Ainsi je fus créé: une longue histoire
هكذا خلقت: قصة طويلة
Genres
ورحنا بعد ذلك إلى الحسنى، وتناول كلامنا من الشئون ما لا شأن له بي، فلما انصرف صديقنا حمدت ثورتي أن جعلت العود إلى هذا الموضوع محالا.
وتوالت الأسابيع والشهور بعد ذلك، وزادني تواليها اقتناعا بأن المربية أقدر مني على العناية بالطفلين ومعاونتهما على استذكار دروسهما؛ لذلك بدأت أشعر بخلو حياتي، وبدأ الملال يعاودني، كيف أملأ إذن أوقات فراغي؟ لا شيء يستنفد الوقت ما تستنفده القراءة! لذا أكببت أقرأ ما لم أكن قرأت من أمهات كتب الآداب الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وما ترجم إلى هذه اللغات من أمهات الأدب في غيرها من الأمم، وأعيد ما كان موضع إعجابي مما قرأت من قبل، وكثيرا ما كنت آخذ كتابي وأجلس إلى شاطئ البحر أستمع مقفلة العينين إلى صريف أمواجه المتكسرة على الشاطئ كما يستمع المغني إلى ألحان الموسيقى قبل أن يبدأ أدواره، فإذا امتلأت أجنحة الخيال فتحت كتابي وأخذت أقرأ فأستغرق في القراءة، فتأخذني روائعها عن كل ما حولي من ضجة الحياة، وأحس أنني اندمجت مع المؤلف ومع أفكاره ومع أبطاله، وأصبحت في جوه هو، وأصبح الجو من حولي مسرحا لهذه الأفكار ولهؤلاء الأبطال لا يعرف غيرها وغيرهم، ولا يتحرك فيه شيء سواها وسواهم.
وطال بي ذلك زمنا استغرق أسابيع بل شهورا، على أني شعرت بعد هذا الزمن أنني في حاجة إلى أن أستجم وأستريح، وما كدت أقضي أياما في راحتي واستجمامي حتى بدأ الشعور بالملال يعاودني، فكرت أنه لا بد من شيء آخر غير القراءة أطرد به هذا الملال وما يجره من سآمة، ودار بخاطري أن أستغني عن المربية وأن أقوم أنا بدورها، لكني أشفقت من هذه الأمانة وأبيت حملها بعد أن سبقت لي تجربتها، واقتنعت بأن المربية أقدر مني على إجادتها، ماذا أصنع إذن لأملأ أوقات فراغي؟
شغلت نفسي بما تشغل به كثيرات من الأمهات وقتهن فبدأت أطرز لطفلي بعض ملابسهما، لكني سرعان ما برمت بهذا العمل وألقيته جانبا، فهو يشغل اليدين ويترك الذهن في حيرة فراغه، وهو بعد ليس الإنتاج الذي يليق بمثلي، وقد تعودت أن أبتاع للطفلين هذا النوع من الملبس الجميل الذي لا يكلف باهظ النفقة، فأي شيء أصنع يليق بي ويملأ أوقات فراغي؟
بدأت أغبط هاتيك النسوة الفقيرات بائعات اللبن أو الخضر، أو العاملات في المزارع والمصانع، أو في المنزل ممن يستيقظن مع الفجر ليؤدين واجب الحياة ولا يشعرن بما أشعر به من ملال وسأم، وبدأت أغبط مربية أولادي إذ تنهض بعبء حياتهما وبتربيتهما وتعليمهما، وتولاني الأسف أن لم أتم دراستي ليكون إتمامها في الموقف الدقيق الذي أقفه اليوم وسيلتي لعمل مثمر يملأ فراغ وقتي؛ فلست أنا من طراز هاتيك النسوة أمثال صديقتي ممن يستطعن أن يقضين نهارهن وجانبا غير قليل من ليلهن في التزين، وفي فتنة الرجال استجداء لعطفهم واستظلالا بحمايتهم، أما وذلك شأني فما عساي أصنع لأملا أوقات فراغي؟
شغلت بهذا الأمر أيما شغل، وزادني اشتغالا به ما أعلمه عن الناس وألسنتهم الحداد يسلقون بها امرأة مثلي تعيش منفردة مع طفلين في حي ناء من أحياء الإسكندرية، ولئن كانت أحاديث الناس لا تعنيني فإنني مع ذلك لجد حريصة على مكانتي، وعلى سمعتي، وعلى ألا يشمت الشامتون بي.
وجاء صديقنا يوما فألفاني في هذه الحال القاتلة كاسفة البال، فسألني ما بي؟
قلت: لا شيء. قال: إن وجهك ينم عن شدة حيرتك وقلقك، فهل يوجد ما يزعجك؟
قلت: كلا، ولكنه الفراغ يقتلني، لقد كنت قبل طلاقي أناصب زوجي الخصومة، وأناضل أوهاما تقوم برأسي، فكان لي من هذا النضال ما يشغل وقتي كله، أما اليوم فلم يبق لي في الحياة شاغل، ولست أطيق هذا الفراغ فهو يأخذ بخناقي، دعك ما يتيحه للناس من فرصة الثرثرة علي والتندر بي فذلك لا يعنيني.
قال صديقنا: أما فكرت في العود إلى القاهرة تستأنفين فيها حياتك الماضية؛ إن لك بها لأصدقاء يسرهم أن يروحوا عنك ويذهبوا ملالك وسآمتك، ولو أنك عدت إليها لسرني أن أكون في مقدمة هؤلاء.
Page inconnue