماذا تفعل؟
أصبح الصوت الرفيع أكثر حدة، فارتجفت بهية وهي تمسك بأكرة الباب البراقة، تحاول أن تلويها لتفتح الباب، ولكن الأكرة أبت أن تتحرك فألصقت فمها بالباب، وقالت بأعلى صوتها، كما كانت تنادي على أمها في الحقل: ده أنا جوة في اللي اسمه إيه الحمام، مش عارفة أطلع.
ووقفت بهية مشدوهة حينما رأت أكرة الباب تتحرك وحدها ثم ينفتح الباب، ورأت أمامها امرأة بضة نظيفة، ثم رأت يد المرأة ترتفع إلى أعلى، ثم تهوي على وجهها النحيل في لطمة قوية! - انتي قاعدة جوة الحمام بتعملي إيه؟ مين قالك تدخلي هنا؟ - معلهش يا ستي، والنبي يا ستي، ربنا يخليكي يا ستي، مش انا والنبي، ده الراجل عبده اللي عندكم قال لي اقعدي هنا لغاية ما ستك تنادي عليكي.
وفهمت بهية منذ ذلك اليوم ما يجب في هذا البيت وما لا يجب، وما عليها أن تعمله وما لا تعمله، ما هو محلل وما هو محرم، وكان يعمل معها في البيت نفسه طباخ اسمه عبده، يبيت في حجرته فوق السطح، وفتاة أخرى كبيرة تبيت معها على دكة خشبية في أحد أركان المطبخ، وأنست بهية إلى خديجة، حتى راحت تروي لها كيف قتل والدها، وهما تتسليان بالحديث قبيل النوم، ولكن خديجة نفرت من الحديث؛ خشية أن يطلع لها عفريت القتيل، وفضلت أن تنام، وسرعان ما كان شخيرها يملأ المطبخ.
وظلت عينا بهية مفتوحتين لا يغلبهما النعاس، وراحت تفكر في أمها، وفي أختها الرضيعة زينب، وهمست لنفسها «يا ترى يا امه بتعملي إيه دي الوقت؟»
وعادت إليها صورة أبيها قبل مقتله بدقائق، وهو يمسك بيدها في السوق، ويضرب بعصاه الأرض في قوة وبأس.
ووقفت عند هذه الصورة لا تجرؤ على الاسترسال في ذكرياتها؛ فلقد بدأت تشعر بالخوف لو أنها استعادت صورة مقتله، وتكورت بجانب خديجة والتصقت بها؛ تريد أن تلتمس من دفئها بعض الطمأنينة والأمن، وأغمضت عينيها لتنام، لكن صورة أمها بثيابها السوداء المتربة وقامتها النحيلة وبشرتها الصفراء تجلس على عتبة الدار وفي حجرها أختها زينب، تمتص اللبن من ثديها الهزيل الضامر، ورأت نفسها تجلس إلى جوارها تنبش في التراب، وهي تحس آلام الجوع؛ إذ مضت أيام كثيرة لم تصب فيها إلا بعض كسرات من الخبز المقدد، وقطعة خيار مخللة عثرت عليها في قاع «الزلعة».
وانتبهت على رجل، أفندي يقف أمام أمها، ومعه نفوسة تاجرة الفراخ، ولم تفهم كل الكلام الذي كانوا يقولونه، ولكنها التقطت كلمة «بهية» من بين كلامهم، فأرهفت السمع لترى ماذا يمكن أن يكون لها من شأن في هذا الحديث الجاد مع هذا الأفندي النظيف.
وسمعت الأفندي يقول: هي سنها كام؟
فأجابت أمها: عشر سنين والنبي.
فقال الرجل: ياه! دي لسة صغيرة قوي!
فأجابت نفوسة: صغيرة إيه يا سي محمد! دي لهلوبة في الشغل تمسح وتغسل، وتحمل المحروسة الصغيرة، دي بكرة تعجبك وتبقى عال قوي، قومي يا بت يا بهية، قومي بوسي إيد سيدك.
وقامت بهية، إنها لا تستطيع إلا أن تطيع بعد أن رأت أمها تنكس رأسها دلالة على الموافقة.
وأخذها الأفندي معه، وقبل أن تمضي معه استدارت إلى أمها الجالسة على عتبة الدار، وفي حجرها أختها زينب قائلة: اقعدي بالعافية يا امه، خلي بالك من زينب.
وسمعت أمها تقول: الله يعافيكي يا بهية، خلي بالك من نفسك.
ورأتها تمسح عينيها وأنفها بكمها، فاستدارت مسرعة، وسارت في أثر الأفندي، وقلبها ينوء بثقل كبير. •••
وفتحت بهية عينيها في الصباح الباكر على صوت رفيع حاد يقول: بت يا بهية، إنتي لسة ما صحيتيش؟
فانتفضت بهية في فزع، وفتحت عينيها ، وحينما رأت المطبخ الواسع، وموقد الغاز، والثلاجة الكبيرة عرفت أنها في مصر، في بيت سيدها محمد أفندي الشهدي، وليس في دارها بقرية كفر خناش، وردت: حاضر يا ستي، أنا صاحية.
وانطلقت بهية إلى سيدتها، فوجدتها مضطجعة على سريرها الوثير، تحتضن طفلتها، وترضعها من ثدي بض سمين. - إنتي يا بت لسة نايمة؟ - لا يا ستي أنا صاحية من الصبح. - خدي اللفف دي اغسليها في الحمام، وانشريها في البلكونة، وبعدين تعالي بسرعة علشان تحملي نوسة. - حاضر يا ستي.
وفي لمح البصر طارت بهية لتفعل ما أمرتها به سيدتها، ثم حملت الطفلة الصغيرة على ذراعيها، ووقفت تهدهدها. - بس يا ستي نوسة بس، بس يا ستي نوسة بس، بس ...
وكفت الطفلة عن البكاء، وأخذت بهية تتأمل وجهها وعينيها وشفتيها، فرأت أنها تشبه أختها زينب شبها غريبا، وخيل لها أنها هي، فاحتضنتها بحنان وقوة إلى صدرها، وقبلتها.
ولم تكد ترفع وجهها عن الطفلة، حتى انتفضت على الصوت الرفيع الحاد يقول غاضبا: إنتي بتبوسيها يا بت يا بهية؟ عمى في عينك، إياك تاني مرة تبوسيها، وللا تقربي وشك من وشها كدة ... فاهمة؟
وقبل أن تنطق بهية بحرف أحست بيد تهوي على وجهها في صفعة قوية. - حاضر يا ستي، معلهش يا ستي، والنبي يا ستي حرمت.
وابتعدت اليد عنها فهدأت دقات قلبها، وانتظمت أنفاسها، وحملت الطفلة بين ذراعيها، وهي تحاول أن تبعد وجهها عنها بقدر ما تستطيع.
وتأملت وجه الطفلة مرة أخرى، فلم تر فيها أي شبه بينها وبين أختها زينب، ورأت في عيني الطفلة استعلاء وقسوة يشبهان الاستعلاء والقسوة في عيني أمها، وشعرت أنها تكره هذه الطفلة وتحقد عليها.
أهكذا يكون جزاؤها؟ إنها لم تفعل شيئا، لم تخطئ، لم تكسر كوبا أو طبقا، لقد قبلت الطفلة فحسب، وقبلتها لأنها تحبها وتحنو عليها، أهكذا يكون جزاء الحب والحنان؟
وأشاحت بوجهها بعيدا عن الطفلة، وأخذت تهدهدها بآلية ليست فيها عاطفة، وتذكرت أختها زينب، ترى من يهدهدها؟ كثيرا ما كانت تسمع بكاءها وهي نائمة على الأرض في صحن الدار ، وقد تعرى ردفاها، وغشي التراب أنفها وفمها، فتجري إليها، وتمسح وجهها، وتهدهدها وتقبلها، وترعاها حتى تعود أمها من الحقل.
ترى من يجري إليها الآن؟ ترى من يمسح لها التراب من فوق أنفها وفمها؟
ونظرت بهية إلى وجه الطفلة التي تحملها، وجه ناعم نظيف بلا تراب، وهي تهدهدها، وتلاعبها كلما همت بالبكاء، أليست أختها زينب مثل هذه الطفلة؟ ألا تستحق أختها هذا الحنان؟
ويصفعونها بعد كل ذلك لأن في قلبها حنانا!
وأحست بهية، طفلة العاشرة، بثورة عارمة تضطرم في أعماقها، ولم تشعر إلا وهي تضع الطفلة على السرير، وقد غمرها شعور بأنها لا تريد أن تحملها بين ذراعيها، ووقفت بجوار الطفلة كالتمثال تنظر إليها في كراهية!
وبكت الطفلة تريد أن تحمل.
وكانت أمها في الحمام، فنادت على بهية بأعلى صوتها: نوسة بتعيط ليه يا بت يا بهية؟
ولم ترد بهية، واقتربت من الطفلة، وأخذت تربت عليها لتكف عن البكاء، لكن الطفلة التي كانت قد تعودت أن تحمل ظلت تبكي وتصرخ، وجاءها الصوت الرفيع الحاد الغاضب: نوسة بتعيط ليه يا بت؟
واغتاظت بهية ... ممن؟ لم تكن تدري، أمن الأم القاسية، التي تناديها غاضبة، أم من الطفلة المدللة التي تريد أن تحمل؟ ولم تعرف تماما ماذا فعلت، لكنها رفعت يدها في الهواء وهوت بها على وجه الطفلة في لطمة قوية، ثم جرت إلى باب الشقة وفتحته، وانطلقت في الشارع تعدو.
ولم تهدأ بهية إلا بعد أن ابتعدت عن بيت سيدها كثيرا.
ورأت رجلا تبدو على ملامحه الطيبة، فسألته عن «الكافوري» الذي يمكن أن يوصلها إلى قرية كفر خناش، وكان الرجل طيبا فدلها على الطريق، وأعطاها بعض القروش.
وجلست بهية على أرض «الكافوري»؛ فقد أبى الكمساري أن يمنحها كرسيا لتجلس عليه؛ لأن القروش التي كانت معها لم تكف لتصرف بها نصف تذكرة، وتبرع لها الكمساري بحيز صغير من أرض العربة حتى تصل إلى قريتها.
ووقفت العربة في «كفر خناش».
وانتفضت بهية واقفة على قدميها، وقفزت من العربة، ووضعت ذيل جلبابها بين أسنانها، وأطلقت ساقيها للريح.
ووجدت باب الدار مفتوحا كعادته دائما، فاندفعت داخلة متلهفة، وقبل أن تصل إلى صحن الدار، سمعت صوت أختها زينب تبكي بحرقة، فجرت إليها، ورأتها كما كانت تراها دائما عارية الردفين، والتراب يغشى أنفها وشفتيها. - يا حبيبتي يا زينب!
وأخذتها بين ذراعيها، وراحت تغمر وجهها بالقبلات، وتنهدت بهية في سعادة؛ إنها تستطيع أن تحب زينب كما تريد، وتحنو عليها كما تريد، وتقبلها كما تريد، لن ينهرها أحد ولن تتلقى عن ذلك صفعات أو شتائم.
وضمت بهية أختها إلى صدرها أكثر وأكثر، وحينما رأت أمها تدخل من باب الدار قالت لها: ماهانتش علي زينب يا امه، قلت اجي اشيلها.
وأجابت أمها والدموع في عينيها: بركة يا بنتي اللي جيتي.
كرامة
كان عقلي مشلولا لا يريد أن يفكر، بل لا يستطيع أن يفكر حتى لو أراد ... وكانت نفسيتي منهارة مهلهلة، فتاتها هنا وهناك في ثنايا أعماقي الحالكة، فلا أهتدي إلى شيء منها.
ولم أكن أحس شيئا إلا قدمي المنهوكتين، وهما تنتقلان بلا وعي في خطوات ممزقة ضالة، وبعد أن همت في طرقات عديدة لا أكاد أتبينها، وجدتني فجأة أمام بابه؛ باب مكتبه، وقرأت اسمه على الرقعة النحاسية الصفراء فارتجفت، وهممت أن أستدير، وأعود من حيث أتيت، فلم أستطع، وقفت أحملق كالمعتوهة في حروف اسمه: «ضياء الدين توفيق» آه! إنه اسمه، إنه هو! إنه مكتبه! باب مكتبه نفسه الذي شهد خروجنا ودخولنا كل يوم لمدة خمس سنوات كاملة. وكثيرا ما كنا نقف أمام هذا الباب في الظلام، ويأخذني بين ذراعيه ويقبلني، وتتراءى لي الرقعة النحاسية وعليها اسمه، وكأنها تهتز من فرط السعادة والنشوة، وتتراقص حروف اسمه وتضيء بنور جميل، فأهمس له قائلة: ضياء ... أحبك! خمس سنوات كاملة، بأيامها ولياليها، أحببته، وعشت لحظات عمري معه سواء كنا معا أو فصلت بيننا آلاف الأميال، حينما كان يسافر، وكثيرا ما كان يسافر في بعثاته الصحفية.
ثم ... آه ... لعلني أنسى!
كان اليوم منذ سنتين، صباح اليوم الذي كنت أستلقي فيه على فراشي، وأتثاءب، وأستعيد في سعادة كلماته الرقيقة لي، وأتحسس موضع شفتيه الملتهبتين على وجهي، وأخذت أقلب صفحات جريدة الصباح في تكاسل لذيذ.
وفجأة خارت قواي، وتوقف قلبي عن ضرباته، وأخذت أذناي تصفران صفيرا عاليا جعلني صماء، واهتزت الكلمات السوداء المطبوعة أمام عيني، لكني استطعت أن أقرأها مرة ومرتين وثلاثا، وأنا لا أحس بنفسي، وكأنني في حلم.
وقرأت للمرة العشرين خبر زواجه وأنا لا أصدق، وظننته رجلا آخر يحمل اسمه، وجريت كالملسوعة إلى التليفون، وقالت لي شقيقته في سخرية لا تخلو من مزيج من الشفقة والتشفي: أيوة ... ضياء ... إنه في بيته يا «شوقية»، لقد تزوج، ألم تعرفي ذلك؟
وكانت بي بقية حياة، فاستطعت أن أرد عليها قائلة: أشكرك.
ولكن ما بالي أقف بعد سنتين من البعد عنه كالمعتوهة أمام باب مكتبه، لا أستطيع الدخول، ولا أستطيع العودة؟ آه ... ليت قلبي يتوقف الآن تماما، فأموت وأقع جثة هامدة هنا، حتى يتعثر بجثتي وهو خارج فيراني، ويرى ماذا فعل بي!
ووقفت أمام اللوحة النحاسية التي تحمل اسمه أفكر، ولا أفكر، وقلت لنفسي في جرأة الضعيف، الذي يريد أن يمنح نفسه بعض الشجاعة: فلأدخل ... ماذا سيحدث؟ هل ستنطبق السماء على الأرض؟! لن يحدث شيء، سوف يقابلني بفتور غاية ما في الأمر، أو سوف يقابلني بحرارة أكثر ما في الأمر، ولن يكون هناك فارق كبير عندي بين هذا وذاك؛ فلقد انتهى ضياء من حياتي، وخرج من نطاق آمالي وأحلامي.
لكني أريد أن أراه، أريد أن أنظر في عينيه، وليكن ما يكون؛ فهو الوحيد الذي أحبه، وهو الوحيد الذي يفهمني، وتذكرت كرامتي التي منعتني من لقائه طوال هاتين السنتين.
ولكن اليوم، بل هذه اللحظة، لا أستطيع أن أراه، ولا أرى دخلا للكرامة في ذلك؛ فأنا لا أريد أن أتزوجه، فهو رجل متزوج، وإن لم يكن متزوجا فلست أفكر في الزواج منه.
أنا لا أريد سوى أن أراه وأحادثه، ودفعت الباب برفق، واخترقت الدهليز الطويل الذي يقود إلى حجرته، ورأيت باب حجرته مغلقا فانتابني اليأس، لكن الأمل دفعني إلى أن أدفع بابه فانفتح ، وخفق قلبي بشدة كأنني مقدمة على عمل جلل، وليست مجرد زيارة قصيرة لدقائق.
ورأيته جالسا إلى مكتبه فاشتدت خفقات قلبي، ورفع رأسه من فوق الأوراق المتراكمة على مكتبه، ورآني، وظل برهة قصيرة محدقا في وأنا واقفة على عتبة الباب لا أستطيع أن أدخل ولا أن أخرج، كأنما شلت قدماي، ثم أفاق لنفسه، وسمعته يقول وهو يقف ويقبل نحوي باسما: أهلا شوقية، اتفضلي.
وتحركت نحوه في بطء، وأنا لا أدري تماما بكياني، واقتربنا من منتصف الحجرة، ولم يكن يفصلني عنه إلا خطوة واحدة، ورأيته يمد يده إلي، ورفعت يدي لأصافحه فأحسست بها ثقيلة كأنها نصف مشلولة، واستقرت يدي في يده برهة قصيرة، أحسست فيها بكل عواطفي القديمة تتقد فجأة، ولم أستطع ... وجدتني من حيث لا أدري بين ذراعيه وفي أحضانه، رأسي على صدره العريض، وشفتاه الدافئتان تلثمان كل جزء من وجهي وشعري ... ودموعي تبلل وجهي!
وأفقت لنفسي بعد لحظة ... آه ... ما هذا الذي فعلت؟ وسحبت نفسي منه شيئا فشيئا، وابتعدت عنه، وجلست على كرسي رأيته أمامي، وجلس هو إلى جواري، وقلت بعد فترة صمت في صوت ضعيف ممزق: ضياء، أنا آسفة لأنني أتيت إليك اليوم، لكني تلقيت صدمة ثانية من «رءوف»، و...
وقاطعني قائلا: رءوف؟ من هو رءوف؟ - رجل مثل كل الرجال، عرفته صدفة بعد أيام من قراءتي لخبر زواجك، وكنت يائسة مغضبة مصدومة، وكان رقيقا مهذبا لطيفا، ورحبت بصداقته ثم حبه، الحق أني لم أحبه يا ضياء، لكني كنت في حاجة إلى أحد، رجل أو امرأة؛ ليسري عني، ليحدثني، ليملأ الفراغ الذي خلفه فراقك في حياتي.
وكان رءوف رقيقا حنونا، وكنت في حاجة إلى الرقة والحنان، وأحبني، أو هكذا قال، ولم أنفذ إلى أعماقه لأعرف هل هو صادق أم كاذب، ماذا كان يهمني من أعماقه؟ فليكن ما يكون، كاذبا أو صادقا، فأنا لا أريد منه إلا أن يظهر لي الحب، أن يعاملني برفق، أن يحنو علي ساعة لقائي به وكفى، لا أريد أكثر من ذلك شيئا.
لقد علمتني صدمتي فيك أن أقنع باليسير، أن أكتفي بالظاهر ولا أنبش في الأعماق، بل أهرب منها حتى لا تصدمني حقيقة أخرى، وقلت لنفسي فلأحاول أن أعيش في سعادة كاذبة على أن أعيش في واقع صادق مؤلم.
ولكن لم أستطع يا ضياء، لم أستطع أن أغير نفسي طويلا، سرعان ما أفقت لنفسي، أو أفاق هو لنفسه، ولعله كان أيضا هاربا مثلي من صدمة، ويكتفي مني بظاهري ولا يبحث عن أعماقي، أو لعله كان يريد أن ينسى بي حبا قديما كما كنت أفعل، ومثل هذه الأشياء لا تدوم طويلا يا ضياء.
وكان ضياء يجلس إلى جواري، يستمع إلي وفي عينيه ألم بليغ، وأحسست بسعادة خفية حينما لمحت الألم في عينيه، لم أدر لماذا؟ لكني شعرت أنه كان يحس، وأنا أتكلم، أنه المسئول عما حدث وأنه سبب شقائي.
ضياء يتألم! ومن أجلي!
هذا هو ضياء كما عرفته، وكما أحببته، وهذه هي نظرة الألم في عينيه من أجلي لم تتغير ولم تتبدل، كأنه لم يصدمني أبدا، كأنه لم يهجرني أبدا، كأنه لم يتزوج امرأة غيري!
ولم أعاتبه، بل لم أفكر في أن أعاتبه، رغم أنني كنت أنوي ذلك في أول لقاء لي بعد زواجه، لكني نسيت أنه خان عهدي، أحسست من نظرة الألم في عينيه أنه إنسان صادق، أنه لا يستطيع أن يخدع أحدا، لا شك أنه أجبر على الزواج إجبارا، ولعل وراء ذلك سببا لا أعرفه!
وعاد إلي حبي القديم له دفعة واحدة، ورآه في عيني، فهو يفهم نظراتي، وقلت له: ضياء، إنك رجل فاضل، أفضل رجل عرفته، إنك إنسان نبيل، أنبل إنسان عرفته!
كيف قلت له ذلك؟ لم أدر!
أفضل رجل! أنبل رجل! كيف؟ هو الذي لفظني كالنواة، وتزوج امرأة غيري دون أن يطلعني على الخبر!
لم أعرف كيف قلت له ذلك، لكني أحسست في عينيه الصدق، والفضيلة، والنبل، وأحسست في لمسات يديه العاطفة الحقيقية، التي لا تعرف الزيف أو الكذب!
ومضى وقت الزيارة سريعا، ولم أشعر إلا وأنا أقف وأقول له: طيب يا ضياء ، أشكرك على حسن استقبالك لي، وأرجو لك حياة سعيدة.
ومددت له يدي لأنصرف، وظل ممسكا بها بعض الوقت، ثم قبلها أصبعا أصبعا، كما تعود أن يفعل طوال سني حبنا، وقال لي: شوقية، هل سأراك مرة ثانية؟ - طبعا. - متى؟ - قريبا جدا.
وهممت بأن أخطو نحو الباب، لكني تذكرت شيئا فجأة فقلت له: على فكرة، ما رأيك في الزواج بعد أن تزوجت؟ هل أنت راض عنه؟
ولم يرد بسرعة، ولم يبتسم كعادته، أخذ يفكر برهة قبل أن يجيب، وأحسست من تردده أنه يحاول أن يغير شيئا مما كان يريد أن يقوله، وأشفقت عليه من أن يقول ما يريد، وأشفقت على نفسي من سماع ما سيقوله، فقلت له بسرعة: لا تفكر كثيرا يا ضياء، فأنا لا أريد أن أسمع الرد أيا كان، سأحاول أن أراك مرة أخرى.
وخرجت مسرعة، خرجت أعدو كأنما ورائي شبح يطاردني، وواصلت عدوي حتى وصلت إلى بيتي، وجريت إلى حجرتي ألهث وأغلقتها على نفسي. آه ... ما هذا الذي فعلت؟
وتقلبت في فراشي، ثورة عارمة تجتاح نفسي، ليست ثورة على ضياء، وليست ثورة على رءوف، وليست ثورة على أحد، وإنما ثورة على نفسي، وسمعت كلمة تتردد في أعماقي: كرامة!
كرامة! تلك الكلمة التي ترن فجأة في أعماقي، وتحاسبني بلا رحمة ولا شفقة ... ضياء؟ مرة أخرى ضياء؟ تذهبين إليه! الرجل الذي خان عهدك؟! الرجل الذي أحبك خمس سنوات، ثم تزوج امرأة أخرى في يوم وليلة؟ ثم تتهاوين بين ذراعيه، وتذرفين الدموع بين يديه، وتقولين له أحبك، وتتركين له شفتيك مرة أخرى؟!
ثم تعترفين له بما كان بينك وبين رءوف؟
ما هذا الذي فعلت؟
وأحسست بضغط شديد في رأسي، كأنما يوشك أن ينفجر، وتقلبت في الفراش أبحث عن شيء من الراحة، ووضعت الوسادة على رأسي، وضغطت عليها بكل قوتي؛ لأوقف هذا السيل المتدفق من الأفكار، لكن رأسي ظل مشحونا مضغوطا.
وفجأة دق جرس التليفون، فرفعت السماعة إلى أذني في إعياء، وجاءني صوته نفسه؛ ضياء! الصوت الذي كان يحدثني كل يوم خمس سنوات متتالية، كيف أنساه؟! الصوت العميق الدافئ الحاني، الذي كان متهلفا دائما، كيف أنساه؟! قال بنفس صوته القديم: شوقية، أريد أن أقابلك الليلة، لقد خرجت مسرعة، فلم أقل لك كل ما أريد، هل أستطيع أن أراك الليلة؟
وسكت قليلا لأفكر، وكنت في حاجة إلى شيء يريحني من عذابي، ويخمد تلك الكلمة التي تتردد في أعماقي: كرامة! تلك الكلمة القوية الطاغية التي تسحقني سحقا: كرامة!
وأردت أن أخفف رأسي من ثقله، وقلبي من لوعته، فقلت له وأنا أستعين بكل ما في نفسي من شجاعة وقوة: إني آسفة يا ضياء، لا أستطيع أن أراك مرة أخرى!
