وقد كان غباشي السائق بمنزل مصطفى باشا جمال الدين ذا عين خبيرة، تسقط في سرعة لاهفة على الأساور اللامعة، وتستطيع تلك العين في خبرة ومران أن تعرف أن ما تلفه عيشة حول عنقها ليس عقدا واحدا، وإنما هو عقود. وقد كان غباشي شابا فتي الجسم جميل الوجه، وكان ذا طموح في الحياة وهمة، فوقع في حب الأساور اللامعة والعقود التي تتواثب حول رقبة عيشة وتقدم إليها، وقبلته وتزوجا.
ومرت أيام، أصبحت شهورا، واستطاعت عيشة أن تعرف في سهولة ويسر أن غباشي أحب ما تملكه، ولم يحبها هي؛ فإنه سرعان ما طلب إليها أن تبيع ما تملكه ليشتري هو سيارة يشغلها بالأجرة. وطبعا حاول أن يفهمها أن الربح سيعود إليهما كليهما، حاول أن يضخم لها هذا الربح، ولكن الكلام مهما يكن منمقا جميلا، ما كان لينطلي على عيشة، وهي تاجرة الكلام التي جمعت ثروتها جميعها منه. واشتد الطلب من غباشي واشتد الرفض من عيشة، وانتهى الأمر بطبيعة الحال إلى الطلاق. وقد كان الأمر من شأنه أن ينتهي عند هذا الأمد، لولا أن غباشي ترك في أحشاء زوجته التي أصبحت مطلقته أملا في طفل أو طفلة لا يعلمه إلا الله، وما هي إلا بضعة شهور حتى أصبح الأمل طفلا وصار اسمه مجدي. وفرحت عيشة بما أعطاها الله، وأقسمت ألا تعود بعدها إلى الزواج أبدا، ويكفيها من حياتها أن تعيش لترعى هذا الطفل، ولتجعل منه شيئا عظيما منذ ألقمته ثديها في اللحظة الأولى من رضاعته. أزمعت عيشة في نفسها أن تجعل من هذا الطفل ثروة، ثروة كبيرة لها ولمستقبلها. لقد أزمعت أن تعوض به نفسها عن كل تعب تلقاه في عملها، وعن ذلك اليأس الذي أطل عليها من زواجها. وفي تدبر وحكمة وهدوء راحت تعد الخطة وتنفذها، وحين مرت الأيام، وحين قضت هذه الأيام على تجارة عيشة، لم تذهل ولا هي اندهشت؛ فقد كانت تعد للتطور عدته، فما هي إلا سنوات قليلة حتى خرجت السيدات إلى المحلات العامة يشترين ما يروق لهن، وما هي إلا سنوات أخرى حتى سفرت السيدات جميعا، فأصبح العريس يختار عروسه بالحواس الخمس جميعا، لا بالسمع وحده. وكانت عيشة قد ادخرت لهذا التطور بعض المال، ولكنها لم تلجأ إليه، وإنما لجأت إلى ما ادخرته من صحة وعافية؛ عرضت على إحدى السيدات اللواتي كانت تزورهن أن تقبلها عندها خادمة، وقبلت السيدة وأقامت عيشة في بيت السيدة خادمة، وكان لها على صاحبة البيت دلال قديم، فهي تجالسها من حين إلى آخر، عيشة على الأرض والسيدة على الكرسي، وهي من حين إلى آخر تدلك لها أقدامها، وهي تستطيع دائما أن تلقي على مسامعها ما تشاء من حديث، وهي تستطيع أيضا أن تستجدي منها لمجدي حلة أو حذاء أو قميصا، أو أي شيء تستغني عنه السيدة، أو تنجح لياقة عيشة في اختطافه.
ومجدي منذ السنوات الباكرة من الطفولة تلميذ، في مدرسة إلزامية أول الأمر، ثم هو في مدرسة ابتدائية، وحين حصل على الابتدائية قالت السيدة لعيشة: يكفي ما تلقاه مجدي من العلم، سأجعل زوجي يوظفه وتصرخ عيشة: لا.
ثم تتمالك في تؤدة: ربنا يطيل عمرك يا ستي ويبقيك. أملي في الدنيا أن يتعلم مجدي. - أخذ الابتدائية. - ربنا يبقيك لي. أنا عندك آكل وأشرب، وما آخذه منك يكفي لتعليمه وزيادة. العلم حلو يا ستي.
