هذه اللعبة
الظل
رحلة
فرحة
تقرير الطبيب
رضوان أفندي
لأنه يحبها
ثمن الدواء
الست عيشة
ملالة
شوار وهيبة
هذه اللعبة
الظل
رحلة
فرحة
تقرير الطبيب
رضوان أفندي
لأنه يحبها
ثمن الدواء
الست عيشة
ملالة
شوار وهيبة
هذه اللعبة
هذه اللعبة
تأليف
ثروت أباظة
هذه اللعبة
عادت ناهد إلى البيت فرحة غاية الفرح، يصفق قلبها سرورا. وراحت تبحث عن أمها في غرف البيت جميعا، حتى إذا لم تجدها، نبتت في نفسها غصة صغيرة سرعان ما طغت على فرحها. وراحت تلجأ إلى التليفون ولم تجد أقرب إليها من صديقتها ليلى؛ لتخبرها بهذا الفرح الذي يملأ نفسها. وأدارت القرص التليفون، وسرعان ما جاء صوت قاتم من الطرف الآخر، عاجلته قائلة: ليلى موجودة؟ - موجودة.
وترك الصوت التليفون وجاء صوت ليلى قاتما هو الآخر، ولكن ناهد سارعت قائلة: هيه يا ليلى. - هيه يا ناهد. - هل نجحت؟ - لا. - لم تنجحي!
وخفتت الفرحة في نفس ناهد، ولم تستطع أن تخبرها أنها هي نجحت، وإنما كل ما فعلته أن قالت في صوت شاحب: لا عليك. سأمر عليك.
ووضعت السماعة وعادت تفكر فيما يمكن أن تفعله. وضاقت بالبقاء في حجرة مغلقة، فقامت إلى الشباك ففتحته. إنه هناك، ذلك الفتى في البيت المقابل الذي لا يكف عنها، فلا تجدي معه كل هذه القسوة التي تعامله بها. ونظر إليها وابتسم، فأقفلت الشباك وعادت إلى الانتظار مرة أخرى، حائرة بفرحتها. جلست إلى مكتب زوج أمها؛ فهو مكان لا تستطيع الجلوس فيه إن كانت أمها أو زوج أمها بالبيت. وراحت تفتح الأدراج وكأنها تقوم بمقامرة تريد بها أن تفتح المنافذ لفرحتها الحبيسة. وفجأة التقت بمسدس ملقى في الدرج، ونظرت إليه طويلا، وكأنها لا تصدق أن هذه الآلة الصغيرة تقتل وتقطع حياة إنسان ضخم يملأ الحياة، ويروح ويجيء ويتكلم، وقد يكون ذا سلطان فهو يتحكم في نفوس البشر، فهذا يعيش وهذا لا يجد العيش. نظرت إلى المسدس الصغير؛ كيف تستطيع هذه الآلة الصغيرة التي تشبه اللعبة، بل هي أدنى إلى فكرة اللعب، أن تجتث حياة إنسان من بين أهله وذويه؟! وكيف تقضي عليه حتى وإن كان جبارا ذا سطوة ونفوذ وسلطان؟ كزوج أمها مثلا، ذلك الذي يسيطر عليها في عنف وبأس وجبروت، والذي رأت موظفيه في الشركة وهم يرجفون من ذكر اسمه رجفة تتضاءل أمام هولها رجفة العابد المؤمن العميق الإيمان إن ذكر أمامه اسم الله أو اسم الشيطان. بمسدس كهذا، نعم كهذا. بل برصاصة منه صغيرة دقيقة أهون في سمكها من سمك هذه الفتحة في مقدمة المسدس، حتى ولو كان زوج أمها. وسارعت تقفل الدرج وعادت إلى فرحتها وإلى حيرتها بهذه الفرحة. وفجأة طغى تفكيرها على ضجيج فرحها؛ من تنتظر؟ أتنتظر زوج أمها الشرعي؟ وماذا سيفعل؟ قد يتفضل فيخرج كلمة مبروك، وكأنه يفرج حنجرته عن دمية ميتة لا تحمل معنى. وقد لا يقول شيئا إلا أن يموء، أما أمها فقد تفرح حقا، ولكن ماذا تراها فاعلة أمام زوجها الباطش الجبار؟ قد تضحك وقد تقول مبروك يا حبيبتي، ثم تمسك بعنان عواطفها في عنف؛ فقد أمرها زوجها ألا تدلل ابنتها وهي له مطيعة. ماذا ترجو إذن ناهد لفرحتها؟ لا شيء؛ فقد عاشت في ظل زوج أمها لا تجد لفرحتها عند أمها أو زوجها مكانا، أو تجد لحزنها عند أي منهما يدا آسية أو قلبا عاطفا، كالزهرة البرية التي تشق طريقها في الجو وحيدة فريدة، لا من يؤنس ولا من يتعهد. إنها ما تزال تذكر أباها ولكن ماذا تفيد الذكريات مع الواقع الأليم، إلا أن تزيد الألم قسوة وعنفا. فكم كانت ترجو أن تنسى حنان أبيها حتى لا تستهول قسوة زوج أمها! فلو كانت لم تر الحنان لما عرفته ولما احتاجت إليه، ولحسبت أن الدنيا كل الدنيا ليس فيها آلام تشقى بها من صلف وترفع وتأنيب وخشونة. ولو كانت تجد أباها لاستطاعت أن تقول نجحت، ولاستطاعت قبل ذلك أن تقول له الكثير الذي لم تستطع أن تقوله لأحد، ولاستطاعت من بعد أن تقول الكثير الذي تعرف أنها تحتاج أن تقوله، ولكن لمن تقول؟ ألا بد لها أن تقول؟
وما الحياة إن خلت من القول وقلب يعطف على قلب ونفس تؤنس وحشة نفس؟
ودخل زوج أمها وطالعته هي فرحة مبتدرة: نجحت يا عمي.
ونظر إليها لحظة، ثم قال: هيه! وما لبثت أن جاءت أمها فابتدرت قائلة: نجحت يا نينا.
وفي حركة لا شعورية احتضنتها أمها في نشوة طبيعية وهي تقول: مبروك، ألف مبروك. وأحست ناهد أن عيني أمها التقتا بعيني زوجها. أحست بلقاء العيون في صوت أمها وهو يعاجلها قائلا في شيء من الجفاء المصطنع: كان لا بد أن تنجحي. أكنت تنتظرين غير هذا؟!
وانسحبت الأم من أحضان ابنتها وقصدت إلى غرفتها، وما لبث زوجها أن تبعها، وخيل لناهد أنه يريد أن يعاتبها على ما بدا منها من فرحة لم تحكم زمامها. وأطرقت ناهد لحظات، ثم أحست أنها تريد أن تفتح الشباك، ولا تدري لماذا أرادت أن تفتح الشباك، ولكنها توجهت إليه وفتحته بيد ثابتة كمن صممت على شيء. وفي الشباك المواجه وجدت الفتى يطاردها بابتسامته، ووجدت ابتسامته مستقرة على فمه كما تركها منذ أغلقت الشباك في المرة الأولى. وابتسمت، ولم يصدق الفتى عينيه فراح يفرك عينه، وعاد ينظر إليها وقد رسم الابتسامة على فمه، فوجد الابتسامة ما تزال على شفتي ناهد لم تتركها، ورقص الفتى في الشباك، فضحكت ناهد من أعماق قلبها، وكأنها أحست أنها قالت «نجحت» للشخص المناسب، وأشار لها الفتى أن يلتقيا، وأومأت أن نعم، وأشار إليها أن الآن، وأومأت أن نعم، وقصدت إلى أمها فأبلغتها أنها تريد أن تزور ليلى، ووافقت الأم ونزلت إلى الطريق.
ومنذ ذاك اليوم لم تكن تحتاج إلى أحد تفضي إليه بفرحتها، أو تزجي إليه بآلامها؛ فقد أغناها ماجد عن هذه الحاجة؛ فهو كل شيء لها في الحياة. شاب من الريف يقيم وحده في القاهرة ليكمل تعليمه في كلية الآداب قسم الفلسفة، عذب الحديث، عطوف عليها، يتلمس رغباتها لينفذها، ولم تكن رغباتها كثيرة؛ فما كانت تريد إلا أذنا وقلبا، وقد كان ماجد ما تريد.
وبيت ماجد خال وبيتها هي لا رقيب فيه؛ فالأم كثيرة الخروج، وزوج الأم كثير المشاغل.
واستطاعت الصلة بينها وبين ماجد أن تظل بريئة فترة من الزمان، ولكن البيت الخالي، والرقيب الغائب، والحنان من ماجد، والقسوة من زوج الأم؛ كل هذا استطاع أن يجعل الصلة غير بريئة.
ولم تجزع ناهد أول الأمر، ولكن عارضا عرض كان لا بد أن تجزع له؛ لقد أوشكت أن تثمر هذه الثمرة التي يتمناها كثير من الآباء والأمهات، فلا يصيبون من أمنياتهم إلا خيبة، والتي يتمنى كثير آخرون من ذوي الصلات المستورة أن تظل مستورة، فتتمرد عليهم الطبيعة وتصمم على أن تهب لهم ما هم عنه في غنى أي غنى. كانت ناهد تحمل ثمرة بحثها عن الحنان عند ماجد.
وأخبرته، وجزع الفتى ولجأ إلى صديق له في كلية الطب، ولكن صديقه خذله، وذهب إلى طبيب ممن يتقاضون من أجل هذه العملية أجرا فاحشا، ولكن الطبيب ما لبث أن قال لهما: لا، لا يمكن أن تحتمل العملية.
وخرجا وقصدا إلى بيت ماجد. وأطرق ماجد حزينا، ونظرت هي إليه طويلا، ثم قالت له: في أي سنة أنت من سنوات دراستك؟
ونظر إليها مندهشا بعض الحين، ثم قال: ألا تعرفين؟! - قلت لي إنك في السنة النهائية، ولكن الآن أريد أن أعرف الحقيقة. - إذن إنها الحقيقة. - إذن ماذا؟! أراك لا تريد أن تفهم. - وهل تظنين أن ما يمنعني عن الزواج هو دراستي؟ - إذن فماذا؟ - إني فلاح. - وهل لا يتزوج الفلاحون. - يتزوجون ولكن ... - ولكن ماذا؟ - ألا تفهمين؟ - أكاد أفهم. - الفلاحون لا يتزوجون هكذا. - ألست تعرف أنك أول إنسان عرفته؟ - ليس هذا ما أخشاه. - فماذا تخشى؟ - أخشى ألا أكون الأخير.
ونظرت إليه ناهد طويلا. القسوة، كل قسوة في الوجود أرحم من هذا الذي سمعته الآن.
وقامت إلى بيتها كسيرة حزينة، وقصدت إلى البهو وحيدة، تريد أن تبكي فلا تجد الدموع. إنها ليست الأولى في هذا الموقف لا، ولن تكون الأخيرة، ولكن السعيدات الأخريات يجدن فيه من يقف إلى جانبهن، يجدن أمهاتهن، فأين أمها؟ لا يعرف أي إنسان هذه الكارثة التي تشقى بها إلا أمها. فمن لها؟ من؟ لا أحد. لا أحد. لماذا فعلت بنفسها هذا؟
إنها تدري لماذا. تدريه حتى لتحسب أنها تعود إلى ما فعلته مرة أخرى إن عادت الأيام القهقرى، إلا أنها كانت تتمنى أن تجد في ماجد الرجل الذي توهمته، أو تجد من الزمان بعض عطف يعوضها عن عطف الأبوة أو الأمومة، ولكن لا؛ فالزمن المفترس لم يشأ أن يهب لها شيئا مما يهب للأخريات. أي فضل للأخريات إن يكن شريفات؟ لماذا يسقطن؟ وهل كل الرجال مثل ماجد، هذا الذي صرع مستقبلها بما فعل وشرفها بما قال؟
وجلست إلى المكتب وراحت تفتح أدراجه، والتقت مرة أخرى بالمسدس، هذه اللعبة التي تجتث حياة الناس إنها تريدها الآن، تريدها بكل خلجة من خلجات نفسها.
أمسكت بالمسدس وجلست، ولم تطل بها جلستها؛ فسرعان ما دخل إليها زوج أمها، وقبل أن يقول في صوته العنيف الطاغي ماذا تفعلين، كانت هي قد أطلقت الرصاصة الأولى، وترنح الرجل الشامخ، فأتبعت رصاصتها ثانية فثالثة فرابعة، حتى صارت تضغط على الزناد فلا يطلق إلا فراغا، ولم تبال فراغ المسدس من رصاصه، بل راحت تضغط وتضغط.
الظل
تفضل يا سيدي بالجلوس، لا لن تجد منضدة خالية؛ إن المقهى الآن بالذات لا تخلو فيه منضدة. لعلك لا تعرف هذا المقهى يا سيدي، إنه مقهى الموسيقيين وأفراد الكورس، وهم الآن يتناولون غداءهم ليعودوا إلى الإذاعة، وهكذا تجدهم يزحمون المقهى، في هذا الوقت بالذات يزحمون المقهى، ثم هم إذا فرغوا يجلسون هنا أيضا ليجدهم من يريدهم في عمل. لماذا تظل واقفا يا سيدي؟ تفضل يا سيدي بالجلوس. لا، لا تندهش. إن كلمتك دون سابق معرفة فإني كثيرا ما رأيتك، وجهك مألوف بالنسبة لي، ثم إنك ستسدي إلي معروفا كبيرا إذا جلست؛ فإني أريد أن أتكلم، أريد أن أقول، وكل هؤلاء سمعوا ما أريد أن أقوله، ولكني مع ذلك أريد أن أقوله مرة أخرى. تفضل بالجلوس وأعدك أنك لن تشعر بالملل فحكايتي - على كل حال - لا تجلب الملل. شكرا، والآن هل تأمر بقهوة أم بكازوزة؟ أنا الذي سأدفع فإنه يسعدني أن أجد من أحكي له. لا شك أنك تريد عبد المنعم قاصد. أنت شاعر وهو يلحن لك، أليس كذلك؟ نعم أنا متأكد. سيأتي عبد المنعم حالا. كازوزة؟ حسنا. يا كوشة، يا كوشة، زجاجة كازوزة وحسابها عندي، وعجل يا كوشة. أتريد أن تسمع الآن؟ أولا أحب أن أعرفك بنفسي، أنا يا سيدي جزء على عشرة من إنسان، وأحيانا أنا جزء على عشرين من إنسان، وأحيانا ولكن قليلا ما أصبح جزءا على ثلاثين من إنسان، وعلى كل حال أنا لست إنسانا كاملا، لم أكن كذلك في يوم من الأيام. تصور أنني حتى وأنا في بطن أمي كنت نصف إنسان. نعم، إن لي أخا توأما شاركني المكان الوحيد الذي يمكن أن أكون فيه إنسانا كاملا، واحدا صحيحا. وحين نزلنا إلى الحياة ظللت أحس أنني لست إنسانا كاملا. العجب أن هذا الشعور لم يكن يراود أخي أبدا! كنت أسأله: أتحس أنك إنسان كامل؟
وكان يقول في عظمة بلهاء: كامل ونصف.
يظهر أن الشعور بالكمال تسرب إليه جميعا ونحن في بطن أمنا، ولم يبق لي منه شيء.
وأكدت الحياة معنى هذا النقص في نفسي؛ لم أتفرد بشيء أبدا؛ كنا إذا أكلنا تقاسمت أنا وأخي الطعام، وإذا ما اشترى أبي لي شيئا كان لا بد أن يشتري نفس الشيء لأخي. كنت أخشى أن ينسى يوما ويحضر لي فردة حذاء ولأخي فردة حذاء. وذهبنا إلى المدرسة، وكان أخي ذكيا يحسن المذاكرة، ويحسن الإجابة على المدرس، ويحسن الاستماع، ويحسن أن يجعلهم يقولون عنه إنه تلميذ ممتاز. وكنت في أول عهدي بالمدرسة مثله، ولكن حين تقدمت بي السن والدراسة بعض الشيء، نبتت في رأسي فكرة لا أدري مأتاها؛ جميع الأفكار تأتي من حيث لا ندري، ولكنها تؤثر في حياتنا حتى نهاية الحياة. مصاير الإنسان يا سيدي مرتبطة بفكرة كهذه الفكرة التي نبتت في رأسي ونفذتها ... تصور يا سيدي مجرد فكرة طيف من ظن، لمحة من أوهام، ظل من رأي، مجرد فكرة فإذا أنا الذي تراني اليوم، وإذا أخي - والعقبى لآمالك - مدير خطير يحرك بسبابته عشرات من الكيانات البشرية من أمثالي. كانت فكرة يا سيدي. لا، لا أريد أن أكون مثل أخي، أريد أن أكون أنا، أنا، أنا؛ فقد بحثت عن أنا هذه كثيرا، وقررت - ما دمت لم أجدها - أن أخلقها أنا، وخلقتها يا سيدي، فإذا هي هذا المخلوق الشائه الذي تراه الآن أمامك. جزء من عشرة من إنسان، أو جزء من عشرين، أو جزء من ثلاثين. كانت فكرة، مجرد فكرة. كثيرا ما تطوف بأذهان أقوام لكنهم لم ينفذوها، وإنما، أنا، أنا، نفذتها. قلت في نفسي لن أكون صورة لأخي، لا لن أكون. سأكون أنا منفردا في كياني لا أماثل هذا الأخ فيما يسعى إليه من آمال، ولا فيما يسير فيه من طريق. إني شبيه له في الخلقة، ولكني لن أكون شبيها له في الآمال والأحلام. كنت قد مللت أن أكون نسخة كربون من أخي. كانت فكرة، لو تركتها تذوب مع الأفكار الأخرى التي تراود عقلي، لو أني لم أتمسك. لو، بغيضة «لو» هذه يا سيدي الشاعر أليس كذلك؟ أتعجبك «لو» هذه يا سيدي؟ إنها لفظ الحسرة على ما فات، والألم على الماضي. لفظة لا تحمل إلا اليأس. لعلك تحبها في شعرك؛ لأنها تعطيك الفرص للظهور بمظهر الحزين الآسي، هذا المظهر الذي يحب الشعراء دائما أن يتخذوه. أكره أنا «لو» هذه يا سيدي، لو كنت تركتها تذوب لكان شأني غير شأني. المهم أني نفذتها؛ أهملت المذاكرة وكنت أجاهد ألا ألتفت في الحصة، وأجاهد أن أجعلهم يقولون عني تلميذ فاشل. أتعرف يا سيدي أنني لم ألاق النجاح إلا نادرا في حياتي؟ أقول نادرا لأخادع نفسي؛ الحقيقة أنني لم ألاق النجاح إلا في هذه المرة. نجحت يا سيدي في أن أكون تلميذا فاشلا، نجحت في ذلك نجاحا جعل أبي ينتهي إلى اليأس الكامل من أن أكمل دراستي، وأخرجني.