ووضعت السماعة في مكانها، وعدت إلى فراشي خفيفة، كأنما فقدت نصف وزني، ووضعت رأسي على الوسادة، رأس هادئ مستقر، وبحثت عن تلك الكلمة الجبارة، التي ترن في أعماقي فلم أجدها، لا أدري أين اختبأت مني، وابتسمت لنفسي في زهو وانتصار وقلت: جبانة! جبانة تلك الكلمة التي اسمها كرامة!
الطريق
- لا أريد أن تحبني، أرجوك ... أنا لست فاضلة كما تظن.
قالت هذه الكلمات، وهي تجلس معه على شاطئ النيل، وتفصل بينهما مائدة صغيرة، عليها زجاجة بيرة مثلجة وكوبان فارغان، وطبق مشهيات «أورديفر» كبير.
ولم يرفع عينيه إليها، مد يده إلى زجاجة البيرة، وملأ الكوبين، ثم ناولها واحدا، وأخذ لنفسه الأخير، وقال وهو ينظر في عينيها، ويقرب كوبه من كوبها: «في صحتك ... وسعادتك.» وصمت قليلا ثم قال: سعادتنا!
وقربت «ليلى» الكوب من شفتيها وأخذت رشفة، وسرت البيرة المثلجة في جوفها الساخن فأنعشتها، وبددت شيئا من ذلك الوجوم الذي كان يملأ نفسها، والتفتت ناحية النيل وهامت نظراتها الشاردة على صفحته السوداء الرقيقة، وهي تمر بين صفين طويلين متقطعين من النور الأخضر الفاتح؛ صف فوقها ثابت واضح، وصف تحتها يهتز ويتعرج كلما هبت نسمة رقيقة، وتمطت، وتنفست، وابتسمت، ثم قالت: إنني أحب الليل.
قال وهو ينظر في عينيها: وأنا أحبك أنت!
وضحكت، ومالت برأسها إلى الوراء، وعاد يقول لها: أهكذا أصبح الحب عندك مهزلة؟
وضحكت مرة ثانية، حتى دمعت عيناها، وكساهما بريق شديد جعلهما يشعان في الليل كفصين من الماس.
وشاركها الضحك، وهو يقاوم في نفسه رغبة، لو أطاعها لقام من مكانه، وذهب إليها، حيث تجلس وأخذ رأسها الصغير بين يديه، وقبل كل جزء في وجهها، حتى عينيها. وبعد فترة صمت طويلة قالت له، وهي تثبت فصيها الماسيين في مكر: وماذا أصبح الحب عندك بعد حياتك العريضة المليئة بالتجارب؟
وشردت نظراته بعيدا في الليل، وهو يداعب شفته السفلى بأسنانه، وتعبث أصابعه الطويلة بشعر رأسه القصير، ثم قال بعد فترة وهو ينظر إليها نظرة عميقة جادة نفذت إلى أعماقها: أصبح كل شيء. - تعني أنني كل شيء لك الآن؟ - بكل تأكيد. - إذن فأنت تعرض علي الزواج. - بكل تأكيد. - هل أنت جاد؟ - كل الجد. - أنت رجل جريء جدا. - لماذا؟ إن معظم الرجال يتزوجون! - إن الرجل الغبي هو الذي يتزوج، والرجل الذكي يتزوج في لحظة غباء!
وضحك، وفرد جسمه الطويل في استرخاء، وأسند رأسه إلى ظهر الكرسي، ثم قال بعد فترة صمت قصيرة، وهو معلق بصره إلى السماء: ماذا كنت تقصدين بأنك لست فاضلة؟ - أنني لست فاضلة. - ماذا تعنين؟ - إنني لا أومن بالحب. إن الحب هو الفضيلة الوحيدة في هذه الحياة، ولكن الرجل والمرأة لا يلتقيان أبدا عند هذه الفضيلة. - كيف؟ - المرأة التي تؤمن بالحب تقابل رجلا لا يؤمن بالحب. وحينما يؤمن الرجل بالحب يقابل امرأة لا تؤمن بالحب. - لماذا؟ - لأن المرأة تبدأ الطريق وهي مؤمنة بالحب، ثم تفقد هذه الفضيلة في نهاية الطريق، والرجل بالعكس، يبدأ بلا فضيلة، ثم يجدها في نهاية الطريق. - وكيف يكون اللقاء بينهما إذن؟
وتوقفت أناملها عن دق المائدة، وحولت عينيها عن السماء إلى الماء، وظلت تنظر في البحر الغارق في الظلام فترة، ثم قالت: حينما تقابل امرأة في أول الطريق رجلا في نهاية الطريق، يصبح الاثنان واحدا ويتزوجان. وحينما تقابل امرأة في نهاية الطريق رجلا في أول الطريق، يبقى الاثنان اثنين، وقد يتزوجان وقد لا يتزوجان. وحينما تقابل امرأة في أول الطريق رجلا في أول الطريق، يصبح الاثنان ثلاثة ولا يتزوجان. - وحينما تقابل امرأة في نهاية الطريق رجلا في نهاية الطريق أيضا ماذا يفعلان؟
وسكتت لتفكر، وثبتت عينيها على كوب البيرة المثلجة، وقد تكثفت عليه قطرات صغيرة من الماء، وأمسكت الكوب، وأخذت رشفة، ثم نظرت إليه، وابتسمت، ثم قالت: يشربان البيرة فقط!
وطافت نظراته على صفحة النيل الهادئة، وقال وهو يمسك ذقنه بيده: وما طول هذا الطريق؟ - ليس له طول ثابت، قد يكون سنة واحدة، وقد يكون عشرين سنة، وقد يكون العمر كله!
ونظر إليها في مكر وقال: وكم كان طول طريقك؟ - ست سنوات. وأنت؟ - لا أعرف، إنني لست فاضلا بعد!
وضحكت في مرح، وشاركها الضحك، ورفع كل منهما كوبه إلى فمه.
ثم قالت وما زالت الابتسامة تضيء وجهها: إذن فقد سبقتك. - إنني أحب المرأة التي تسبقني. - حتى ولو كانت غير فاضلة؟ - إنني أحب المرأة التي تقول عن نفسها إنها ليست فاضلة! - ولكني لا أقول فحسب، إنني فعلا كذلك. - هذه الصراحة تعجبني. - ولكنها ليست صراحة، إنها الحقيقة المرة! - ولماذا مرة؟! إنني أحس في هذه اللحظة أنك أفضل نساء العالم! - أوه! عجيب هذا المخلوق الذي اسمه رجل! حينما تقول له المرأة إنها فاضلة لا يصدقها أيضا! - لأن المرأة تقول دائما عكس ما بها. - لكني لا أشارك النساء هذه الصفة، أقسم لك إنني لست فاضلة، أرجوك صدقني! - لا أستطيع أن أصدقك! - لماذا؟ - إن امرأة مثلك لا يمكن إلا أن تكون فاضلة! - بل لأن الحقيقة إذا صدرت من صاحبها لا يصدقها الناس.
ووضع سيجارتين بين شفتيه، وأشعلهما وناولها إحداهما، وأخذ كل منهما ينفث دخانه في الهواء صامتا شاردا، ثم مزق السكون صوته العميق الهادئ: ماذا قلت؟ - عن أي شيء؟ - عن الزواج. - أي زواج؟ - زواجنا! - ولماذا تريد أن تتزوجني؟ - لأنني أحبك! - وهل الحب عندك يعني الزواج؟
واعتدل على كرسيه وارتسمت على وجهه أمارات الجد الصارم وقال: لا، لا، لا، الحب شيء ضخم جدا، والزواج شيء تافه جدا، ولكن لا غنى للشيء الضخم عن الشيء التافه، الحب بلا زواج يعيش، يعيش بقوة، ويموت بقوة ، شهادة وفاة واحدة تقضي عليه، ولكن الحب مع الزواج لا يموت، شهادة ميلاد واحدة تضمن له الحياة أبدا. - تقصد الولد؟! - إنه سر الحياة! - لم يعد سرا ما دمت قد بحت به.
وضحكا، وقال وهو ينظر إلى أسنانها: إنني أحب ضحكتك، كأنما أرى فيها الدنيا بشمسها وقمرها، وهوائها، ومائها، ونهارها، وليلها، ودفئها وبردها. إنك تعبرين عن الحياة تعبيرا صادقا، بهذه الضحكة الطبيعية السهلة، إنني أحب الحياة حينما تضحكين. - بدأت أظن أنك ستنظم شعرا في يوم ما! - ربما! - إذن فأنت تغريني على عدم قبول الزواج. - لماذا؟ - لأن الشاعر يقع في حب كل النساء ما عدا زوجته. - الشاعر فقط؟
وضحكت، ومالت برأسها إلى الوراء، وأخذ يدها من فوق المائدة، وقربها من شفتيه، وقبلها ثم قال: هل وافقت؟ - هل وافقت أنت؟ - على أي شيء؟ - على نقائصي؟ - كل منا له نقائصه. - ولكني لا أومن بالحب.
ونظرت إليه وسحبت يدها من يده، ثم قالت: ولكني قد أمل الحياة معك؛ فأنا بطبعي سريعة الملل. - لن تملي معي الحياة أبدا. - إنك مغرور جدا. - لست مغرورا، ولكنها الحقيقة التي لا يصدقها الناس إذا صدرت من صاحبها.
وضحكت، ثم قالت وهي تثبت فصيها الماسيين في عينيه: بل إنها الكذبة التي أصدقها، أو التي أريد أن أصدقها.
وضحكا، وأخذ يديها الصغيرتين في يديه، وقبلهما، وقال لها في صوته العميق الدافئ: يا زوجتي العزيزة ...
ونظرت إليه في دهشة، وقالت: بهذه السرعة؟!
قال وهو ينهض واقفا: أي سرعة؟!
لقد ضيعنا وقتا طويلا في الطريق!
الكوافير سوسو
كانت أصابعه الخشنة بعظامها العريضة البارزة، وجلدها الأسمر الجاف، تبدو نشازا بين خصلات الشعر الذهبي الناعم، تجمع بعضها وتفرق بعضها، تلف بعضها وتفك بعضها، تنتقل في سهولة ويسر بحركات فنية خفيفة، رغم شكلها الغليظ الثقيل، الذي يوحي للرائي، أنها لم تخلق لتمسك مشطا أو دبوسا، وإنما لتقبض على فأس أو ساطور.
والشعر الذهبي بينها طيع مستكين، ينهدل تارة وينتصب تارة، يتفرق ويتجمع، وينثني وينفرد ... حتى يتخذ في النهاية شكلا أخيرا، وكأنه أصبح شعرا غير الشعر، فيه تموجات جديدة، بعضها يذهب إلى اليسار وبعضها ينحرف إلى اليمين، فيه خصلة بيضاء، وخصلة رمادية، وخصلة كستنائية.
وتتقلص الأصابع الغليظة متكورة محترسة تسويه من بعيد، وتتحسس الشعرات الرفيعة النافرة، تضمها إلى أخواتها وتعيد بلمساتها الخفيفة، نظرة واثنتين وثلاثا على الشكل الأخير، مرة من بعيد، ومرة من قريب، من اليمين ومن الشمال ومن الخلف ومن الأمام، حتى تطمئن اطمئنانا كاملا، فترتخي عضلاتها وتبعد مستريحة راضية هانئة.
كانت هذه الأصابع الغليظة هي كل شيء في حياة سعيد أو سوسو، كما كتب على لافتة محله، وكما تناديه الأصوات الرفيعة الناعمة، يفكر بأصابعه، وينظر بأصابعه، ويشتم بأصابعه، ويعيش بأصابعه ...
لكنه اليوم بدأ يحس أن له رأسا فوق عنقه، تثقله أفكار كثيرة.
سوسو!
أخذ الاسم يدق في رأسه كمطرقة حادة، بينما راحت أصابعه السميكة تسبح في رشاقة، بين خصلات الشعر الناعم.
سوسو!
وقلب شفتيه امتعاضا، وهو يراجع اسمه بينه وبين نفسه، ما الذي جعله يسمي نفسه سوسو؟!
ونظر إلى المرآة فرأى صدره يغطيه شعر أسود كثيف، وتأمل قامته الطويلة العريضة، وهبطت نظراته إلى يديه، فرأى أصابعه الغليظة، وهي تنتقل بغير وعي بين خصلات الشعر. غريبة! كيف سمى نفسه سوسو؟! أو سمح لنفسه أن يسمي هذه الجثة الضخمة المغطاة بالشعر سوسو؟! لماذا لم يسم نفسه طرزان أو ضرغاما، أو أي اسم من تلك الأسماء المذكرة الخشنة، التي تليق برجولته، وتجبر الناس على احترامها؟
نظر إلى المرآة ثانية، يتفقد نفسه؛ ليكتشف أي شيء فيها يشبه سوسو.
ولم يجد شيئا إلا ذلك القميص المشجر، الذي يبدو شاذا على صدره العريض المشعر.
وأحس بالدماء تغلي في رأسه، وود لو خلع هذا القميص أو مزقه، وشطب اسم سوسو من اللافتة. - أوه! حاسب شوية يا سوسو، المكوة لسعتني!
صاحت صاحبة الشعر الأسود الداكن، بعد أن مست المكوة في يد سوسو الثائرة طرف أذنها.
لسعة خفيفة، أصابت جسمها بشيء من الانتشاء، فعادت تتأوه من جديد، وهي تنظر إلى سوسو نظرة نداء مكتوم صارخ، وقالت في ميوعة أنثوية: أوه! مش تحاسب علي يا سوسو !
ولم يرد عليها سوسو، لم يجد في نفسه رغبة للرد على هذا النداء المكتوم، كما كان يفعل دائما، ويقول لها في ميوعة مذكرة: بعد الشر عنك، انشالله يا مدام أنا اللي أتلسع!
ويتعمد أن يلسعها مرة أخرى لسعة خفيفة، لتنتفض على كرسيها، وتنتشي أكثر وأكثر وتتأوه أكثر وأكثر.
كان يعلم أن أنوثتها الصائحة في المجتمع المحروم، في حاجة إلى شيء من هذه الأشياء الصغيرة؛ لسعة خفيفة بالمكوة، قرصة في الذراع، نظرة اشتهاء خفيفة، شدة شعر مقصودة.
هذه الأشياء الصغيرة المباحة في المجتمع، التي تنفس بها النساء عن ضغط غرائزهن، أشياء صغيرة لا يطلق عنها المجتمع الإشاعات، ويرضاها الأزواج كل الرضا، ما دامت الزوجة ستصفف شعرها كما تفعل كل النساء. إن المجتمع لا يرضى عن الشذوذ أيا كان، حتى ولو كان شذوذا فاضلا، ويرضى عن المعتاد حتى ولو كان خاطئا.
ثم إن هذه الأشياء الصغيرة، تحدث داخل صالون الكوافير سوسو، وسوسو هذا لا يثير غيرة الأزواج، يكفي أن اسمه سوسو، وأنه يلبس قميصا مشجرا، إنهم لا يعتبرونه رجلا.
إن المجتمع ينظر إلى الكوافير سوسو على أنه امرأة لها شنب!
ووضع سوسو المكوة على النار، وراح ينظر إليها وهي تلتهب وتحمر، وتذكر حادثة اليوم التي قلبت يومه إلى جحيم أشد نارا من هذه النار التي يراها بعينيه. لقد قضى ست سنوات أو أكثر، وهو يصفف شعور النساء، دون أن يشعر بأي خزي أو عار، وظل اسمه سوسو معلقا على لافتة محله سنوات وسنوات، والنساء ينادينه سوسو، ولا شيء في ذلك يمس رجولته. وماذا كان يعنيه من تلك الكلمة الجوفاء الفارغة «رجولته»، ما دام يكسب في اليوم عشرين جنيها تقريبا، وله رصيد ضخم في البنك، يزيد عن رصيد أي بيه محترم؟ ثم إنه في النهاية يعود إلى زوجته؛ ليثبت لها كل ليلة أنه رجل.
لكن حادثة اليوم هي التي أصابت رجولته في الصميم. كان ذاهبا في الصباح إلى محله ليفتحه ويبدأ عمله اليومي، حينما قابله في الطريق رجل يعرفه، وهو صاحب البقالة الجديدة ، الكائنة بجوار محله، ووقف الرجل يتأمل القميص المشجر، ثم قال في ميوعة وهو يربت على كتفه، كأنه يربت على كتف امرأة: إزيك يا سوسو! يا حنتوسو!
ولم يعرف لماذا غلى الدم في عروقه في تلك اللحظة! لقد ظلت النساء ست سنوات كاملة ينادينه سوسو ويربتن على كتفه، لكنه لم يشعر في أي لحظة أنهن يعاملنه كامرأة، وبالعكس كن يشعرنه برجولته دائما، ولكن هذا الرجل الصفيق يناديه سوسو، ويعامله كامرأة.
وانتبه سوسو من حمية الصراع في رأسه، على ذراع ناعمة بضة، تلتف حول عنقه وصوت ناعم يهمس في أذنه: صباح الخير يا سوسو، اديني ميعاد عشان تعمللي شعري، أجيلك امتى؟
ونظر إليها سوسو في استغراب! إنها تلصق جسمها بجسمه، بشكل يلفت النظر، ولكن كل النساء داخل المحل لا يلتفتن؛ إن ذلك شيء عادي جدا عند الكوافير سوسو في نظر المجتمع، وشيء غير عادي جدا في حجرة تضم رجلا وامرأة متحابين!
وقال سوسو في تأدب: بعد ساعة يا مدام.
ونظرت إليه شزرا وقرصته في أذنه، وقالت وهي تتأوه: هئ ... مالك النهاردة كدة واخدها جد قوي؟ هئ ... هئ ...
وانطلقت حناجر النساء تقول جماعة: ... هئ ... هئ ... مش عارفة سوسو ماله النهاردة؟ مبوز كدة ليه؟ شايل طاجن سته، الواد جد خالص، آل يعني ... ما تتعدل يا واد يا سوسو وللا أجيلك، وانت عارف أنا باعمل لك إيه! - إيه؟ بتعمليلو إيه يا روحية؟ - هئ هئ هئ ... هو عارف، ده سر بيني وبينه. - هئ ... لازم بتقرصيه، أصله واد مضروب بيموت في القرص!
قرص!
نفذت الكلمة من أذنه إلى رأسه كطلقة المسدس. إن النساء تعودن أن يقرصنه من ذراعه، ومن رقبته، ومن أذنه! كيف سمح لهن بذلك؟ كيف ترك جسمه نهبا لأصابعهن النهمة الجائعة؟
وأحس سوسو بمرارة في حلقه، تشبه المرارة التي تحس بها المرأة التي تترك جسدها نهبا لجوع الرجال، يعبثون به كيف شاءوا وأنى شاءوا.
إلى هنا لم يحتمل سوسو مزيدا من الأفكار والهواجس، إلى هنا بلغت أعماقه قمة التوتر، فانفجر في النساء كالضرغام: بس! مش عاوز كلام ولا هأهأة، إنتم إيه؟ جايين تعملوا شعركم وللا جايين ...
ولم يكمل، كان على وشك أن ينطق بكلمة نابية، فأمسك نفسه بصعوبة، والعرق الغزير يتصبب من رأسه ورقبته، ونظرت إليه النساء فاغرات أفواههن، مشدوهات، وساد بينهن الصمت لحظة، ثم أفقن مفزوعات على شكله الغريب الثائر. - هو جرى له إيه؟ - يا نهار اسود باين عليه اتجنن! - اتجنن؟ - اتجنن؟
واندفعت النساء مذعورات خارج المحل بشعورهن المنكوشة، وكأن ماردا يطاردهن.
وجلس سوسو في المحل الخالي ورأسه بين يديه، ومن حين إلى حين يرفع رأسه، وينظر إلى شعر صدره العريض في المرآة، ثم إلى أصابع يديه الغليظة الخشنة، ويهتف لنفسه بصوت مكتوم: أنا راجل، أنا ضرغام، أنا سبع!
وبعد أيام قليلة، كانت اللافتة المكتوب عليها «كوافير سوسو» قد اختفت، وظهر مكانها لافتة أخرى خشنة كتب عليها: «جزارة سعيد الضبع»!
لن تجديه يا ليلى
الشخصيات
أسامة محمود:
مهندس ناجح، في الخامسة والثلاثين من عمره.
ليلى زوجته:
مدرسة لغة عربية، في الثلاثين من عمرها.
المنظر (صالة أنيقة في منزل المهندس أسامة محمود، يجلس أسامة على أحد الكراسي الكبيرة، يبدو عليه الشرود والتفكير العميق، يمسك رأسه بين يديه، تدخل زوجته ليلى ومعها حقيبة، وقد ارتدت ملابس الخروج، وحينما يسمع وقع قدميها يرفع رأسه، ويقول لها بصوت حزين):
أسامة :
هل أنت جادة فيما قلت؟
ليلى :
ألم نتفق على كل شيء؟ وكتبت لك تنازلا عن كل شيء؟
أسامة :
ولكن بقي شيء لم نتفق عليه بعد!
ليلى :
ما هو؟
أسامة :
الجنين.
ليلى (ساخرة) :
الجنين! إنه داخلي أنا بكل أسف، وأنا حرة فيه، أبقيه أو لا أبقيه!
أسامة (غاضبا) :
أنا أبوه ومن حقي أن أمنعك. (ليلى تنظر إليه ولا ترد.)
أسامة (مستعطفا) :
ليلى، اسمعيني، لا تكوني حمقاء، إنك لا تحبينني ولا تريدين الحياة معي، هذا من شأنك، ولكن هذا الطفل ابني أنا.
ليلى :
ولكن ألا ترى أنه من الأصلح لثلاثتنا، أنا وأنت والطفل، ألا يولد الطفل أبدا؟ كيف تكون حياته حينما يكبر ويعلم أن أمه وأباه لا يعيشان معا؟
أسامة :
ولماذا أمه وأبوه لا يعيشان معا؟
ليلى :
لأن أباه لا يفهم أمه.
أسامة :
ولكنه يحبها!
ليلى :
إنه يحب نفسه.
أسامة :
ألأنني أريد أن أوفر لك الراحة؟ ماذا تأخذين من هذا الجري والتعب كل يوم؟ عشرين جنيها كل شهر؟ سأعطيك هذه العشرين جنيها في يدك كل شهر، ولا داعي أبدا لأن تكون زوجتي موظفة حكومية، تلهث وراء الأتوبيس كل صباح.
ليلى :
إنك لا تفهمني، أنا لا أعمل من أجل العشرين جنيها، إنني أحب عملي.
أسامة :
عملك؟ إن عملك الأساسي في الحياة هو بيتك، هو زوجك، هو أنا!
ليلى :
أنت؟
أسامة :
نعم أنا! ألا أكفيك؟!
ليلى :
ولكنك لا تحقق ذاتي، إنك تحقق ذاتك أنت، وما أنا إلا وعاء يحمل أطفالك، الذين تسميهم باسمك، ويصنع أكلك الذي تهضمه وتحوله إلى فضلات، إنني أعيش من أجل وجودك. إن وجودي أنا لا وجود له.
أسامة :
كيف ذلك؟ أنت زوجتي، حرم المهندس أسامة محمود!
ليلى :
حرم المهندس أسامة محمود! حتى اسمي تلغيه وتضع اسمك على غلافي، يا لك من أناني! (ثائرة)
لا أريد هذا، لا أريد هذه الحياة، لست في حاجة إليها، أستطيع أن أعيش وحدي، وأنفق على نفسي، صحيح أنه لن يكون بيتا كبيرا كهذا، ولكنه سيكون بيتي أنا، أضع عليه اسمي: «ليلى صادق»، سيكون بيتا صغيرا بسيطا، ولكني سأحبه؛ لأنه سيكون ملكي، وسأعيش فيه كما أريد. سأكون حرة، لست تابعة لأحد، سأحقق ذاتي، وأشعر بفرديتي، ويمكنني أن أستأجر «خادمة» صغيرة، تغسل ملابسي وتصنع طعامي، وتقوم مقام الزوجة - كما يراها الرجال - وتتولى هذه الأعمال التافهة الجامدة، التي لا يمكن لأي إنسان ذكي أن يجعلها حياته.
أسامة :
لقد أفسدك التعليم والعمل، لو لم تتعلمي وتتوظفي، لما كان في إمكانك أن تتركي هذا البيت، ولعشت معي راضية قانعة. لا يمكن أن تسير الحياة وقد أصبحت النساء رجالا.