وتسكت الست، ويمضي مجدي في تعليمه، وعيشة تبذل غاية جهدها أن تستر أمره، فهي تشتري له مما ادخرت أحسن الملابس، وتجعله يبدو في أحسن مظهر، وقد سمح له وجهه الذي اقتبس فيه كثيرا من سمات أبيه وأمه، أن يبدو جميلا متسقا مع الثياب الأنيقة التي تختارها له أمه الخبيرة.
وتمر سنوات البكالوريا وينالها مجدي، وعيشة ما تزال تعمل بمنزل سيدتها، وتحاول الست مرة أخرى أن تعرض على عيشة أن توظف مجدي، ولكن عيشة في ذكاء ولباقة تقول: فات الكثير ما بقي إلا القليل. أتحمله يا ست هانم السنوات القليلة الباقية والبركة فيك.
وتسكت الست ويقصد مجدي إلى الجامعة. كان مجدي في سنوات عمره جميعا لا يفارق أمه أبدا؛ فقد استطاعت أن تخلي له حجرة في أسفل البيت الذي تعمل به. وكانت تصر على أن يلازمها ما مكنتها هي الفرصة أن يلازمها. وقد قطعت كل صلة كانت تقوم بينه وبين أي صديق، حتى لم يبق له من أصدقاء آخر الأمر إلا أمه. وقد صار أمره في الجامعة مثلما كان وهو في المدرسة الابتدائية أو الثانوية، فلم يزد عليه إلا أنه صار طالبا بكلية الهندسة، بعد أن كان تلميذا بمدرسة المنيرة الابتدائية أو الخديوي إسماعيل الثانوية؛ أمه هي آفاق حياته جميعا، وليس له من آفاق سواها، ولم يكن هذا إلا جزءا من الخطة التي أحكمتها عيشة في اللحظة التي ألقمت فيها ابنها ثديها، وكان الجزء المهم من الخطة يبدأ يوم دخل مجدي الجامعة.
أصبحت تستمنح سيدتها كثيرا من الإجازات، وتذهب لتقضيها مع أقاربها الذين نزحوا عن القرية وأقاموا في القاهرة. وقد عجب هؤلاء الأقارب أول الأمر من هذه الزيارات، ولكنهم لم يلبثوا أن تعودوها حتى أصبحوا يسألون عنها إن غابت ولم تزرهم. ولو أن هؤلاء الأقارب بحثوا عن الصفات التي تجمع بينهم، والتي تجعل عيشة تزورهم؛ لفطنوا إلى ما تدبر له عيشة، ولكنهم لم يجتمعوا ولم يبحثوا، وظلوا واهمين أن رابطة القرية وحدها هي التي تجعل عيشة تزورهم، ولو فكروا قليلا لوجدوا أن لعيشة أقارب أكثر قرابة لها ومن القرية، ويقيمون بالقاهرة، ومع ذلك لا تزورهم عيشة، ولكنهم لم يفكروا. ولو تدبروا الحديث الذي كانت تلقيه عيشة، ولو تناقلوه بينهم؛ لأدركوا، ولكنهم لم يتناقلوه وإن كانوا قد تدبروه.
وتمر السنوات وتزداد الصلات بين عيشة وأقاربها، ويقترب مجدي من نيل الشهادة فلا يبقى إلا شهور. وتقصد عيشة إلى بيت قريبها الذي تعودت أن تزوره وتكثر من زيارته، أحمد أفندي علي إسماعيل موظف القرية، الذي يمتلك في القرية ستة أفدنة، وفي القاهرة وظيفة تدر عليه دخلا يقدر بخمسة وعشرين جنيها شهريا، وليس في الدنيا إلا ابنة واحدة، تخطبها عيشة لابنها مجدي، الباشمهندس. وأين يجد أحمد أفندي علي إسماعيل خيرا من هذا.
الباشمهندس سيخطب ابنته، ولا يفكر أن ابنته ليست رائعة الحسن، ولا هي حتى على شيء من الجمال، وإنما يقتنع وتقتنع زوجته معه أن الست عيشة أرادت لابنها زوجة، ترعى شأنه وتقوم بأمره، وأن مسألة الجمال لم تكن تخطر لها على بال. وتتم الخطبة ولا يعارض مجدي؛ فقد تعود أن يكون كلمة من أمه وإشارة من يدها.
Page inconnue