كان يومي الأول مع الفراغ وزملائي في المدرسة يوما عجيبا بالنسبة لي يا سيدي، حتى لقد خطر لي أن أعدل عن فكرتي وأعود إلى مدرستي، ولكن هذه الفكرة، فكرة العدول يا سيدي سرعان ما ذابت وتلاشت ورحلت إلى حيث لا أدري ولا يدري أحد. أتعرف أين تذهب الأفكار يا سيدي؟ لا، ما أظنك تعرف، بل ما أظن أن أحدا يعرف. قضيت اليوم وحيدا، ولكني كنت فردا. شعرت بالتوحد. لم أجد نفسي بين صفوف التلاميذ، ولا وجدت نفسي جزءا من جماعة، بل وجدت نفسي فردا كاملا، ولكن لسبب لا أدريه لم أشعر بهذه الانفرادية، وإنما شعرت بالضياع. كم هو مر مذاق هذا الضياع يا سيدي! حتى لقد أضاع علي شعوري بالتفرد.
وكان لي زميل سبقني إلى الطريق فذهبت إليه، فوجدته قد حقق آماله في كمنجة يحملها وتخرج له أنغاما، وكان سعيدا، وأصبحت في أيام إفلاسي وأنا لا عمل لي إلا أن أستمع للموسيقى التي ترسلها كمنجة صديقي الذي سبقني إلى الطريق. لا لم أكن حينذاك أقدر النغمة الحلوة ولا النغمة الرديئة، وإنما كنت أستمع، أتشرب فنجان قهوة؟ يسعدني أن أقدمه لك. أتشربها مضبوطة؟ يا كوشة، فنجان قهوة مضبوطة. لا، لا تشكرني؛ فإنه يسعدني أن أقول، خيل إلي بعد حين أنني أستطيع أن أفهم النغمات، ورحت أستحسن موسيقى صديقي، وشيئا فشيئا واتتني الجرأة أن أدندن، وما لبثت أن غنيت. نعم كنت أغني مع موسيقى صديقي، وقال صديقي الله، وحين سمعتها وجدت «أنا» التي كنت أبحث عنها، وجدت نفسي أحس بالتفرد يا سيدي، أصبحت أغني وأجد من يقول الله.
وتمسكت بلفظة الاستحسان هذه واسترسلت، غنيت. وكان صديقي يدعو بعضا ممن يعرفهم ويعزف هو وأغني أنا. والعجيب يا سيدي أنهم كانوا يقولون الله! لا أدري أي دافع كان يبعثهم إلى قولها؟ أصبحت الآن لا أدري، أما في ذلك الحين فقد كنت واثقا أن صوتي رخيم. كنت واثقا يا سيدي. ولا أدري كيف استطاع صديقي أن يدبر لنا ليلة نغني فيها في فرح. فرح كامل يجلس فيه المدعوون والعريس والعروس، وأغني أنا ويعزف هو على كمنجة، ويعزف آخر على عود، ويدق ثالث على طبلة، وأغني. وغنيت يا سيدي وقال الناس الله. لا لم يكونوا ساخرين، قالوا الله ولكن ما أقل ما قالوها! إن هي إلا دقيقة أو اثنتان وإذا بالكراسي تقذف إلينا، وإذا الفرح يصبح ميدانا للمصارعة، وإذا نحن وأهل المغنى والموسيقى نتلمس مخبأ نحتمي فيه، ولكن كأنما كان المدعوون لا يريدون أن يضربوا أحدا إلا العازفين.
نجونا بحياتنا ولكن لم ننج من الجروح والكدمات. ضع القهوة هنا يا كوشة. هل الماء بارد؟ شكرا يا كوشة. العجيب يا سيدي أن هذه الحادثة كانت تتكرر في الأفراح التي ندعى إليها بطريقة منتظمة لا تخطئ. لم نكمل حفلا أبدا. يئست يا سيدي، وكفرت بالتفرد، وكفرت بنفسي، وكفرت بكل شيء إلا السماء. أتعرف يا سيدي أن فكرة الكفر بالسماء لم تخالجني أبدا؟ إن عقلي لا يتصور أن السماء تتركنا، كما لا يتصور عقلي أن تكون هذه الدنيا هي نهاية القصة. أنا مؤمن بالله وبالحياة الأخرى، ولم أفقد إيماني هذا في أشد الأوقات حلكة وسوادا. مات أبي يا سيدي وأنا أقطع طريقي في الفشل، وازدادت الدنيا سوادا أمام عيني، ولكني لم أكفر بالله. وفجأة قال صديقي صاحب الكمنجة إنه تعرف على شخص يستطيع أن يجعلني أغني، وحين سألته: «ولا يضربني المستمعون؟» قال: «ولا يضربك المستمعون.» قلت: «كيف؟» قال: «ستغني في كورس.» كورس؟ وأعود شخصا غير كامل مرة أخرى. طلبت إليه ألا يذكر هذا العرض أمامي، طلبت منه ذلك في صلف وكبرياء، ولكن قليلا ما دام هذا الصلف وذلك الكبرياء. كان أبي موظفا، وكان يعولني وهو حي، ولكنه حين مات لم يترك لي شيئا إلا خوفي أن أشعر بأنني إنسان لا يكتمل إلا بغيره. جعت يا سيدي فذهبت إلى صديقي ولم ينتظر أن أطلب، يبدو أن منظري وحده كان كافيا، وأصبحت أحد أفراد الكورس أغني مع غيري ولا يتبين أحد صوتي، إنما صدى بين الأصداء ظل يختلط بظلال جزء على عشرة أو عشرين أو ثلاثين من إنسان، إنسان لا يعرف جنسه فهو خليط من رجال ونساء وأطفال أحيانا. ولكني لم أعد جائعا وإن عدت إلى شعوري بعدم الاكتمال. لا يا سيدي إن قصتي لم تكتمل. كنت يا سيدي ملزما أن أشتري بدلة سهرة. كنت أبدو فيها أنيقا؛ فحين كنت أغادر منزلي وأنا لابسها تسارع بنات الحارة إلى النظر من الشبابيك، وكنت أحس بالزهو في داخلي، زهو سرعان ما يزاملني حين أجد نفسي أكمل الإنسان الظل في الحفل، ولكن فتاة من بين أولئك الفتيات أعجبتني وخطبتها وتزوجتها وعشنا معا سعداء أول الأمر. لم تكن تعرف معنى أنني كورس، لم تكن تتصور أنني جزء من ظل إنسان، حتى جاء التليفزيون فكانت تراني فيه. أجل اشتريت جهازا فيمن اشترى، فلعلك لا تعرف يا سيدي أن مهنتي تدر علي ربحا لا بأس به. أترى السيارة التي هناك؟ هي قديمة نعم، ولكني أملكها. رأتني زوجتي في التليفزيون، رأت المهنة التي أمتهنها. سيدي عدت يوما من إحدى الحفلات فوجدت زوجتي قد غادرت البيت، وحين ذهبت إليها أحاول إرجاعها، قالت أريد شخصا موجودا لا ضائعا خافيا لا يبين، أريد إنسانا لا جزءا من إنسان. ما حزنت يا سيدي، لقد تركت أنا فترة الحزن من زمن بعيد. إنما أقص عليك لأني لم أعد أجد حزنا فيما أقص. لا يا سيدي أنا لست سعيدا وإنما أنا قانع. لا تصدق يا سيدي أن السعادة هي القناعة، وإنما القناعة هي الشقاء، هي ركود يا سيدي ولكني أرتضيه، أرتضيه لأني لا أملك له دفعا ولا عنه حولا. ماذا يا سيدي؟ ألا تنتظر عبد المنعم قاصد؟ لا بد أنه قادم الآن. لا بأس يا سيدي، أمرك، سأخبره بقدومك، مع السلامة يا سيدي، مع السلامة. يا كوشة، يا كوشة كم تريد؟ نعم كازوزة وقهوة. وهذه خمسة قروش لك يا كوشة، شكرا يا كوشة.
رحلة
كان مكانها في الطائرة بجانبه ولم تعره التفاتا؛ فقد كانت المرة الأولى التي تركب فيها طائرة، وكان كل ما يسعى إليه ذهنها أن تقرأ ما تحفظه من القرآن. قليلا ما كانت تلجأ إلى القرآن، وهكذا كان محصولها فيه يقل كلما لجأت إليه، فهي تجهد ذهنها بحثا عن السور القصار، ويخونها ذهنها الخائف المذعور، فلا تذكر إلا «قل هو الله أحد»، وتكمل السورة وتبحث عن غيرها، فلا يقودها ذهنها إلى غير «قل هو الله أحد»، فتعيدها وتعيدها ولا تقول غيرها، وهو بجانبها ينظر إليها وطيف ابتسامة يطيف بفمه، وتظل هي تقرأ «قل هو الله أحد» حتى تجد نفسها آخر الأمر قد اطمأنت إلى تحليق الطائرة في الهواء، وتفيق إلى نفسها من ذعرها وتنظر حواليها، وتراه وترى الابتسامة وتوشك أن تلاقيها بابتسامة. وتتفرس فيه، فتى أسمر الوجه سمرة غير مصرية، حلو الملامح، ذلي العينين، حليق الشعر أسوده، في وجهه سماحة وطيبة وحب، حب للحياة ولكل شيء في الحياة، وينتهز فرصة نظرها إليه فيقول في إنجليزية نقية: أخائفة أنت إلى هذا الحد؟
وتدهش أنه عرف بخوفها على رغم جهله بالعربية فتقول: كيف عرفت أني خائفة؟ - لكل دين تعاويذه. - نعم إني خائفة. الحقيقة أنني كنت خائفة، ولكنني الآن أشعر بالطمأنينة. - أترى كان لما تتمتمين به أثر في هذه الطمأنينة؟ - لا أدري، ولكني الآن غير خائفة. - أنت مصرية؟ - نعم. - ما هذا الذي كنت تقولينه؟ - كلام من كتابنا. - مسلمة أنت؟ - نعم. - أهذا هو القرآن؟ - كلمات قليلة منه. - أنا أيضا أقول كلاما حين أكون خائفا. - من الإنجيل؟ - لست مسيحيا. - إذن؟ - أنا بوذي. - من الهند أنت؟ - نعم. - وهل كنت خائفا؟ - في هذه المرة لا ... إنها ليست المرة الأولى التي أركب فيها الطائرة. - هل خفت في المرة الأولى؟ - المشاعر الإنسانية واحدة في جميع أنحاء العالم ومهما تختلف الأديان. - أنت مسافر إلى لندن؟ - نعم، وأنت؟ - إلى لندن أيضا. - للدراسة؟ - نعم، وأنت؟ - للدراسة. كنت في إجازة وها أنا ذا عائدة منها. - ألا تشعر بالغربة في لندن؟ - إنني أشعر بالغربة بمجرد بعدي عن بيتي. - أخاف من الغربة. - هي المرة الأولى التي تفارقين فيها أهلك؟ - لم أبت ليلة خارج منزلي، بل لم أبت ليلة بعيدة عن أختي. - أظنها غير سعيدة بسفرك؟ - مسكينة، كانت تحاول أن تخفي الدموع حتى لا أراها. - لم تحاول أسرتك أن تمنعك من السفر؟ - حاولت أمي ولكن أبي متحرر التفكير، ورأى أنني متقدمة في دراستي، فلم يشأ أن يحرمني هذه الفرصة.
وجرى الحديث. حدثته عن أبيها وأمها وأختها وأخيها، وحدثها عن إخوته الثلاثة من الذكور والأربع من النساء، فعرفت أسماءهم وأسماءهن، وعرفت المتزوجة منهن ومن لا تزال تنتظر الزواج، وعرفت ماذا يفعل إخوته من الذكور، عرفت أعمالهم جميعا. ساعة واحدة كان كل منهما يعرف كل شيء عن الآخر. وجرى الحديث ونسيت الطائرة ونسيت الخوف، ونسيت أباها وأختها وأخاها، نسيتهم بالحديث عنهم، نسيت لهفتهم في يوم سفرها، ونسيت الجزع في عيني أمها، والضياع في عيني أختها، والشعور بالمغامرة في عيني أبيها، والشوق إلى المجهول في عيني أخيها. نسيت المشاعر التي ودعوها بها في غمار الحديث وعن حياتهم اليومية. وفجأة اهتزت الطائرة هزة عنيفة، وهوم الصمت على المسافرين، وعاد إليها الخوف، ولم تشعر بنفسها وهي تمسك بيده في ذهول، ولم تشعر أيضا بيده وهو يطبقها على يدها المرتجفة. وبعد لحظات أنبأهم صوت قائد الطائرة أنهم في خطر، وأنه يحاول أن يتغلب على هذا الخطر.
ونظرت إلى جارها الذي أصبح صديقها، وتكلمت عيناها وتكلمت عيناه، وساد الصمت دقائق طويلة، طويلة، ثم ارتفع صوت قائد الطائرة: اقتربنا من لندن. الله معنا.
وعادت إلى «قل هو الله أحد» تقولها بقلبها، ونظرت إلى جارها ووجدته يقول كلاما لا تفهم منه شيئا، وحين لامست الطائرة أرض المطار وجدت نفسها في حضن هريش، وهي ما تزال تردد «قل هو الله أحد»، وحين انفصلت عنه انفجرت باكية ضاحكة، متمتمة بكلمات السورة الوحيدة التي أصبحت لا تحفظ غيرها.
واستمرت الصلة بينها وبين هريش حتى أصبحت تقضي كل أوقات فراغها معه. حست في صحبته أمنا، واستطاعت برفقته أن تتغلب على الغربة أغلب ساعات النهار، ولكن الوحدة كانت تفغر لها فاها كلما تلقفتها الحجرة التي استأجرها لها عند أسرة صديقه.
وفي يوم سألها هريش ونظرة الحب تشع من عينيه: سلوى، أريد أن أتزوجك. - كيف؟ - هكذا. - ولكن ديننا يحرم الزواج بك. - أعلم.
وصمتت بعض الحين ولكنها ما لبثت أن وافقت على الزواج، وتم الزواج على غير علم من أحد إلا الموظفين المختصين.
ومرت الأيام وسلوى تكتب لأهلها، لا تجسر أن تخبرهم بما تم في أمرها، حتى كان يوم شعرت بألم في جنبها، لم تحفل به أول الأمر، ولكن الألم زاد، ولم تستطع أن تكتم أمره عن هريش، وطالعهما الطبيب بالحقيقة القاتلة: المرض قاتل لا سبيل إلى التغلب عليه.
ونظرت سلوى إلى هريش وأنعمت النظر، ولم تجد شيئا تقوله إلا ...: أنا آسفة. لم أستطع أن أحقق لك السعادة التي كنت أتمنى أن أحققها لك.
ولم يستطع هريش أن يتحمل العبء وحده، وفوجئت أسرة سلوى بخطاب موقع من هريش أن ابنتهم مريضة. وظن الأب أن التوقيع لأحد زملائها، ولم يفكر إلا في مرض ابنته، فسرعان ما ذهب إليها في لندن، ووجدها على فراش الموت ووجد معها هريش، وما هي إلا لحظات حتى تبين ما فعلته ابنته، وأوشك أن يتركها ليعود إلى القاهرة، ولكن سلوى نادته في صوت واهن ضعيف: أبي.
ووجد نفسه يقول دون ريث وتفكير: لم أعد أباك. - إني هنا وحيدة. - لي رجاء لا يستطيع أن يحققه لي هريش. - لا تنطقي اسمه. - فهو رجاء لن يحققه لي إلا أنت. - لا أريد أن أسمع. - أريد أن أدفن كمسلمة.
وانهار الأب الحزين باكيا. إنها ما زالت مسلمة. - هل أشركت يا سلوى؟ هل أشركت بالله؟ - أريد أن أدفن كما يدفن المسلمون.
فرحة
أمسك شريف بالجريدة في لهفة جامحة، وراح يبحث عن نتيجة المسابقة التي تقدم إليها بكتابه الأول، وطال بحثه عن هذه الأسطر التي ينشدها حتى عثر عليها آخر الأمر، وإذا هو يجد اسم قصته يشرق في العنوان، وإنها الأولى. لقد اختيرت قصته أولى القصص على كل هذا الحشد الذي تدافع إلى المسابقة. لم تكن آماله جريئة إلى هذا الحد. إن آماله لم تحدثه يوما أنه قد يكون الأول. لقد كانت غاية الآمال عنده أن يذكر اسمه من بين عشرة أوائل. وهو ما يزال يذكر كيف كان يردع هذه الآمال، ويلزمها مكانا قصيا في بعيد نفسه، ولا يتيح لها أبدا أن تلح عليه؛ فقد كان يخشى أن تعده بما لا تطيق الأيام تحقيقه.