ليلى (ساخرة) :
النساء رجالا! ومن قال إن المرأة تصبح رجلا إذا تعلمت، وعملت وأصبحت إنسانا له كيانه واسمه؟ هل خلقت المرأة لتطبخ وتغسل؟
أسامة :
خلقت لتكون أما. الرجل لا يمكنه أن يلد أو يرضع الأطفال. إن الطبيعة خلقت للمرأة رحما ليحمل داخله الجنين، وخلقت لها ثديين ليرضع منهما. لماذا لا تحاكمين الطبيعة لأنها خلقتك امرأة ولم تخلقك رجلا؟
ليلى :
إنني لا أريد أن أكون رجلا؛ لقد خلقت امرأة ولا أشعر بأي نقص في طبيعتي. إن الرجل هو الذي أدخل في نفس المرأة أنها أقل منه، وأضعف منه، وقال لها إن في داخلك رحما، والطبيعة أرادت هذا النقص فيك. ولكن الطبيعة بريئة، هذا الاختلاف لا يعني أن المرأة أضعف من الرجل، وأقل منه، وأن له الحق في أن يفرض عليها سيطرته وحمايته. الطبيعة تنطق بأن المرأة إنسان كالرجل، لها رأس مثل رأسه، ومخ مثل مخه، ويدان مثل يديه، ورجلان مثل رجليه، وكتفان مثل كتفيه، وقلب مثل قلبه، وكبد مثل كبده. وإن الحمل والولاة وظيفة واحدة من وظائف كثيرة، يقوم بها جسم المرأة. لماذا تتهم المرأة بالضعف، حينما يخرج رحمها محتواه، ولا تتهم الرجل بالضعف، حينما تخرج أمعاؤه محتوياتها مثلا؟ إن الفلاحة تلد طفلها في العراء، وتضعه على رأسها في القفة، وتواصل عملها في الحقل، تماما كما ينتحي زوجها وراء شجرة ليقضي حاجته، ثم يعود إلى مواصلة عمله. لماذا إذن يستعبد الرجل المرأة، ويلغي ذاتها لتصبح تابعة له طول العمر؟
أسامة :
إن منطقك عجيب! لم أسمع في حياتي امرأة تتكلم كما تتكلمين. إن المرأة ضعيفة، حتى ولو لم تحمل وتلد، إنها امرأة. جسمها ضعيف، وعواطفها متقلبة تطغى على تفكيرها، إغراؤها سهل. إنها في حاجة إلى رجل يقودها، إلى رجل تتبعه، ومن تتبع المرأة إذا لم تتبع رجلها؟
ليلى :
وهل لا بد للمرأة أن تكون تابعة لأحد؟ ألا يمكن أن تكون مستقلة؟ إن منطقك يشبه منطق الإنجليز حينما احتلوا مصر، قالوا إنها ضعيفة وتحتاج إلى حماية، ولكن حمايتها ضد من، وهم الذين يعتدون عليها؟ حمايتها ضد أنفسهم؟ إن المرأة ليست ضعيفة كما تقول، عواطفها لا تغلب تفكيرها، وإغراؤها ليس سهلا. إن المرأة تعرف كيف تحكم عواطفها وغرائزها طوال حياتها. بعض النساء يعشن في عذرية دائمة ولا يتكلمن، وبعض النساء يطوين قلوبهن على مشاعر لا تجد طريقا إلى النور، والمرأة تقاوم الرجل دائما، والرجل يلهث وراء المرأة دائما، وتقول إن المرأة ضعيفة لأن إغراءها سهل! ما بالك إذن بالرجل الذي في غير حاجة إلى إغراء على الإطلاق! إن الرجل هو الذي في حاجة إلى حماية!
أسامة :
ولكن القوانين كلها تفرض حماية الرجل للمرأة؛ فهو الذي يختارها، وهو الذي يتزوجها، وهو الذي يطلقها، وهو الوصي عليها لا يمكن أن تخالفه. هذه هي القوانين التي وضعتها الطبيعة، وتسير عليها كل النساء.
ليلى :
الطبيعة لم تضع قوانين، الرجل هو الذي شرعها كما يهوى، هو الذي شرع سيادته.
أسامة :
ولكن المرأة تحب من الرجل أن يكون سيدها، إنها تعشق وضعها عند قدميه.
ليلى :
المرأة لا تعشق ذلك، لقد ربوها على أن الرجل هو السيد، ولقنوها وهي طفلة أنها أقل من أخيها الولد، وأن أمها أقل من أبيها، وقتلوا شخصيتها، وفرديتها، وأعدوها لمتعة الرجال! ماذا تنتظر من امرأة تتربى هذه التربية غير أن تتزين وتتعطر، وتدلك ساقيها، وتزحف إلى قدمي الرجل؟
أسامة :
إن المرأة الطبيعية هي التي تفعل ذلك. ما قيمة المرأة في الحياة، إذا لم تجذب الرجل إليها؟ وما قيمتها إذا لم تتزين وتتعطر؟ أم أنك تريدين أن يتزين الرجل للمرأة؟
ليلى :
وهل من الضروري أن يتزين أحدهما؟ لماذا لا يكون كل منهما على طبيعته؟ لا أدري لماذا تضع المرأة على وجهها تلك المساحيق البيضاء، والحمراء، والخضراء! إنها تفسد ملامح الوجه، وتخفي لون البشرة الطبيعي الذي يعكس النفس والروح. إنني أرى وجوه النساء في الشارع، فيخيل إلي أنه وجه واحد مكرر، كلهن متشابهات، كأنهن يلبسن وجوها صناعية في حفلة تنكرية! إنني لا أنتمي إلى هؤلاء النساء، أنا لست منهن!
أسامة :
بالطبع لست منهن؛ فأنت لست امرأة، ولكن إذا لم تكوني امرأة فماذا تكونين ... رجلا؟
ليلى :
لست رجلا، ولست امرأة، كتلك التي تسميها أنت امرأة، إنني لا أعترف بتسميتك؛ لأنني امرأة في أعماقي، ولكني من نوع لا تعرفه، ولا تستطيع أن تعرفه؛ إنه يبدو لك غريبا شاذا كأنه جنس ثالث.
أسامة :
امرأة! إنني لم أر في حياتي امرأة ولا رجلا مسترجلا مثلك، وبالطبع الرجل هو الذي يحكم على أنوثة المرأة.
ليلى (ساخرة) :
أعتقد أن أمامك خمسين سنة من القراءة والفهم، حتى تتمكن من أن تحكم على أنوثتي وتفهمها.
أسامة :
ها ... ها ... من قال إن الأنوثة في الكتب؟ إنها إحساس فطري، يشعر به الرجل نحو المرأة.
ليلى :
كل إحساس فطري يحتاج إلى التهذيب، والدراسة والتطور. إن الرجل الذي يعيش في الغابة، يفهم أنوثة المرأة فهما، يختلف عن الرجل الذي يعيش في نيويورك. إن الأنوثة منذ خمسين عاما، كانت تختلف تماما عن الأنوثة في هذه الأيام، ثم دعني أسألك أولا: ما هي الأنوثة؟
أسامة :
الأنوثة هي الجمال.
ليلى :
الجمال! أي جمال؟
أسامة :
جمال المرأة.
ليلى :
أي شيء في المرأة؟
أسامة :
جسمها، ووجهها ...
ليلى :
جسمها ووجهها! هل هذا هو الجمال؟ إن جسم المرأة ووجهها ليسا إلا جلدها الخارجي، تستطيع أن تغيره كالحرباء، مرة خضراء على العشب، وأخرى صفراء على الرمال. إن الجمال في رأيك يوجد في علب أنيقة في الصيدليات، ومحلات الخردوات، ويستورد لنا من ماكس فاكتور وكريستيان ديور...
أسامة :
أين يوجد الجمال إذن؟
ليلى :
تحت الجلد، في الدم، الدم يجري في كل كيان المرأة، ويغذي قلبها ومخها. الدم يرسم روح الجسم، ويحدد تعبيره وأحاسيسه، ومفاهيمه، وملامحه ...
أسامة :
وإذا كانت الملامح قبيحة؟
ليلى :
القبح ليس في الملامح، القبح في الدم. تصور امرأة عيناها واسعتان براقتان، ولكن نظراتها تشع الكراهية أو الغيرة أو التكلف أو البرود، هل تقول إن عينيها جميلتان؟ إن جمال العينين يكمن في جمال النظرة، النظرة التي تعبر عن المعنى الجميل؛ كالحنان، أو الحب، أو الرقة، أو التسامح ... النظرة الدافئة الطبيعية التي تشعرك أنك أمام عينين نابضتين بالحياة يجري فيهما دم ينفعل ويتأثر ويعكس صور الحياة كلها، وليستا عينين متشنجتين تروحان وتجيئان كقطعتي زجاج.
أسامة :
الواقع أنني لم أدرس علم النفس، ولا علم الأرواح، إنني أحكم على الناس بمظهرهم، ليس لدي وقت لأن أغوص في الأعماق، إني أضيع حياتي لو أنني فعلت ذلك.
ليلى :
بل إنك تضيع حياتك؛ لأنك لا تفعل ذلك.
أسامة :
اسمعي يا ليلى، لقد ضقت ذرعا بهذه المناقشة، إنني أحبك لكنك تعملين على القضاء على هذا الحب.
ليلى :
حب؟ إنك لم تحبني قط! لقد أحببت امرأة غيري تلبس جلدي.
أسامة :
أنا لا أفهم هذه الألغاز، أنا رجل مهندس، لا أفهم إلا في الهندسة، ولكني لا أمانع في أن تكون هوايتك اعتناق هذه الألغاز، على ألا تتعدى حدود النظريات، أتعرفين؟ لا تتعدى الكلام. والآن ماذا تنوين عمله؟ هل ما زلت مصرة على الطلاق؟
ليلى :
طلاق؟ تلك الورقة التي يكتبها المأذون لنصبح غرباء! ولكن ألم تشعر أننا كنا غرباء، ونحن في سرير واحد؟
أسامة (يشير إلى بطنها) :
ولكن هذا الجنين يشهد على أننا لم نكن غرباء.
ليلى :
الجنين لا يشهد على شيء إلا على الزواج، إنني أحس أنه ليس طفلي.
أسامة :
ليس طفلك؟ ماذا تقولين؟
ليلى :
لست إلا وعاء يحمله ويغذيه، إنه قطعة غريبة عني!
أسامة :
لقد فقدت عقلك بلا شك، أنت في حاجة إلى طبيب. (ليلى تمسك رأسها بين يديها وتنتحب، أسامة يقترب منها ببطء ويضع يده على كتفها، ليلى تستمر في النشيج.)
أسامة :
ليلى ... ليلى، ما الذي أصابك هذا الصباح؟ لم كل هذه الثرثرة؟ لأنني طلبت منك أن تتركي العمل؟ كفى، كفى، لا تبكي، اذهبي إلى العمل، ولا داعي لكل هذه الثرثرة.
ليلى (ترفع رأسها وتنظر إليه في دهشة) :
ولكنني ...
أسامة (ساخرا) :
لا تحبينني! ولكنني أحبك.
ليلى :
كيف؟
أسامة :
إنني أحبك ولا أطلب منك أن تحبيني، ويكفيني أنك لا تحبين أحدا غيري.
ليلى :
ولكني قد أحب أحدا غيرك.
أسامة :
لا أظن.
ليلى :
لماذا؟
أسامة :
لأنك لن تجديه، لن تجديه يا ليلى. (يقترب منها، ويأخذ الحقيبة من جوارها، ويتجه إلى داخل البيت. تبقى ليلى وحدها في الصالة، تضع رأسها بين يديها وتبكي.) (يسدل الستار.)
ليست عذراء
أقفل الحاج بدوي دكانه بالقفل، ونفض يده من التراب، ثم أدخلها في جيبه، وأخرج قرن قرنفل وضعه تحت ضرسه، الذي يؤلمه من ثلاثة أيام، ولم يخرج ورقة النشوق كعادته؛ ليشم ويعطس؛ فقد كان مهموما حزينا، نفسه مصدودة عن النشوق وعن كل شيء.
حتى إنه حينما مر في طريقه على قهوة بيومي، التي يجلس عليها كل ليلة مع الحاج محمد؛ ليشرب الجوزة ويدردش، ويراقب الست حمدية، وهي تجلس وراء الشيش الموارب، وعلى رأسها المنديل الحرير الأحمر، الذي يلتهم حاجبها الأيمن، ويترك حاجبها الأيسر متدليا على عينيها العسلية المنكسرة.
لم يستطع الحاج بدوي أن يعرج على القهوة، ولا حتى أن يلتفت إليها، بل مر من بعيد وهو يكبس عمامته على رأسه لتخفي جبهته، إنه لا يريد أن يراه أحد، ولا أن يرى هو أحدا، يكفيه ما سمعه من الناس، الذين ليس لهم عمل منذ ثلاثة أيام إلا الحديث عن الحاج بدوي، وشرف الحاج بدوي، وسيرته على كل لسان منذ ليلة الفضيحة، ولولا تجارته وحاجته إلى القروش التي يكسبها، من بيع البهارات والقرنفل والجنزبيل، لولا ذلك لبقي في بيته لا يبرحه أبدا.
ووصل الحاج بدوي إلى بيته وهو يلهث، إنه لم يتعود المشي السريع هكذا، وأخرج المفتاح من جيبه وفتح الباب، ودخل حجرة النوم، وأخذ يخلع ملابسه في تثاقل، ثم وثب على السرير، وحينما وضع رأسه على الوسادة، سمع شخير زوجته الخافت وهو يعلو على أنفاسها، فالتفت إليها وهي غائبة كالموتى في نوم عميق، وأخذ يتأمل بشرتها ذات التجاعيد، وشفتيها اليابستين، ومصمص شفتيه بازدراء، وأعطاها ظهره وهو ينفخ، وغطى رأسه باللحاف لينام، لكن صورة سعدية بملابس العرس ظهرت أمامه وهي تجلس في وسط كوشة من البنات والأزهار، وعلى رأسها تاج أبيض، والعريس ببدلته الكحلي يروح ويجيء بين الناس، والناس يبحلقون في الناس ويشربون الشربات بالأربعة أكواب، والصوان الفخم مقام، وصوت الميكروفون يذيع الأغاني والزغاريد، وإيقاع الرقص والصاجات، وحي السيدة زينب الذي يبيت كل ليلة بعد صلاة العشاء، ساهرا في نوافذه يطل على ذلك العرس النادر، ويحكي قصة العريس والعروس مئات المرات.
وقلب الحاج بدوي فجأة وجهه ناحية زوجته، ولمعت عيناه الضيقتان كعيني الصقر، وهو يتأمل عظام فكيها البارزة المدببة. إنه لا يذكر أن رأى لزوجته وجها غير هذا الوجه، ولكم دعا في كل ليلة بعد زفافه على أم يوسف الخاطبة، ولعنها ولعن أجدادها، وبصق عليها وعليهم. عشر سنين مضت، وهو في كل ليلة يصب اللعنات على رأسها كلما رأى وجه زوجته.
وكانت سعدية طفلة في العاشرة تجري وتلعب، وأحيانا تقفز فيرى ساقيها وفخذيها السمينتين، ولم يدر لماذا كان يطيل النظر إليها، وحينما كان يستدرجها إلى «البلكونة»، ويجلسها إلى جواره، ويمر بأصابعه على ساقيها، يتحسس بشرتها الناعمة كأنه يقول لنفسه: عيب يا حاج بدوي، ده انت خالها، وبتربيها بعد موت أبوها، عيب يا راجل، يا اللي حاجج بيت الله!
لكنه كان لا يستطيع أن يقاوم هذه الرغبة الملحة كلما رآها وهي تقفز، فرق كبير بين ساقيها الناعمتين وبين ساقي زوجته الرفيعتين اليابستين.
وأحيانا حينما كان يفقد السيطرة على رغبته يضمها إلى صدره، ويداعب بشاربه الكثيف وجهها الناعم النضر، ولا يتركها إلا بعد أن تخنقها رائحة التبغ في أنفاسه فتصرخ، أو تعض أصبعه.
وفي مرة لم يكن بالبيت سواها، وكان مستلقيا على السرير، يعربد بأنفاسه مع الجوزة، ويراقب سعدية وهي تلعب كعادتها، وأحس برغبة جارفة، وشعر كأن دمه يغلي في عروقه، ولم يستطع المقاومة، وقام إليها وحملها، ووضعها على السرير، وأحس الحاج بدوي بالعرق يتصبب من جسمه، فأزاح عن نفسه اللحاف، وتذكر منظره وهو يلبس ثيابه ويضع عمامته على رأسه، وينزل مهرولا إلى السوق، ثم يعود إليها فيجدها كفت عن البكاء، وحينما يعطيها الحلوى الكثيرة، تبتسم في سذاجة وتنسى كل شيء، وأحس بالراحة أنها لم تفهم شيئا، لن تقول لأمها ...
وجف عرق الحاج بدوي فأحس بالبرد، وسحب اللحاف ليغطي نفسه، فتعرت زوجته وظهرت ساقاها الرفيعتان، ينظر إليها بضيق. إنه يكره زوجته من أول ليلة، ولقد كرهها أكثر بعد حادثة سعدية، وأحس بالندم، وأصبح يفر من البيت إلى القهوة ليشرب الجوزة، ويدردش مع الحاج محمد، في الوقت الذي يبحلق فيه إلى «سيقان» النسوة، وهن يجتزن الشارع أمامه.
وانتشلته من ضياعه الست حمدية، تلك الأرملة السمينة التي تسكن في مواجهة القهوة، وكان يراها وهو يجلس على القهوة، تنظر بعين واحدة من فرجة الشباك، ويرى يديها البيضاوين السمينتين، وهي تمسك بضلفة الشيش، وساعدته الست حمدية في التعرف عليها، وفي زيارتها، وفي كل شيء، واستعاض بها عن زوجته «الكركوبة»، ونسي بها سعدية.
لم يعد يثيره منظر ساقيها وفخذيها وهي تقفز، حتى بعدما كبرت واستدارت، وبرز صدرها بشدة، لم يشعر نحوها بأي شيء، لولا تلك الحادثة المؤلمة التي وقعت منه، والتي كانت تطفو على ذاكرته، كلما فكر في زواجها. ولقد اختار لها حسين أفندي عريسا؛ لأنه رجل طيب، كان المرحوم أبوه رجلا غبيا، ولا يمكن لحسين أفندي أن يرث الذكاء عن أمه؛ لأنه فشل في تجارة الطعمية بعد أبيه، ونظره ضعيف، ولم يصلح إلا في وظيفته الحقيرة، التي توسط له فيها أحد أقاربه.
وانتفض الحاج بدوي في فراشه، وعاد إلى ذاكرته صوت حسين أفندي، ذلك الرجل الغبي الطيب كما كان يظن، وهو «يجعر» بأعلى صوته، ويسب الشرف ويبصق على العرض، ويصر على أن يطلق «بالثلاثة» قبل ظهور الشمس، وأن يسترد مهره وكل هداياه، وأن يتنازلوا عن المؤخر وعن النفقة، وأن ينهوا الموضوع في السر، وإلا جعلهم مثلة الحي.
وأحس الحاج بدوي بنار تتقد في بدنه، فقذف اللحاف عن جسده، ورماه على جثة زوجته، وقام يتمشى في الحجرة.
لقد أصبحت رقبته في «قصر» السمسمة، وهو لا يستطيع أن يرفع رأسه في الحي، ولا أن يجلس على القهوة، ولا حتى أن يرى الست حمدية، إنه الآن في نظر الناس كلهم رجل بلا شرف، حتى يغسل شرفه، والرجل عندهم لا يغسل شرفه إلا بالدم!
وصعد الدم إلى وجهه. إن سعدية تنام الآن في حجرتها، ولا يفصله عنها سوى باب غير مقفول.
وتصور نفسه مرة أخرى الحاج بدوي الذي يمشي رافعا رأسه، وجلس على القهوة مع الحاج محمد يشد أنفاسه مع الجوزة ويدردش، وكل رجل يمر عليه يقرئه السلام، والست حمدية ... آه! مرة أخرى يذهب إليها، وتأخذه بين أحضانها الدافئة، ثلاثة أيام مضت وهو محروم من كل هذا.
ووضع الكوفية على رقبته وأدخل «المطوة» في جيبه، ثم مشى على أطراف أصابعه، ودفع باب سعدية ببطء.
وفي الظلام الدامس أخذ يتحسس بيديه حتى وصل سريرها. كان كل جسمه يرتعد وأنفاسه تتلاحق بسرعة، وكاد يفر من الحجرة بسرعة، لولا أنه تخيل سرير الست حمدية، وهي راقدة عليه تفتح ذراعيها لأحضانه، وألهبه الحماس فأخرج «المطوة» من جيبه، ومد يده على السرير يتحسس رقبة سعدية، ولكن يده لم تصل إلى شيء، فاستعان بيده الأخرى، ولم يعثر في الظلام عليها، ففتح النور ونظر على السرير ليجده خاليا، ونظر تحت السرير، وفي الدولاب، ووراء الشماعة ... لكن سعدية لم تكن هناك.
وعاد إلى حجرته والعرق يتساقط من كل جسمه، وزحف على السرير بجوار زوجته. لقد هربت سعدية قبل أن يقتلها، قبل أن يثبت للحي أنه رجل يغسل شرفه بالدم. كان يحب أن يقتلها أول ليلة، سيقولون إنه جبان، لن يستطيع الجلوس على القهوة، لن يرفع رأسه بين الناس، لن يستمتع بأحضان الست حمدية الساخنة، وجحظت عيناه في غيظ وحيرة، وكانت «المطوة» لا تزال في يده، ورأى زوجته راقدة كأنها ميتة!
ولم يدر لماذا أخذ يبحلق في رقبتها الرفيعة المعروقة، وهي تصعد وتهبط مع شخيرها، واهتزت «المطوة» في يده، وخيل إليه أنه رفع يده بها، وأسقطها على رقبتها، وانفجرت دماؤها في وجهه واختلطت بعرقه. لكنه كان لا يفعل شيئا، وترك «المطوة» في يده وأعطاها ظهره. وحينما أغمض عينيه وراح في غيبوبته، ظهرت له صورة سعدية؛ طفلة صغيرة في العاشرة تمسك صرة ملابسها، وتسير في الشوارع ليس لها مأوى، وفتح عينيه، وأحس بشيء ساخن سخونة الدم، يسيل على وجهه، وسمع صوت نشيجه هو يعلو ... ويعلو ... على صوت أنفاسه.
هيتروفس ... هيتروفس
كان ذلك منذ عشر سنوات أو أكثر قليلا، وكان مدرج علي باشا إبراهيم غاصا بالطلبة على سعته الكبيرة؛ فهو أكبر مدرج بكلية الطب، لكنه أصبح يضيق عاما بعد عام، بذلك العدد المتزايد من طلبة الطب؛ فكل طالب بالثانوي يريد كلية الطب، ويحلم بكلية الطب، ويرى نفسه في منامه وقد أصبح من هؤلاء السعداء الذين ينتمون إلى كلية الطب، ويراهم كل يوم وهم يركبون الأتوبيس من محطة القصر العيني، وعلى أيديهم معاطف بيضاء متسخة تفوح منها رائحة غريبة نفاذة، لا بد أنها رائحة الجثث التي يشرحونها، ويضحكون في كبرياء، ويتكلمون بصوت عال، ويتبادلون كلمات بالإنجليزية، ترن في قوة وخيلاء، لا شك أنها أسماء الأمراض، التي يكتشفون سرها الدفين، أو أسماء ما يشرحون من جسم الإنسان، ويقفون على كل ما ينطوي عليه ذلك المخلوق العجيب، وينادي كل منهم الآخر قائلا: «دكتر»، ويتساءل طالب الثانوي بينه وبين نفسه، إن كان «دكتر» تصغيرا أم تكبيرا للقلب «دكتور». على أي حال فإن للكلمة وقعا جميلا في نفسه، يحس فيها شيئا من الامتياز عن الناس، ويرى الإعجاب بها في عيون ركاب الأتوبيس، ويبيت يحلم أنه حصل على الثانوية، ودخل كلية الطب، وركب الأتوبيس، وفاحت رائحة نفاذة من معطفه، ونطق بكلمات إنجليزية ساحرة، وزميل يناديه يا «دكتر»، ونظرات كلها إعجاب تتجه إليه ...
وهكذا كانت الأحلام تتكاثر، وتتكاثر معها وفود الطلبة إلى كلية الطب، حتى بلغت الدفعة الواحدة في أيامي الخمسمائة أو تزيد، لا يعرف الطالب زميله، ولا يمكن أن يعرفه، ولا يعرف الأستاذ الطالب، ولا يمكن أن يعرفه. ويقضي الطالب ست سنوات ونصفا في الكلية على أقل تقدير، ثم يخرج منها ولا يكاد يعرفه أحد، اللهم إلا بعض الفراشين الذين كان يرشوهم؛ ليسرقوا له ذراعا أو رجلا أو جمجمة، هذا إذا كان طالب طب مثاليا في نظر حرس الكلية على الأقل. أما إذا كان طالب طب فاشلا، أصابه الملل من الجري بالمشرط وراء الشرايين والأوردة والشعيرات الدقيقة، فاتخذ لنفسه هواية أخرى غير التشريح، وهي الخطابة، ولم يجد موضوعا يمارس فيه هوايته إلا السياسة، سياسة البلد، ونظام البلد، والاستعمار، والإنجليز ... و... و... فإذا ما انتهت مشاكل البلد أو خيل له ذلك، تحول إلى سياسة البلاد الأخرى؛ فلسطين الشهيدة ... و... و... ويضرب بقبضة يده على منضدة الأستاذ، ويخطب بصوت جهوري تهتز له جدران مدرج علي باشا إبراهيم الشاهقة. أما الطلبة فلا يكاد يسمعه أحدهم، ويعدونه شرا لا بد منه كل صباح. أما حرس الكلية فهم يولون موهبته الخطابية أهمية أكثر، ويدونون اسمه في سجلاتهم، ويحفظون ملامحه في صورة شمسية، ويتعقبون خطاه داخل الكلية، في المعامل والمدرجات، ودورات المياه، ولا شك أن هذا العمل مفيد إلى حد ما؛ فهو يخفف فراغهم الموحش بعض التخفيف، ويرضي غرور الطالب الفاشل بعض الرضا.
