وكان المعلم بيومي في الحاضرين، كان إذا سكر حمله أصحابه إلى بيته وطرحوه على لحافة فيروح في نوم عميق لا يفيق منه إلا ضحى اليوم الثاني، فقال للقوم ناصحا: دعوه ينم؛ فالنوم دواؤه، وسوف يصحو غدا صحيحا معافي.
وبادروا إلى حمله وأرقدوه على فراش أخيه وتركوه في سلام .. وعاد القوم إلى لهوهم يشربون ويسمرون.
وراح جعدة في نوم عميق كما قدر المعلم بيومي، ولكن حدث ما لم يقدر أحد من السكارى ولا دار لهم بخلد، انفجر شريان ونزف دمه، وتسللت الحياة من جسمه نقطة فنقطة حتى تركته جثة هامدة، فنام نوما عميقا لا يقظة بعده ولا إفاقة، وكان ذلك قبيل انبثاق الفجر، وقد تصايحت الديكة، فاختلط صياحها بهتاف الهاتفين وإنشاد المنشدين.
الشر المعبود
قبل أن يستولي أول ملك على عرش مصر، كان الوادي مقاطعات مستقلة لكل واحدة إله ودين وحاكم، وقد اشتهرت من بينها مقاطعة «خنوم» لما توفر لها من خصوبة الأرض واعتدال الجو وكثرة السكان، ولكنها كانت تدفع نصيبها كاملا من ضريبة الشقاء والأحزان، ففسق بها المترفون، وتضور الفلاحون جوعا، وعاث الأشرار في الأرض فسادا، وفتكت الأمراض والأوبئة بالضعاف والبائسين، وشمر للإصلاح رجال المقاطعة المسئولون، وعلى رأسهم القاضي «سومر» وحارس الأمن «رام» والطبيب «تحب»، وكافحوا الجريمة والعيوب مكافحة شديدة صارت مضرب الأمثال على الجهاد والصدق والعزم.
وفي أحد الأجيال التي مرت على تلك المقاطعة ظهر بها رجل غريب، كان شيخا طاعنا في السن حليق الرأس والذقن كعادة الكهنة المصريين، وطويل القامة نحيل الجسم، تلوح في عينيه نظرة حادة تهزأ من فعل السنين، يشع منها نور الفطنة والحكمة، وكان رجلا غريبا حقا؛ فما لمست قدماه بلدا حتى تساءل أهله عجبا .. من الرجل؟ .. وأي بلد قذفه؟ وما الذي يريد؟ وكيف يضرب في الأرض حين ينبغي أن يخلد إلى السكينة والراحة في انتظار الانتقال إلى عالم أوزوريس؟
ولم يقف به شذوذه عند حد. كان يثير وراءه عواصف الضجيج وزوابع الفتنة أينما حل وحيثما يتجه؛ فكان يغشى الأسواق ويزور المعابد ويدعو نفسه إلى الحفلات على غير معرفة بأصحابها، ويضع نفسه فيما لا يعنيه؛ فكان يحادث الأزواج عن زوجاتهم والزوجات عن أزواجهن ، والآباء من أبنائهم، ويجادل السادة والنبلاء، ويكلم الخدم والعبيد، ويترك خلفه أثرا عميقا قويا يهيج في النفوس ثورة جامحة يشتد من حولها الجدل والخصام.
وأثارت حياة الغريب مخاوف «رام» حارس الأمن فاتبعه كالظل وراقبه عن كثب، وارتاب في أمره فقبض عليه وقدمه إلى القاضي لينظر في شأنه العجيب. وكان القاضي سومر رجلا طاعنا في السن عظيم التجارب؛ قضي أربعين عاما من حياته الجليلة يجاهد جهاد الأبطال تحت راية العدل والحقيقة، فأنفذ القضاء في حيوات المئين من المتمردين، وملأ السجون بالآلاف من الأشرار والمجرمين، وكان يعمل صادقا مخلصا على تطهير المقاطعة من أعداء السلام والطمأنينة.
ولما مثل بين يديه الرجل الغريب أخذه العجب واستولت عليه الحيرة، وساءل نفسه عما يرتكبه هذا الشيخ الفاني، ثم سأله بصوته المتزن وهو يلقي عليه نظرة فاحصة: ما اسمك أيها الشيخ؟
فصمت الرجل ولم يجب، وهز رأسه كأنه لا يريد أن يتكلم أو لا يدري ما يقول.
Page inconnue