ولكن ها هي ذي الأيام تهب له حقيقة قائمة لم تستطع الآمال أن ترسمها له. أسرع شريف إلى البيت وعدا السلالم عدوا حتى دخل إلى زوجته: سهير. - هه شريف. - تصوري، تصوري. - خيرا. - الأولى. ليست الثانية ولا العاشرة. الأولى. - من هي؟ - قصتي الأولى. اختاروا قصتي. الأولى، الأولى. - الأولى! مبروك، وكم سيعطونك؟ - لا أعرف ولكنها، الأولى، الأولى. تصوري. - طيب يا أخي تصورنا وبعد. - وهل فيها بعد؟ الشهرة والمجد. - عظيم، مبروك. - ولكنك لست فرحانة. - وماذا تريدني أن أفعل لأكون فرحانة؟
وعندئذ أفاق شريف من فرحته، فعلا، ماذا يريدها أن تفعل لتكون فرحانة؟ ومنذ متى استقبلت أخباره بأكثر من هذا الهدوء، الذي لا ينبئ عن شيء من فرح أو حزن أو أي شعور؟ لو كانت امرأة غيرها، لو كانت امرأة جياشة الشعور لطلب إليها أن ترقص، نعم ترقص، يقفل هو باب الحجرة وترقص هي، وتقبله، ثم تعود فترقص وتقبله دون أن تقول مبروك. هذه المبروك الجامدة العاجزة. لو كانت امرأة أخرى لما قالتها. كان يريدها زوجة تستقبل معه المبروك إن ألقيت إليه ولا تقولها، ولكن هذه هي زوجته ولن يملك لها تغييرا. أفاق شريف إلى نفسه وإلى فرحته هذه الطفلة، وعاد إلى حقيقة سنه، رجل في الثلاثين من عمره، وقور الملامح، ثابت التفكير، يحب أحيانا أن يكون طفلا فيجد أمامه هدوء زوجته، فيعود مرة أخرى إلى سابق وقاره.
ينزل شريف إلى الشارع يبحث عن صديق يفجر أمامه فرحته، ولكن إذا كانت زوجته تنكر عليه هذه الفرحة الطاغية فكيف بالصديق؟ لا، إنه لا يريد صديقا، بل صديقة، أنثى تقفل عليهما حجرة ويأخذها بين ذراعيه، ويتبادلان الفرحة حينا والحب أحيانا، فيتزود من ساعة اللقاء طاقة كبرى من الإشراق، يلقى به هذه الحياة المعتمة حوله.
صديقة! ومن الصديقة؟ نجوى زميلته في الصحيفة التي يشتغل بها، فكثيرا ما أبدت إعجابها بما يكتب، ولكن نجوى! نعم نجوى، لا، لا يمكن؛ لقد كانت تبدي إعجابها مليئا بالنقد والموازنة والمقاييس الفنية. كان إعجابه منهجيا لا تبعثه الأنثى التي في نجوى، بقدر ما هو صادر عن نجوى خريجة الآداب. إن الذي ينشده إعجاب امرأة برجل إعجابا ساذجا، بلا نقد ولا مقاييس ولا موازنة ولا دراسة؛ يريدها معجبة بكل ما يكتب، وبالطريقة التي يكتب بها، بل وبالطريقة التي يمسك بها قلمه ويميل بها على صفحاته. لا، نجوى لا تصلح. فمن إذن؟
وفي غمرة هذا التفكير كانت سيارة شريف قد وصلت به دون أن يحس إلى الجريدة، فلم يفق إلا وهو ينزل من سيارته في طريقه إلى مكتبه بالجريدة، وحينئذ تذكر أنه لا عمل لديه بالجريدة في مثل هذه الساعة، ولكن هذا لم يثنه عن الدخول إلى مكتبه؛ فقد كان خاليا من كل عمل، فرحان تتجمع فرحته في قلبه ولا يجد لها متنفسا، فتمنى لو يجد أي شيء يفرج عن فرحته المكبوتة تلك، أي شيء حتى ولو كان عملا.
وسرعان ما تحققت أمنيته؛ لقد وجد على مكتبه كومة من رسائل القراء تنتظر، فراح يفتحها الواحدة بعد الأخرى، وأخذ يكتب رده على كل منها، وأحاط به عمله فنسي كل شيء عن فرحته وعن الصديقة التي يريدها، وعن تجهم زوجته وجمودها، فلم يبق أمامه إلا هؤلاء الغربان الذين يعانون الآلام في حياتهم، ويلجئون إليه يسألونه لها شفاء.
وفتح باب الغرفة عن فتاة حلوة تسأل في رقة وعذوبة: الأستاذة نجوى موجودة؟
ودون أن يرفع شريف عينيه إلى هذه الفتاة المطلة عليه قال: لا.
فعادت الفتنة تقول: ممكن أنتظرها؟
ودون أن يرفع نظره قال: تفضلي.
وراح هو في دوامة الرسائل مشغولا عن الفتاة وعن نجوى وعن كل شيء. ولم تمض دقائق حتى قال شريف وهو في غمرته ما يزال: مصيبة! مسكين.
فقالت الفتاة: نعم! - مسكين. لا حول ولا قوة إلا بالله.
فقالت الفتاة: أتكلمني يا أستاذ؟
وحينئذ رفع شريف رأسه إلى الفتاة ، وهي تقول مرة أخرى: أتكلمني؟
فتلعثم شريف أمام هذا الجمال الذي أهمله، وقد ساءه هذا الجمود الذي عامل به الزائر، فراح يقول في تردد: نعم ... لا ... أقصد ... مسكين، مسكين ذلك الرجل ... أقصد ...
وانفجرت في الحجرة ضحكة داوية أعقبتها قهقهة عالية، تتحدى الجريدة التي تموج بمن فيها، وتتحدى كل أصول يضعها العرف، ضحكة خالية متخلصة من كل شيء يعوقها، وإنما هي تبحث عن طريق لها لتجد نفسها متفجرة في الجو، حرة مرحة بهيجة بلا عراقيل ولا عوائق.
وانفتحت عينا شريف دهشا فأصبحتا في اتساع فمه المذهول، ولكن قليلا ما لازمه الدهش؛ فقد أطلق هو الآخر ضحكة عالية مقهقة طال احتباسها في نفسه، فنمت وشبت حتى أصبحت ضحكة قوية رائعة جذلانة، لا يذكر أنها صدرت عنه منذ كان طفلا.
وفي خفوت الضحك اختلط صوت شريف والفتاة وهما يقولان: ما لك يا أستاذ؟ - ما الذي يضحكك يا ست؟
وعادا يضحكان مرة أخرى، وراحت هي تقول بألفاظ يقطعها الضحك: أنا أضحك منك وأنت؟
وتجهم وجهه فجأة وقال: مني! مني أنا! أكل هذا الضحك، مني أنا، أنا يا ست؟ - نعم منك. - هل أنا مضحك إلى هذا الحد؟ - وأكثر. - ولماذا؟ - ألا تعرف؟! - إن كان وجهي على ما أعهد فأنا لا أعرف أنه يضحك إلى هذا الحد. - لا ليس وجهك. - أهي ملابسي إذن؟ - أبدا، أبدا. - إذن. - أتقصد أنك لا تعرف؟ - لا أعرف في شيئا يضحك إلى هذا الحد. - أفهم من هذا أنك لم تحس أنك كنت تكلم نفسك. - ماذا قلت لنفسي؟
وراحت تقلد صوته وهي تقول: مسكين. لا حول ولا قوة إلا بالله. - أهذا يضحك؟ - وهل يمكن ألا أضحك؟! - ألم تقدري أنني أقرأ شيئا يستدعي الشفقة؟ أكل ما أهمك من الأمر أنني كنت أكلم نفسي؟ ألم تفكري لحظة قبل أن تضحكي في هذا الذي كنت أقرأ خطابه؟ - يبدو أنك تريد أن تقلبها إلى نكد. - قولي لي يا آنسة، هل عرفت النكد طوال عمرك؟ - يا أخي افرجها، ألا تعرف أنت الفرح؟ - الفرح ...
وعاد إلى فرحته الحبيسة، ونظر إلى الفتاة الفاتنة ولاحظ فتنتها لأول مرة، ولكنه لم يحس نفسه مأخوذا بجمالها، أحس فيها شيئا يمنعه أن يعجب بها، وعادت تقول: ألا تعرف الفرح؟
ونظر إليها مليا، ثم وضع الخطابات في درج مكتبه، وقال في جد: عن إذنك.
وخرج من الغرفة، يحمل في نفسه فرحته الحبيسة وآلام القراء، وضحك الفتاة وجمالها الذي لم يذهله. تختلط المعاني والصور جميعها في نفسه، فلا يكاد يفكر في شيء حتى يثب آخر إلى سطح تفكيره، ولكن فكرة الفرح الحبيس كانت أقوى هذه المعاني في نفسه. لماذا لم تفرح زوجته معه؟ لماذا؟ وركب وفكر في القصة التي فازت؛ إنها عن الحب الزوجي، عن الحياة الحلوة في ظل الزوجية. كلام قصاصين، من يقرأ قصته يظنه أسعد زوج في العالم. كلا. نعم إن زوجتي لا بأس بها؛ فهي تحبني وأحبها، ولكن لماذا لا تنتشي معي حين أكون سعيدا؟ ولماذا لا أرى الشقاء كاملا على وجهها حين أكون تعسا؟ لماذا؟ أكنت أحب أن أرى الشقاء على وجهها حين أنا تعس؟ إذن فتعاستي حينئذ تعاستان، بؤسي بؤسان، ولكني أحب أن أراها طائرة من الفرح إذا سعدت. ولكن لماذا لا أنخدع أنا بكامن الفرح في نفسها؟ أنا فرحان، لماذا لا أدعوها الليلة إلى العشاء في الخارج، ثم نذهب معا إلى السينما أو إلى الهواء في الهرم، أو إلى أي مكان؟ وبلغ بيته ودخل إلى البهو، وكانت زوجته بجانب التليفون ورآها وهي تضع السماعة دون أن تتكلم، وسألها: ماذا؟ لماذا وضعت السماعة؟ - النمرة مشغولة. - آه.
وتركها ودخل إلى حجرته دون أن يدعوها إلى شيء، لماذا؟ لا يدري. استلقى على السرير وراح يفكر مرة أخرى، إنه فرحان، وراح يفكر أيضا أنه لم يقدم إلى نفسه شيئا يشعرها به أنه فرحان، وجاءه صوت قرص التليفون وهو يستدير، ثم صوت زوجته وكأنه يهمس فأصاخ السمع: ألو نينا ... أطلبك من ساعة، مع من كنت تتكلمين؟ أنا ... كنت أكلم صاحباتي ... لا عليك ... تصوري ... تصوري يا نينا ... شريف طلع الأول في مسابقة القصة. أنا فرحانة جدا يا نينا ... أنا فخورة به ... لا ... المسألة ليست مسألة فلوس ... إنما أنا فرحانة ... لماذا؟ ... لماذا كيف؟ ... لأنه فرحان ... ولأنه فنان ... ولأنه زوجي. أنا فرحانة يا نينا.
وأحس شريف لأول مرة منذ طالع الجريدة أن فرحته قد أفرج عنها، وأنها موجودة، وأنه سعيد، وأنه أسعد إنسان في العالم. وفي صوت يرتعش بالنشوة نادى من غرفة النوم: سهير.
وقالت سهير دون أن تبين في صوتها نبرة خاصة: هه. - الليلة نتعشى في سميراميس في السطح، ونذهب بعد ذلك إلى الفيلم الذي قلت لي عليه.
تقرير الطبيب
دخل الشيخ حمادة الطيب إلى ساحة داره ونادى في حزم: محمود، يا محمود.
وسرعان ما جاء محمود يجيب نداء أبيه: نعم يابا. - تجهز للسفر. - ماذا يابا؟! - سنسافر باكر لمصر لأشتري لك ملابس الأزهر، وأشوف لك مكانا تسكن فيه. - باكر يابا؟ - نعم باكر.
ووجم محمود لحظات وقال الأب وقد أوشك صبره أن ينفد: ما لك؟ ألم تكن تعرف أنك ستسافر؟ - يا بابا أنا لا أريد أن أسافر. - لماذا يا ولد؟ - يابا، يابا. أنا لا أريد أن أسافر. - ستسافر غصبا عنك.
وأطرق محمود إلى الأرض، ودون أن يحس تسللت دمعات من عينيه، جاهد أن يخفيها، فتأبت عليه وراحت تسيل، ودخلت أمه وهالها أن ترى وحيدها يبكي هذا البكاء الصامت العميق، فدقت صدرها وقالت: ماذا يا أبا محمود؟ ماذا فعلت للولد؟ - أريده أن يسافر إلى الأزهر. - وما له يا محمود، ولماذا لا تريد أن تسافر؟
وراحت تربت ظهره في حنان. - يا أم أريد أن أبقى هنا. - لماذا يا بني؟ العلام حلو. - يا أم أريد أن أبقى مع ...
ولم يكمل الجملة واستحثه أبوه في صوت يجمع الحنان إلى الحزم: مع من يا ولد؟
ودون ريث تفكير انطلق محمود قائلا: مع صاحبي عبد الواحد.
وقال الأب في غضب فقد كان يرجو أن يرغب ابنه في البقاء معه هو أو مع أمه على الأقل: مع من يا ولد؟! - مع صاحبي عبد الواحد. - عبد الواحد ابن الشيخ سالم؟ - نعم.
وكثرت الدموع حتى أصبح الصمت لا يسعها، فإذا محمود ينشق عن بكاء علني من العبث أن يحاول إخفاءه، وراح الحاج حمادة يضرب كفا بكف، وخرج وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله.
وراحت الأم تهدئ ثائرة وحيدها في حدب وإشفاق، ولكن البكاء كان يزيد كلما تذكر أنهما لن يسيرا معا عبر الحقول، ولن يخوضا الماء معا، لا ولن يركبا النورج، ولن يطالعا الشمس عند بكورها، ولن يودعاها عند الغروب. لن يرى عبد الواحد. ويزداد البكاء.
ويذهب الشيخ حمادة إلى حيث تعود أن يجلس في كل يوم، هناك على مصطبة العمدة، وما كاد يجلس حتى يقبل إليه الشيخ سالم عوضين أبو عبد الواحد، فما إن رآه حتى يبتسم له قائلا: تعال يا سيدي.
ويحس الشيخ سالم أن في صدر الشيخ حمادة شيئا يخصه. - خير! - ابنك عمل لنا إشكالا اليوم في البيت. - لماذا؟ - تركت الولد ابني يبكي بكاء يفتت القلوب. - لماذا؟! إنهما أصحاب لا يفترقان. - وهذا هو السبب. - لا أفهم. - الولد محمود لا يريد أن يترك عبد الواحد ويذهب إلى الأزهر. - ماذا؟! - هذا ما حصل. - الله يجازيه. وماذا فعلت؟ - أنا والله حائر. - لا حيرة ولا غيره إن شاء الله. - أعندك حل؟ - أحسن حل. - ماذا؟ - متى تريد أن تصحب محمود إلى الأزهر؟ - باكر إن شاء الله. - تصحب محمود وعبد الواحد على بركة الله. - هل أنت جاد يا شيخ سالم؟ - كل الجد يا شيخ حمادة. يذهبان معك إلى الأزهر باكر إن شاء الله.
وهكذا يذهب عبد الواحد إلى الأزهر مع محمود، ويسكنان معا في غرفة واحدة، ويتلقيان علومهما على شيخ واحد، وتتحد بينهما الحياة في كل دقيقة تمر بهما من دقائق الحياة.
ويقضيان في الأزهر الشريف سنوات طويلة، ويعجز كلاهما أن يبلغ شيئا من شهادات الأزهر العليا، فيعودان معا إلى القرية يصحبان عجزهما هذا، ويصحبان أيضا عمامتين لا يتنازلان عنهما، ويحملان لقبا لا يفارقهما، هو الشيخ محمود والشيخ عبد الواحد.
ويختار الله الشيخ سالم إلى جواره فيصبح الشيخ عبد الواحد هو القيم على شئون بيت أبيه وعلى أخته نعمات.
ويمر عام ويسمع الشيخ عبد الواحد وهو في قاعة بيته صوتا عرفه لتوه. - يا ساتر.
وينهض إلى الباب. - يا مرحبا بالشيخ محمود، يا أهلا وسهلا.
ويدخل محمود إلى القاعة ويتخذ مجلسه. - كيف حالك يا شيخ عبد الواحد. - الحمد لله يا شيخ محمود. - رحنا الأزهر وجئنا فما أحضرنا معنا إلا الشيخ محمود والشيخ عبد الواحد.