وفي ذلك اليوم كان المدرج بمقاعده وأرضه ونوافذه، مختفيا تحت أجساد الطلبة المتلاحقة، وزفيرهم الساخن يرفع حرارة الجو، فنصبح في الصيف ونحن في الشتاء، وكنت ألبس معطفا سميكا كاللحاف، لم أجد بدا من أن أخلعه وأضعه في حجري، وهو المكان الوحيد الذي بقي خاليا في المدرج!
وكان الصخب يملأ المدرج، والأصوات العالية الغليظة الجشاء تهز طبلة أذني الرقيقة فتكاد تمزقها، ولم أكن أدري مصادر كل هذه الأصوات المتباينة المتنافرة، لكني كنت أرى المدرج وقد امتلأ بأفواه متلاصقة تتسع وتضيق، وتضيق وتتسع، في سرعة عجيبة تسبق العين. وهناك على مرمى البصر وقف مكان الأستاذ طالب أعرفه، والحق أنني لا أعرفه شخصيا، لكني أستطيع أن أتعرف على أنفه من وسط آلاف الأنوف؛ فهو خطيب الدفعة، وكل دفعة لها خطيب على الأقل، وكان لدفعتنا خطيب واحد، ولهذا فقد كانت فرقة حسنة السمعة، يتنبأ لها حرس الكلية بالنجاح المطرد، هذا إذا لم يزد عدد الخطباء أثناء الدراسة الطويلة الشاقة، وكثيرا ما كان يزداد.
وكان الخطيب واقفا كالضرغام، يهدر ويزبد، وكلماته النارية تندفع في أذني كطلقات الرصاص، لا تلبث أن تستقر في رأسي وتفرقع: «أيها الشباب، أيها الأبطال! هذا هو يومكم، الوطن يناديكم فلبوا النداء! أيها الشباب، ليس مكانكم هنا في المدرجات، وليس عملكم التشريح والمرورات، ولكن مكانكم هناك ... في ساحة القتال، في أرض القنال! هيا أيها الشباب! دعوا المشارط والمحاضرات، ودعوا الكتب والمذكرات، هيا انطلقوا إلى الميدان، إلى الميدان . الاستقلال أو الهلاك! أيها ال...»
وظهر الأستاذ في فتحة الباب، واختفى الخطيب، وانقطع الهدير، وتوقف الصخب، وثبتت الأفواه المتحركة، وساد السكون في المدرج، ووقف الأستاذ بقامته القصيرة النحيلة، ينظر من خلال نظارته السميكة إلى الطلبة في تحفز كأنه يتوقع هجوما من أحد، أو كأنه يسلح جسمه بنظرات قوية، قد تخيف تلك العيون الشاخصة إليه من كل شبر في المدرج، وظل الأستاذ دقيقة أو دقيقتين، متسلحا وراء نظارته الغليظة، والصمت التام يشمل المدرج، والطلبة يجلسون متأهبين مترقبين، أقلامهم في أيديهم، ومذكراتهم مفتوحة وأنفاسهم مكتومة، وآذانهم مرهفة تنتظر أول درة، تسقط من بين شفتي الأستاذ الخطير.
وأخيرا انفرجت الشفتان، لا عن درة، إنما عن قنبلة: «هيتروفس، هيتروفس.» وتشنجت نظرات الطلبة يحملقون في الأستاذ، وساد الصمت ثانيا، ثم انطلق الصوت الرفيع الحاد مرة أخرى، كطلقة المدفع: «هيتروفس، هيتروفس.» وتصلبت رءوس الطلبة، وهي مشدودة نحو الأستاذ بلا وعي، وكأنه ألقى في وجوههم بتعويذة من التعاويذ، أو طلسم من الطلاسم، وارتخت عضلات الأستاذ المتحفزة، لقد ملك زمام الطلبة وسيطر عليهم، ونظر إليهم في كبرياء وزهو، وراح يتمشى من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين واضعا يده في جيبه، ثم استدار في عظمة وأمسك بأطراف أصابعه قطعة من الطباشير، كأنه يمسك صرصارا أو خنفساء، وكتب على السبورة بالإنجليزية: «هيتروفس، هيتروفس.» ثم استدار إلى الطلبة ونفض يده من الطباشير، ووضعها في جيبه، وأخرج ورقة مطوية فضها وبدأ يقرأ، وانكفأت رءوس الطلبة، يدونون محاضرة اليوم في علم الطفيليات.
وانقضت دقائق قليلة اتخذ فيها صوت الأستاذ نغمة واحدة رتيبة جعلت رأسي يدور، وشعرت برغبة في النعاس، لكني أفقت فجأة، شيء ما قطع تلك النغمة الرتيبة المنظمة، وارتفعت رءوس الطلبة وتلفتت هنا وهناك؛ لتعرف مصدر الصوت النشاز.
ورأيته هو بأنفه، خطيب الدفعة، واقفا منتصبا بين الرءوس، وسمعته يقول: «هل لي أن أسأل سؤالا؟» وتوقف الأستاذ وصوب نحوه نظرة حادة كالخنجر، لم أفهم منها هل ساءه أن يقطع عليه سلسلة الإملاء، أو خشي أن يسأله سؤالا لا يعرف جوابه، وسمعت الأستاذ يقول له في صوت رفيع حاد: «الأسئلة آخر المحاضرة، ليست الآن!» فرد الطالب الخطيب بحماس لا يفارقه أبدا: «ولكني لا أستطيع أن أتابع المحاضرة؛ إنه سؤال خاص بالعنوان.»
وارتسمت على وجوه الطلبة نظرات الاهتمام والاستطلاع والتعجب، وقال الأستاذ: «أي عنوان؟» فقال الطالب: «عنوان المحاضرة.» والتفت الأستاذ إلى السبورة، ثم إلى الطالب، وقال في آلية: «هيتروفس، هيتروفس؟!» وسكت الطالب وبلع ريقه وقال: «هل الأسماء قليلة إلى ذلك الحد؟ ألم تكن هيتروفس واحدة كافية ليسمى بها الطفيل، ويكون الاسم الثاني شيئا آخر بدلا من التكرار، أم إنها قلة في الأسماء؟»
ودوت خمسمائة ضحكة أو أكثر، اهتز لها المدرج وارتعدت جدرانه، وابتسم الأستاذ ابتسامة ساخرة، عليها مسحة من العلم الممزوج بالفلسفة، وأخذ يتمشى واضعا يديه وراء ظهره، ومطرقا رأسه كأنما يفكر في الرد، ثم توقف ونظر إلى الطالب وقال في سخرية: ليست قلة في الأسماء، ولكنها عادة عند بعض الطفيليات، أن يسمى الابن بنفس اسم أبيه!
وضحك الطلبة. وارتسمت على وجه الأستاذ فجأة أمارات الصرامة، وتلاشت ابتسامته، وعاد يتسلح ضد موجة الضحك والهرج، بنظراته القوية الحادة، وقال للطالب في شدة: اجلس ولا تسأل هذه الأسئلة السخيفة مرة أخرى، ثم نظر إلى ساعته وقال غاضبا: لقد أضعت من المحاضرة عشر دقائق، إنك طالب مشاغب، ما اسمك؟
وسكت الطالب وطأطأ رأسه، وقال بصوت خفيض: حسين حسين شاكر، وضج الطلبة بالضحك، وقصف المدرج برعد القهقهة العالية، ونظرت إلى الأستاذ، كان يضحك هو الآخر، وفرحت؛ فقد كانت المرة الأولى التي رأيته فيها يضحك منذ دخلت الكلية، أما خطيب الدفعة فقد خلع عليه الطلبة اسما جديدا هو: هيتروفس، هيتروفس شاكر، وظل هذا الاسم يطارده حتى تخرج في الكلية، بعد خمسة عشر عاما، وأصبح طبيبا ناجحا.
الشيء الصعب
كان صوته العميق الهادئ ينساب في الليل، ويصل إلى أذني دائما هادئا، يريح أعصابي المرهقة من العمل طول اليوم، ويجعلني أمدد ساقي على السور الحديدي، في استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتي المطمئنة تهيم في صفحة النيل الساكنة. هدوء ... هدوء عجيب يخلفه صوته، ونظراته، وحركاته في كل مكان يوجد فيه، وأنا أحب كل شيء هادئ في الرجل، ليس دائما.
وأرهفت أذني إلى الصوت العميق أستمع، كان يحدثني عن نفسه، عن طفولته، وحياته، وشبابه، عن أمه وأبيه، وأخيه، عن تجاربه مع النساء، عن عمله، عن ماضيه، وحاضره ومستقبله.
كان يتكلم، وكنت أستمع، وأنا أنظر في عينيه ال... العسليتين، لا البنيتين؟ لا ليستا بنيتين، ما لونهما؟ لا أدري، ليستا سوداوين ولا زرقاوين، ولا خضراوين، ولكن لهما مع ذلك لون أراه، وأحسه، وأفهمه، لون غريب عميق، كأنه طبقات كثيفة كثيرة، متراكمة بعضها فوق بعض، ليس لها قرار، وليس لها سطح، شيئان كرويان يطلان على عالم معلوم وغير معلوم، وينفذان إلى عالم مجهول وغير مجهول.
وسمعته يقول: ولكن لماذا أحكي لك كل هذا عن نفسي؟!
ونظرت إلى طبقات عينيه وابتسمت، فقال: لا أدري، ولكني أشعر أنني أريد أن أحكي لك كل شيء عني، حتى تلك الأشياء التي كنت أخجل منها بيني وبين نفسي، أريد أن أحكيها لك.
وأسند رأسه إلى ظهر الكرسي في راحة واسترخاء، ونظر بعينيه العميقتين في السماء، وظل تائها في ذلك السواد الداكن فترة، كأنما يبحث فيه عن شيء، ثم التفت إلي، ونظر في عيني نظرة طويلة، أحسست بها تمشي في كل كياني، وتصيبني برجفة غريبة، كأن شحنة جديدة من الأحاسيس، اجتاحت نفسي وجسمي.
ورأيته يقترب مني، وامتدت أصابعه تبحث عن يدي، وأمسكها بكلتا يديه، واستكانت يدي بين كفيه الكبيرتين الدافئتين، كما يستكين العصفور الوليد في صدر أمه.
لكنها لم تكن سوى لحظة، لحظة استكانة قصيرة، غافلت فيها عاطفتي عقلي، وتسربت مني تريد أن تمارس حقها في أن تعيش، وأن تستكين، وأن تهدأ، وأن تضع رأسها على صدر عريض حنون.
لم تكن سوى لحظة تنبه بعدها عقلي، وشد عاطفتي من لجامها فأخضعها، وجذبت يدي من كفيه الدافئتين الكبيرتين فشعرت بالبرد، كأنني تعريت في برودة الليل، كأنني فقدت مأوى في يوم مطير.
وانتفضت، انتابني شعور بالخوف، ذلك الخوف الذي يشعر به المرء، حينما تتولد في نفسه حاجة جديدة إلى شيء ضروري، قد لا يستطيع الحصول عليه، أو قد يضيع منه لو أنه حصل عليه.
وقادني الشعور بالخوف إلى رغبة في التمرد، ذلك التمرد الذي يحس به العاجز ليضفي على نفسه قوة من عنده.
وجدتني من حيث لا أدري أغضب، وقلت له في ثورة: ماذا تريد مني؟
قال في حنان: أحبك، أحبك، أحبك.
قلت في ثورة: هل نسيت أنك رجل متزوج؟ إنني لا أقبل هذا الحب؛ لأنني أعرف نهايته.
قال في هدوء: وما نهايته؟ - ستأتي بعد فترة وتقول لي: لن أستطيع التخلي عن زوجتي! - لن أقول ذلك. - ولن أقبل منك أن تتخلى عن زوجتك.
وسكت قليلا، ثم قال: وما الذي يرضيك الآن؟ - ألا نتقابل. - أبدا؟ - أبدا. - هل هذا هو الحل؟ - ليس أمامنا سواه. - إنني أوافق على شرط. - ما هو؟ - أن تقابليني حينما تريدين أن تغيري هذا القرار.
وافترقنا، ومضى يوم، واثنان، وثلاثة.
وفي نهاية اليوم الثالث جاءني صوته العميق الصادق يقول: أريد أن أراك. - متى؟ - الآن.
وجلست إلى جواره أستمع إلى صوته العميق الهادئ، وأشعر براحة تسري في أعصابي المرهقة، فأمدد ساقي على السور الحديدي في استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتي المطمئنة في صفحة النيل، قال: لن يكون بعد ذلك قرارات.
وضحكت، فقال: أتضحكين؟ ماذا فعلت في الأيام الثلاثة؟ - وماذا فعلت أنت؟
قال وهو شارد وعيناه في السماء: تعذبت!
وشعرت في هذه اللحظة أنني أريد أن أقترب منه، وأمسك رأسه بين يدي وأسنده على صدري لأمنع عنه العذاب.
ونظر في عيني، وكأنه قرأ رغبتي، فقال في صوت غضوب: لماذا تحبين الرجل الضعيف؟ - لأنني أشعر أنه يحتاج إلي. - إنني أحتاج إليك.
وانتابني مرة أخرى الشعور بالتمرد، فقلت له في ثورة: أنت لست في حاجة إلي، ستعود بعد قليل إلى زوجتك.
وسكت فترة طويلة، وعيناه تفتشان في ظلمة الليل عن الإجابة، ثم قال: أنت لا تعرفين أن الطاقة التي يشحنها الحب لا يفرغها إلا الحب!
وأعجبني كلامه، لكني رددت قائلة: هل طاقة الحب تفرغ؟ - لا، إن الحب يشحنها من جديد.
وسكت قليلا لأفكر، وأحسست به يقترب مني ويقول: خبريني ماذا تريدين؟
فقلت في ذعر وأنا أراه يقترب مني أكثر وأكثر: لا شيء.
قال في شدة: ما معنى لا شيء هذه؟ أنا لست مستعدا لأن أضحي بحبي لك، سأكافح من أجله، لن أضيع فرصة حياتي، سأتخلى عن كل شيء إلا أنت، هل تتزوجيني؟
وسرت رجفة في كياني، ولم أشعر إلا وأنا أضع يدي على فمه، وأقول: لا تقل ذلك! لا أستطيع. هل نسيت زوجتك؟ - إنني أشعر أنني أرتبط بك أنت ولا أرتبط بها، إنني لا أستطيع أن أتخلى عنك، لم يكن زواجي إلا وظيفة ألقيت على عاتقي. - لا، لا تقل هذا، سأعود إلى القرارات مرة أخرى.
قال في حزم: أنت لا تملكين إصدار هذه القرارات وحدك، إنك لم تعودي وحدك، لقد ارتبطنا، أي قرار إن كان هناك قرارات، يجب أن نصدره معا، ونوافق عليه معا.
واقتربت يداه مني تبحثان عن يدي، وعثر عليهما، واستكانت يدي بين كفيه الكبيرتين الدافئتين، كما يستكين العصفور الوليد في صدر أمه.
ومرة أخرى لم تكن سوى لحظة، لحظة استكانة قصيرة، غافلت فيها عاطفتي عقلي، وتسربت مني تريد أن تمارس حقها في أن تعيش.
لحظة قصيرة لمعت كالبرق، ثم أدبرت سريعا، وتنبه عقلي، وانتزع قلبي من بين كفيه الحانيتين الدافئتين.
ونظر إلي فنظرت بعيدا عنه في صفحة النيل، وسمعته يقول في مرارة وألم: إنك لم تحبيني!
وافترقنا بلا قرار على ألا نعود، ومضى يوم، واثنان، وثلاثة، وأربعة.
وبت الليل مؤرقة أفكر، وبدا لي السرير خشنا، كأنه مصنوع من الحجر، وبدت لي الوسادة يابسة، كأنها مليئة بالمسامير، وبدا لي الليل طويلا ممتدا، كأنه لن ينتهي، وعيناي الحمراوان المسهدتان تجوبان في ظلمة الليل، تبحثان عن أشياء أحسها ولا أفهمها، وأفهمها ولا أصدقها، وأصدقها فأعود لا أفهمها.
لماذا قلت له لا؟ لماذا تخليت عن حياتي؟
وتقلب كياني المرهق ينشد مكانا على السرير أقل خشونة، وتحرك رأسي الثقيل على الوسادة، يتلمس بقعة خالية من المسامير، سأطلبه في الصباح وأسحب هذه اللا.
وسبقني، كان يسبقني ببضع دقائق، وجاءني صوته الحبيب يسألني عن صحتي، وقلت له: ماذا فعلت في تلك الأيام الأربعة؟
قال لي: وماذا فعلت أنت؟
قلت له: تعذبت!
وسكت قليلا، فقلت له: أريد أن أراك. - متى؟
قلت: الآن.
وانساب صوته العميق الهادئ في أذني يريح أعصابي، ويجعلني أمدد ساقي على السور الحديدي، في استرخاء يشبه النوم، وأترك نظراتي المطمئنة تهيم في صفحة النيل.
وسألني وهو يبتسم: لم تقولي كيف تعذبت؟
ونظرت في طبقات عينيه الكثيفة الكثيرة، ثم قلت له: لماذا تحب المرأة الضعيفة؟
قال: أنا لا أحب المرأة الضعيفة أبدا، ولكني أحب المرأة القوية حينما تضعف.
وأحسست فعلا أنني أضعف، وأنني لا أستطيع أن أقاوم كفيه الكبيرتين الدافئتين، ورأسي الثقيل المتعب، وهو يميل ليستريح على صدره العريض.
لحظة استسلام بعد أيام من الصراع، لحظة انتصار العاطفة على العقل بلا خجل، بلا عقد، بلا صراع، أروع لحظة في الحياة.
ومضت اللحظة ولم أعرف مداها، خلت أنها عمر جديد، يضاف إلى عمري، عمر جديد كامل له ماض، وله حاضر، وله مستقبل.
ومضت اللحظة رغم روعتها، ورغم عمرها، مضت كما يمضي كل شيء رائع في الحياة، وانتهت كما ينتهي أي عمر مهما بلغ مداه.
وفتحت عيني، واسترددت يدي ورفعت رأسي، وأمسكت حقيبتي، ووقفت.
قال: ماذا حدث؟
قلت: كل شيء ينتهي! - ولماذا تهربين؟ - إنه شيء صعب! - ما هو ذلك الشيء الصعب؟ - إن كل شيء ينتهي.
وسمعته يضحك في مرارة وسخرية، ويقول: انتهيت من مشكلة زوجتي، فخلقت مشكلة أصعب. لماذا تعاملين نفسك بهذه القسوة؟ لماذا تتركين عقلك وعاطفتك يتصارعان؟
ونظرت في أسى إلى صفحة النيل فاقترب مني، وأمسك يدي في شدة وقسوة، وقال: لن تكسبي شيئا من هذه المعركة؛ لأن ميدانها الوحيد هو نفسك، نصف ذاتك يصارع النصف الآخر، والنتيجة بالنسبة لك شيء واحد؛ هو أنك تخسرين نصفا دائما.
ونظرت في أعماق عينيه، أفتش عن شيء من هذا الصراع عنده، وقلت له: وأنت؟ ألست مثلي؟
قال في ثقة غريبة: لا، إن ذاتي لا تتصارع، إن عقلي هو قلبي، وقلبي هو عقلي.
وأحسست أنه أكثر مني، وأقوى مني، أكثر طبيعية، وأكثر بشرية، أكثر إنسانية. ووددت في تلك اللحظة، أن ألقي نفسي بين ذراعيه القويتين، وأقول له: علمني، علمني!
وكأنما أحس رغبتي، فنظر إلي وكأنه يحتويني بكل كيانه، وقال باسما: سأعلمك، ولنبدأ من هذه اللحظة.
واعتدل في كرسيه، وقال كأنه أستاذ يخاطب تلميذته: والآن وقبل كل شيء يجب أن تعترفي، هل تحبينني؟
وكان جادا، وكان راضيا، وكان قويا، وكان محبا، ونظرت في أغوار عينيه العميقتين فأحسست أنه ... أنه رجلي الوحيد، وقلت له: نعم أحبك.
ورأيته يبتسم ابتسامة عريضة، ثم يضحك في انطلاق غريب، وسمعته يقول وهو ينظر في عيني بحنان كبير: هل كان شيئا صعبا؟
قلت وأنا أنظر بعيدا عن عينيه حتى لا يكتشف كذبي: أبدا، لم يكن شيئا صعبا.
مجرد صورة
صعدت هند سلم القطار، وقفزت داخل الديوان لتلحق بالمقعد المجاور للنافذة، تماما كما كانت تفعل وهي طفلة، لم تغيرها عشرة أعوام طويلة، كبرت فيها واستدارت ونضجت، ونالت الليسانس وتزوجت، لكنها هي هند التي يسعدها أي شيء، وأقل شيء، مثل السفر وركوب القطار، والجلوس بجوار النافذة.
وجلس إلى جوارها زوجها حسين، بعد أن شب على قدميه، ووضع الحقيبة فوق الرف، ونفض يديه بتأن. إنه هادئ الأعصاب، كما يبدو من ملامحه الهادئة، فيما يشبه الابتسامة، وحركاته البطيئة، كأنه لا يتعجل شيئا، واثق أن كل شيء يأتي في أوانه.
وتحرك القطار وهند تطل من النافذة، وتراقب بيوت القاهرة، وهي تتراجع إلى الوراء، والقطار متجه ناحية الشمال إلى الإسكندرية.
وجفت الابتسامة على شفتيها، وانتشر على ملامحها وجوم سريع. هذه أول مرة تسافر إلى الإسكندرية بعد زواجها، وكانت آخر مرة في صيف العام الماضي بعد أن نالت الليسانس بدرجة «جيد جدا»، وعينت في وظيفة ممتازة بعد النجاح بشهر واحد، وقبضت أول مرتب ستة عشر جنيها، وأخذت إجازة مرضية وسافرت إلى الإسكندرية. وهناك وسط الأمواج الباردة، كانت تقذف جسمها الساخن، وتنطلق بذراعيها وساقيها، تسبح كأنها طائر يعوم في الهواء، ثم تخرج من الماء، وتنثر شعرها الناعم؛ ليقذف بالماء عنه، وتمدد جسمها المبلل تحت الشمسية، وتضع رأسها على الرمل الدافئ، وعيناها نحو السماء تتقلبان وتفتشان في الزرقة العميقة الداكنة عن أشياء، أشياء كثيرة تفكر فيها أولها سعادتها، سعادتها هي. لقد حبست نفسها عشرة أعوام في المدرسة والجامعة والبيت لتذاكر وتنجح وتنال الليسانس، وقد تحقق لها ذلك، ماذا بقي إذن؟ لا شيء سوى أن تعيش، أن تطلق من نفسها ما كانت تكبله، ولم تكن تكبل سوى مشاعرها، أحاسيسها كامرأة، رغباتها، استطلاعها، شقاوتها، وكانت شقية بطبيعتها، متحفزة متحمسة، مليئة بالحياة، متعصبة لها.
وقضت ثلاثين يوما في الإسكندرية، تساوي ثلاثين عاما من عمرها الذي فات، عرفت أنواعا كثيرة من الرجال، الشاب الذي يدلي خصلة من شعره على جبهته، ويلبس المايوه الضيق، ويتبختر أمام الكبائن، يطرقع باللبان في فمه، والسلسة في يده؛ والرجل المتفلسف الذي يلبس الشورت، ويجلس وقورا أمام الكابين، ويمسك كتابا بالمقلوب؛ والرجل الهائم على وجهه، يزوغ بصره هنا وهناك، وتخرج من بين شفتيه من حين إلى حين تقليعة أو تعليق، رجال في كل مكان، يكثرون ويتكاثرون في الصيف، كأنهم ذباب، وهي لم تعرف الرجال، وإن كانت قرأت عنهم في الكتب، لكنها في هذه الأيام القليلة، تريد أن تراهم عن كثب، أن تسمع كلامهم، أن تقرأ أفكارهم، أن تلمس عضلاتهم وشواربهم، ولم تكن تريد واحدا بالذات، كان في خيالها رجل، فتى أحلامها، لكنها لم تكن تبحث عنه، أو أنها أجلت البحث عنه، حتى ترى وتتفرج، وتتمعن في الفرجة، وأصبح كل يوم من هذه الأيام الثلاثين مليئا بالمواعيد، مشحونا بالشخصيات المتناقضة، في الصباح تسابق في الماء شابا مائعا، يخيل إليها أنه فتاة قصت شعرها. وتحت الشمسية على الرمال، تجلس مع رجل يأكل الكلام، كأنه من جوعه للحم الآدمي يلتهم لسانه، وينظر إليها كخرتيت طلع توا من الماء. وفي المساء تجلس في الكازينو المطل على البحر، مع رجل أشيب، يخلط الأدب بالفلسفة والحب بالموت، كأنه يضرب الرمل ويخط بالودع، ولم تكن تريد إلا أن تتفرج على الرجال، أن تعرفهم، أن تدرسهم. ووقف القطار فأفاقت من خيالها.
ونزلا من القطار، وهند تتأمل محطة سيدي جابر بوجوم؛ لقد انتهى صيف العام الماضي، وانتهت معه كل مغامراتها، ولم يبق في نفسها شيء بالمرة سوى مفاهيم دخلت رأسها عن الحياة والناس. وبعد الثلاثين يوما عادت إلى القاهرة، لتلتقي صدفة بفتى أحلامها حسين وتتزوجه.
ونظرت إلى زوجها ورأت ملامحه الهادئة الباسمة، وأحست أنها تثق فيها كما تثق دائما، لكنها لم تكن تدري ما سر ذلك الوجوم بداخلها.
إنها لا تخاف شيئا، وضميرها لا يؤنبها على شيء، كانت كلها مغامرات بريئة، مجرد تجارب نفسية، لا تحرك إلا تفكيرها وتأملاتها، لم يمس قلبها أو وجدانها إنسان، ولم يهز أنوثتها رجل، كانت كالعالم العجوز، الذي يشرح في معمله مجموعة من الضفادع والفيران. وعلى أي حال، فقد انتهى الصيف، ومات في الماضي كما يموت أي شيء، ولا يبقى له أثر، وعادت إليها طمأنينتها، حينما تذكرت مسألة الموت هذه. كانت تستخدم ذكرى الموت دائما لحل مشاكلها؛ لأنها تشحنها بموجة استخفاف بالحياة وما فيها من مشاكل واهتمامات وعقد ... وتقول لنفسها ما دام الإنسان حتما «ميتا»، فكل ما في حياته هين تافه، وبهذا استخدمت ذكرى موت جدها في التخفيف من وطأة حزنها على تأخرها في التوجيهية، واستخدمت ذكرى موت أمها في التخفيف، من حزنها على أبيها وهكذا.
ولكن هذه الحالة لا تلبث لحظات، كأنها ومضات روحية قوية، لا تلبث أن تنطفئ، وتتركها «إنسانة» عادية في مهب الحياة، تحزنها أشياء صغيرة، مثل فقدان نصف ريال، ويسعدها أيضا أشياء تافهة؛ مثل السفر وركوب القطار والجلوس بجوار النافذة.
وقضيا أياما سعيدة في الإسكندرية؛ الصباح كله للبلاج والبحر، والمساء كله للسهر والفسح والرقص.
حتى كان صباح، وهند وحدها تحت الشمسية، تمدد جسمها المبلل بالماء على الرمل الدافئ، وعيناها ناحية السماء لا تتقلبان، ولا تفتشان عن شيء، إنها سعيدة في حياتها، ولا تطلب مزيدا من شيء، وفجأة وقف أمامها مارد طويل، حجب عنها السماء والبحر، ونهضت برأسها وهي تصيح في دهشة: «مين؟»
ورد عليها صوته الغليظ: «مين! إيه نستيني؟»
وابتسمت في عدم اهتمام قائلة: «تقريبا.»
واحمر وجهه من لهجتها، ونظر إليها من قدمها إلى رأسها، كأنه يفحصها بلا إعجاب، ثم قال: «تقريبا يعني إيه؟»
وغاظتها نظرته الجريئة الوقحة، ولهجته الشديدة الآمرة، كان هو كذلك دائما؛ جريئا وقحا معتدا بنفسه مغرورا، لكنها لم تضق به كما ضاقت هذه المرة. كانت في العام الماضي لا يهمها شيء سوى أن تتفرج، وكانت تقبل الناس على علاتهم وبأخطائهم وعيوبهم؛ لأنهم كانوا لا يهمونها في شيء، لكنها اليوم، وبعد أن أحبت وتزوجت، يهمها زوجها وتهمها سعادتها، وهي لا تسمح لأي رجل أن يكلمها بلهجة شديدة آمرة، إلا زوجها في أوقات غضبه فقط ويعتذر بعدها، ولكن هذا الرجل من يكون؟ ذلك الشاب المستهتر الذي قابلته في الصيف الماضي، والذي لا مبدأ ولا عمل له، الذي يظهر على البلاج في موسم الصيف، كما يظهر التين الشوكي في شهر يوليو، والبلح في سبتمبر، مجرد كائن حي يمشي على رجليه، ويكسو صدره شعر أسود ويلبس في أصبعه الصغير خاتما من الماس، وأبوه كان باشا أيام الباشوات.
واحمر وجهها من الغيظ، وهي تراه يثني جسمه الطويل، ويجلس في برود بجانبها على الرمل، وانتفضت واقفة على ركبتيها، وهي تقول بشدة: «تسمح تقوم من هنا!» وأصابه برود أشد لثورتها، فأجاب بهدوء وعناد: «مش قايم!»
ولم يشعر إلا ويدها ترتفع، وتهوي على وجهه في لطمة قوية، وهي تأمره بلهجة حادة كالكرباج: «اتفضل قوم بسرعة!»
واحمر نصف وجهه الذي أصابته اللطمة، واصفر النصف الآخر، ونظر إليها نظرة ارتعدت لها مفاصلها، نظرة فيها دهشة وشر وحقد، نظرة رجل مصاب في كرامته، إلى أبعد حدود الإصابة، وفرد جسمه الطويل، وقام في تثاقل، ومشى خطوتين ثم استدار إليها، وقال في صوت متغير غريب: «لازم أدفعك تمن الصفعة دي!»
ودق قلبها بعنف، لماذا يقول هذا؟ وماذا يملك حتى يستطيع أن يفعل ضدها شيئا، ويغرمها ثمنا أي ثمن؟ وغاب لون الدم من وجهها وارتعشت أصابعها في الرمل، وأحست بيد قوية تمسك قلبها، لقد تذكرت الصورة، الصورة التي التقطت لها، وهي جالسة بالمايوه، وبجوارها ذلك الشاب يوشوشها في أذنها، كانت أيامها تحيا في فكرة معينة عن الحياة، تريد أن تعيش فيها فترة، وقد انتزعت نفسها من بين البشر لتتفرج عليهم، وهي ليست منهم، فماذا يضرها من صورة أو آلاف الصور؟ مجرد ورقة عليها رسومات! لكنها الآن تحس شيئا آخر.
صحيح أنها ورقة، ولكنها تسجل جزءا من حياتها، تسجل موقفا لها مع رجل، يستطيع من يراها، أن يحكي عنهما ألف قصة وقصة. وشعرت بالخوف فتذكرت الموت، وقالت لنفسها: الناس تموت كل يوم، واليوم الذي يفوت لا يعود مرة أخرى أي أنه يموت. ولكن هذا غير صحيح؛ الماضي قد لا يموت، قد تسجله أشياء تافهة مثل ورقة أو صورة، فيبعث حيا من جديد، ورقة حقيرة صغيرة، يذيبها قليل من ماء البحر، لكنها تقف أمامها كأنها ثلاثون يوما كاملة، بكل دقائقها وثوانيها، وكل حوادتها وشخصياتها ومفارقاتها، هذه الورقة في جيب هذا الرجل المغرور، إنها سلاح يمكنه أن يستعمله ضدها، والرجل الحقير لا يلهب حقارته مثل إهانة امرأة له.
وقضت هند صباحا سيئا، تفكر في الصورة وتتصور الرجل، وهو يعطي زوجها الصورة، ويحكي له قصة حب خرافية، وأي قصة حب يمكن أن تركب على صورة رجل وامرأة يتهامسان، وفجأة، أحست هند بيد على كتفها فانتفضت، كان هو زوجها وقد عاد ومعه السندوتشات وزجاجة بيرة، ووضع الأشياء وهو يقول لها باسما: «إنتي نمتي وللا إيه؟»
وابتسمت في إعياء، وهي ترد مازحة كعادتها: «إيه.» وضحك زوجها وهو ينظر في عينيها: «دمك خفيف، عمرك ما تنسي النكتة دي أبدا.»
ونظرت إليه هند بعناية، كأنها تراه لأول مرة وتفحصه، وتفتش في عينيه ويديه، عن مدى حبه لها وثقته فيها. رأت عينيه الباسمتين ويديه الهادئتين الواثقتين فهدأت، إنه حسين، زوجها الذي أحبته، والذي يملأ حياتها، ويستولي على قلبها، وتحس بكل الرجال إلى جانبه كأنهم نساء. وأعادت النظر إلى عينيه ويديه، إنه رجلها وحبيبها، ولكن ماذا يكون من أمره إذا رأى الصورة؟ وأحست بالقبضة تمسك قلبها، وسمعته يقول باسما: «ياللا يا هند قربي، أنا مت من الجوع!»
وأعاد لها صوته العميق الحنون ثقتها فيه، إنه لن يخذلها، هذا الرجل لا يمكن أن يفصلها عنه آلاف الناس، تتراص بينه وبينها، فما بالها بقطعة من الورق الصغير، مطبوع عليها رسومات، أي رسومات.
وعاد إليها هدوءها كاملا فأكلت، وشربت البيرة، واستلقت بجوار زوجها على الرمل، وطال بينهما الحديث كما يطول دائما.
وفي صباح اليوم التالي، كانت قد نسيت تماما الرجل والصورة، لولا أنها لمحت زوجها، مقبلا عليها من بعيد، ممسكا بيد رجل طويل، ما إن تبينته حتى عادت القبضة إلى قلبها تعتصره بشدة، ونهضت من رقدتها على الرمل، وجلست متحفزة تستعد لمواجهة الأمر، وتستجمع قواها الهاربة في أركان نفسها، ووصل زوجها وجلس بجوارها، فارتعدت وبلعت أنفاسها لتبدو هادئة، ونظرت إلى زوجها، إلى عينيه ويديه؛ لتطمئن على حبه لها وثقته فيها، كان كما هو هادئا باسما، لم تتغير ملامحه، إلا من معنى طفيف ساخر.
ووضع حسين الصورة في جيب قميصه بتأن، ونظر إلى زوجته وهو يبتسم، قائلا: «تصوري يا هند الجدع يمشيني لآخر البلاج، عشان يوريني صورة!» ونظر إلى الرجل نظرة ساخرة عميقة واثقة، وقال له: «حد قالك إني غاوي صور؟ هي صورة لطيفة فعلا؛ لأن فيها هند، لكن انت تعبت نفسك.»
وسكت حسين ووضع يده على جيبه، وربت على الصورة برفق وحنان، وقال له: «خلاص يا سيدي الصورة وصلت مكانها، تقدر تروح.»
وبعدما اختفى الشاب من أمامهما، نظرت هند إلى زوجها في دهشة، فرأت عينيه الباسمتين في عينيها، وأحست يديه الحبيبتين الواثقتين على يديها، وسمعت صوته الدافئ الحنون يقول لها: «أما مغفل صحيح! إيه يعني صورة، وحتى لو كان فيه حاجة، إنتي عارفة إني لا يمكن أحاسبك على حاجة قبل ما تعرفيني.»
ونظرت هند في عينيه، ودموع الفرح في عينيها، إنها لم تخطئ حينما عرفت من أول وهلة، أنه فتى أحلامها، إنه رجلها الذي يثق في نفسه وفيها، رجلها الوحيد الذي استطاع بقوته الناضجة الواعية، أن يمس وجدانها ويهز أنوثتها.
وابتسمت وهي تقول: «دي كانت مجرد مقابلات على البلاج.»
فقال وعلى جبهته تكشيرة، وفي عينيه ابتسامة: «كانت شقاوة يعني!»
وردت بسرعة: «شقاوة ببراءة.»
واقترب منها وقبل كتفها في حنان، وهو يهمس في أذنها: «أنا عارف يا هند إيه ...» ثم نظر في عينيها، وهو يسألها باسما ككل مرة: «وللا ايه؟» وهو يعرف أنها لن تنسى أن تقول له: «إيه.» وفعلا كان. وضحكا معا للمرة الألف على النكتة، حتى في هذه المواقف الخطيرة، لا تنسى هي هذه النكتة الصغيرة.
الدوسيه الضائع
دقت الساعة التاسعة صباحا، حينما كان الدكتور خالد يسير في الممر الطويل الضيق المظلم، الذي يقود إلى حجرة الأرشيف، وبين شفتيه سيجارة لم يشعلها بعد، وفي نظراته كآبة حبيسة، لم تجد طريقا إلى الانطلاق.
وأخرج من جيبه علبة الكبريت، وأشعل السيجارة ثم ألقى بعود الكبريت على الأرض الأسفلت، وهو يلعن هذا الممر المظلم الكئيب، الذي قاده إليه الحظ السيئ. منذ ثلاثة شهور، يأتي صباح كل يوم، ويتحسس بقدميه درجات السلم المتهدمة، حتى يصل إلى الممر الضيق الطويل، كأنه سرداب في بطن الأرض، ويرى «الدولاب» المعدني الذي يرتكن على الحائط اليمين، والنضد الخشبي الذي وضع إلى اليسار، ثم الباب المغلق إلى اليسار أيضا، ولا يعرف لماذا هو مغلق وإلى أي سرداب يقود.
وأخيرا يأتي الباب المفتوح عن اليمين، وعليه لوحة نحاسية صغيرة، كتب عليها «الأرشيف».
وتنهد الدكتور خالد وهو يدخل من الباب الصغير، إلى حجرة مظلمة رطبة، يبتلع نصف مساحتها تقريبا دولاب خشبي كبير، له أرفف كثيرة، تختفي تحت عدد لا يحصى من الدوسيهات، ويشغل النصف الآخر مكتب خشبي كبير، أسود اللون، ينوء تحت أكوام من الدوسيهات، ومن خلف هذه الأكوام يظهر رأس محفوظ أفندي، موظف الأرشيف بنظارته السميكة البيضاء وشعره الأبيض، يرتكن على جسد نحيل، يغرق في بدلة واسعة قديمة، كأنها صنعت له منذ عشرين أو ثلاثين عاما، حينما كان شابا ممتلئ الجسد، لم تنحل وبره السنون بعد.
وكان محفوظ أفندي كعادته يكتب شيئا حينما دخل الدكتور خالد. انقضت ثلاثة شهور بأكملها، والدكتور خالد يأتي إلى هذه الحجرة، صباح كل يوم، ولا يرى محفوظ أفندي، إلا وهو جالس يكتب، ونظارته البيضاء السميكة تتدلى على أرنبة أنفه، فيخيل إليك في تلك اللحظة، أنه لا يرى شيئا إلا أنفه، لكنه حينما يرفع رأسه، ويبربش بعينيه في الفضاء، ثم يقول بصوته الرفيع: أهلا دكتور خالد اتفضل؛ تعرف في هذا الوقت أنه قد يرى شيئا آخر.
وجلس الدكتور خالد كما تعود أن يجلس على الكرسي الخشبي الوحيد في الحجرة، باستثناء كرسي محفوظ أفندي بالطبع؛ إذ له ثلاثة أرجل فقط، تركه محفوظ أفندي جانبا لمن تسوقه المقادير لينزل ضيفا عليه.
وأسند الدكتور خالد الكرسي إلى الحائط، وجلس عليه بمهارة اكتسبها بعد خبرة ثلاثة أشهر، وقال لمحفوظ أفندي جملته التقليدية: «صباح الخير يا محفوظ أفندي، خير إن شاء الله، يا ترى لقيت الدوسيه؟» وتململ محفوظ أفندي في كرسيه، وهو يفرك يديه، وقال بصوته الرفيع: أبدا والله يا دكتور خالد، أنا مش عارف الدوسيه ده راح فين، كل يوم أفرز الدوسيهات اللي سيادتك شايفها دي، واللي في الدولاب الكبير ده، والدوسيه بتاعك مش باين أبدا، حاجة غريبة! زي ما يكون عفريت خده، بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وأخرج محفوظ أفندي مسبحة صفراء من أحد أدراج مكتبه، وأخذ يبسمل على كل حبة من حباتها، ويصلي على النبي، ثم انتهى منها بعد دقائق، وأعادها في خشوع إلى الدرج، والتفت إلى الدكتور خالد وقال: «أنا رأيي يا بيه انك تيجي هنا بكرة، يمكن ربنا يكون سهل واعتر على الدوسيه هنا وللا هنا.»
وقال الدكتور خالد، وهو ينفث دخان سيجارته في أسى: «لا بكرة ولا بعده، خلاص ما فيش فايدة.»
واهتزت نظارة محفوظ أفندي، وهو ينفعل قائلا: «لا يا بيه ما تقولش كدة، ما فيش حاجة بعيدة على ربنا أبدا. ربنا قادر على كل شيء، مين يعرف بكرة تيجي تلاقي الدوسيه ظهر فجأة كدة على وش الدوسيهات، الإنسان لازم ما يفقدش الأمل في ربنا بسرعة كدة يا دكتور.»
وقال الدكتور خالد وهو ينفخ: «بسرعة؟! يا شيخ حرام عليك، مش مكفيك ثلاثة أشهر باجي هنا كل يوم، ثم إن ربنا ماله يا أخي؟»
وكأنما أطلق الدكتور مقذوفا ناريا في وجه محفوظ أفندي، أو فجر في جسده قنبلة يدوية، فانتفض محفوظ أفندي على كرسيه، وارتج جسده النحيل داخل البدلة الواسعة، وقال: «أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم ...»
ثم التفت إلى الدكتور خالد، وقال في عتاب ولوم شديدين: «ربنا ماله؟ بقى ده كلام تقوله يا دكتور؟»
وانفجر الدكتور خالد غاضبا: «هو أنا قلت حاجة على ربنا يا أخينا؟ أنا ما كفرتش ولله الحمد، وإن كانت المصيبة دي تكفر اللي عمره ما كفر.»
وقال محفوظ أفندي في بلادة: «مصيبة إيه كفى الله الشر؟»
وشد الدكتور خالد شعر رأسه، وصاح قائلا: «بقة انت لسة مش عارف مصيبة إيه؟ مصيبتي! مصيبة الدوسيه. الدوسيه اللي لابس طاقية الإخفاء، مصيبة البعثة اللي حتروح مني!»
وبربش محفوظ ببقايا عينيه المتآكلتين من وراء الزجاج السميك، وقال: «بعثة إيه يا دكتور؟» ويرد الدكتور خالد: «بعثة أمريكا عشان آخذ الدكتوراه.»
واندهش محفوظ أفندي، واتسعت المسافة الرفيعة الضيقة بين جفنيه، وقال: «تاخد الدكتوراه؟! هو انت لسة ماخدتهاش؟ أمال اسمك الدكتور خالد ليه؟»
وهز الدكتور خالد يديه في زهق، وقال: «لا، ده موضوع شرحه يطول، المهم إن ضياع الدوسيه ح يضيع علي البعثة.»
وقال محفوظ أفندي في غباء: «ليه يا بيه؟»
ووقف الدكتور خالد وقد نفد صبره وقال: «أوف! ربنا يطولك يا روح!»
تلفت حواليه في حيرة، وقال يخاطب نفسه: «وبعدين! الدوسيه ضاع! مش معقول! والبعثة! آخ ياني!»
ونظر إلى محفوظ أفندي يحاول أن يفتش في جزء منه عن قبس من الأمل في العثور على الدوسيه، لكنه وجده وقد انكفأ على الشيء الذي يكتبه دائما، ونظارته السميكة متدلية على أذنه، وكأنه نسي وجوده تماما.
وخطرت للدكتور خالد فكرة، وهو واقف هكذا، فانتعشت روحه بعض الشيء، وخلع سترته ووضعها على الكرسي الخشبي، وشمر عن ساعديه وبدأ يفرز بنفسه الدوسيهات واحدا واحدا، ومحفوظ أفندي غائب عن العالم في الشيء الذي يكتبه.
وانقضت ساعات والدكتور منهمك في البحث، حتى تصبب منه العرق، وشعر بألم في أصابع يديه، لكنه كان متحمسا يعمل بأمل جديد، أنقذه من الشعور الكئيب باليأس. وانتهى من الدوسيهات التي فوق المكتب، فانتقل إلى الدوسيهات المتراصة في الدولاب، وأعمل فيها البحث والتفتيش.
ولم يجد شيئا، وعاد متعبا يائسا، ولبس سترته وجلس على الكرسي، بعد أن أسنده إلى الحائط، ونظر في أسى إلى محفوظ أفندي، وقال: «حاجة تطير العقل، الدوسيه بتاعي مش هنا!»
وتهلل وجه محفوظ أفندي، وقال: «عشان تعرف إني ما كدبش أبدا، وأنا عارف شغلي كويس خالص، وحافظ الأرشيف ده ورقة ورقة، ده أنا بقى لي خمسة وثلاثين سنة في الشغلة دي يا دكتور.» وأطرق الدكتور خالد في حيرة وأسى، ونظر محفوظ أفندي إلى النافذة ثم صاح: «ياه! ده الشمس راحت من فوق الحيطة اللي جنبنا.»
ونظر الدكتور في ساعته، ثم قال: «اتنين ونص!»
وشد محفوظ أفندي نفسه من فوق الكرسي بصعوبة، وقال وهو يتأوه: «آه يا كعبي الشمال! شوف يا دكتور أنا اديت الحكومة نص ساعة زيادة من وقتي، لكن معلهش أنا مش بادقق، ربنا قال اعمل الخير وارميه البحر. آه يا كعبي الشمال! الروماتزم يا دكتور تاعبني خالص، أعمل له إيه بس؟»
ونظر الدكتور إلى كعب محفوظ أفندي، في حركة آلية يفعلها أي طبيب، حينما يتأوه إلى جانبه مريض ويشكو من جزء في جسمه. ورأى الدكتور شيئا على الأرض، ولم يصدق عينيه أول الأمر، فأغمض عينيه وفتحهما، ثم أعاد النظر مرة ومرتين وثلاثا، ولم يشعر إلا وهو يقفز من فوق كرسيه كالمجنون، وصاح في وجه محفوظ أفندي قائلا: إيه ده؟
ونظر إليه محفوظ أفندي في تعجب، وقال في بلادة: «كعبي.» وقال الدكتور: «إيه اللي تحت كعبك ده؟»
وقال محفوظ أفندي، وهو يأخذ مسبحته من الدرج، ويغلق أدراج مكتبه: «ولا حاجة، دول شوية دوسيهات حطيتهم تحت كعبي، يحوشوا عني رطوبة البلاط.»
وأخرج الدكتور الدوسيهات من تحت المكتب، وفرزها بسرعة ثم تهلل وجهه فجأة، وهو يمسك بأحد الدوسيهات، وصاح: «آهه! الدوسيه بتاعي يا راجل يا مجنون! بقى تدوخني ثلاث شهور والدوسيه بتاعي تحت رجليك! مستقبلي كله تحت رجليك! أما معتوه صحيح!»
وبربش محفوظ أفندي من تحت نظارته السميكة، وقال في برود: «اسكت يا دكتور، اسكت ده ربنا!»
وقال الدكتور في دهشة: «إيه؟ ربنا قالك تحط الدوسيات تحت رجليك؟!»
وحرك محفوظ أفندي حبات مسبحته في خشوع، وقال: «لا يا دكتور، ده ربنا زي ما قلت لك قادر على كل شيء، مش قلت لك إن ربنا يمكن يظهره كده فجأة على وش الدوسيهات! يا سلام، ياما انت كريم يا رب!»
ومات الحب
كنت أجلس على حافة السرير بجواره وهو نائم، عيناه مغمضتان، عيناه الحبيبتان اللتان كنت أنظر فيهما فتشرق الدنيا في عيني، عيناه السوداوان يكسو بياضهما دائما حمرة خفيفة، تضفي على نظراته قوة، وصدق عاطفة. وملامحه كلها نائمة غائبة في ملكوت آخر.
ومددت يدي في رهبة، وتحسست جبينه، وسرت في جسمي قشعريرة باردة، وانتقلت أصابعي في غير وعي تتحسس خديه، وأنفه، وشفتيه وجفنيه، ولم أدر كيف اشتقت لأن أنظر في عينيه، لأن أرى ولو لمرة واحدة سواد عينيه الحبيب، الذي كنت أنظر فيه، فأرى الدنيا بأسرها تشرق وتبتهج. ووجدت أصابعي تفتح الجفنين في تهيب، وانحسر الجفنان عن عينيه، ورأيت سوادهما نائما غائما، ليست فيه حياة، وليست فيه دنيا تشرق، وليس فيه أي شيء. سواد ميت غارق في بياض ميت، شيء كروي أسود! جماد!
لا، لا ... وانطلقت مني صرخة، لم يسمعها أحد إلا أعماقي الحزينة المفجوعة، وتركت أصابعي جفنيه، فأنزلتا على عينيه كالستائر تخفيهما عني، وكأنما أشفقا علي من التحديق فيهما.