ويقول عبد الواحد وهو يغالب الضحك: أبي وأبوك حصلا على المشيخة دون أن يبرحا القرية. وحين يهدأ بهما الضحك تبدو على وجه محمود علامات جد، ويقول: جئت إليك في أهم شيء في حياتي. - حياتك هي حياتي يا محمود. - الصداقة التي بيننا ليست كافية. - قل ما تشاء، وإن كنت أراها فوق الكفاية. - أريد أن تصبح قرابة. - هي أقوى من القرابة. - ولكني أريدها قرابة. - يتهيأ لي أني فهمت. - أنت ذكي منذ نحن أطفال صغار. - تريد أن تخطب نعمات؟ - هو ذاك. - هي لك. - لا، أبدا. - ماذا؟! - كنت أعلم أنك ستوافق ولكن يهمني رأيها هي. - أتعصي لي أمرا؟! - أنا لا أريد منك أن تأمرها، أريدك أن تسألها. - وهو كذلك. - أمر عليك باكرا. - أبدا والله، لا تخرج إلا وأنت خطيبها. - يا رجل اتق الله، إني أريدها أن تفكر في الأمر. - فيم تفكر؟! إنك من أغنى أبناء النوافعة ... - الأهم من ذلك أني صديق عمرك يا عبد الواحد. - إذن فانتظر حتى أسألها. - أمرك.
ولا يخرج الشيخ محمود إلا وقد قرأ الفاتحة مع عبد الواحد على أن يزوجه أخته التي وافقت دون أن تفكر، فكأنها كانت تحس بغريزة المرأة أن مصيرها المحتوم هو الشيخ محمود.
ويتم الزواج بعد أسابيع قلائل، وتبدأ الأيام رحلة جديدة مع الشيخ محمود وزوجته نعمات.
أيام عقيمة. يمر الشهر وتليه الشهور، ونعمات لا تبشر زوجها بما يبشر به الزوجات أزواجهن. ويموت الشيخ حمادة فينشغل الشيخ محمود بموت أبيه وبالتركة عن الإنجاب، ولكن الزمان واسع وحادثة الوفاة لا تلتهم منه إلا شهرا أو شهرين، ثم يتسع الزمان مرة أخرى أمام عيني محمود، يتسع عن فراغ ، فراغ قاتل. لا ولد، سيموت هو أيضا بعد حين، طال هذا الحين أو قصر، ويومئذ لا ولد. لن يذكر الشيخ محمود أحد كأنما لم يكن.
لا يجد بدا من أن يذهب إلى القاهرة، وهناك يمر بالأطباء جميعا ويبذل المال عن غدق، ولكن المال لا يجدي كما لا يفلح الأطباء، والسنوات تغول العمر، ويمر الشباب، وتتخطر الكهولة إلى الشيخ محمود في ردائها الأبيض الباهت، وينظر الرجل إلى ما فاته من عمره وما بقي منه، فتروعه النظرة، لن يبقى له قدر ما فات.
وينظر إلى زوجته، طيبة هي حنون لا تعصي له أمرا، ولا تناقش له رأيا، ولكنها عقيم، أو لعله هو العقيم، لا يدري، إنما المؤكد أن زواجهما عقيم، ويأتي إليه يوما الشيخ عبد الواحد: محمود، لقد أطلت البحث عند الأطباء. - أمر الله يا عبد الواحد. - تزوج من أخرى. - على نعمات! على أختك! أموت ولا أفعل هذا. - أنا الذي أطلب هذا. - والله وإن طلبت نعمات نفسها. - لقد وافقت. - أقلت لها؟ - نعم.
جزاك الله، لقد روعتها بغير داع. والله لن يكون هذا أبدا، لا والله لن يكون هذا. أنا والله لا أدري إن كنت أنا العقيم أم هي، وما كنت لأتزوج وأختك في بيتي أبدا. إنك حياتي كلها يا عبد الواحد، ولو لم أكن أعرف أنني سأكرم أختك حتى يختارنا الله ما تزوجتها.
ويرفض الشيخ محمود رفضا قاطعا وتمر السنون، ويدرك الشيخ محمود أن لا أمل إلا أن يكثر من اصطحابها إلى القاهرة، وينزل بها في أفخر الفنادق، وينفق عن سعة، فإذا قصر المال الناتج عن الأرض باع بعض أرضه وأنفق، وعاشا سنوات في بحبوحة وهناء.
حتى خطر لها يوما أن يحجا إلى بيت الله، وكان هو يفكر في شيء آخر؛ كان يفكر أن يبيع البقية الباقية من الأرض وينفق منها ما بقي لهما من سنوات، ثم يترك لها الباقي عند وفاته مالا في يدها، حتى لا يشاركها في الميراث أحد من قرابته، وحتى لا تضطر إلى الإشراف على الأرض، وهي السيدة التي لم تمارس الحياة ولا أعمال الرجال.
واستطاع الشيخ محمود أن يبيع أرضه بسبعة آلاف جنيه، وقدر في نفسه أنه إذا عاش بعد ذلك عشر سنوات فقد يكفيه خمسمائة جنيه في العام، ويترك لزوجته ألفي جنيه في رعاية أخيها لها، وما تركه لها أبوها من ميراث قليل.
وحين أخبر زوجته بتفكيره هذا قالت له: لا أريد إلا أن أحج إلى بيت الله الكريم معك.
وابتهجت نفسه للفكرة. - نحج هذا العام على بركة الله.
وجهز للحج أمره، ولم يفكر أين يدع مبلغه في البنك أو في الخزائن وعنده عبد الواحد، أودع المبلغ جميعه عند عبد الواحد، وقال عبد الواحد: أعطيك ورقة. - هل جننت؟!
وانتهى الأمر عند هذا وسافر هو ونعمات إلى الحجاز، وعادا وأقبل عبد الواحد: الحمد لله على السلامة يا حاج.
ويقول الحاج محمود: سبقتك إلى هذه يا شيخ عبد الواحد. العقبى لك العام القادم، إن شاء الله.
وينصرف المهنئون، ويهم عبد الواحد بالقيام ولكن محمود يستبقيه، حتى إذا خلت بهما الحجرة قال له: عبد الواحد، هل المبلغ عندك في البيت؟
وينظر إليه عبد الواحد مليا: المبلغ! أي مبلغ؟!
ويصمت محمود لحظة، ثم يبتسم: أتمزح؟
وأصر عبد الواحد على نظراته الجريئة: بل يخيل إلي أنك أنت الذي تمزح.
وصمت محمود. لقد عاش عمره كريما على نفسه وعلى الناس. ماذا يفعل الآن؟ هل يستجدي؟ ماذا يفعل ... الآن. إنه أصبح وهو لا يملك شيئا على الإطلاق، حتى الصحة، وأين الصحة لمن ترك وراء الستين؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق. لم يكن له إلا هذا المال وهذا الصديق وقد فقدهما في لحظة. أغمض عينيه وفتحهما، إنه ليس حلما، ما زال عبد الواحد أمامه ينظر بنظراته الخائنة المصرة على الخيانة، ورأى نفسه يمر ببيوت الناس يقول: إحسانا لله.
وأغمض عينيه ثانية، وحين حاول أن يفتحهما لم ينفتحا ولكنه همهم: المبلغ يا عبد الواحد، ألا تعرف المبلغ؟ - أي مبلغ يا محمود؟ هل جننت؟!
ويحاول أن يقول شيئا، فيخونه لسانه أن يقول، ثم لا يشعر بشيء. وبعد لحظات يمد عبد الواحد إليه يدا مرتعشة ويجس نبضه. لقد مات، ولا يدري من أين انبعث هذا الصوت الذي جاءه يقول له في لهجة تقريرية حاسمة: «قتلته.»
ويقول هو دون أن يحس ولكن بلا سلاح، وبعد حين يأتي الطبيب الشرعي ويفحص الجثة ويكتب تقريره «وفاة نتيجة أزمة قلبية»، ويصرح بالدفن فليس في الأمر جريمة، لا ليس في الأمر جريمة.
رضوان أفندي
وبدأت الإجازة الصيفية حيث تنداح الأيام في غمار الزمن، فلا ينفصل يوم عن يوم، ولا ساعة عن ساعة، وإنما هو فراغ طويل يفغر فاها مخيفا، يرسل الملل والضيق والسأم.
لم يعد يهمني ماذا يكون اليوم، أهو السبت فأصحو في باكر الصباح، أم هو الإثنين فأتئد قليلا عند اليقظة، وأتقلب في راحة وسرور فوق السرير، فما يبدأ يومي في المدرسة إلا بعد الحصة الثانية؟ ولم يعد يهمني إن كان اليوم الأربعاء فأتقلب مرة واحدة أو مرتين على الأكثر؛ فقد كان لا بد في العام الدراسي المنقضي أن أكون في المدرسة بعد الحصة الأولى.
وما أفكر الآن في يوم الخميس لأهيئ سهرتي مع أصدقائي حول الراديو؛ لأتيح لنفسي أن أنام في يوم الجمعة حتى يحين موعد الصلاة. تشابهت الآن الأيام، فكلها جمع، فما عاد السهر يحلو لي، وما عدت أستمتع بنومي في يوم الجمعة. الأيام جميعها جمع.
بل إنها خالية حتى من فرض الصلاة الجامعة؛ أصبح يوم الجمعة هو أكثر أيامي مشغولية، وأصبحت الأيام الأخرى فضاء، ما عدا التفكير الذي يسيطر على اليوم.
لقد كنت فيما مضى من أعوام أهفو إلى هذه الإجازة، وأرنو إلى أيامها المقبلة في ضمير الزمن، بعين مترقبة، ونفس متشوقة، وروح مشوقة. ماذا حدث للأيام؟ أتراها تغيرت أم تراني أنا الذي تغيرت؟ كنت قبل زواجي مقبلا على أيام الفراغ لأقضيها مع زوجتي، ومرت الأيام فاكتملت شهور واكتملت الشهور سنين، فما لي لا أجلس مع زوجتي؟
عاقر هي، ما أبغض المرأة العاقر إلى قلبي! شجرة لا تنبت ولا تخضر، سائرة إلى الجفاف بلا ربيع لها، لا تتجدد ولا تتجدد الحياة فيها؛ فالحياة حولها طريق إلى النهاية، طريق لا ينيره أمل من طفل ولا ابتسامة من طفلة، ولا وعد من الحياة أن لي في الحياة من بعدي وجودا من أطفالي. أنا جذورهم، وهم الفروع مثلما كنت فرعا لجذور من قبلي. إنني بزوجتي العاقر قد أوقفت الحياة، لن تتجدد وتسير وتزدهر، كأني كتبت على هذا الجزء الذي أمثله من الحياة «ينتهي بانتهاء صاحبه». أنا في الحياة فناء، أنا نهاية شجرة بدأها آدم ورعاها أجدادي على مر الأجيال، فهي قائمة مزهرة منتجة باقية، حتى إذا بلغتني توقفت عن الازدهار والتجديد، فهي إلى الفناء تجف كلما مر بها يوم، لا نماء لها ولا أمل في النماء. لا أمل؟ ألا أمل هناك؟ وهب زوجتي عاقرا، فهل أنا أيضا عاقر؟ فإذا لم أكن فكيف أقبل أن أشترك معها في إنهاء الحياة، في توقفها؟ كيف أقبل أن أمثل النهاية في عالم يتجدد في كل لحظة ببدايات جديدة مع أطفال جدد سيكبرون في غد ويصبحون جذورا جديدة للحياة. لا لن أكون هذه النهاية. مسكينة زوجتي لقد خلق فيها عقمها نوعا من الغيرة الطاحنة؛ لا أنسى يوم جاءتني فوقية والدة شحاته عبد الموجود ترجوني أن أعطي درسا لابنها اليتيم.
لا أنسى يومذاك حين انتفضت زوجتي فاطمة عن ثورة مشبوبة لاهية: امرأة بلا زوج! ألا تستحي؟ - زوجها مات. - ترسل أخاها. - ولماذا يا ستي؟ لقد جاءت إلي في بيتي وكلمتني أمامك، وسألت عنك قبل أن تسأل عني. - طبعا، تدافع عنها، امرأة بلا زوج وحلوة، وليست عقيما، لماذا لا تدافع عنها؟ طبعا. - يا ستي أبدا. - طبعا. أنا عارفة حظي، بختي مائل طول عمري.
وبكاء وصراخ وضجيج ووجه استمر منقبضا في غير انفراج أياما عديدة لم أعد أذكر عددها. ماذا تراها فاعلة؟ علمت بما أفكر فيه. ولم لا؟ لماذا لا أتزوج؟ أجدد الحياة. لو كان عندي الآن ولد لما ضقت بالأيام الفارغة؛ كنت أجلس إليه ألاعبه وأفرح به مبتسما ضاحكا، بل وأفرح به عابسا باكيا وأنشغل. ويملكني القلق إذا ما مرض. إني لأحسد الأب حين يقلق على ابنه المريض؛ إنه بقلقه يشعر بالحياة، بالحياة جميعها، ويأخذه البهر ويملكه الخوف ويتجه إلى الله وإلى الطبيب وإلى الصلاة وإلى الدواء، ولا ينام إلا نوما يختطفه الجسم المتعب من الروح الهالعة خطفا لا يطول فهو إغفاءة، ثم يصحو مفزعا في إغفاءته ويقظته، وتمر الأيام فإذا طفله يتماثل للشفاء، وتهدأ الروح وينام الجسم نوما مفعما بالحياة. هذه هي الحياة. حتى الخوف والقلق والرعب مشاعر حلوة عند الآباء، يذكرونها إذا ما انحسر الخطر في هدوء قرير وحديث ناعم حنون. لماذا أحرم نفسي من هذا جميعه؟ الآن زوجتي عاقر، فما لي لا أتزوج غيرها وأبقيها؟ وماذا علي أن أفعل؟ في القرية كثيرون يتزوجون الزوجة الثانية دون أن تكون زوجاتهم عاقرات.
ولم يصبر رضوان أفندي حسين طويلا، ولم يترك الزمن يراود الفكرة في ذهنه، وإنما سرعان ما اقتنع بها دون ريث أو تدبير، وقام إلى بيت عباس فرغلي، وما إن تبادلا التحية حتى سارع رضوان قائلا: جئت أخطب أختك هنية يا عباس.
وقال عباس مندهشا: خادمتك يا سي رضوان أفندي ولكن ... - ولكن ماذا؟ - أنت سيد العارفين. - ألأنني متزوج؟ - طول عمرك ذكي وتفهم يا سي رضوان. - يا سي عباس، الحال من بعضه، وهي أيضا ألم تكن متزوجة؟ - أنا لا أقصد. - فماذا تقصد؟ - لا أريد أن أغضب الست فاطمة. - ليس في الحلال ما يغضب يا عباس. - زوجتك ست كريمة وطيبة. - أريد أطفالا يا عباس. - يا سي رضوان أنت متعلم وتفهم، كيف عرفت أن أختي ستهب لك الأطفال؟ وكيف عرفت أنك ستكون سعيدا بهم؟
الذي أعرفه أنني لا بد أن أحاول، والذي أعرفه أيضا أني لست سعيدا بدون أطفال. - ربنا يكفيك شرهم. - زينة الحياة الدنيا. - ويجعل من يشاء عقيما يا سي رضوان أفندي. - أريد أن أحاول. - فإذا لم تنجب أختي يا سي رضوان تطلقها؟ - تكون مشيئة الله تمت وأمره لا مرد له. - وإذا أنجبت لك الست فاطمة؟ - وهل هذا معقول؟! - يعني إن حصل؟ - لا يا شيخ لا تخرف. على كل حال ستبقى هنية على ذمتي. - وهو كذلك، توكلنا على الله.
ويتم الزواج ويظل سرا على فاطمة، ولكن ما أقل ما يظل السر سرا، سرعان ما يذيع وتعلم فاطمة فهي في حريق يلهب كيانها جميعا، وتحاول أن تكتم ما بها كلما رأت زوجها، ولكن دموعها تخونها فهي تتساقط في صمت، ويصيح بها زوجها: اصرخي، اصرخي كما كنت تصرخين.
وتقول والدموع تتساقط توشك أن تكون حمراء في لون النار: لا يفيد الصراخ الآن، أمر الله، أمر الله.
ويروح ويهدئ خاطرها: ليس في القلب غيرك. - لا تقل هذا، فهو أشد على نفسي وقعا. - أحبك والله يا فاطمة. أحبك كما كنت أحبك منذ تزوجتك. - ولم تستطع أن تضحي من أجلي، وتفجعني بضرة لا تدري إن كانت ستلد لك أم لا، وتفجعني من أجل أطفال لا تعرف شكلهم ولا تعرف ماذا سيفعلون إن هم كبروا. لا تقل إنك تحبني، لا تقل.
وكان إذا ذهب إلى هنية وجدها في جزع آخذ ألا تلد هي الأخرى، فتنتهي حياتها مع زوجها رضوان أفندي الذي رفع مكانها في القرية، وجعلها ست بيت لا تملأ الجرار ولا تذهب إلى الغيط.
وهكذا لم يعد رضوان جازعا من الفراغ أوا لملل، فقد ملأت مشكلات زوجتيه حياته، بل أصبح في حاجة إلى وقت آخر من الزمن، ليواجه هذا الشغل الذي فرضه على نفسه فرضا.
ولا ينقضي وقت طويل حتى تنقطع الدموع من عيني فاطمة، وإن كان الجزع يزداد إحاطة بهنية، ويعجب رضوان بعض الشيء ولكنه لا يعلق على الأمر كثير أهمية، وإن كانت آماله في إنجاب طفل أخذت تتهافت وتضعف وتوشك أن تضمحل. ويمر وقت آخر وتقول له فاطمة: رضوان. - نعم. - أريد أن أذهب إلى الطبيب. - أي طبيب تريدين؟ - ذلك الطبيب الذي صحبتني إليه ليعالجني من العقم. - ماذا؟! أبك مرض؟ - لا ولكني أشك في شيء وأريد أن أتأكد منه.
ويذهل رضوان ويحملق فيها بعينين مأخوذتين. فاطمة وليست هنية! وينظر وينتظر، ثم يقول: هل أنت متأكدة؟ - لو كنت متأكدة ما طلبت أن أذهب إلى الطبيب. - تذهبين ... اليوم تذهبين.