وانتفضت، إن عقلي يأبى أن يقبل هذا الواقع الشاذ، الذي يشبه الخيال؛ لقد كان أبي منذ دقائق يملأ هذا البيت نشاطا، ومرحا، وحياة! لقد كانت عيناه ... عيناه هاتان! تتألقان ببريق يعكس الدنيا بكل صورها! كيف؟ كيف تخمد هذه الحياة فجأة؟ كيف تنطفئ هاتان العينان، وتصبحان قطعتين كرويتين من جماد؟ أهذا هو الذي يسميه الناس موتا؟
وأحسست بدموع ساخنة تجري على وجهي، ورأيت وجه أبي يشحب عما كان، واتخذت ملامحه شكلا رصينا رهيبا، كأنها ملامح تمثال نحت من الجرانيت. وأمسكت وجهه البارد في يدي، وقربت شفتي من بشرته، وقبلته، وهمست في أذنه: «أبي، أين أنت؟ هل تسمعني؟ إنني أحبك.» وشعرت براحة بعض الشيء، كأن كلماتي من صدقها وحرارتها أذابت جليد الموت، وبعثت في أذنيه الحياة فسمعني، وابتسمت، وعانقته، وأخذت أتحسس جيوبه، وكان لا يزال بالمنامة الجديدة التي اشتراها بالأمس، ووضعت يدي في جيب الساعة العلوي، فوجدت نظارته، وقلمه، وعلبة سجائره، وخفق قلبي من الدهشة. هذه الأشياء! أشياؤه! تؤكد لي أنه لم يمت؛ لأنها تعيش في جيبه حية تنتظره! وتأملت نظارته، وخيل إلي أن فيها حياة، أن فيها عينيه تنظران، ونظرت إلى قلمه الحبر، ورأيت أصابعه تلتف حوله تكتب، وارتعشت أصابعي، وأنا أعيد هذه الأشياء إلى مكانها في جيبه، وأزحت الملاءة عنه قليلا؛ لأبحث عن يديه، وأمسكت أصابعه بأصابعي ... آه! وأمسكت يده بكلتا يدي، ووضعت وجهي في راحته الكبيرة، وبكيت!
ولم أدر إلا بيد على كتفي، فوقفت وغطيت أبي بالملاءة حتى وجهه، وأغلقت عليه الحجرة. لا أريد أن يرى أحد أبي وهو راقد شاحب ضعيف. إن الضعف عورة، ولا أريد أن يرى أحد عورة أبي، أبي الرجل القوي العملاق، الذي علمني كيف أمشي، وكيف أتكلم، وكيف أحب. كنت أجلس إلى جواره كل ليلة، وأستمع إلى حديثه العذب وهو يشرح لي كل شيء حتى الحب! وكان بطبيعته فنانا يعشق الفن. وفي ليلة سألته: «ماذا تفعل يا أبي لو عرفت أنني أحب؟» وكان يجلس بجوار المدفأة، فنظر إلي مدققا، ثم قال: «لا شيء، المهم أن يكون إنسانا يستحق هذا الحب.»
وسألته: «وكيف أعرف أنه يستحق؟»
قال: «ما دمت لا تعرفين فهو لا يستحق!»
وسمعت في البيت ضجة، وصخبا، ورأيت أناسا كثيرين، رأيتهم من قبل، يلبسون السواد، ويروحون ويجيئون لا أدري لم؟ وبعد وقت لم أعرف مداه، رأيت الرجال يحملون أبي في صندوق خشبي، ونزلوا به إلى الشارع، وانطلقت العربة، وكنت أجلس في العربة نفسها بجوار الصندوق، ولم أكن أبكي، لكن شيئا ثقيلا كان جاثما على صدري، يقبض على قلبي بيد من حديد، ونظرت من نافذة العربة إلى الطريق، فوجدت الحياة على أشدها، الناس يجرون، والعربات تتسابق، والشوارع كلها مليئة بالصخب والسعي والكفاح، وتراخت اليد الحديدية عن قلبي بعض الشيء، وجذبت نفسا عميقا من هواء الشارع، ثم نظرت إلى داخل العربة، فوجدت صندوق الموت يحمل أبي، فعادت اليد الحديدية تقبض على قلبي من جديد.
وسارت عربة الموت وسط عربات الحياة السريعة، وأنا أجلس داخلها أجتر آلامي وأحزاني. وأخيرا وصلنا، وأنزل الرجال صندوق أبي، ووضعوه على الأرض، ثم فتحوه وحملقت داخل الصندوق لأرى أبي، وخفق قلبي خفقة عنيفة، كأنه يفرغ بها كل دمه. ورأيت أبي ملفوفا في أقمشة بيضاء، لا تظهر منه شيئا، وحملوه، وأدخلوه في حفرة صغيرة، ثم أهالوا عليه التراب، وتلفت حولي في ذعر كأن الدنيا قد خوت وأقفرت، أو كأن ريحا عاتية أقلبت واقتلعت أبي، فأصبحت أنا في مهب الريح أنتظر دوري. ورأيت الرجال ينفضون عن ملابسهم وأيديهم التراب في آلية غريبة، وكأنهم فرغوا من وجبة غذاء عادية، ولم يواروا الثرى إنسانا، كان هو بصري وسمعي وحياتي.
وبقيت وحدي كالمذهولة أحملق في الحفرة الصغيرة، التي ابتلعت أبي. أهكذا؟! ... أهكذا ينتهي الإنسان؟! أهكذا ينتهي أبي الرجل القوي الجبار، الذي كنت أنظر إليه كعملاق تطاول هامته السماء؟! أهكذا ينتهي به المطاف إلى أن يرقد في حفرة من التراب؟!
لا، لا! صرخت من أعماقي في ثورة، واندفعت إلى مكان الحفرة، وأخذت أنبش بأصابعي في عصبية تشبه الجنون. لا! إنني لا أقبل هذا، إنها قاسية! لا أقبلها أبدا، سأتحداها، سأنبش حتى أفتح هذه الحفرة، وأخرج أبي منها! وأحسست بثورة في أعماقي تندلع وتضطرم، ثورة على الحياة، وثورة على الموت، وثورة على ...
وأفقت على يد تسحبني، وصوت يقول لي: «هيا بنا نعد.» وعدت مع اليد التي سحبتني أنظر إلى الحياة شزرا، وأسخر في أعماقي من جريهم وحماسهم، وأقول لهم في نفسي: «كفى، كفى ... كفاكم جهلا وجريا، ألا تعلمون ما نهايتكم؟ حفرة في التراب، تراب يهال عليكم، تراب في تراب!»
ولم ألبس السواد، كان موت أبي، بل مشكلة الموت نفسها تشغل تفكيري كله، حتى إنني كنت أضع ملابسي على جسمي بلا وعي، ولا أكاد أعرف لون الرداء الذي أرتديه.
وجاءني صوته في التليفون حزينا، معزيا، مخففا. والحقيقة أن هزة الموت أنستني هذا الصوت فترة، لكني رغم ذلك كنت أنتظره، كنت أتلمس شيئا قويا من الحياة يعيدني إليها، شيئا عنيفا يهزني فتسقط عني، بعض الشيء، غشاوة الموت القاتمة، وما من شيء يستطيع أن يفعل ذلك إلا الحب.
وقلت له وأنا أتشبث ببقايا حماس في قلبي: «أريد أن أراك.» قلتها ببساطة، وكانت المرة الأولى التي أقول له فيها أريد أن أراك. كنت أشعر أحيانا برغبة في النطق بها، لكن شيئا ما في أعماقي يمنعني، فأقول شيئا غيرها، أو عكسها، أو لا أقول شيئا على الإطلاق، لكني بعد أن شهدت الموت، رأيت الحياة أبسط وأتفه من أن أكتم في صدري كلمة أريد أن أنطق بها.
ودعاني إلى بيته، وترددت قليلا، ثم وافقت. ولبست ملابسي بإهمال، زاد بعد موت أبي عما عهدته في نفسي، ولم أضع على وجهي أية مساحيق، ونظرت إلى عيني طويلا في المرآة، وقلت لنفسي: «ليس في الحياة شيء يبعث على الذعر، حتى ذهابي إلى بيته!»
ووصلت إلى بيته دون مشقة كبيرة، وفتح لي الباب، ورأيته لأول مرة بعد موت أبي، ولا أدري تماما ماذا كان وقع منظره علي، وهو في بيته، هل ضاعت هيبته الجميلة، التي كنت أهواها فيه، أم إن موت أبي أضاع هيبة الحياة، بكل ما فيها حتى هو؟!
وقال بعد أن تكلمنا قيلا: «لم أرك فاترة كاليوم!»
وقلت: «لقد جعل الموت الحياة باهتة في عيني.»
فقال: «بالعكس، إن الموت يجعل الحياة في عيني زاهية. تصوري لو أننا نعيش إلى الأبد، كيف تكون هناك حياة إذا لم يكن هناك موت؟ وعلى كل فإن الموت مصيره إلى الموت، كما قال طاغور.»
واقترب مني قليلا، وقال: «لم أكن أتصور أن شيئا ما في العالم، يستطيع أن يغرس الحزن في عينيك، لم يكن التشاؤم أحد صفاتك.»
قلت: «بل إن التشاؤم أحد صفاتي.»
ولا أدري لماذا يثير الرجل حزن المرأة؟ لعله يرى فيه نوعا من الضعف أو الأنوثة! ورأيته يقترب مني أكثر، ويأخذ يدي في يديه ويقبلها، وهمس قائلا: «أحبك.» وكأنني لم أسمع كلمته، ولم أحس قبلته، فلم تهتز خلية واحدة في جسمي، وشعرت بالصقيع يحوطني من داخلي وخارجي، ولم أجد في نفسي شيئا من الحرارة، حتى لأسحب يدي من يده.
كان عقلي قد تجمد عند فكرة الموت، ووقف عندها ينظر إلى الحياة شزرا، ويرى كل ما فيها تافها حتى الحب؛ فلا هو يعارض، ولا هو يحبذ، يستسلم لما يحدث في سلبية مطلقة تشبه الموت.
ورأيته يبتعد عني، ثم يقول: «أنت لا تحبينني.»
وقلت: «إن الموت ...» وقاطعني قائلا: «لا ... لا تقولي الموت، الموت لا يغير شيئا من الحب.»
وسكت، ورحت أفكر وأبحث في زوايا نفسي، عن حبي له، لكني لم أجد شيئا، كأنما تبخر حتى آخر قطرة.
وقلت في عجب: يا إلهي! إن الموت أقوى من الحب.
وسمعته يقول: «بل الحب أقوى من الموت، إذا كان حبا حقيقيا. أما إذا كان وهما، فإنه يبهت ويتلاشى بجوار لون قوي صارخ كلون الموت.» وودعني وهو يقول: أرجو أن تقابلي حبك الحقيقي يوما ما لتصدقي كلامي.
لم أصدقه في ذلك اليوم، لكني أحسست بشعور خفي، ينبئني بأنني سأصدقه يوما ما.
سوسن
كانت تشب على أطراف أصابعها؛ لتطل برأسها الصغير، من فوق جدار الشرفة المبني بالطوب الأحمر، واستطاعت بعد محاولات كثيرة أن ترى العربة الصغيرة الزرقاء، وهي واقفة أمام الباب تحت الشرفة، تهتز وتنتفض وتصدر عنها أصوات، لا تعرف مصدرها تشبه «الشخشخة»، التي تسمعها وهي تتفرج على المركب الصغيرة تسبح في حوض الماء، تلك اللعبة الجميلة التي أحضرتها لها أمها منذ أيام في عيد ميلادها الرابع.
وشبت على أطراف أصابعها أكثر وأكثر ، حتى استطاعت أن تدلي رأسها من الشرفة لترى العربة الزرقاء، وهي تنطلق مسرعة في الشارع القصير، ثم تنحني إلى اليسار وتختفي، وأسندت ذقنها الصغير على حائط الشرفة، والدموع تنهمر من عينيها الصغيرتين، ونظراتها الزائغة اليائسة تتعلق بنهاية الشارع الذي ابتلع العربة، لا تدري إلى أين، وقلبها الطفل يدق دقا سريعا متواصلا، وقد اجتاحه شعور بالخوف والفقدان، وأن تلك القوة التي ترعاه وتحميه قد ركبت العربة واختفت في نهاية الشارع.
ونادت بصوتها الرفيع الباكي: «ماما، ماما ...» وظلت نظراتها اليائسة ترقب نهاية الطريق، وقد صور لها أمل ضعيف، أن العربة الزرقاء ستعود منه فجأة.
ولكن العربة لم تعد. وبقيت نهاية الشارع خاوية مقفرة، كخرابة مهجورة، ولم تعرف أي وقت مضى وهي واقفة، متكئة بدقنها ويديها على الحائط، حتى جفت الدموع على خديها، وكفت عن نداء أمها، وأغمضت عينيها وراحت في النوم.
وفتحت عينيها بعد فترة، فوجدت نفسها في السرير الكبير ترتجف من البرد، وقد بللت الفراش وتعرى جسمها الصغير، بعد أن رفست عنها الغطاء وهي نائمة كعادة الأطفال. ونهضت من السرير مسرعة، وخرجت إلى الشرفة ونظرت إلى نهاية الشارع علها تجد العربة الصغيرة مقبلة. ولما لم تجد شيئا دخلت يائسة إلى الحجرة، وقد بدأت تحس بالجوع، ودارت في حجرات البيت الواسعة الخاوية لتبحث عن دادة فاطمة، ووجدتها كعادتها متكومة حول نفسها على الأريكة، في حجرة النوم المهجورة في أقصى البيت، والتي ليس بها إلا سرير قديم، تنام عليه دادة فاطمة، وبعض الأثاث العتيق الذي استغنت عنه الأسرة. - جوعتي يا حبيبتي؟ ده انتي من الصبح ما كلتيش يا ضنايا، تاكلي إيه؟ أجيب لك شوية رز وفاصوليا ولحمة؟
وفكت قدميها ويديها، وفردت جسمها النحيل اليابس، وقامت في تكاسل وهي تقول لنفسها: «أنا عارفة قلب امك ده إيه! حجر؟ يا قلبها ياختي، تهون عليها بنتها كدة؟!» ومسحت بكفها دمعة سالت على خدها؛ فقد تذكرت ابنتها الطفلة أيضا، وقد تركتها في البلدة مع أبيها المشلول، وجاءت هي إلى القاهرة لتشتغل وتعولهما، وقالت لنفسها: «طيب أنا سايباها عشان أأكلها وأشربها، لكن دي سايبة بنتها ليه؟ عشان الراجل! اخص عليها، راجل إيه وهم إيه! هو فيه بعد الضنى حاجة؟!»
وجلست سوسن على المائدة تراقب دادة فاطمة، وهي تروح وتجيء وتضع الأطباق أمامها، وتأملت أصابعها الغليظة الجافة وهي تمسك بالأطباق، فتذكرت أمها بأصابعها الرفيعة الرقيقة، وهي تعد لها الطعام في بيتها. - هي ماما بتروح فين يا دادة؟ - بتروح المدرسة يا حبيبتي، عشان تدرس للأطفال وتعلمهم الحساب. - أنا عاوزة أروح معاها المدرسة. - لما تكبري يا حبيبتي شوية كمان تروحي المدرسة. - وهي ماما بتبات فين؟ في المدرسة؟ - أيوة في المدرسة.
وتنهدت دادة فاطمة، ومسحت عينيها بكمها، ثم جرت هيكلها النحيل، وذهبت إلى حجرتها، وجلست سوسن تأكل وحدها، ثم تذكرت المركب، فقفزت من فوق كرسيها، وذهبت إلى صوانها الصغير، وأخرجت منه المركب، وملأت الحوض بالماء، وجلست تتفرج على المركب وهي تسبح في الماء، وتحدث شخشخة غريبة، تشبه الصوت الذي تحدثه عربة أمها الصغيرة، حينما تهتز وتتحرك، وتأخذ أمها وتجري في الشارع ثم تختفي.
وضاع رونق المركب في عينيها، وفقدت اللعبة لذتها، فأمسكتها بيدها وأغرقتها في الماء، ثم جرت إلى الشرفة لتنظر إلى الشارع؛ علها تجد عربة أمها قادمة إليها، لكنها لم تجد شيئا، فشبت على أصابعها لترى الشارع أكثر، لعل العربة مختبئة هناك تحت الشرفة، وتدلت رأسها في الهواء دون أن ترى شيئا، فعادت إلى دادة فاطمة منكسة الرأس، تبكي بلا دموع وقالت لها: «عاوزة أروح لماما، وديني يا دادة لماما.» - يا قلب امك يا حبيبتي!
ومدت دادة فاطمة يديها المعروقتين، وأخذت الطفلة بين ذراعيها وربتت عليها: يا ضنايا أوديكي لماما، حاضر أوديكي لماما.
وقامت من جلستها ولبست رداءها الأسود، الذي تلبسه عند الخروج، وقالت لنفسها في ثورة: «حوديها لأمها، بلا وجع قلب! تشوفلها طريقة في بنتها، هو أنا حاقعد لهم! هو أنا ماعنديش قلب؟! أمال لو ماكنتش مدرسة قد الدنيا، ولها ماهية تغنيها عن أي راجل، كانت عملت إيه؟»
وكادت سوسن تجن من الفرح، وهي تمسك بيد دادة فاطمة، وتمشي في الشارع، وراحت تتلفت هنا وهناك، وتنظر في كل عربة خلفها علها تجد أمها. وأخيرا رأت دادة فاطمة تتوقف أمام بيت وتدق الجرس، وخفق قلبها الصغير حين فتح الباب، ورأت أمامها رجلا طويلا، هو نفس الرجل الذي تراه، يجلس بجوار أمها في العربة، وتكرهه، وتخاف منه، وتحس أنه بأنفه الطويل المقوس كالغراب الكبير، أو الحدأة التي خطفت ذات يوم كتكوتا من فوق السطح.
ووقف الرجل الطويل في فتحة الباب يسدها، والطفلة تنظر إليه وقد تراجعت إلى الوراء قليلا، ودادة فاطمة أيضا ربما شعرت بما شعرت به الطفلة، فوقفت كالتمثال لا هي تدخل ولا هي تعود من حيث أتت، ولو خيرت بين الاثنين لعادت من حيث أتت؛ فقد بدا لها الرجل غريبا عنها وعن الطفلة، والبيت ليس لها فيه مكان.
ونظرت إلى سوسن كأنها تستشيرها الرأي، لكن سوسن لم تتزحزح عن رأيها، ووقفت تنظر من الشق الصغير من الباب، الذي بقي دون أن يسده جسم العملاق الواقف أمامها، ووقفت تنظر من خلال ذلك الفلق علها ترى أمها، أو لعل أمها تراها فتأخذها إليها، لكن أمها لم تظهر، وسمعت صوت الرجل الأجش يقول: «روحية لسة ماجتش من المدرسة.»
وقالت دادة فاطمة في تخاذل: «طيب نستناها!»
ودخلت سوسن ووراءها دادة فاطمة، وفتح لهما الرجل حجرة الضيوف.
وجلست الطفلة تتلفت حولها في الحجرة، وتنظر إلى الصور المعلقة بالحائط، ورأت أمها في إحدى الصور، فقامت مسرعة إلى الصورة، وقالت: دادة، ماما أهه!
وضحكت سوسن في سعادة، وكأنها ترى أمها حقيقة، لكنها ما لبثت أن عادت منكسرة، بجوار دادة فاطمة، وقد تبينت أنها ليست صورة أمها وحدها، وإنما يقف إلى جوارها ذلك الرجل الطويل، الذي لا تعرف سر ظهوره فجأة في حياتهما.
وأخيرا سمعت صوت أمها في البيت، فقفزت من الفرح وجرت خارج الحجرة، وهي تصيح: «ماما جت يا دادة!»
وأحست سوسن بالدفء، الذي كانت تحسه كلما أخذتها أمها بين ذراعيها، ووضعت رأسها على صدر أمها، وراحت تربت بيديها الصغيرتين على ظهرها، ثم قبلت وجهها وخديها وشعرها ، وأدخلت أنفها الصغير في شعر أمها، وأخذت تشمه وتقبله.
ومضى الوقت سريعا جدا، وأفاقت سوسن على صوت دادة فاطمة تقول: «ياللا نروح يا سوسن.» وسمعت أمها تقول لفاطمة: «خلي بالك منها كويس في السكة يا فاطمة، واوعي العربيات.»
وحملقت سوسن في وجه أمها لتفهم السبب الذي من أجله توافق أمها على كلام فاطمة، ولماذا لا تبقيها معها في البيت هنا دائما، وقالت الطفلة والدموع في عينيها: «لا مش عاوزة أروح البيت اللي هناك، أنا عاوزة ماما!»
لجأت إلى الصراخ والبكاء، وتشبثت بملابس أمها، ولكنها في النهاية لم تجد بدا من الاستسلام، وأخذت الشيكولاتة الكبيرة في يدها، التي أعطتها لها أمها لتكف عن البكاء، وخرجت إلى الطريق مع دادة فاطمة، وهي تشعر بالحزن العميق، حتى إنها سارت إلى جوار دادة فاطمة صامتة واجمة.
ووصلا البيت، وأسرعت سوسن إلى سريرها، ووضعت الشيكولاتة تحت الوسادة، ثم أخذت تدور في حجرات البيت الواسعة الباردة، لتجد شيئا يسليها، لكنها لم تجد شيئا، الكل لا يحس بها، والكل مشغول عنها، وأخيرا ذهبت إلى سريرها، وألقت على قطعة الشيكولاتة نظرة يائسة حزينة، ووضعت رأسها على الوسادة ونامت.
وفي الصباح ما إن فتحت عينيها حتى تذكرت أمها، فوضعت يدها تحت الوسادة وتحسست قطعة الشيكولاتة، وأمسكتها في يدها وهي تفكر في سر ذلك الرجل الغريب، الذي تعيش معه أمها في ذلك البيت البعيد.
وفجأة سمعت صوت عربة، فقفزت من السرير وجرت إلى الشرفة، وشبت على أطراف أصابعها، ودلت رأسها في الهواء لتنظر إلى الشارع، ولم تر عربة أمها الزرقاء، وإنما عربة أخرى وقفت أمام باب الجيران. وزاغت نظراتها الحزينة في طول الشارع، تفتش عن عربة أمها، وتعلقت عيناها بنهاية الشارع، التي تبتلع العربة في كل مرة، وانهمرت الدموع من عينيها في ثنية الشارع. وأخذت تنادي بصوت عال باك: ماما! وهي تنادي على أمها: ماما ... ماما! فقد خيل إليها أنها مختبئة، لعلها تسمعها وتخرج من مخبئها، ولكن صوتها الرفيع كان يرن في أنحاء الشارع، ثم يعود إليها كما هو، وأرهفت أذنيها لتنصت إلى الصدى، وقد خيل إليها أن أمها ترد عليها، ولكنها ما لبثت أن عرفت أن ما تسمعه، ليس إلا صوتها نفسه يقول: ماما ...
وأسندت سوسن ذقنها الصغير على حافة الشرفة، وراحت تراقب الطريق، وهي شاردة يائسة.
وأفاقت بعد قليل على عربة تدخل فجأة من ثنية الطريق، وخفق قلبها، عربة زرقاء صغيرة، عربة أمها نفسها! وصرخت من الفرح، وقفزت إلى أطراف قدميها لتطل برأسها من الشرفة.
لم تكن إلا لحظة من الزمن خاطفة، برقت كنصل السيف، ثم سقطت في الماضي، كأي لحظة من لحظات العمر، لكنها كانت لحظة تساوي الزمن، ضاعت فيها حياة بأكملها.
وملأ البيت الصراخ والبكاء، ومن عيون غرقة في بحر من الدموع، انطلقت نظرات ساخطة هي نظرات دادة فاطمة تصوبها إلى الأم التي جلست كالتمثال لا تبدي حراكا، وكأنما قبضت روحها وهي جالسة، وكان إلى جوارها الرجل الطويل نفسه، جالسا ينظر إليها ويحاول من حين إلى حين أن يغتصب كلمة أو كلمتين يخفف بهما عنها.
وكان البيت الواسع بعد أن انقطع عنه الصراخ والبكاء، يغرق في لجة من الصمت الكئيب، والناس داخلة إما جالسون في صمت حزين، وإما رائحون غادون في الحجرات الكثيرة، وكأنما يبحثون عن شيء، وهم في الواقع لا يبحثون عن شيء.
وفجأة مزق السكون صوت حاد كطلقة المدفع، والتفتوا جميعا في فزع نحو الأم، وقد عقد الذهول ألسنتهم، ورأوها - الأم نفسها - منتصبة على قدميها كالنمرة، ويدها اليمنى ترتفع عاليا في الهواء، ثم تسقط في قوة على وجه الرجل الجالس بجوارها: اخرج برة! اخرج ... مش عاوزة اشوفك!
كان صوتها مجنونا مبحوحا، ويداها طائشتان ترتفعان وتهويان على وجه الرجل الذي تراجع إلى الوراء، في ذهول ألجم لسانه.
والتف حولها أهل البيت وأبعدوها عنه، وذهبت دادة فاطمة إلى الرجل الواقف في ذهول كالتمثال وربتت على كتفه: اخرج يا حبيبي، اخرج.