وحين خرجا من عند الطبيب لم تقل فاطمة شيئا، وإنما تركت رضوان للدوامة التي ألقاه فيها؛ إنها حامل. لا يدري رضوان إن كان يفرح أم يخجل، ماذا يقول لها؟ كيف يفرح؟ ماذا يقول لهنية؟ هل تبقى على ذمته؟ وما ذنبها؟ وما كان ذنب فاطمة؟ أي جرم فعلت؟ أي جرم فعلت؟ ويظل رضوان في دوامة من الخجل يشوبها الفرح حتى يصل بفاطمة إلى البيت، وينفتل هو إلى الفضاء ليخلو إلى نفسه الحائرة التي لا تكاد تصدق ما وقع.
وتكتمل شهور الحمل، وتضع فاطمة طفلها الأول ويسميه أبوه إبراهيم تيمنا بإبراهيم ابن النبي. وتمر الأيام وتكتمل الشهور سنين، ولا ينجب رضوان من زوجته غير وحيده إبراهيم.
وفي يوم يمرض إبراهيم ويسارع رضوان بولده إلى الطبيب، ويعالجه الطبيب فلا يفلح العلاج ويتركه إلى طبيب آخر، والهلع يقتلع قلبه من بين ضلوعه. لا، ليس القلق على الولد حياة، لا ولا هو موت، إنه شيء أشد بشاعة من كل شيء، لا شيء يماثل هذا الهلع، لا شيء مثل هذا الخوف، إنه شر من كل شعور، ما أحلى العقم بالنسبة إلى هذا الخوف! بل ما أحلى ألا نوجد على الإطلاق ولا نلتقي بهذا الذعر.
ويلجأ رضوان إلى الطبيب وإلى الله وإلى الدواء وإلى الدعاء، ولكن الله كان قد أعد لإبراهيم مكانا في الجنة.
وحين عاد رضوان من وداع ابنه الأخير، وكان اليوم الأول من الإجازة، كانت الدموع تملأ عينيه في إصرار، فهي تثب إليهما كلما جففهما. لم يجلس رضوان إلى الفراغ، ولم يفكر في الإجازة، وكل ما كان يفكر فيه هو فاطمة، إذ أنجبت له ولنفسه الشقاء. ما كان أسعدها قبل أن يجيء إبراهيم! ويدخل إليها وهي في حزنها القاتل: فاطمة ... أنا آسف. - الآن. - لم أقلها إلا اليوم. لم أقلها حين تزوجت، ولم أقلها حين بشرك الطبيب بإبراهيم، أما الآن فلا أجد غيرها. أتراها تكفي؟ - أتراها أنت تكفي؟ - لا أملك غيرها. - حسبنا الله ونعم الوكيل.
وفي نشيج عال صاخب يقتطع من فلذات القلب اقتطاعا قال رضوان: حسبنا الله ونعم الوكيل.
لأنه يحبها
وقف حسن عبد الفتاح أمام باب كلية الحقوق ينتظر وزملاؤه نتيجة الليسانس. لم يكن يحس بأحد حوله. انفصل كيانه عن الجموع المتزاحمة، فهو فرد في نفسه وفي آماله وفي مخاوفه، لا يحس إلا هذا الوجيب الآخذ الذي يهز جسمه هزا. أنجاح فانطلاق إلى الحياة بكل ما في الحياة من حلاوة الكفاح؟ فما كان يرى في النجاح والانطلاق إلى الحياة إلا الحلاوة. أم سقوط فهو تلميذ سيظل؟ وهو حينئذ سيعود إلى أمه كسيف البال مخذولا، يخاف من غضبها خوفا قد يطغى على حزنه من السقوط. إن تفكيره في أمه يمازج تفكيره في النتيجة؛ فهو حينا يفكر في المواد مادة مادة، ويذكر كيف أجاب في كل مادة منها، وهو أحيانا كثيرة يفكر في أمه كيف قامت على شأنه بعد موت أبيه، وكيف بذلت له من دمائها ومالها وجهدها، حتى جعلته يصل إلى نهاية المرحلة العالية من التعليم.
لقد قامت بواجبها نحوه، بل بذلت أكثر من واجبها، فكم يمضه أن يقصر هو عن واجبه! كان إرضاء أمه أساسا تقوم عليه حياته جميعا؛ فقد كان يرى نفسه نفحة من جهودها، وقبسة من دمائها، بل كان يرى نفسه أملها الضخم الذي عاشت له، وبه سنوات طويلة ثمينة شابة من حياتها.
وفي ظلال هذه المشاعر عاشت حياته جميعها. أحب، أحب بكل ما في الحب من نبض جياش، وبكل ما في الشباب من اندفاع وقوة، أحب زميلته في الكلية إلهام، ولكن أمه عرفت بحبه وقالت لا؛ فإذا نبض الحب يصبح نبضا خائفا هالعا أن يغضب أمه، وإذا هو يبتعد عن حبيبته مذعورا، ويعود إلى طاعة أمه راضيا بها عن كل ما في الحب الشاب من أحلام وآمال ورؤى.
وها هو ذا اليوم ينتظر نتيجة الليسانس، تلك الشهادة التي جاهدت أمه في سبيلها أكثر ما جاهد هو. إنه يريد الشهادة ليذهب إلى أمه، ويعلن إليها أن جهودها قد كللها النجاح، وينطلق إلى الحياة. كان في البعيد البعيد من نفسه يخيل إليه أن هذه النتيجة التي ستعلن الآن ستحمل في طواياها معنى آخر غير معنى النجاح. إنها ستجعل له قرار الإفراج عنه من سيطرة أمه. شعور يخامره ولا تعلنه نفسه إلى نفسه، كأنما كان يريد أن يقول لها في غير ألفاظ: لقد جاهدت لأحصل على الشهادة فهل تكفيك الشهادة مكافأة على جهادك؟ وكأنما كان ينتظر أن تقول أمه في غير ألفاظ هي أيضا: لقد صرت رجلا فافعل ما بدا لك. آمال تهجس في الخوافي البعيدة من نفسه، وهو واقف بباب الكلية عينه لا ترتفع عن الباب الكبير، ينتظر أن يخرج منه الموظف المختص ليعلق أسماء الناجحين على تلك اللوحة الماثلة بجوار الباب، التي قدر لها أن تحمل أغلى ما يطمح إليه جميع هؤلاء الواقفين في لحظتهم تلك. هذه اللوحة الكالحة ستحدد مصير كل فرد منهم. وعينا حسن عبد الفتاح شاخصة إلى الباب الكبير، والباب صامت لا يبين عن أحد.
وأخيرا ظهر الموظف وبيده الأوراق، وبعد محاولات عسيرة وقعت عينا حسن على اسمه بين الناجحين، ولم يحس بنفسه إلا وهو واقف أمام أمه، يخبرها وعيناه تموجان بالدموع: «لقد نجحت.»
وفرحت الأم، ولكنه لم يجد عندها ما كان يتوقعه من فرح؛ كانت واثقة من نجاحه كأنما كان نجاحه أمرا تصنعه بيديها فهي واثقة من نتيجته، وقد أكد هذا المعنى في نفسه أنه وجدها قد أعدت له الوظيفة دون أن تسأله عن الاتجاه الذي يريد أن يشقه في الحياة. وخيل إليه أنه قبل الوظيفة سيستطيع أن ينعم بحريته من ربقة أمه، فهو يقبل الوظيفة في غير مناقشة ويصبح موظفا.
ولا يمضي كثير وقت حتى تفاجئه أمه: حسن. - نعم يا نينا. - لقد خطبت لك. - ماذا؟! - سناء بنت عمك علي أبو العلا. - تقصدين بنت صديقتك شريفة هانم؟ - ما رأيك؟ - أتسألين عن رأيي حقيقة؟ - طبعا. - أتسألين عن رأيي بعد أن تخطبي؟ - أنت حر. - أنا حر! - طبعا. - فأنا لا أريدها. - ماذا؟! - أنا لا أريدها. - لماذا؟ - لأني لا أريدها. - ولكني أريدها. - إنه أنا الذي سيتزوج. - ولكني أمك. - هذا شيء لا يمكن أن أنساه. - ماذا تقصد؟ - أقصد أنه لا فائدة، فسواء عندك وافقت أم رفضت. - تعني أنك موافق. - أمرك.
وما هي إلا أيام حتى يتم كتب الكتاب، وما هي إلا أيام أخرى حتى يحل يوم الزواج، ويترك حسن البيت ويخرج إلى الطريق. في هذه المرة لم تكتف أمه أن تفرض سيطرتها عليه، ولكنها فرضتها بقوة وعنف على فتاة لا تمت لها بصلة. ما ذنب هذه الفتاة؟ كيف يتزوج من فتاة لا تحبه ولا يحبها؟ إنها أمه. ماذا يصنع؟ وماذا صنع قبل اليوم؟ إنه هو، هو لم يتغير ولم تتغير أمه. ويجول في الطرقات يسلمه شارع إلى شارع، ورأسه يموج بالسخط والضيق بلا أمل على الإطلاق.
ويعود إلى البيت في الموعد المقدور، وتنطلق الزغاريد وتتعالى الموسيقى، وينظر إلى وجه زوجته وتنظر إلى وجهه، وكأنما هما متفقان على المعاني التي تدور بنفس كل منهما، ولكن ماذا يصنعان؟ كان يحس أنها واقعة تحت سيطرة أبيها وأمها كما يخضع هو لسيطرة أمه. إن أمه تستطيع أن تفعل به ما تشاء؛ استطاعت أن ترغمه على اختيار كلية الحقوق، واستطاعت أن ترغمه على المذاكرة، بل واستطاعت في قوة عاتية أن تحطم حبه الأول، ولكن أتستطيع أن تنشئ حبا؟ هل تستطيع أمه أن تجعله يحب هذه الفتاة أو تجعل هذه الفتاة تحبه؟ كيف؟ لماذا لا يقول «لا، لا»، صارخة واضحة جهيرة، لا لبس فيها ولا غموض ولا إبهام. لا، ويترك أمه ويعيش وحده حتى يجد هواه.
نعم، إن أمه قد بذلت في سبيله الجهد والخوف والعطف، ولكن ألا تبذل كل الأمهات؟ وهل معنى هذا أن تنتهب حياته جميعا، بل وتنتهب حياة فتاة أخرى لا ذنب لها إلا أن أمها صديقة أمه؟
أليست كلمة «لا» تنقذه وتنقذ هذه الفتاة المسكينة الجالسة أمامه؟ ما ذنبها؟ مسكينة إنها حلوة، جميلة غاية الجمال، لعله كان يختارها إذا ترك وشأنه. إنه يحب هذه العيون الحالمة المذعورة، ويحب هذا الشعر الأسود المنساب، ويحب هذه الابتسامة التي تجرها إلى فمها جرا ، ويحب هذا العود الواهن وكأنه طيف، الرقيق كأنه فكرة، الشفاف كأنه حلم. هو يحب هذا جميعه ولكنه لا يحب سناء. وكيف له أن يحبها؟ هو لم يفكر فيها زوجة إلا حين أمرت أمه أن يتزوجها، فإذا هي زوجته.
كلمة واحدة هي «لا»، يستطيع أن يقولها في هدوء وفي حزم، فينهي هذه المأساة التي تحيط بها الزغاريد، وتتعالى لها الموسيقى الفرحة، وتنطلق لها الأغاني، وتدق الطبول، «لا» حرفان يمنعان المأساة من أن تتم فصولا، وليكن بعد ذلك ما يكون.
ورنا إلى زوجته، ترى أيرضيها هذا؟ كم هو قاس ذلك المجتمع. إن فعل ما يريد أن يفعل أصاب هذه الفتاة التي يشفق عليها بطعنة لا سبيل لها أن تنجو منها؛ ستتطاير الأقاويل وتتدافع لها الشائعات، إن العروس لا تعجبه. طعنة تصيب المرأة في أعظم ما تزهى به. أيهما أحسن لها عندها، أن يخلصها من حياة لم يكن لها يد في اختيارها، أم أن تظل زوجته ولا يقول الناس عنها إنها لم تعجب زوجها فرفض أن يتم الزواج؟ وأين كانت «لا» هذه قبل اليوم؟ لماذا خضع حتى تم هذا جميعه، ثم انتفض فجأة يريد أن يمحو ما كان؟ وهل يمحى؟ كيف؟ ما ذنب هذه المسكينة حتى ترمى إلى هذا الموقف الضنك؟ وما ذنبه هو؟
والموسيقى تتعالى والزغاريد تنطلق والأغاني تصدح والشعور بالفرح يفيض على وجوه الجميع إلا وجهين، وجهه وقد تشنجت عليه ابتسامة، ووجه العروس وقد جمدت على فمها ابتسامة مثل ابتسامته.
وانقضى الليل وتخافتت الموسيقى ووهنت الزغاريد، وتشتت الجميع وخلا الزوج إلى زوجته، وأقفلت من دونهما الحجرة، وكان بها كرسيان، وجلسا وهوم الصمت حينا، ثم طال هذا الحين، هو مطرق خزيان وهي مطرقة مذعورة، في رأسه دوامة من الأفكار وفي رأسها أمواج من الحيرة.
وفجأة نظر إليها وهم أن يقول شيئا ثم أطرق، وهمت هي أن تقول شيئا دون أن ترفع رأسها، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الصمت.
وأحس بطول الصمت وصمم أن يقول شيئا، أي شيء. ورفع رأسه وفتح فمه وفكر وفكر، وأخيرا قال دون أن يهتدي إلى ما يجب قوله: آسف.
ونظرت إليه في غير دهشة، وقالت دون تريث: وماذا تفيد آسف الآن؟ - وماذا كان يمكن أن أفعل؟ - ألست حرا؟ - وأنت؟ - أنا، أنا على كل حال لست مثلك. - إنني أمام أمي ...
ولم يستطع أن يكمل جملته. - لماذا؟ لماذا؟ - ليس لها غيري، وليس لي غيرها. - ولكنها حياتك. - المصيبة أنها حياتك أنت أيضا. - هل أمك قاسية إلى هذا الحد؟ - إنها تظن أنها رحيمة أكثر مما ينبغي. - ألا تؤمن بحريتك في الاختيار؟ - إنها تؤمن بحريتي التامة ما دمت لا أعصي أوامرها. - ولكنها حياتك. - هي لا تفصل كثيرا بين حياتي وحياتها. - وحياتي؟ - ستصبح حياتك هي حياتي وهكذا ترين أنها جميعا حياتها هي. - وماذا ستفعل الآن؟ - لقد تعودت مني الطاعة، ولا أظنني الآن أستطيع أن أتخلص من هذه العادة. - تعودت أن تطيع في شأن نفسك، أما في شأني أنا ...!
ونظر إليها طويلا، إنها حلوة، خيل إليه أنه يحبها، بل كاد يوقن أنه يحبها، هي الفتاة التي طالما كان يرسم صورتها لهواه، وهي مستكينة تشكو إليه الظلم الواقع عليها في غير عنف ولا ثورة، ولكن في حنان وفي دفء، ووجد نفسه يقول: أيغضبك أن تصبحي زوجتي؟ - لعلي كنت أتوق إلى هذا لو أنك سألتني وأنا لست زوجتك. - فلماذا لا تجربين وقد أصبحت زوجتي؟ - ألا تعرف؟ - نعم، أعرف. أتحبين غيري؟ - أبدا. - إذن؟! - أيرضيك أن أحس دائما أنك فرضت علي فرضا؟ أترضى لنفسك هذا؟ - لقد تعودت أن أرضى لنفسي ما لا أحب أن أرضى. - أيرضيك هذا لي؟ - أعرف أنني أحببتك. - أحسست. - ألا يكفيني هذا الإحساس؟ - وماذا عني أنا؟ - فأنت لا تحبينني؟ - وأنت زوجي المفروض علي؟! ... - جميلة هي الحرية. - أعرفتها؟ - تمنيتها. - فلماذا لا تسعى إليها؟ - لم أستطع فيما مضى. - فلا أمل لي إذن. - بل يخيل إلي أن هناك وميضا من أمل. - كيف؟ - لن تكوني زوجتي. - وأمك؟ - أطعتها في كل ما يتصل بي ولكني لن أطيعها فيما يتصل بك. - إذن فأنت تحبني حقا؟ - لقد أدركت هذا بإحساسك. أتعودت أن يكذبك إحساسك؟ - لا. - إذن؟ - أخشى أن يمنعك حبي عن تنفيذ ما تفكر فيه. - بل إن حبك هو الذي سيدفعني أن أنفذ ما أفكر فيه. - سنرى. - متى تريدين أن يتم هذا؟ - متى تشاء. - لا أريد أن يمسك أحد بسوء. - فمتى إذن؟ - بعد عام. - أليس طويلا؟ - متى تشائين؟ - نصف عام.
ونام على الأريكة ونامت على السرير، وظلت الأريكة مكان نومه ستة أشهر، ثم قال حسن لزوجته: أتدركين كم أحبك؟ - نعم. - وسيزداد يقينك اليوم. - إذن فأنت تذكر؟ - نعم. - إذن؟ - فأنت طالق، طالق لأني أحبك، نعم إني أحبك، ولعلك بعد أن تصبحي حرة، لعلك ترضين ... - لا تكمل. - أهو الرفض إذن؟ - لا، ولكن لا أريدك أن تطلقني بشرط. - لا، وبغير شرط. - وأمك؟ - سأطلقك.
ولم تمض ساعات حتى كان المأذون يحرر ورقة الطلاق، وكانت ابتسامة فرح ترفرف على شفتي سناء وأخرى على شفتي حسن، وكانت الدموع تنهمر من عيني أمه؛ لقد أدركت أنها فقدت سيطرتها عليه إلى الأبد.
ثمن الدواء
أذن الفجر وتقلبت زكية في نومها؛ فقد تعودت أذناها أن تلتقطا أذان الفجر منذ أن ينبعث من حنجرة الشيخ عبد المقصود الخشنة. وما لبثت أن أفاقت من نومها وألقت إلى زوجها نظرة، ثم نظرت إلى الشباك والظلام ينبعث منه مهزوما مدحورا، وجلست زكية في السرير ومدت يدها إلى زوجها حمدي فربتت كتفه: حمدي ... حمدي.
وأحس حمدي بيد زوجته وهو يغالب اليقظة ويهفو إلى النوم، وأدار ظهره يعتصم بالجهة الأخرى من السرير من إيقاظ زوجته له. وما كانت هذه الحركة جديدة على زوجته، وإن كانت قريبة العهد بالزواج منه، فهي تربت الكتف الأخرى التي أصبحت تواجهها: قم يا حمدي لتصلي الفجر.
ويهمهم حمدي ببعض الألفاظ، ثم لا يجد مناصا آخر الأمر من أن يصحو، وتقول له زوجته في حنان: صباح الخير. - صباح الخير.
وينزلق حمدي عن السرير ويتوضأ ويصلي الفجر حاضرا، ويجلس إلى مائدة الإفطار التي كانت زوجته قد أعدتها له، وتجلس زوجته أمامه، ويقول حمدي: الولد أيقظنا كثيرا في الليل. - مسكين، المغص لم يتركه طول الليل . نام قبل الفجر بساعة واحدة. - الزجاجة فرغت، ألم أقل لك. - ألم يكن باقيا منها شيء؟ - أبدا. - يظهر أن دواء هذا الدكتور غير نافع. - وماذا نعمل؟ لقد قال لنا كرروا الدواء. أتذهب إلى دكتور آخر؟ - تقصدين ندفع جنيها آخر؟ - هذا أوفر. - أوفر؟! - أوفر من الدواء الذي لا ينفع. - نجرب الدواء مرة أخرى ونرى. - نجربه. - طيب، هات خمسين قرشا. - ربنا يبعث. - ماذا تقصد؟ - ألا تعرفين ما أقصد؟ - أليس معك خمسون قرشا؟ - من أين؟ - من البقشيش. - ومن أين يأتي البقشيش؟ - عجيبة! من الزبائن. - وأين هم الزبائن؟ - في الحمام. - ألا تلاحظين أن الشتاء أوشك أن ينتهي والزبائن أصبحوا قلة، لا نرى إلا واحدا أو اثنين على الأكثر في اليوم. - ولماذا تتعبون أنفسكم وتفتحون الحمام؟ - وماذا يهم اللوكاندة أن يأتي الزبائن أم لا؟ المهم أن يكون الحمام مفتوحا في اللوكاندة الكبرى. - ونموت نحن؟ - إننا نأخذ مرتباتنا وهذا كل ما يهمهم. - ولكن مرتبك لا يكفي، إننا بدون البقشيش لا نستطيع العيش. - ربنا يبعث. - يظهر أنك أنت الذي لا تحسن معاملة الزبائن. - ربنا أعلم. أنا والله أريحهم وأكلمهم بكل أدب، مرة بالإنجليزي، ومرة بالفرنساوي، ومرة بالطلياني، وأضحكهم وأبسطهم، ولكن أين هم؟ - المهم، ماذا نفعل في الدواء؟ - بمجرد أن أحصل على الخمسين قرشا سأشتري الدواء من الأجزخانة المجاورة للحمام وأبعثه لك. - ربنا يفتح عليك. - أفوتك بعافية. - مع السلامة.
وخرج حمدي من المنزل يفكر في الدواء وفي ثمنه، وينظر إلى الشمس تتوسط السماء، وخيل إليه أنها ترسل إليه نظرات عداوة شديدة. ومن مجنون يأتي إلى حمام بخار، وهذه الشمس ترسل أشعتها الحارقة؟! السياح سافروا والحمد لله، وزبائن الحمام من المصريين لا يأتون، والجو على هذه الحرارة، من مجنون يأتي؟ الأمر لله. ومن أين لي بثمن الدواء؟ أستلف من اللوكاندة؟ وهل تقبل اللوكاندة؟ هل أقصد إلى صاحب الأجزخانة وأرجوه أن يعطيني الدواء وأدفع له ثمنه عند ميسرة؟ ومتى تأتي الميسرة؟ وكيف لصاحب الأجزخانة أن يثق بي وهو لا يعرفني؟ ويصل حمدي إلى الحمام ويفتحه ويعد الأدوات، ويجلس ينتظر الزبون والفرج ، ولا يطول انتظاره؛ فما يلبث الباب أن يفرج عن رجل طويل في الأربعين من عمره، أبيض البشرة سمح الملامح. - السلام عليكم.
وينظر إليه حمدي. زبون جديد لم يره قبل اليوم، يا فرج الله: وعليكم السلام يا سعادة البك ورحمة الله وبركاته. - هل أستطيع أن آخذ حماما؟
ويجد حمدي فرصة ليقدم نفسه على أنه ممن يتكلمون الإنجليزية، راجيا أن يكون لذلك أثر في الارتفاع بالبقشيش. - أوف كورس يا سعادة البك، تحت أمرك.
وتختلج عين الزبون لحظة، ويفكر في المبلغ الذي سيخسره في هذا الحمام، إن كان الخادم متعلم الإنجليزية فكم تراه سيدفع ثمنا لهذا الحمام؟ شورة سوداء. لقد أوقعه ابن عمه سامح في المحظور، وأوشك أن يعود ثانية إلى الباب الذي دخل منه، ولكنه تريث لحظة وسأل: بكم أجر الحمام؟
ونظر إليه حمدي ودارت في رأسه الأفكار، إن الزبون الذي يسأل عن أجرة الحمام لا يبشر بخير، ولكنه يسارع إلى بقية الأمل قبل أن يضيع: حاجة بسيطة يا سعادة البك، بسيطة جدا. - يعني كم؟ - أتريد سعادتك حماما واحدا أم ...
ويسارع البك قائلا: واحدا ... واحدا ... - جنيه. - ماذا؟
وتوشك آمال حمدي أن تنهار؛ إن كان يستكثر الجنيه الذي هو أجر الحمام، فأي بقشيش سيدفع؟ ولكن لا بأس ليدفع أي شيء، ومن هنا إلى آخر النهار يحلها الذي لا يغفل ولا ينام. - ماذا يا سعادة البك؟ أهو كثير؟ - لا ... لا أبدا.
ويهدأ حمدي بعض الشيء ويقول الزبون لنفسه الأمر لله، ويأخذ طريقه إلى الداخل ويخلع ملابسه، وحمدي بجواره يساعده كلما سنحت له فرصة أن يساعده، وحين يطول الصمت بعض الشيء يقول حمدي في محاولة صادقة أن يستكثر البقشيش ما أمكنه إلى ذلك من سبيل: شرفت يا سعادة البك. - كثر خيرك. - أهذه أول مرة تشرفنا فيها؟ - نعم. - ولم تأخذ حمام بخار قبل اليوم؟ - أبدا. - ستكون مسرورا جدا يا سعادة البك، تريه كونتا. ويتوقف البك لحظة عن خلع ملابسه و«يتكلم الفرنسية أيضا!» لا بد أن يكون صاحب الحمام ... ويكمل خلع ملابسه، ويستأنف حمدي حديثه: ستحس أنك إنسان جديد؛ نشاط وحيوية. سترى يا سعادة ... - إيه. عظيم.
ويفكر الزبون، لماذا يلاطفه هذا الرجل كل هذه الملاطفة؟ أليجعله يعود ثانية ليفعل ما يشاء، ليجعل من نفسه بهلوانا؟ ولكنه لن يعود. إنها مرة ولن تعود.
ويعود حمدي إلى الحديث: أتحب أن تبدأ بالبخار؟ - والله أنا لا أعرف ما يجب أن أفعله فعليك أن ترشدني. - تحت أمرك يا سعادة أفوتر سرفيس. تفضل.
ولا يملك الزبون نفسه فيسأله: هل حضرتك صاحب هذا المحل؟ - لا يا سعادة البك، إنه ملك اللوكاندة. - أنا فاهم، ولكن هل أنت الذي تستأجره من اللوكاندة؟ - نومونشير. أنا موظف في اللوكاندة.
ويقف الزبون عاريا لا يستره إلا قماط أعطاه له حمدي الذي كان يسير من خلفه. ويلوي الزبون رأسه إلى حمدي: «موظف.» ولا يكتفي بالتفكير، بل هو يقول دون وعي: موظف. - بيان سير مونشير. موظف يا سعادة البك. - وتتكلم الإنجليزية والفرنسية ... - والإيطالية وبعض الجريجية أيضا يا سعادة ...
ويدخل الزبون إلى غرفة الحمام وهو يفكر: لا بد من البقشيش إذن، ولا بد من بقشيش مرتفع. خمسون قرشا على الأقل! على الأقل! شورة سودة الله يجازيك يا سامح يا ابن عمي. منك لله. وبعد فترة يطل رأس حمدي من الباب: أتحب سعادتك أن تبقى أكثر من هذا أم تكتفي بهذا؟ - كما ترى. - يكفي هذا لأنها أول مرة. تفضل ويقوم الزبون ويمشي خلفه وهو يقول: إلى أين؟ - إلى التدليك. - آه عظيم. ومن الذي سيدلكني؟ - أنا. - أنت؟! - اختصاصي يا سعادة البك. إكسبير. سترى وتحكم بنفسك.
ويفكر الزبون: اختصاصي وإكسبير أيضا! لا يمكن أن تكفيه خمسون قرشا. وتمتد يد حمدي إلى جسم الزبون تدلك، توشك يداه أن تقولا أعطني بقشيشا، ويحس الزبون بخبرة حمدي وبيديه اللتين تعرفان تفاصيل العضلات في جسمه معرفة لا يتقنها إلا طبيب، أو على الأقل خريج من معهد التربية الرياضية. ويقول حمدي في نغمة طيبة حنون توشك أن تفضح حاجته للخمسين قرشا: مبسوط يا سعادة البك؟ فوزيت كونتا. - بيان سير. حاجة عظيمة يا أستاذ.
أستاذ! تقع الكلمة على أذن حمدي موقعا حلوا، ويحس فيها أن الرجل سيجزل له العطاء؛ لقد جعله أستاذا. وينهمك في عمله، ويسلم الرجل نفسه ليدي حمدي الخبيرتين، ويفكر فيما يمكن أن يعطيه له، خمسون قرشا، مستحيل! إنه سيجرحه لو أعطاه هذا المبلغ الهين. ماذا يمكن أن يعطيه؟
وينتهي التدليك ويقول حمدي: والآن تأخذ الدوش يا سعادة البك. - متشكر يا أستاذ.
ويزداد الأمل في نفس حمدي. إن الأستاذ لا يأخذ أقل من خمسين قرشا بقشيشا، فإن تضاءل المبلغ وتضاءل فخمسة وعشرون قرشا ولا أقل. لا يمكن أن يكون أقل من ذلك. ومن يدري لعل زبونا آخر لا يعبأ بالجو الحار، ويأتي مثل هذا المغفل الذي يستحم. وكان الزبون تحت الدوش يفكر فيما يمكن أن يقدمه بقشيشا. الله يجازيك يا سامح. منك لله. أهذه عملة؟ ماذا أعطي هذا الأستاذ الذي يتقن ثلاث لغات ويتكلم رابعة، وهو بعد هذا كله أو قبل هذا كله على هذه الخبرة العظيمة بالتدليك وبتفاصيل جسم الإنسان؟ خريج معهد عال على الأقل، إن لم يكن سافر إلى الخارج وتخصص. طبعا، وإلا فكيف له بهذه اللغات جميعا؟ وراح يسخط على ابن عمه سامح الذي أوقعه في هذه المشكلة. وينتهي الزبون من الحمام ويذهب إلى حيث ترك ملابسه، ويأخذ في ارتدائها ويأتي إليه حمدي: أتحب أن أساعد سعادتك؟ - العفو يا أستاذ.
فرجت، هي الخمسون قرشا، على الأقل إن لم يصل إلى جنيه كامل. ويقف حمدي بجانب البك، ويروح الزبون يختلس النظرات إلى حمدي، وفجأة يستقر رأيه على أمر، ويطمئن. ويتم ارتداء ملابسه، ويخرج إلى الغرفة الخارجية من الحمام، ويخرج حمدي من ورائه، ويذهب حمدي إلى المنضدة التي يستقبل عليها نقود الزبائن، وقد كاد قلبه أن يقفز من بين جنباته في انتظار البقشيش الذي سيقدمه البك إلى الأستاذ، ويخرج البك المحفظة ويفتحها ويخرج منها جنيها، جنيها واحدا، ويبتسم حمدي: لا بد أن الخمسين قرشا في جيبه لا في المحفظة، كثيرون يفعلون ذلك، كثيرون لا يضعون في محافظهم فئات أقل من الجنيه حتى لا تنتفخ المحفظة بالأوراق قليلة القيمة. ويقدم الزبون الجنيه إلى حمدي ويأخذه ويظل ناظرا إلى الزبون، ولكن الزبون يقول في حزم: ألف شكر يا بك.
ويستدير إلى الباب الخارجي ويدلف منه إلى الخارج.
وحين يعود حمدي إلى البيت تسأله زوجته في لهفة: هل أحضرت الدواء؟ - لا، ولكن أصبحت بك. - ماذا؟!
ويرتفع صراخ الطفل من جديد.
الست عيشة
كان نجاحها في الحياة قوامه أن أثرياء الزمن الماضي كانوا لا يسمحون لزوجاتهم أن يخرجن إلى الأسواق ليشترين ما يحتجن إليه، فلم يكن هناك بد من أن تنتقل الأسواق إلى السيدات في بيوتهن. وهكذا أصبحت بقجة عيشة أم أمين هي محلات الموسكي، وتحت الربع والمغربلين، بل ومحلات شيكوريل وعمر أفندي وصيدناوي وغيرها، تجتمع جميعها على تنافرها وتباغضها في بقجة الست عيشة. وتنتقل هي بين البيوت تعرض ما اختاره ذوقها، أو هي تتلقى الرغبات فتحفظها في دقة ووعي دون أن تكتبها؛ لأنها بطبيعة الحال لا تكتب، وتعود بعد ذلك حاملة كل هذه المحلات بين أعطاف بقجتها العتيدة.
وقد كانت عيشة في ذلك الحين البعيد من الزمن مليحة الوجه، أكسبها حمل البقجة تنغيما في الخطوات، فكأنما هي ترقص حين تسير. وقد كانت ذات قوام فارع مياد يغري العين والخلجات المعربدة في نفوس الرجال.
وقد كانت وظيفتها تلك تثير في نفوس رجال كثيرين مكامن الطمع؛ فهي أولا تكسب الكثير من تجارتها، وهي أيضا ذات مدخل إلى بيوت العلية من القوم، وإن لها عندهم لكلمة، وإن لها في الحديث دهاليز. وقد استطاعت بعد أن مرنت على حمل البقجة أن تحمل في ثناياها صورا لفتيات وفتيان، وأصبحت تبيع مع الأقمشة وحاجيات الستات حديثا عن فلانة بنت فلان، أو فلان بن فلان، ويتم زواج وتقبض عيشة الثمن؛ وهكذا كثرت حول معاصمها الأساور، كما كثرت العقود التي تلفها حول عنقها.
وقد كان غباشي السائق بمنزل مصطفى باشا جمال الدين ذا عين خبيرة، تسقط في سرعة لاهفة على الأساور اللامعة، وتستطيع تلك العين في خبرة ومران أن تعرف أن ما تلفه عيشة حول عنقها ليس عقدا واحدا، وإنما هو عقود. وقد كان غباشي شابا فتي الجسم جميل الوجه، وكان ذا طموح في الحياة وهمة، فوقع في حب الأساور اللامعة والعقود التي تتواثب حول رقبة عيشة وتقدم إليها، وقبلته وتزوجا.