ولم يتزحزح الرجل من مكانه، وكأنه ثبت في الأرض بمسامير، ونظرت إليه دادة فاطمة في دهشة وغيظ، وقالت له في شدة: «ما تخرج بقة! هو أنت إيه؟!»
ونظروا إليه وهو يجر نفسه كالمشلول ويخرج من الباب، ورأوا الأم تجري وتغلق خلفه الباب، ثم تستدير إليهم وعلى وجهها ابتسامة عريضة، تشبه ابتسامة الموتى الشاحبة، قبل أن تذهب روحهم إلى الأبد، ولكن سرعان ما غابت الابتسامة، ورأوها تنظر كالمجنونة إليهم، وتجري إلى الشرفة، وجروا وراءها مذعورين وجذبوها من ملابسها، وأغلقوا عليها إحدى الحجرات.
وجلسوا في صالة البيت واجمين، ومن خلال نشيجها المكتوم داخل الحجرة المغلقة، سمعوا صوتها وكأنه آت من بعيد: «سامحيني يا سوسن يا حبيبتي ... سامحيني!»
فراغ
وضعت قدمي على سلم صغير؛ لأصعد فوق المنضدة الحديدية، المغطاة بملاءة حمراء من المشمع، وما إن استويت عليها حتى أحسست بيد قوية خشنة تمسك ذراعي بغير رفق، وتربطها برباط من الكاوتشوك، ثم تشد الرباط بقوة، وشعرت بألم حاد في ذراعي، انتقل سريعا إلى معدتي، وأحسست بطعم شيء غريب في جوفي، وفجأة، رأيت السماء تكتسي بلون أحمر قان، ثم أخذ اللون الأحمر يبهت شيئا فشيئا، حتى أصبح غلالة حمراء رقيقة، تهتز مع النسيم الرقيق على نافذة حجرتي، ووجدتني أجلس وحدي في حجرتي، والباب مغلق علي، أجلس على طرف الكرسي، وأضغط أصابع يدي في عصبية وانفعال، وأهز رأسي في ضيق وحيرة.
لقد مللت ... مللت كل شيء! لم يعد هناك شيء يثيرني، يحركني، يهزني! عرفت كل شيء، ومارست كل شيء، وماذا كانت النتيجة؟ عدما. لا شيء! عرفت الكفاح المرير من أجل دريهمات قليلة، وعرفت الرخاء والكسل والنعيم بلا تعب، عرفت دموع الألم والحزن، وجربت دموع الفرح والنشوة، عرفت الحب والكره، وجربت الأصدقاء والأعداء، عرفت الرجال والنساء، ولعبت مع الأطفال لعبة الثعلب فات فات.
مرت بي سنين كنت أخرج فيها كل صباح باكر، قبل أن تبزغ الشمس لألحق بأول قطار يقلني إلى بني سويف. ولم يكن القطار يحمل إلا العمال والمزارعين، والموظفين الصغار من الدرجة التاسعة فما تحت، وكانت البراغيث تترك كل هؤلاء وتقبل نحوي متبخترة وتتسلق ساقي، ثم تبدأ عملها اليومي كأنها موظف حكومي نشط، وأبدأ أنا في القفز من مقعد إلى مقعد ، وقد منعني الحياء والخفر من أن أدافع عن نفسي بالطريقة الطبيعية ضد هذه الحشرات اللعينة.
وكان عملي مرهقا، أو لعله كان الذهاب إلى عملي هو المرهق.
وانتهت سنوات القحط هذه كما ينتهي أي شيء، ووجدتني فجأة أقوم من فراشي الوثير، وأنا أتثاءب في استرخاء وكسل، وأنظر إلى عقارب الساعة بنصف عين، وحينما أجد أن الساعة لم تبلغ إلا التاسعة، أعود فأغمض عيني وأسبح في أحلام لذيذة؛ فإن عملي ليست له مواعيد، أذهب العاشرة أو الحادية عشرة، أو لا أذهب على الإطلاق، تبعا لمزاج سيادتي الشخصي؛ فأنا مديرة كبيرة، وليس لأحد سلطان علي!
لكن سنوات الرخاء لا تلبث أن تدبر، كما يدبر أي شيء، وأجد نفسي محشورة مع ركاب الدرجة الثانية في الأتوبيس، بعد أن كنت أركب عربة خاصة بي، وأعطي لسائقها الأوامر بأن يذهب بي حيثما أشاء.
وكانت لي صديقة حميمة، عملها الرئيسي في الحياة هو أن تسجل ما يطرأ على حياتي من تغيير، إلى جانب أعمالها الأخرى كربة بيت لها زوج وأولاد، وكانت تقول لي دائما: يا شيخة حرام عليكي، ده أنا تعبت مش لاحقة أجري وراكي فين وللا فين، مش ناوية تستقري بقى؟
كانت كلمتها هذه تثير في نفسي كثيرا من الأفكار والأسئلة والحيرة، أستقر؟ كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟
ثم كيف أستقر وأنا أقف على أرض كروية، تدور وتلف بلا توقف؟ كيف لا أتحرك وقدماي مشدودتان إلى شيء يتحرك؟
لكن صديقتي كانت مخلصة، وكانت تحبني، فلم أشأ أن أغضبها، فقلت لها: «حاضر يا عزيزتي، سأستقر ... ولنبدأ.»
وكانت البداية أن عرفتني بعريس؛ فإن الاستقرار في رأي صديقتي هو الزواج، ولا شيء غيره، ولم أكن أعرف ذلك إلا بعد أن وجدت نفسي أجلس في حجرة الصالون في بيتها، ومعي رجل لم أقابله من قبل، ولم يعجبني الرجل، لكني رحت، مجاملة لصديقتي، أفتش في ملامحه أو في جيوبه عن شيء يثير الاهتمام، لكنه كان خالي الوفاض من كل شيء، حتى عيناه كانتا خاليتين من التعبير!
لكني رغم كل ذلك تزوجته مجاملة لصديقتي ، لم أشأ أن أخيب ظنها في نفسها، وفي مقدرتها على إقناعي بالاستقرار.
تزوجته لأنني أشعر نحو صديقتي بعاطفة ما لا أستطيع أن أصفها، ولكنها عاطفة قوية، تجعلني أفكر في بعض الأحيان أن أسعدها، وأحسست أن زواجي من هذا الرجل سيكون سببا في سعادتها.
لكني لم أستطع أن أستمر في إسعاد صديقتي كثيرا، وهذا عيبي؛ فأنا لا أتجمل بشيء من الصبر، وسرعان ما يصيبني الملل.
آه الملل! هذا العملاق الفاغر فاه دائما، يبتلع في جوفه كل شيء، ثم يترك من حولي فراغا كئيبا قاتلا كأنه الموت، فراغا عنيدا يتبعني أينما ذهبت، ويطاردني بالليل وبالنهار، لا يخشى رهبة الحكومة وموظفيها الموقرين، فيتسلل إلي من تحت باب المكتب، وأجده متربصا بي وأنا أقلب الأوراق وأنجز الأعمال.
ولا تخدعه الهوايات التي جمعتها في نفسي، فيلاحقني وأنا ألهث أثناء اللعب والمباريات، ويجلس يدندن وأنا أعزف على آلتي، فتعلو دندنته الغليظة النشاز على صوت أنغامي.
أستغيث منه، وأصرخ في أذنه، وألطمه على وجهه، وأكسر القلم في عينه، وأقلب عليه دواة الحبر، لكنه ثقيل عنيد لا يفارقني، فألقي كل ما في يدي، وأترك له المكان، وأخرج إلى الخلاء لأشم الهواء، فإذا به يتسلل مع الهواء إلى أنفي!
وأخبط رأسي في جذع شجرة سميكة خشنة، حتى تسيل منه الدماء، لكنه لا يدعني؛ فليس هو ممن يرهبون منظر الدماء.
ورأيت الناس يسيرون اثنين اثنين، رجلا وامرأة، والتقت عيناي بعيني رجل يختلف عن الآخرين، قلت له: «أهو أنت؟» قال: «نعم.»
وسرنا جنبا إلى جنب، وعرجنا على طريق النيل، وهبت نسمة باردة ندية من صفحة الماء فشعرت بالبرد، وأحسست بيده في يدي، فنظرت إليه، كان قريبا مني ويقع على وجهه ضوء مصباح قريب، وتأملت وجهه، كان غريبا، لم يكن هو الوجه الذي رأيته من قبل، كانت عيناه صغيرتين حمراوين، وأنفه كبير الحجم، وشاربه الطويل يتدلى على حافة فمه.
ووقفت، وسحبت يدي من يده، وقلت له: «لنرجع، لقد أخطأت، إنك لست هو.»
وعدت إلى بيتي، وأغلقت باب حجرتي، وجلست على طرف الكرسي أضغط أصابع يدي في حيرة وقلق، وتلفت حولي كأنما أفتقد شيئا، آه! تذكرت ... الفراغ، أين هو؟!
ولم يمهلني، رأيته يدخل منحنيا من فرجة الباب، ويقف منتصبا أمامي، أهلا ... فراغ!
وجلس إلى جواري بوجهه الجديري القبيح، وقال لي مشفقا: «إنك يا عزيزتي في حاجة إلى شيء جديد.»
فقلت في مرارة: «لم يعد هناك شيء جديد.»
قال: «لماذا لا تسافرين؟»
قلت: «لقد سافرت إلى كل شبر من الأرض، يخطر على بالك.»
قال ساخرا: «الأرض! وهل تسمين هذا سفرا؟ أنت في حاجة إلى تغيير جو الأرض، لماذا لا تسافرين إلى الزهرة؟! هيا ... هيا، إن آخر سفينة تطير إلى هناك في السابعة مساء، أمامك أقل من ساعة لتعدي حقيبتك.»
وقلت: «والله فكرة! عجيبة! لماذا لم أفكر في ذلك من قبل؟»
ووجدتني بعد قليل، أقف في مطار سفن الفضاء، في يدي حقيبتي، وعلى وجهي ابتسامة بلهاء، تنم عن أي شيء ما عدا الذكاء أو الفهم. ورأيت حشدا من النساء والرجال، يجرون نحو السفينة فجريت معهم، وارتقيت بضع درجات صغيرة، ثم وجدتني في جوف السفينة، ورأيت مضيفة حسناء تبتسم لي، وتقودني إلى أريكة صغيرة، ووضعت حقيبتي في مكان خاص، وجلست على الأريكة، فإذا بي أغطس فيها، كأنني وقعت في إناء من العجين، وتلفت حولي لأبحث عن منقذ ينتشلني، فرأيت عددا كثيرا من الأرائك، تغطس فيها أجسام كثيرة لا تبدي ذعرا، وإنما تستلقي في هدوء، فغطست بدوري في صمت، وسمعنا صفارة رفيعة، أعقبها صوت نسائي رقيق يقول: «السفينة ارتفعت، سنتوقف في الزهرة عشر دقائق لنمون.»
ونظرت في العدسة التي إلى يساري، فرأيت الأرض تبتعد عنا بسرعة هائلة، فشعرت براحة تسري في أوصالي، وتمددت في أريكتي، وأغمضت عيني؛ لأسرح ما أشاء في تلك الرحلة إلى الزهرة، وقلت لنفسي: يا لها من مغامرة! ترى ما شكل الرجل هناك؟ وهل عندهم حب؟ وتركت لخيالي العنان، يرسم ما يشاء من المغامرات البريئة.
وبعد ساعات لم أعرف عددها، سمعت صوت المضيفة الحسناء تقول: «تذاكر الزهرة ...» وأخذت حقيبتي في يدي، ونزلت من السفينة ، وعلى وجهي ابتسامة عريضة جدا، استعنت عليها بكل مواهبي، وتلفت حولي لأجد رجلا أو مخلوقا في المطار فلم أجد، وسرت أضرب في الأرض الرملية، علني أجد عربة أو تاكسيا يقلني إلى البلدة، وقبل أن أصل إلى موقف العربات رأيت رجلا يقف في وسط المطار وفي يده حقيبة، وانبسطت أسارير وجهي، لا أدري كيف، واتجهت نحوه، ولما اقتربت منه وجدته رجلا عاديا، يشبه رجال الأرض وله شارب صغير، ولم أجد بدا من أن أسأله: «هل أنت من الزهرة؟» فقال الرجل بصوت غليظ: «نعم.» فقلت: «وإلى أين أنت مسافر؟» فقال: «إلى الأرض.» قلت: «الأرض! لماذا؟» فقال وهو شارد: «الفراغ.»
وحملقت في وجهه لحظة، وقلت: «الفراغ؟ إنه في الأرض، لقد ودعته منذ ساعات!» فقال غاضبا: «هراء، إنه في الزهرة، لقد ودعته أنا منذ دقائق!» فقلت له في غضب: «بل إنه في الأرض.» فقال في ثورة: «بل إنه في الزهرة!» قلت: «في الأرض.» قال: «في الزهرة!» قلت: «في الأرض.» قال: «في الزهرة!» وصفعني على وجهي. فتحت عيني، ورأيت الطبيب واقفا بجواري، يخبط بيديه على وجهي في صفعات لينة، وسمعته يناديني باسمي سهير ... سهير، مبروك يا ستي، خلاص العملية.
وتقلبت في الفراش مذهولة، أحس أن رأسي قد أصبح في ثقل الكرة الأرضية، وقلت في غضب: «في الأرض! في الأرض ...»
وسألني الدكتور ضاحكا: «إيه هو اللي في الأرض يا سهير؟» فقلت وأنا أتثاءب من أثر المخدر: «الفر... الفر... ا... ا... غ.»
لا شيء
كانت أنثى، في أنوثتها دفء، وفي جاذبيتها لهب. وكانت حرة لا يمتلكها رجل؛ لأنها تمتلك رجالا كثيرين يحبونها ولا تحبهم، وكلما أحبوها لم تحبهم، وكلما لم تحبهم أحبوها.
وكانت ذكية لم تبع نفسها لرجل؛ فكل امرأة مثلها يمتلكها زوج كالأسد، يراقبها ويحاسبها، وقد يصفعها أو يركلها، ثم يخرج يشكو منها لامرأة أخرى، ويبكي كالطفل بين يديها، لم تقبل أن تعيش مع الأسد وهو يزأر، وانتظرت في بيتها كالملكة ليأتيها الطفل الشاكي الباكي، وكم من أطفال اشتكوا وبكوا بين يديها، وكانت امرأة لكنها لم تكن نمرة. كان لها قلب ينبض أحيانا، وإن تراكم عليه غبار الطرق المتربة التي تسير فيها؛ فلم يكن لديها وقت لتنفض الغبار عن قلبها؛ لأنها مشغولة كرجال الأعمال وملاك الأطيان، تمتلك أطيانا من الرجال لا حد لها، من كل صنف، وكل طبقة، وتعرف كيف تجعلهم يضعون رءوسهم على حجرها، ويتنفسون بهدوء واستسلام، ثم يذرفون الدموع ويشتكون.
ولم تكن تسمع شكواهم؛ لأنها كانت تسرح دائما، تنظر بطرف عينها إلى الحياة بأستاذية وكبرياء؛ فالحياة تحت قدميها، كل شيء فيها موجود عندها في العربة، في الثلاجة، في الدولاب، على الرف، أو في جيب رجل، كل شيء سهل الحصول عليه من أي مكان، قريب أو بعيد. ليست في الحياة مسافات ولا مستحيلات عندها، الحياة التي تذل الملايين من النساء مثلها، وتربطهن في البيوت كالماشية، يغسلن جوارب أزواجهن، وتنصهر بشرتهن الرقيقة أمام نار الطهو والشي، وبعد أن يلتهم كل زوج الطعام الشهي، ويبدل الجورب المتسخ، ويصدر الشخطة أو التكشيرة، يفر من البيت والزوجة إلى الحياة ... إليها!
وتتلقاهم باسمة ناعمة معطرة؛ فهي لا عمل لها إلا أن تتزين وتتعطر، وتدلك ساقيها ويديها.
وكم تمنت هذه الحياة الخاملة، بلا واجبات من زمن طويل، حينما كانت في السابعة عشرة من عمرها، فتاة صغيرة تتعلم الآلة الكاتبة؛ لتحصل على عمل، وفي أول شهر قبضت فيه ماهيتها، خفق قلبها ولمعت عيناها من الفرح، وهي تخفي الستة جنيهات، بعد أن عدتها عشر مرات في بطانة حقيبتها، وضغطت عليها تحت إبطها، حتى لا يخطفها أحد الصبيان الذين يقفزون على سلم الترام، وأول ما وصلت بيتها أخرجت الجنيهات الستة لأمها، وهي تنظر في عينيها لتشبع نفسها من السعادة الضخمة، التي تحسها وتراها، واغرورقت عينا أمها بالدموع، وهي تحتضنها وتقبلها قائلة: «ربنا يخليك يا فريدة يا بنتي، خلاص ربنا فرجها علينا، وعوضنا بك عن المرحوم!»
ومن يومها وفريدة تحس أنها تفتح بيت المرحوم أبيها، وأنها تعول أسرتها، وأصبحت تثق في نفسها، كما يثق في نفسه أي رجل يفتح بيتا ويعول أسرة، ورفعت رأسها وهي تمشي؛ لتشعر العالم أي مسئولية ترعاها، وأي أهمية لوجودها. وحينما كان يعاكسها في الطريق شاب رقيع، كانت تنظر إليه شذرا، كأنها تتعجب من جرأته على معاكستها، هي التي تقبض ماهية وتعول أسرة. أو حينما توشك على دهسها عربة تتعجب، كيف لا يحترم الناس حياتها ويقدرون وجودها؛ لأنه إن ضاع يضيع معه وجود أسرة بأكملها.
ولما بلغت فريدة العشرين من عمرها، واشتد بروز نهديها وضمور خصرها تحت الفستان البسيط، الذي تلبسه في المكتب كل صباح، لاحظت أن سكرتير «سعادة البك» يطيل إليها النظر، وهي تكتب على الآلة الكاتبة، واختفت لهجته الخشنة الآمرة، التي عودها عليها بصفته رئيسها المباشر. وكأي أنثى فهمت بغريزتها السبب، ودب الحماس الدافئ في داخلها، وجعلها تتمشى بخطوات أخف وأرشق، وفي بيتها بعد أن تأكل ما أعدته أمها، تذهب إلى سريرها وتمدد ساقيها، لتقضي ساعة أو أكثر في تخمين لذيذ، عما سيكون سببا لهذه الرقة الجديدة.
ولم تعش أياما كثيرة في لذة هذا التخمين؛ إذ أصبح السبب مؤكدا، واعترف لها السكرتير بحبه في ليلة مقمرة بجانب النيل، وتذوقت طعما جديدا لم تعرفه من قبل، طعم الرجل، أنفاسه وعرقه. ولم يعجبها هذا الطعم، أو لم يكن في مستوى خيالها الخصب، وأحست أن الواقع صغير بالنسبة للخيال، لكنها قنعت به، وظنت أنها لن تجد واقعا خيرا منه؛ فهو رجل مثل كل الرجال وهو رئيسها.
وبعد أيام قليلة اعتادت هذا الواقع وألفته، وأصبح أجمل مما كان، ولم تتصور أن هناك سعادة أكثر من أن تتزوج هذا السكرتير، لولا أنها اكتشفت سعادة أكبر؛ إذ تغيب السكرتير يوما عن العمل، واضطرت إلى القيام بأعماله، ودخلت حجرة «سعاد البك» لأول مرة، وتعثرت قدماها في السجاد الفاخر، ولم تجرؤ على التدقيق في ملامح «البك»، لكنها رأت ابتسامة على شفتيه، ابتسامة رقيقة، وبعد هذا اليوم أصبح «البك»، يطلبها إلى حجرته، ويكلفها بأعمال ليست من اختصاصها، وبعد انتهاء العمل في أحد الأيام لمحت «سعادة البك»، وهو يركب عربته، ولم تتوقع أن يناديها بالاسم، ويدعوها للركوب معه قائلا : بيتك فين يا فريدة؟
وتلعثمت وهي تقول: في العباسية.
وابتسم وهو يفتح لها باب العربة قائلا: عال، تبقي في سكتي، وأنا طالع مصر الجديدة.
وركبت إلى جواره، وهي تلتصق بباب العربة، لتحصل على أكبر مسافة بينه وبينها، وأطرقت وهي تفرك أصابعها، إنها أول مرة في حياتها تركب عربة ملاكي، وبجوار من؟ «سعادة البك» رئيس رئيسها، وصاحب الجاه والمال والمكتب وكل شيء. ولم يساورها شك في أن تصرفات البك معها، ما هي إلا إشفاق عليها، وخصوصا وهي كما وصفت نفسها في طلب العمل، يتيمة الأب وتعول أسرتها.
ولم يدم يقينها بهذا الإشفاق قليلا؛ إذ بعد ثلاثة أيام بالعدد، كانت تركب بجوار البك، ولم تكن تلتصق بالباب خجلا، وإنما كانت تلتصق بالبك نفسه، الذي حوطها بذراعه، وبين كل عمودي نور، يميل عليها ليأخذ قبلة، وكانت فريدة تنظر إلى ما حولها، كأنها عمياء أو نائمة تحلم. وأوقف البك العربة فنزلت، وانحنى أمام المصعد، لتدخل أمامه فدخلت، وصعد المصعد إلى أعلى، كأنه يصعد إلى السماء، ثم وقف وخرجت أمامه، وأخرج البك من جيبه مفتاح شقته، وفتح الباب وانحنى لها لتدخل أمامه فدخلت.
لم تدر فريدة كيف فرطت في نفسها مع هذا البك، رغم أن السكرتير لم يستطع أن يأخذ منها شيئا، لكنها كانت لا تستطيع أن تخالف البك، أو خيل إليها أنه شرف عظيم لها، أن تنام في أحضانه على فراشه الوثير، ولم تعرف قيمة ما منحته له من نفسها، إلا بعد شهر كامل، بعد أن ملها البك ولم يعد يوصلها إلى البيت أو يعطيها مواعيد لتلقاه بالليل كما كان يفعل. وعادت فريدة منكسرة إلى مكانها، على الآلة الكاتبة بجوار السكرتير، وتباعد عنها السكرتير أياما قليلة، ثم عاد يبثها غرامه، فعادت إليها ثقتها بنفسها، وبكت على صدره، وهي تحكي له قصتها مع البك بالعكس؛ قالت إن البك أحبها وظل يغريها، لكنها لم تحبه؛ لأنه سمين وله كرش، ثم تركها بعد أن يئس منها، وأحست بالزهو وهي تحكي، ولو بالكذب، عن انتصارها على البك، وزاد زهوها حينما لمحت معالم التصديق في عيني السكرتير.
وعرفت أن السكرتير لن يتزوجها لأنه متزوج؛ ولهذا لم تلتزم معه العفة والأدب، وتعمدت أن تكون مستهترة؛ فهي تقبله مرة، وتهجره مرة، وتحكي له بالكذب عن مغامراتها مع رجال آخرين؛ لتعذبه وتهزأ من رجولته، وهي في الواقع تتمرن على الخلاعة، وتجرب معه الحياة المستهترة بلا خلق، ولعل تجربتها السافرة هذه هي التي أفهمتها سر الرجل؛ لأنها كانت تقلبه وتفتش فيه بجرأة عن نقط ضعفه؛ لذلك حينما سكن إلى جوارهم ذلك الشاب الطيب، الذي تخرج من معهد التربية واشتغل مدرسا، استطاعت فريدة في الدقائق التي تمكثها في البيت، أن تجذب عينيه إليها، ثم تجذبه كله بعد أيام، ليطلب يدها من أمها، وقبلت فريدة الزواج بلا تفكير؛ لأنه شيء جديد لم يحدث لها من قبل؛ فقد عاشت مع البك في شقته أياما طويلة، لكنها لم تعتبر ذلك زواجا؛ لأنها تريد أن يعرف الناس أنها تزوجت، أن يصبح لها زوج وبيت وأولاد، أن يكون لها رجل تضع يدها في يده في ضوء النهار كالناس الشرفاء، لا أن تتلصص معه في الظلام كالمشبوهين.
وحينما جلس الشاب الطيب أمامها، وأخذ يدها في يده اغرورقت عيناها بالدموع، دموع الحب، وأحست وهو يردد وراء الشيخ العجوز «لقد قبلتك زوجتي يا فريدة» لأول مرة في حياتها، أنها تحب هذا الشاب الطيب، الذي يعلن زواجها أمام كل الناس بصوت عال.