ومرت أيام، أصبحت شهورا، واستطاعت عيشة أن تعرف في سهولة ويسر أن غباشي أحب ما تملكه، ولم يحبها هي؛ فإنه سرعان ما طلب إليها أن تبيع ما تملكه ليشتري هو سيارة يشغلها بالأجرة. وطبعا حاول أن يفهمها أن الربح سيعود إليهما كليهما، حاول أن يضخم لها هذا الربح، ولكن الكلام مهما يكن منمقا جميلا، ما كان لينطلي على عيشة، وهي تاجرة الكلام التي جمعت ثروتها جميعها منه. واشتد الطلب من غباشي واشتد الرفض من عيشة، وانتهى الأمر بطبيعة الحال إلى الطلاق. وقد كان الأمر من شأنه أن ينتهي عند هذا الأمد، لولا أن غباشي ترك في أحشاء زوجته التي أصبحت مطلقته أملا في طفل أو طفلة لا يعلمه إلا الله، وما هي إلا بضعة شهور حتى أصبح الأمل طفلا وصار اسمه مجدي. وفرحت عيشة بما أعطاها الله، وأقسمت ألا تعود بعدها إلى الزواج أبدا، ويكفيها من حياتها أن تعيش لترعى هذا الطفل، ولتجعل منه شيئا عظيما منذ ألقمته ثديها في اللحظة الأولى من رضاعته. أزمعت عيشة في نفسها أن تجعل من هذا الطفل ثروة، ثروة كبيرة لها ولمستقبلها. لقد أزمعت أن تعوض به نفسها عن كل تعب تلقاه في عملها، وعن ذلك اليأس الذي أطل عليها من زواجها. وفي تدبر وحكمة وهدوء راحت تعد الخطة وتنفذها، وحين مرت الأيام، وحين قضت هذه الأيام على تجارة عيشة، لم تذهل ولا هي اندهشت؛ فقد كانت تعد للتطور عدته، فما هي إلا سنوات قليلة حتى خرجت السيدات إلى المحلات العامة يشترين ما يروق لهن، وما هي إلا سنوات أخرى حتى سفرت السيدات جميعا، فأصبح العريس يختار عروسه بالحواس الخمس جميعا، لا بالسمع وحده. وكانت عيشة قد ادخرت لهذا التطور بعض المال، ولكنها لم تلجأ إليه، وإنما لجأت إلى ما ادخرته من صحة وعافية؛ عرضت على إحدى السيدات اللواتي كانت تزورهن أن تقبلها عندها خادمة، وقبلت السيدة وأقامت عيشة في بيت السيدة خادمة، وكان لها على صاحبة البيت دلال قديم، فهي تجالسها من حين إلى آخر، عيشة على الأرض والسيدة على الكرسي، وهي من حين إلى آخر تدلك لها أقدامها، وهي تستطيع دائما أن تلقي على مسامعها ما تشاء من حديث، وهي تستطيع أيضا أن تستجدي منها لمجدي حلة أو حذاء أو قميصا، أو أي شيء تستغني عنه السيدة، أو تنجح لياقة عيشة في اختطافه.
ومجدي منذ السنوات الباكرة من الطفولة تلميذ، في مدرسة إلزامية أول الأمر، ثم هو في مدرسة ابتدائية، وحين حصل على الابتدائية قالت السيدة لعيشة: يكفي ما تلقاه مجدي من العلم، سأجعل زوجي يوظفه وتصرخ عيشة: لا.
ثم تتمالك في تؤدة: ربنا يطيل عمرك يا ستي ويبقيك. أملي في الدنيا أن يتعلم مجدي. - أخذ الابتدائية. - ربنا يبقيك لي. أنا عندك آكل وأشرب، وما آخذه منك يكفي لتعليمه وزيادة. العلم حلو يا ستي.
وتسكت الست، ويمضي مجدي في تعليمه، وعيشة تبذل غاية جهدها أن تستر أمره، فهي تشتري له مما ادخرت أحسن الملابس، وتجعله يبدو في أحسن مظهر، وقد سمح له وجهه الذي اقتبس فيه كثيرا من سمات أبيه وأمه، أن يبدو جميلا متسقا مع الثياب الأنيقة التي تختارها له أمه الخبيرة.
وتمر سنوات البكالوريا وينالها مجدي، وعيشة ما تزال تعمل بمنزل سيدتها، وتحاول الست مرة أخرى أن تعرض على عيشة أن توظف مجدي، ولكن عيشة في ذكاء ولباقة تقول: فات الكثير ما بقي إلا القليل. أتحمله يا ست هانم السنوات القليلة الباقية والبركة فيك.
وتسكت الست ويقصد مجدي إلى الجامعة. كان مجدي في سنوات عمره جميعا لا يفارق أمه أبدا؛ فقد استطاعت أن تخلي له حجرة في أسفل البيت الذي تعمل به. وكانت تصر على أن يلازمها ما مكنتها هي الفرصة أن يلازمها. وقد قطعت كل صلة كانت تقوم بينه وبين أي صديق، حتى لم يبق له من أصدقاء آخر الأمر إلا أمه. وقد صار أمره في الجامعة مثلما كان وهو في المدرسة الابتدائية أو الثانوية، فلم يزد عليه إلا أنه صار طالبا بكلية الهندسة، بعد أن كان تلميذا بمدرسة المنيرة الابتدائية أو الخديوي إسماعيل الثانوية؛ أمه هي آفاق حياته جميعا، وليس له من آفاق سواها، ولم يكن هذا إلا جزءا من الخطة التي أحكمتها عيشة في اللحظة التي ألقمت فيها ابنها ثديها، وكان الجزء المهم من الخطة يبدأ يوم دخل مجدي الجامعة.
أصبحت تستمنح سيدتها كثيرا من الإجازات، وتذهب لتقضيها مع أقاربها الذين نزحوا عن القرية وأقاموا في القاهرة. وقد عجب هؤلاء الأقارب أول الأمر من هذه الزيارات، ولكنهم لم يلبثوا أن تعودوها حتى أصبحوا يسألون عنها إن غابت ولم تزرهم. ولو أن هؤلاء الأقارب بحثوا عن الصفات التي تجمع بينهم، والتي تجعل عيشة تزورهم؛ لفطنوا إلى ما تدبر له عيشة، ولكنهم لم يجتمعوا ولم يبحثوا، وظلوا واهمين أن رابطة القرية وحدها هي التي تجعل عيشة تزورهم، ولو فكروا قليلا لوجدوا أن لعيشة أقارب أكثر قرابة لها ومن القرية، ويقيمون بالقاهرة، ومع ذلك لا تزورهم عيشة، ولكنهم لم يفكروا. ولو تدبروا الحديث الذي كانت تلقيه عيشة، ولو تناقلوه بينهم؛ لأدركوا، ولكنهم لم يتناقلوه وإن كانوا قد تدبروه.
وتمر السنوات وتزداد الصلات بين عيشة وأقاربها، ويقترب مجدي من نيل الشهادة فلا يبقى إلا شهور. وتقصد عيشة إلى بيت قريبها الذي تعودت أن تزوره وتكثر من زيارته، أحمد أفندي علي إسماعيل موظف القرية، الذي يمتلك في القرية ستة أفدنة، وفي القاهرة وظيفة تدر عليه دخلا يقدر بخمسة وعشرين جنيها شهريا، وليس في الدنيا إلا ابنة واحدة، تخطبها عيشة لابنها مجدي، الباشمهندس. وأين يجد أحمد أفندي علي إسماعيل خيرا من هذا.
الباشمهندس سيخطب ابنته، ولا يفكر أن ابنته ليست رائعة الحسن، ولا هي حتى على شيء من الجمال، وإنما يقتنع وتقتنع زوجته معه أن الست عيشة أرادت لابنها زوجة، ترعى شأنه وتقوم بأمره، وأن مسألة الجمال لم تكن تخطر لها على بال. وتتم الخطبة ولا يعارض مجدي؛ فقد تعود أن يكون كلمة من أمه وإشارة من يدها.
وتمر أيام وتهمس الست عيشة في أذن أحمد أفندي إسماعيل: العين بصيرة واليد قصيرة يا أحمد أفندي.
ويفهم أحمد أفندي، ولا يقيم بالقاهرة إلا ريثما يحصل على إجازة من وظيفته، ويقصد إلى القرية يبيع فدانين ويأتي، فلا يقصد إلى بيته وإنما يقصد إلى الست عيشة في السر دون أن يحس أحد، ويضع في يدها ثمن الفدانين ليستعين به مجدي على شأنه، ويشتري الهدايا أمام الناس، ويقدم المهر، ويشتري لنفسه ملابس أيضا. ويرد الدين بعد ذلك حين يفرجها الذي لا تغفل له عين.
وما إن استقر المبلغ في يد الست عيشة حتى انقطعت عن زيارة أحمد أفندي علي إسماعيل، وأمرت ابنها هو أيضا أن ينقطع فانقطع. وحين قصد إليها أحمد أفندي علي إسماعيل وسألها: خير يا ست عيشة.
قالت في خبث: الامتحانات يا سي أحمد أفندي. - وأنت أيضا عندك امتحانات؟ - أقعد إلى جانبه وأشوف طلباته.
وينصرف أحمد أفندي إسماعيل، وتقوم الست عيشة إلى قريبها الثاني توفيق أفندي عبد المطلب، وهو موظف أكبر قليلا من أحمد أفندي علي إسماعيل، فمرتبه ثلاثون جنيها، ويملك أيضا أكثر مما يملك أحمد أفندي علي إسماعيل؛ فهو يملك ثمانية أفدنة. - العواف يا سي توفيق. - العواف يا ست عيشة. - كيف حالك يا ست أم إبتسام؟ - نحمده يا ست أم مجدي. - عذبني ابني مجدي يا ست أم إبتسام. - خير يا أختي. - لقد جئت خصيصا لأجعل سي توفيق يكلمه. - أنا تحت أمرك يا ست عيشة. - الولد يا سي توفيق يرفض الزواج من بنت سي أحمد. - وكيف؟ - الظاهر أنه شايف حاجة ثانية. - هل تظنين هذا؟ - الحقيقة هو قال لي إنه حط عينه على ...
وتبتسم عيشة أم أمين ويفهم سي توفيق وتفهم ست أم إبتسام، ويصمت الرجل وتتكلم الست: على من يا ست عيشة؟ - لا حول ولا قوة إلا بالله. ماذا أعمل يا سي توفيق، أنا مرتبطة مع أحمد أفندي علي إسماعيل؟
ويتنحنح توفيق أفندي عبد المطلب الإبياري ويقول: أظن أن مركزي حرج جدا يا ست عيشة.
وتكمل الست أم إبتسام: صحيح ماذا يمكن أن يقول؟
وتطرق عيشة أم مجدي وتقول: لك حق يا سي توفيق ... خلي هذه المسألة علي ... فقط ... وأمعنت في إطراقها.
وقال توفيق أفندي: فقط ماذا يا ست عيشة؟ - الولد مصمم على أن أخطب له إبتسام ...
وتسارع أم إبتسام قائلة: إبتسام تحت أمره يا ست عيشة.
ويقول توفيق: أخاف أن يزعل أحمد أفندي علي.
وتقول عيشة: لا يريد بنته يا سي توفيق. وأنا ماذا بيدي؟ إنه رجل ولا أستطيع أن أخبره. ويفكر توفيق أفندي فلا يطيل التفكير إذ ما تلبث أم إبتسام أن تقول له: نميل بخت بنتنا يا سي توفيق. شرع الله عند غيرك.
ويقول توفيق أفندي: على بركة الله يا ست عيشة، مبروك، وتقول عيشة: مبروك عليكم إن شاء الله.
وبعد أيام قليلة تقصد عيشة إلى توفيق وتقول: العين بصيرة واليد قصيرة يا سي توفيق.
وما هي إلا أيام أخرى قليلة حتى يكون في يد عيشة ثلاثة أفدنة هذه المرة لا فدانان، وتتكرر الخطبة ويتكرر الفسخ، وعائشة سعيدة بتجارتها لاهية بعض الشيء عن رأس مال التجارة مجدي، حتى أصبحت لا تراه إلا ليفسخ خطبة أو يعلن خطبة. وهكذا تمتع مجدي بحريته وتعرف على أصدقاء، بل إنه تعرف على صديقات، وتطورت المعرفة والصداقة؛ فهو يدخل إلى أمه يوما ويجلس صامتا بعض الحين، وتسأله عيشة: ما لك يا مجدي؟ - لا شيء يا أمه. - أنت على غير عادتك. - أمه. - نعم. - لقد تزوجت. - ماذا؟! - بالأمس. - وتبهت عيشة ثم تقول: أهي غنية؟ - موظفة معي لا تملك إلا المرتب.
وتنظر إليه مليا، ثم لا تلبث أن تقول: الأمر لله، منه العوض وعليه العوض، حسبي الله ونعم الوكيل.
ملالة
ملالة تملأ وقتي، تملأ يومي وليلي، تملأ أمسي وغدي. أي جديد في هذه الحياة؟ وماذا في الجديد إذا جاء؟ كيف أزيل عن نفسي هذه الملالة؟ أحس طعمها في فمي كريها شائها، وأحسه يتمشى في دمائي رتيب الخطوة، رتيب النغمة. أغير ما أغير من حياتي، وأفعل ما أشاء أن أفعل، وما تشاء لي أفكاري، المحدودة التي لازمتني ولا أذكر متى، وأفعل ما يشاء لي عقلي، هذا الذي لا جدة فيه ولا طرافة، فإذا كل ما أفعله مكرر ولا يزيل عني الملالة، ولا ينشلني من وهدة الخمول، الذي يحيط بي إحاطة لا مخرج لي منها ولا مفر.
زوجتي في البيت، تزوجتها منذ عشرين عاما ونيف، وظللت أراها في كل يوم، في كل لحظة هي هي في الصباح والمساء، هي هي في الشباب والكهولة، ما تغير منها إلا الجمال الذي ولى، لتحل مكانه خطوط من السن، وتجاعيد من الكبر، وترهل من الحمل. جاءت بالبنين والبنات. لعلني فرحت بالولد الأول، ثم ماذا بعد ذلك، ملالة، ملالة، لم تلد زوجتي إلا الملالة والصراخ، ثم كبرت الملالة وكبر الصراخ فإذا هو مطالب، وطنين من الإلحاح. مطالب معقولة لا عيب فيها، إلا أنها مكررة لا جديد فيها ولا ابتكار، بل إنها تزيد ملالتي ملالة، وتزيد ضيقي ضيقا، فأنا من الملالة في بحرين.
تركت بيتي وعشت وحدي لاحقتني من زوجتي القضايا، ومن أولادي المطالب، ولم أستطع في غمرة القضايا والمطالب أن أتخلص من الملالة؛ فحياتي وحدي مملة كحياتي مع زوجتي وأولادي؛ فعدت إلى بيتي والملالة تلاحق مواكبي أنى سرت.
خضعت ورضيت من بيتي أن أكون المصنع الذي يخرج لهم ما تحتاجه حياتهم من مال.
وأنا في وظيفتي ملول، الديوان هو الديوان، والجدران هي الجدران، وإن تبدل الزملاء بزملاء، إلا أن الأحاديث هي هي، لا تتغير؛ تعليق على أخبار الجرائد وليس في الجرائد شيء جديد. من قرأ من التاريخ ما قرأت استطاع أن يعرف عن ثقة مؤكدة أن ليس في الجرائد جديد. ما كان في التاريخ البعيد هو أخبار الساعة؛ قوي يقهر وضعيف يشكو، ودول تتطاول وتستكبر، ودول تتطامن وتستذل. هكذا التاريخ، ولكن صحبي لا يقرءون التاريخ وأنا قرأته؛ فهم يعلقون على الأخبار وكأنها جديدة، ولو عرفوا الذي عرفت من الماضي ما أحسوا من حاضر أيامهم حلاوة، بل إنني أستطيع بما قرأت أن أقول لهم ما تخبئه الأيام من أخبار؛ فالتاريخ أيضا ممل يتكرر ولا يتجدد، يعيد نفسه في كسل وتراخ، وكأنما أدركه الكبر أن يأتي بجديد.
وقد يعلق بعضهم على الكرة، وتلك عجيبة من العجائب بلا جدة فيها أيضا، ولست أدري كيف يمكن الحديث عن الكرة؟ إنما هي فريقان يتلاعبان ويغلب فريق فريقا. كل ما أفهمه في هذا الأمر أن أشاهد ثم لا أعلق، وإنما إخواننا من الزملاء يعلقون ويتمادون في الحديث فيطول ويطول، وأنا أكاد أموت غيظا وملالة، فلا جديد في هذا الحديث أيضا؛ فقديما عرف الناس التفاهة في اختيار موضوع النقاش، وما تنازلوا عن تفاهتهم حتى اليوم.
وقد يحدث - ولكن قليلا ما يحدث - أن يتناقش اثنان في الأدب، وفيما تكتبه الجرائد من قصص، هذا الوباء الذي أصبح متفشيا في أيامنا هذه، ولا أجد فيما يقدمونه جديدا؛ فقديما قال عنترة بن شداد: «هل غادر الشعراء من متردم؟» فإذا كان هذا الشاعر الجاهلي قد يئس أن يقع على جديد منذ هو في الجاهلية، وقد عدوناها اليوم بألف وأربعمائة عام وتزيد، فأي جديد يمكن أن يأتي به الأدب؟ أجل لقد قرأت الأدب القديم حتى أفنيته، ثم قرأت في الأدب الحديث حتى مللته، وأصبحت لا أجد فيما أقرؤه طرافة، ومن أين وقد قطع عنترة عليهم الطريق منذ عشرات القرون والأجيال؟
قرأت المسرحيات، فأما ما كان منها على نمط قديم، فهو يزيدني ملالة، وأما ما كان منها على النمط الجديد، فقد طوح بي إلى مجاهل القدم، أكثر مما فعل المسرح القديم ذاته. متى كانت الخرافة شيئا جديدا؟ إنها قديمة قدم الأوثان، بل إنها أعظم منها قدما، وأشد منها إيغالا في غياهب الأزمان الغابرة.
لا شيء جديد في هذه الدنيا، لا شيء جديد. أم ترى أنا وحدي الذي أحس بهذه الملالة لكثرة ما قرأت؟ لست أدري. إنما ما أدريه أنني كنت أحسد كل من يبتسم، وتقتلني الغيرة من كل ضاحك، فإذا رأيت اثنين يتحادثان منهمكين في الحديث، رحت أصوب إليهما عينين نهمتين، وكأنما يتقاسمان أموالا مكدسة لا تخصني. إنهما يتبادلان الحديث، ومعنى هذا أن هناك موضوعا بينهما يشغلهما، فهما يتحادثان فيه، ويهتمان به، وينسيان الملالة ولو لمدة لحظات.