ودخلت معه بيته لأول مرة، وهي تحس أنها ستبذل حياتها إرضاء لهذا الزوج الطيب، وأن تخلص له كل الإخلاص، لكنها لم تستطع؛ إذ شعرت بعد أيام قليلة، أن أمنيتها تحققت، وأن الناس عرفوا أنها تزوجت، ونادوها بالعروسة ثم كفوا عن النداء، وانتهى الحماس الذي كانت تحس به، نحو هذه الحياة الجديدة، ولم يعد عندها للزواج معنى بعد هذا سوى ذلك الزوج البارد، الذي يتحرك في البيت بشبحه البطيء البليد، فيثير في نفسها شعورا بالكآبة، كأنها تعيش في قبر وتدفن معها حيويتها وذكاءها وجاذبيتها. وحينما كان يجلس زوجها معها، يتكلم ويرى لسانه وهو يخرج ويدخل، ولعابه الأبيض وهو يتجمع عند زاويتي فمه، تشمئز من حديثه وغبائه، وتثور فيها نيران التمرد على هذا القيد السخيف، وتتأجج رغبتها في الانطلاق، في الحرية، في الاستهتار، في أن تعيش كل لحظات يومها وليلها، أن تنشر جاذبيتها أمام الرجال، وتستمتع بما تراه في عيونهم من رغبة ولهفة.
وصممت أن تطلق هذه الحياة الراكدة؛ فهي لا تؤمن بالزواج أيا كان، ولا تحتمل أن تبيع أنوثتها ومواهبها لرجل مقابل لا شيء، سوى قيود واحتكار والتزامات هي في غنى عنها.
وعادت فريدة بحقيبة ملابسها إلى بيتها، وقابلتها أمها بالدموع؛ فالأم لا يفجعها شيء مثل طلاق بنت من بناتها، ومسحت لأمها دموعها وهي تبتسم، وقالت لها إنها هي التي طلقت زوجها؛ لأنه أناني أراد أن يستولي على كل إيرادها، ولا يترك شيئا لأسرتها.
وتنفست فريدة بهدوء، كأنها أوقعت عصفورين بحجر واحد، وجففت أمها دموعها وهي تدعو على الرجل الأناني المخادع، وتقبل ابنتها في حب وامتنان، وهي تقول: ربنا يسعدك يا بنتي ويعوضك، طول عمرك بتضحي علشانا.
وعادت فريدة إلى حياتها الأولى، عادت رب البيت الذي ينفق ويدبر، ويدخل ويخرج بلا حساب، وعادت إليها ثقتها بنفسها، وشعورها بأهمية وجودها، وعادت حرة لا يمتلكها رجل، وتمتلك رجالا كثيرين يحبونها ولا تحبهم، وكلما أحبوهم لم تحبهم، وكلما كرهتهم أحبوها، لكنها تعرف كيف تجعلهم يضعون رءوسهم على حجرها، ويتنفسون بهدوء، وأصبحت الحياة تحت قدميها، كل شيء فيها موجود عندها في العزبة أو الثلاجة أو في الدولاب، أو في جيب رجل، ليس في الحياة مستحيلات عندها.
ورغم كل هذا لم تكن نمرة دائما، كان لها قلب ينبض من تحت الغبار الذي تراكم عليه، وحينما تحس بقلبها وهو ينبض، تتطلع حولها كالمشدوهة، وتموت الابتسامة الدائمة على شفتيها، وتضع يدها على قلبها، وهي ترى الحياة أمامها ضخمة كالعملاق، وهي تحت أقدامه لا تستطيع أن تلمسه، لكنها تحاول أن ترى شيئا، فتنظر من بين أقدامه كالشاردة إلى نفسها، إلى حقيقتها، فتجدها لا شيء.
حينما أكون تافهة
جلست على المقعد الخشبي المؤلم، وأسندت ذراعي التي تحمل رأسي على مكتبي، وأخذت أفكر رغم أنفي، ورغم أنني عاهدت نفسي على ألا أفكر، وأن أشتغل في هذه الوظيفة كما يشتغل الناس، لكني في هذه اللحظة شعرت بالعجز الكامل، عن مقاومة التفكير؛ فالأشياء التي تعيش داخل رأسي أحس لها دبيبا، وأسمع لها همسا عاليا يكاد يفلق رأسي نصفين.
واستسلمت في ضعف لأن أفكر، فوضعت الملف الغليظ في درج المكتب، وأغلقت القلم الحبر ووضعته في حقيبتي، وأعطيت ظهري للرجل الذي يجلس بالقرب مني؛ لأحجب عن عيني رأسه الغليظ ولأبعد أذني عن صوته الأجش.
وأخذت أفكاري تتقاذفني بسرعة هائلة، وأنا بينها أدور وألف كأنني داخل تروس ساقية، تدور وتئن وتزن.
وسمعت الأشياء التي تعيش في رأسي، تدب من فوقي وتقول: «ما هذا الذي أعمله؟ هل هذا هو طموحي؟ هل هذه هي آمالي؟ لا شيء! واحدة من الناس، من الملايين، أجلس على هذا المكتب الخشبي ست ساعات متواصلة، أقوم فيها لأتمشى مرة أو مرتين؛ لألين مفاصلي ثم أجلس ثانية، لو مت هذه اللحظة فلن يفقد العالم شيئا يذكر، بل لعله سيزيد مقعدا خاليا للآلاف المنتظرين على الأبواب يطلبون الشغل. لن يشعر العالم بفقدي أبدا، ربما سطر أو سطران في ذيل جريدة لا يقرؤهما إلا بعض الموظفين المحالين إلى المعاش.»
وأحسست بوجوم يجثم على صدري، فأغلقت درج مكتبي بالمفتاح، وأخذت حقيبتي وخرجت إلى الشارع، وكانت السماء تمطر رذاذا خفيفا، وهواء الشتاء يهب باردا يلفح وجهي، ويصيب جسمي برعدة تصطك لها أسناني، ووضعت يدي في جيبي لأدفئهما، وسرت أنظر إلى العربات الفاخرة، وهي تجري ومن وراء الزجاج المحكم في تعال وكبرياء، بلا إشفاق على حالي، وأنا أصارع المطر، الذي بدأ ينهمر ثقيلا على رأسي، فيفسد تسريحة شعري التي دفعت فيها بالأمس ثلاثين قرشا، اقتطعتها بمشقة من ميزانية الأكل.
وضعت حقيبتي على رأسي، ونظرت شذرا إلى امرأة تجلس كملكة في عربة طويلة جدا، وقلت لنفسي إنها عربة زوجها بلا شك، تأخذها منه في الوقت الذي يعمل فيه لتذرع بها الشوارع من أجل لا شيء. إن شكلها لا يدل على أنها تشتغل شيئا، وإنما أحد يشتغل من أجلها، لا يمكن لهذه المرأة أن تصحو من النوم، قبل الحادية عشرة صباحا. أي لذة تلك التي تجدها في الراحة والكسل؟!
ومضيت أفكر، وخطرت لي فكرة غريبة؛ سأستقيل من عملي وأبحث عن زوج يشتغل من أجلي، وأنام حتى العاشرة صباحا، لقد تعبت من القيام مبكرة. ما جدوى كل هذا العناء الذي أنا فيه؟ لا شيء! حتى المأكولات التي اشتهيتها، وأنا تلميذة صغيرة، لا أستطيع أن أشتريها.
وأحسست ببرودة أخرى غير قطرات ماء المطر، تتساقط على رأسي، وأنا أشعر بطموحي وآمالي وأحلامي، كلها تتقلص وتنكمش، لتنحصر في هدف واحد، هو العثور على زوج.
وأسرعت إلى بيتي، وقد غمرتني الفكرة الجديدة، بنوع من الحماس، وحينما وصلت إلى العمارة، رأيت عربة خضراء طويلة، تقف وتنزل منها فيفي، ورأيت البواب يقف لها في احترام وإكبار، ولا يكاد ينظر إلي، وفتح لها باب المصعد فدخلت أمامي، ودخلت وراءها. كانت فيفي ممثلة ناشئة، لم تشتهر بعد، لكنها كانت تستأجر شقة بأربعين جنيها، خمس غرف، وكنت أنا أعيش في غرفة واحدة بعشرة جنيهات، ولا يتبقى لي من المرتب إلا ستة جنيهات تقريبا، أنفقها في الأكل والملبس والمواصلات، ولا يبقى للبواب إلا عشرون قرشا، أدفعها له في أول كل شهر في خزي شديد، فيرشقني بنظرة احتقار بالغة، وأبلع ريقي وأقول له: «معلهش يا عم محمد، إن شاء الله في الشهر الجاي أزودك.»
وتمر الشهور تلو الشهور، ولا أزيد شيئا، بل لعلي كنت أنقص وزنا.
وقلت لنفسي وأنا أدخل شقتي، سأستقيل من شغلي وأصبح ممثلة، ولم لا؟ إنه أسهل طريق للحصول على الفلوس واحترام الناس، أسهل من الحصول على زوج!
ونظرت إلى المرآة أتأمل ملامحي، وأتخيل نفسي على الشاشة، أمثل والناس يتفرجون، وأخذت أفتح فمي وأغلقه، وأنظر نظرة غرام مرة، ونظرة عتاب مرة، ونظرة انتقام مرة ... مدهش! ورضيت على نفسي. إنني أصلح للتمثيل، يا للغباء! كيف ضللت طريقي ودخلت كلية الطب؟!
وخلعت ملابسي ولبست ملابس النوم، ودخلت السرير دون أن آكل، إن نفسي مصدودة، بعد أن انتشيت من بريق المجد والجاه والشهرة، التي رسمتها لحياتي المقبلة، وغلبني النوم فنمت.
ولم أدر كم مضى من الوقت، لكني صحوت على صوت طرق شديد على باب شقتي، فقمت مذعورة لأرى من الطارق، ورأيت عم محمد البواب يقف لاهثا، ويقول لي في استعطاف: «والنبي يا دكتورة عايدة، الست فيفي تعبانة جوي، وطالبة حضرتك دلوقت.»
ووضعت على كتفي روبا صوفيا، وأخذت حقيبتي، وصعدت مع البواب إلى شقة فيفي، وهناك على السرير الناعم، الذي يبرق بالحرير من فوق ومن تحت، رأيتها ... فيفي التي سحرت لبي بعربتها وملابسها ومالها، تنام أمامي وحول عينيها هالتان سوداوان، وعلى وجهها صفرة بائسة. كانت ترتجف وتئن، ولما رأتني قالت في استعطاف: «أرجوك يا دكتورة أنا عيانة خالص، عندي صداع وحرارة، وجسمي كله بيرتعش، أرجوك تكشفي علي.»
وجلست بجوارها، وأمسكت يدها لأعد نبضها، ومضت لحظة صمت رهيبة، كتمت فيها فيفي أنفاسها، ووقف البواب خلفي، وأحسست كأنه من رهبة الموقف كتم هو الآخر أنفاسه، ووقف في خشوع وإجلال.
ومددت يدي في ثقة، ووضعت السماعة في أذني، ونظر البواب إلى الآلة الصغيرة في خشوع كأنه ينظر إلى شيء سحري إلهي فوق قدرته البشرية، ثم استدار وأعطانا ظهره متأدبا.
وتركت فيفي صدرها تحت سماعتي في استسلام، ونظرت إلي في ثقة وإجلال، كأنني قادرة على منحها الشفاء، في اللحظة التي أسمع فيها دقات قلبها، وأتممت الفحص، وكتبت لها العلاج، ونصحتها بما يجب أن تتبعه.
ورأيت فيفي تبتسم في راحة، وأنا أضع أدواتي في حقيبتي، وأخرجت من تحت وسادتها كيسا، ومدت لي يدها بجنيهين.
لكن تراجعت في إباء وكبرياء، وقلت لها باسمة: «لا، مش معقول، ده احنا جيران!»
نظر إلي البواب مندهشا، ثم أسرع فحمل عني حقيبتي، وسار خلفي في خشوع.
وعند باب شقتي أخذت منه الحقيبة، ثم أغلقت بابي، وذهبت إلى فراشي لأكمل نومي، وابتسمت لنفسي في سعادة، وأنا أحس بدفء السرير، ونمت أحلم بورقتين ناعمتين، كل منهما تساوي جنيها.
قصة من حياة طبيبة
كتبت الطبيبة «س» في يومياتها تقول:
التقطت نظراتي المرهقة، نظراتها الفزعة القلقة في استنجادها المكتوم، وفي حيرتها الهائلة، وكأنها بعينيها الصغيرتين الزرقاوين، وهما تتفحصان وجهي، تبحثان في أعماقي عن شيء من الرحمة والإشفاق.
وأحسست أن إرهاق جسمي من كثرة العمل، بدأ يتبدد سريعا، وأن نشاطا جديدا اجتاح أعماقي، وكأنما أحست نفسي أنها على وشك أن تعطي شيئا من ذاتها، أو أن تمنح شيئا لصاحبة هاتين العينين المستغيثتين، فأخذت تشحن نفسها بطاقة جديدة استعدادا للبذل.
وجلست الفتاة المتهالكة أمامي، ونظراتها متشبثة بوجهي لا تتحول عنه، مما جعلني لا أتنبه للرجل الطويل العريض الواقف بجوارها، والذي فطن إلى أنني لم أره، فأراد أن يشعرني بوجوده، فقال بصوت له نبرة مثقفة لم تهذب من غلظته وخشونته: أرجوك يا دكتورة أن تكشفي على أختي، أريد أن أطمئن عليها؛ وذلك لأننا سنزوجها في الأسبوع القادم لابن عمها.
ولا أدري من أين جاءتها الشجاعة، فسمعتها تقاطعه قائلة: أنا لا أحبه! ولا أريد أن أتزوجه!
ونظرت إلي في استعطاف: لا أحبه يا دكتورة!
وأشار لها الأخ في شدة أن تصمت، وقال محتدا: إنها لا تريد أن تتزوج لسبب آخر يا دكتورة ... أظنك تفهمين. أرجوك الكشف عليها؛ لتطلعيني على الحقيقة.
وعادت العينان الصغيرتان الزرقاوان، تفزعان في قلق واستنجاد مكتوم، وأخذت أنظر في أعماقها؛ لعلي أهتدي إلى خيوط القصة، لكني لم أجد فيهما إلا فزعا وقلقا واسترحاما، وكنت على وشك أن أقذف في وجه الأخ برأيي ... أن أقول له: متأسفة يا سيدي، أنا لا أستطيع الكشف عليها من أجل هذا الغرض، إن الطب لم يعمل من أجل هذا، ثم إن هذه المسألة شيء يخصها وحدها، ولا داعي لك كأخ أو لي كطبيبة أن نتدخل.
وكأنما أحست الفتاة بما يراودني، فازدادت نظراتها تشبثا بي، وكأنها تقول لي: أرجوك، لا تتخلي عني، سيذهب بي إلى طبيب آخر.
ووقفت وقد عزمت على أمر، وقلت بلهجة الطبيب حينما يقرر أمرا، وليس هناك من قوة تستطيع أن تقف أمام الطبيب حينما يحزم في نفسه أمرا: تسمح تجلس في الخارج قليلا، حتى أنتهي من الكشف.
وأصبحت أنا والفتاة وحدنا، ونظرت إليها، وشجعتها نظراتي المشفقة الرحيمة، على أن تنظر إلي في اطمئنان، قالت في استعطاف: أرجوك يا دكتورة، ارحميني من هذا الأخ، سيقتلني!
واقتربت منها قليلا، فرأيتها تنظر إلى يدي في فزع، وتقول: هل ستكشفين علي! أرجوك، لا أستطيع! لا أستطيع!
ووضعت يدي في جيبي المعطف الأبيض لأطمئنها، وقلت لها وأنا أجلس إلى جوارها: لا تخافي، لن أكشف عليك، ولكن قولي لي الحقيقة، وسوف تكون سرا، لن أبوح به لأحد أبدا.
قالت: لا أحبه يا دكتورة، ولا أريد أن أتزوجه.
ونظرت إليها وابتسمت ابتسامة ذات معنى، فقالت: ولا أحب رجلا آخر.
وأحسست أن الفتاة لا تقول الحقيقة.
ووضعت رأسي بين يدي وفكرت ... إنني لن أكشف على الفتاة؛ لأن هذا ليس من حقي، إلا إذا طلبت مني ذلك، وهي لم تطلب، بل إنها ترفض!
وأخذت أنظر إلى ملامح الفتاة، لعلي أنزع الحقيقة منها، ولكني سرعان ما تراجعت، وقلت لها: حسنا يا فتاتي الصغيرة، سأخبر أخاك أنني لا شأن لي بهذا الموضوع.
ورأيت الفتاة تقبل نحوي في ذعر واستعطاف: لا ... لا أرجوك، سيذهب بي إلى طبيب آخر قد يكون فظا، قولي إنك كشفت علي، وأنني فتاة شريفة، هذا شيء يسير عليك يا دكتورة، مجرد كلمة تتفوهين بها تنقذين بها حياتي. إن أخي رجل قاس، إنه سيقتلني! ارحميني يا دكتورة!
سأقول لك الحقيقة: إنني أحب رجلا آخر وهو يحبني، وقد اتفقنا على الزواج في الشهر القادم، أقسم لك أنه لم يحدث بيننا شيء مخل بشرفي!
ونظرت إلى العينين الزرقاوين المسترحمتين، وكأنما تؤكدان لي أنها على حق.
وابتسمت لها، وكأنني أؤكد لها أنها على حق، ولكن ... ولكن ماذا؟
سألت نفسي، وسألت ضميري، وراجعت كلمات القسم الذي رددته في أول يوم مارست فيه عملي، واستعدت في ذاكرتي قوانين الطب ...
ولم أشعر إلا وأنا أتجه إلى الباب فأفتحه، وطلبت من أخيها الدخول، وقلت له في ثبات وقوة : إن أختك فتاة شريفة!
قلتها وأنا أومن بعقلي ووجداني وإنسانيتي أنها شريفة. إن الطب يستطيع فقط أن يفرق بين المرض وغير المرض، ولكن لا يستطيع أبدا أن يفرق بين الشرف وغير الشرف.
وارتسمت على ملامح الأخ الفجة ابتسامة، لم تكسبها الثقافة من الهدوء المعقول، ابتسامة عريضة، كأنه بهذه الكلمات قد اطمأن على شرفه أو استرده.
وقلت له وقد انفعلت بالشعور الجديد: أظن من اللائق أن تعتذر لأختك عن شكك فيها.
واعتذر لها وهو ينظر إليها في سعادة ريفية ساذجة، ثم أخذها وخرج.
ووضعت رأسي على كتفي ... أفكار شتى تعصف برأسي.
ولم أشعر بيدي وهي تزحف إلى درج المكتب، وتسحب منه ورقة بيضاء وقلما، وكتبت ورأسي ما زال ثقيلا، كتبت قسما جديدا، وهو: «أقسم أن تكون إنسانيتي وضميري، هما قانوني في عملي وفني.»
ووضعت القلم، وأحسست براحة لم أشعر بها منذ فترة طويلة.
من أجل من؟
دق جرس التليفون بجوار رأسي حادا صارخا ملحا، فتقلبت في فراشي، أبعد رأسي عنه، أهرب منه، ولكنه ظل يهدر في سكون الليل، يمزق من حولي ستائر النوم المخدرة اللذيذة، يلاحقني كلما هربت منه. وامتدت يدي بلا إرادة، ورفعت المسماع إلى أذني، وقلت وأنا أتثاءب: ألو!
وجاءتني حشرجة خشنة، تبينت فيها صوت رجل، يقول: الدكتورة موجودة؟ - أيوة. - أرجوك اسعفيني، أنا مريض. - أين تسكن؟ - شارع الجيزة رقم كذا ... - حاضر، سآتي إليك حالا.
قلت الجملة الأخيرة بلا تفكير، وخلعت ملابس النوم، وارتديت ملابس الخروج، وأخذت حقيبتي المعدة، وخرجت إلى الشارع، وركبت سيارتي الصغيرة، واتجهت إلى الجيزة، وكنا في فبراير والجو قارس البرد، والليل شديد الظلمة بلا قمر، ولا أكاد أرى طريقي، إلا من خلال أنوار المصابيح المتناثرة، بعضها منير، ومعظمها مطفأ، لا أدري لم!
وضغطت بقدمي لأطلق العنان للسيارة، فانطلقت بي كالطائرة، ووجدتني بعد دقائق قليلة في شارع الجيزة، ووقفت في عرض الشارع لاهثة، ووضعت يدي على قلبي في أسى.
آه ... لقد نسيت رقم بيت المريض، وأخذت أستجمع ذاكرتي، وأركزها في الكلمات التي سمعتها من المريض لكي أذكر الرقم الذي قاله دون جدوى، كأنما أصبح عقلي مادة صلبة من الحجر لا تعي شيئا.
وسرت بالعربة يائسة تائهة، أتخيل الرجل المريض وهو ينتظرني بين لحظة وأخرى وأنا لا أجيء، ويظن أنني تلقيت استغاثته ثم استسلمت للنوم، ولا يعلم أنني ربما أمر من أمام بيته دون أن أعلم!
وفجأة من بين يأسي وحزني، لمحت نورا خافتا في إحدى النوافذ، فخفق قلبي من الفرح والأمل، وقلت لنفسي: هو! ... المريض ينتظرني! من غيره يستطيع أن يسهر إلى هذا الوقت من الليل؟
ونظرت إلى ساعتي، كانت الثالثة صباحا، فانطلقت بعربتي تجاه النور، وأوقفتها أمام البيت، وصعدت السلم، ووضعت يدي على الجرس، وقبل أن أضغط على الجرس، أحسست بهاتف من أعماقي يقول لي: وماذا لو لم يكن بيت المريض؟ وخفت من المغامرة، وهممت بأن أعود أدراجي، لكني تذكرت صوت المريض الضعيف الحائر، وتخيلته جالسا ينتظرني، فاندفعت إلى الجرس، وضغطت عليه بكل قوتي، وسمعت صوت أقدام تقترب من الباب، ورأيت «الشراعة» تفتح، ويطل منها رأس امرأة مشعث، ونظرت إلى المرأة في دهشة كبيرة، فقلت لها على الفور: «متأسفة، هل يسكن هنا المريض الذي ...»
وقاطعتني المرأة في صوت حاد مستنكر: «مريض؟!» ورشقتني بنظرة ارتياب بالغة، فاعتذرت لها بسرعة، وهرولت إلى السلم أجري، وقد أحسست أنها ستجري خلفي، وتمسكني من ملابسي.
وركبت عربتي وعدت إلى شارع الهرم، أسير على مهل، وفي قلبي ثقل كبير. ووصلت البيت، ووضعت مفتاح الشقة في الباب ودخلت، فإذا بي أرى زوجي واقفا في الصالة، ولما رآني أقبل علي، وسألني قائلا: «أين كنت، لقد استيقظت بالصدفة فلم أجدك، أين كنت؟»
وحكيت له القصة من بدايتها، منذ سمعت المحادثة التليفونية، حتى ضغطت على جرس البيت المجهول، ولاحظت أن أنفاسه تعلو وتهبط، ورأيته ينظر إلي دهشة وفزع، وسألني: ومن الذي فتح الباب؟ رجل أم امرأة؟
ونظرت إليه في أسى، وقلت: لم يكن هو بيت المريض.
لكنه لم يأبه لكلامي، وأعاد سؤاله قائلا: رجل أم امرأة؟
قلت وأنا شاردة: امرأة.
فهدأت ملامح وجهه، وعاد ليواصل في راحة بال واطمئنان.
وجلست في الصالة أفكر ... أشياء كثيرة ترتطم برأسي، وتسبب لي ألما، ولم أدر إلا ونور الصباح يملأ المكان، وأنا أجلس وقد غلبتني سنة من النوم تشبه اليقظة.
وانقضت على تلك الليلة أيام كثيرة خلت أنني نسيتها، حتى كان يوم كنت أجلس في عيادتي، وقال لي التمورجي إن رجلا يريد مقابلتي ... ودخل الرجل، ورأيته ينظر إلي متفحصا، ثم قال: حضرتك الدكتورة سعاد. - أيوة.
فمصمص شفتيه وقلبهما، وسكت قليلا ثم قال: حضراتكم عاملين دكاترة؟
ودهشت لهذا الهجوم المفاجئ، وقلت في فزع: ماذا تقول؟
فقال في ثورة: أنا كنت على وشك الموت، ولا دكتور واحد رضي يسعفني، وفضلت للصبح لغاية ما جاني دكتور ... لكن بعد إيه؟! حتى انتي يا دكتورة قلتي لي إنك جاية وكذبت علي؟
وترددت قليلا في أن أحكي له القصة، ثم رويت له ما حدث، لكنه لم يصدقني وخرج وهو يقول: «طبعا، كل الدكاترة بيقولوا كدة.»
وجلست، وضعت رأسي على كفي، وفي قلبي ألم يعتصره بلا رحمة أو شفقة، وقلت لنفسي في أسى ما من أحد عرف الحقيقة، لقد ارتابت المرأة التي فتحت لي الباب في أمري، وارتاب زوجي في الشخص الذي كان بالبيت المجهول، وارتاب المريض في أنني خرجت لأسعفه! وأنا؟! وأنا أعلم أنني فعلت ذلك بكل وعيي وكامل إرادتي، ولكن ما الفائدة وما من أحد غيري يعلم؟
وأحسست بدموع ساخنة تسيل على وجهي، ولم أدر ما سببها، هل كنت أبكي من أجل الناس؟ أم كنت أبكي من أجل نفسي؟!
Page inconnue