سافرت، سافرت إلى جميع مدن القطر المصري. ماذا؟ أي جديد في هذا؟ ما رأيته في الوجه القبلي هو ما رأيته في الوجه البحري. ولا تسلني عن القرية. ويلي من الريف والقرى. ما أكذب هؤلاء الكتاب الذين يتحدثون عن هدوء ومتعة الريف! أجل ما أكذبهم!
وعدت إلى القاهرة وقد ازدادت ملالتي ملالة. لم أجد شيئا أفعله آخر الأمر إلا أن أنظر إلى وجوه الناس، إنها الشيء الوحيد الذي لا يتكرر. لا تصدق أنه يخلق من الشبه أربعين، لا أربعين ولا حتى اثنين، لكل وجه ملامحه الخاصة، وهي تعبر عن أخلاق خاصة، ولن يشترك اثنان في الملامح أبدا، ومهما يكن التشابه فلا بد أن تجد فارقا، وفارقا مميزا واضحا.
حذار أن تظن أن نظري إلى وجوه الناس أبعد عني الملالة أو قللها، إنما كان هذا مظهرا من مظاهرها، ولم أجد ما أنفق فيه ملالتي إلا الوجوه، ولا أخفي عنكم لقد كنت أحب وجوه الناس. واسخر معي ما شئت من هؤلاء الذين يحبون الجمال الطبيعي بغير أحمر أو أبيض. إن هذا الأحمر والأبيض شيء جميل. وكم صعقت يوم تفتق ذهن أساتذة المودة عن الدهان الذي يضعونه على شفتي المرأة بلون الطبيعة! أغبياء. من قال لهم إننا نريد أن نرى اللون الطبيعي؟ فلماذا تضعنه إذن ما دام المطلوب هو اللون الطبيعي؟ صدقني، كلما رأيت واحدة منهن يخيل إلي أنها أكلت زبدة ثم تجمدت الزبدة على شفتيها.
المهم لقد وجدت أن خير ما أنفق فيه ملالتي هو النظر إلى الوجوه، وأخص بالنظر وجوه السيدات طبعا. ولم أجد مكانا خيرا من السينما أذهب إليه لأجد المعرض مليئا بالمعروضات، فالسيدات - لسر أجهله - يبذلن أقصى جهدهن في التزين وهن ذاهبات إلى السينما، وكأنهن يجهلن أن الظلام سيغطي كل شيء يضعنه على وجوههن. على كل حال كان هذا من حسن حظي أنا؛ فقد كنت أحب عنايتهن هذه بوجوههن.
وفي يوم دخلت السينما وجلست بجانبي فتاة، بل سيدة يبدو أنها في أول عهدها بالزواج؛ فهي كالوردة أشرفت على التفتح، النضارة تفوح منها كأنها عبق وهبته لها السماء، كل شيء فيها جديد. حتى لقد ذكرتني بملالتي وكيف أني قديم قديم، وأفكاري قديمة، وكل ما يتصل بي قديم. كم نحن متناقضان! هي في جدتها وأنا في قدمي. كيف يمكن أن يلتقي القديم والجديد بهذا التقارب؟ متجاوران على الكرسي، لو لم أكن أرتدي جاكتة ذات أكمام للامست ذراعها ذراعي.
وفجأة ومضت في ذهني فكرة، أبعدتها فألحت علي: لماذا لا أقبل هذه الفتاة الجالسة إلى جواري؟ ماذا سيحدث؟ واحدة من اثنين؛ إما أن يلقوني في السجن. وما ضر لو فعلوا؟ كم من مساجين هناك ذهبوا إلى السجن بجرائم لا لذة فيها ولا طرافة ولا تجديد! أما أنا فسأذهب إلى السجن وقد حطمت عن نفسي الملالة الأكبر، الذي أعيش فيه. وهل أنا الآن طليق؟ مرحبا بالسجن ولو أرسلوني إليه. وإما أن يقودوني إلى سراي المجاذيب، ومرحبا بهذا أيضا. أرى هناك البشرية المستريحة قد طرحت عن نفسها قيود العقل، وارتاحت إلى الحياة تقطعها لذة وأحلاما وأوهاما وخيالا. سأكون سعيد الحظ لو أنهم ألقوا بي إلى سراي المجاذيب.
ودون أن أمعن في التفكير أكثر مما فعلت ملت على السيدة التي بجانبي، وطبعت على خدها قبلة مطمئنة هادئة، ثم اعتدلت وجلست.
ومدت السيدة يدها على مكان القبلة في ذهول هادئ أول الأمر، ثم فجأة استعادت يدها وكأنما وجدت على خدها أثر القبلة مجسما، وكأنما تأكدت أن هذا الذي حدث حقيقة لا خيال ولا وهم. وإذا هي في كل ثقة تتجه إلي وتصفعني قلما، لم أكن محتاجا إلى أن أضع يدي بعده لأتحسس أثره؛ فقد كانت النيران تلهب وجهي، وكان يمكن أن ينتهي الأمر عند ذلك. قبلتها قبلة فصفعتني قلما ... فنحن متخالصان لا لنا ولا علينا. ولكن ماذا تفعل في الآخرين، هل يمكن أن يسكنوا؟ أيضيعون هذه الفرصة الذهبية في كسر ملالتهم وتسلية أنفسهم؟ أفندي قبل سيدة، وسيدة صفعت أفندي، أين يجدون فرصة كهذه؟ قام الرجل الجالس خلفنا: أنت قليل الأدب يا أفندي.
فوكزه الجالس إلى جانبه وسأله: ماذا حصل؟
فحكى له الذي حصل، فقال السائل: قلة حياء والله، لا يمكن أن نسكت.
فتقدم الرجل الجالس بجانب الست فسأل وأجيب؛ فثار؛ النهاية سحبوني إلى القسم. - هل قبلت الست؟ - نعم. - ونعم أيضا! - أتريدني أن أكذب؟ نعم قبلتها. - ألا تعرف أن هذه جريمة؟ - جريمة! - نعم جريمة. - على الشاشة أمامنا في السينما كانت القبلات على قفا من يشيل، ولم نر أحدا يقول جريمة. - هل تريد أن تدعي الجنون؟ - هل فيما أقول غلط؟ - لا، لا غلط. يا شاويش ضعه في الحجز.
وتم المحضر ورئي لاستكمال الشكل أن أعرض على طبيب أمراض عصبية، وكأن الطبيب كان يدري ما تهفو إليه نفسي، فما هي إلا أن انتهى من فحصه حتى كنت نزيلا بمستشفى الأمراض العقلية.
لا تسلني كم من الوقت أقمت هناك؟ فما عرفت في حياتي أسعد من هذه الفترة التي عشتها بلا عقل ولا مسئولية ولا ملل.
أقمت هناك ما أقمت، لا تستطيع زوجتي أن تكسر الأسوار لتعيدني إلى ملالة حياتي، ولا يستطيع أولادي أن ينفذوا إلي ليحيطوني بملالة مطالبهم. وطبعا لم يحاول الزملاء أن يبلغوا مكاني؛ فما كانوا حريصين على ملالتي في شيء.
ثم فجأة قلب لي القدر ظهر المجن، وانبثقت في صدر طبيب المستشفى عداوة شديدة، فإذا أنا فجأة طريد من المستشفى مرة أخرى إلى الحياة، إلى الملالة، ملالة تملأ وقتي، تملأ يومي وليلي، تملأ أمسي وغدي.
شوار وهيبة
قالت أم وهيبة وهي تعطي لزوجها عبد الباقي أفندي طربوشه: فداك مائة بقرة يا عم عبد الباقي أفندي، فداك مائة بقرة.
ولم يجد هذا القول مع عبد الباقي أفندي، لم يجد في شيء؛ لقد كان حزينا كئيبا، وعاد إلى الحديث الذي قاله ألف مرة: يعني يا ستي لو أننا جهزنا وهيبة بقرشين سلفة، وجعلناها مثل جميع البنات اللواتي تزوجن في هذه البلدة، ماذا يحدث؟
وقالت زوجته في غضب: أنرجع إلى هذا الحديث ثانية؟ - ولماذا لا نرجع؟ - يا رجل! أترضى أن تكون ابنتك مكسورة الخاطر أمام أهل زوجها؟ يا عبد الباقي أفندي سعادة الزوجة في حياتها كلها متوقفة على ما تأخذه معها من أثاث في يوم زواجها. - سبحان الله! أهذا كلام يقوله عقلاء؟! - منذ يدخل الشوار بيت الزوجية يعرف الزوج إن كانت زوجته عزيزة على أهلها أم هي هينة رخيصة. - ولماذا لا تقولين إنه يعرف إن كان أهلها فقراء أم أغنياء؟ - الغنى والفقر لا يهم في هذا؛ حتى الفقير يبذل كل جهده ليقدم إلى ابنته جهازا يسترها أمام زوجها وأهل زوجها. - إذن نستر وهيبة أمام زوجها وأهل زوجها، وننفضح نحن أمام الدنيا جميعها. - لا قدر الله يا عبد الباقي أفندي. مستورة والنبي مستورة. - ومن أين يأتي الستر يا سلمى؟ من أين؟ البقرة التي لا نملك غيرها نبيعها وتقولين مستورة؟!
وما بقرة؟ ما قيمتها؟ يا عبد الباقي أفندي أنت لا تعرف حماة ابنتك؛ نبوية طويلة اللسان، وإن رأت الشوار قليلا ستجعل أيام ابنتك كلها سوداء، غير الفضيحة أمام الناس والهزء والسخرية.
يا ستي الحماة لا ترضى أبدا. والله إن أثثت لها قصرا لن ترضى. نحن نقدم ما في وسعنا ونترك كلام الناس للناس. استرينا يا سلمى، استرينا فقد عشنا عمرنا مستورين.
يا رجل وهل البقرة هي التي تسترنا؟! - البقرة شيء مهم في حياتنا؛ اللبن والجبن، الحرث والري، وشعوري أن عندي بقرة يجعلني أحس بالدفء وبأني مستور. اتركيها لي يا سلمى. - لا والله هذا كلام لا ينفع أبدا، وماذا أفعل أنا أمام الناس؟ أكل هذا من أجل بقرة؟ الذي جعلك تشتري بقرة يجعلك تشتري الثانية. - من أين؟ - من وظيفتك. أنت مدرس وعليك العين. - أي عين؟ المرتب وفقط. - قد يأتيك بعض التلاميذ لدروس خصوصية. - هل جننت؟! نحن هنا في أقصى الصعيد، التلميذ الذي يأتي إلى مدرستي يقطع من أبيه مبلغا هو في أشد الحاجة إليه، والتلاميذ لا تأتي إلى المدرسة إلا بشق الأنفس، وأنت تريدين أن يأخذوا دروسا خصوصية، هل جننت؟! - سمعت عبد السميع أفندي يحكي لك عن الدروس الخصوصية. - عبد السميع أفندي في القاهرة، القاهرة شيء آخر، هنا لا أمل لنا إلا في البقرة. اتركيها لي يا سلمى. - اسمع، بقاء البقرة يعني ذهابي أنا إلى بيت أبي، ما رأيك؟ - ماذا؟! ماذا تقولين؟ - ما سمعت. - هل جننت؟! - جننت عقلت هذا شأني. - بعد هذا العمر كله، بعد عشرين سنة زواج. - وبعد مائة سنة إذا لزم الأمر. أنا لا أحتمل لسان نبوية، فلتسخر منك وحدك إذا شئت، أما أنا فلا. - أمري لله نبيع البقرة. - إذن فأسرع، يجب أن تذهب إلى السوق ونحن ما زلنا في باكر الصباح. - ألا أتناول إفطاري؟ - حين تعود، حين تعود يا عبد الباقي أفندي. توكل على الله. - ألبس الحذاء. - أسرع إذن أسرع. اسم النبي حارسك وضامنك. من يراك يظنك ناظر مدرسة. طول عمرك وأنت وجيه والنبي يا عبد الباقي أفندي. - بالبقرة أكون أوجه. - يا رجل توكل على الله، الأرزاق عنده. - حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.
وأمسك عبد الباقي أفندي بحبل البقرة وخرج إلى الطريق. السماء لم تفرج بعد إلا عن شعاعات قليلة من الشمس، وأنفاس الزرع الأخضر تملأ الأجواء. وانتهب عبد الباقي أفندي شهيقا عميقا. الله، ما أجمل عبير البهائم! حسنين أبو سعد يأخذ جاموسته إلى الحقل، وصالح أبو عرابي يسحب بقرته، وداود أبو إسماعيل ... لقد اشتريت بقرتي يوم اشترى داود بقرته. أيام! كان القطن في تلك السنة قد رمى تسعة قناطير، وكان ثمنه خمسة عشر جنيها، قلت أشتري هذه البقرة أحرث بها الفدانين وأعلقها على الساقية وأشرب لبنها و... و... ولكن سلمى تريد أن تبيعها، لا من أجل وهيبة، ولكن من أجل نبوية. لو لم يكن لمحمدين أم لما بعت أنا البقرة. طبعا الشوار لا بد أن يكون كاملا حتى نغيظ نبوية. سلمى لا تريد أن تسكت نبوية وإنما تريد أن تغيظها، تريد أن تريها أنها جهزت بنتها بما لم تستطع هي أن تجهز به بنتها خديجة. نبوية طيبة، ولكن سلمى مصرة على أن تقول عنها إنها طويلة اللسان. وما لها لا تفعل ما دامت ترى في قولها هذا حجة تجعلني أبيع بقرتي؟ حسبي الله ونعم الوكيل. وهل لا بد لوهيبة أن تتزوج؟ وماذا أصنع بها إن لم تتزوج؟ الحمد لله أنها تزوجت. أتراها ستكون سعيدة في زواجها؟ والله إن زعلها محمدين ... ماذا أفعل؟ إنه طويل عريض لا قبل لي به. وهل الحكاية قوة؟ أجعله هزوة في القرية جميعها. أعطيه ابنتي وأبيع بقرتي لأجهزها ثم هو بعد ذلك يزعلها! ولكن محمدين طيب، لو لم يكن طيبا لما طلب وهيبة. عبد الدايم أفندي كان يريد أن يزوجه ابنته زكية، وعبد الدايم أفندي أغنى مني بكثير، وهو أيضا أقدم مني في المدرسة، وقد يصبح ناظر المدرسة هذا العام أو العام القادم، ومحمدين مدرس جديد يحتاج إلى مساعدة الناظر وتقاريره ليحصل على العلاوات، ولكنه لم يفكر في زكية وخطب وهيبة. البنت وهيبة حلوة ومؤدبة وتعرف القراءة والكتابة، ولكن زكية أيضا حلوة، نعم الحق أنها حلوة، وهي أيضا تعرف القراءة والكتابة. ولكن ما شأننا نحن؟ لقد اختار محمدين عروسه وهيبة ولم يختر زكية. القلب وما يهوى، له في ذلك حكم. ترى كما تساوي البقرة؟ لن أبيعها بأقل من مائة جنيه، مائة على الأقل، ولعلي أستطيع أن أحتفظ بعشرين جنيها أو خمسة عشر أو حتى عشرة جنيهات لأشتري لنفسي حلة جديدة وطربوشا وحذاء. لم أشتر هذه الأشياء منذ أربع سنين. وهل تكفي عشرة جنيهات؟ أحتفظ بخمسة عشر جنيها. ترى هل أستطيع أن أشتري بقرة أخرى؟ من يدري؟ الغيب في علم الله. جميل أن يكون الغيب في علم الله؛ لو عرفت ما سيحدث لي غدا لأصبحت الدنيا كئيبة لا معنى لها ولا جمال. جمال الدنيا مفاجآتها. لعبة من الحظ تتكرر في كل يوم، بل في كل ساعة، في كل دقيقة، بل في كل ثانية، في كل خفقة قلب، في كل شهيق وكل زفير، بل في كل هنية تقع، بين الثانية والثانية، أو بين الشهيق والزفير. سمعت عن رجل خيل إليه أنه عرف مستقبله، وكان مستقبلا سعيدا، ولكنه مع ذلك انتحر؛ لقد فقدت الحياة سحرها في ناظريه فانتحر. ماذا يريد منها وقد عرف كل ما يخبئه له القدر وكل غد. انتحر. من يدري؟ لعلني أشتري بقرة أخرى، لعلني. من يدري؟ كم هي عزيزة علي بقرتي هذه! كم أحبها! ما للطريق مقفر هكذا؟ وحدي فيه أسير. وما الذي أخر الشمس عن الظهور؟ قليلة هذه الأشعة التي ترسلها الشمس، قليلة هي مع هذا القصب الذي يحيق بالطريق متشابك الجذور والسيقان. ماذا؟ ماذا أسمع؟ - قف. - من ... من أنت؟ - قف ولا تكثر الكلام. - أمرك يا عم. ها أنا ذا قد وقفت، ها أنا ذا قد وقفت. - تعال. - إلى أين؟ - تعال وأنت ساكت. - جئت. - اترك هذا. - ماذا؟! - اترك هذا. - أترك حياتي ولا أتركه. - ستترك حياتك إذن وتتركه. - هذه يا عم بقرتي أريد أن ... - لا تطل الحديث. اترك حبل هذه البقرة واتبعني. - أنا في عرضك. - لا تطل.
وفي داخل القصب وجد عبد الباقي ثلاثة شخوص جالسين القرفصاء، لا يبين منهم إلا عيون قادحة بالعظمة والكبرياء، وتكلم أوسطهم: إلى أين أنت ذاهب؟ - إلى السوق. - لتبيع هذه البقرة؟ - أجهز بثمنها ابنتي. - دع البقرة وتوكل على الله. - حياة ابنتي ومستقبلها. - دع البقرة وتوكل على الله. - فقير أنا، فكيف أجهز البنية؟ - ما صناعتك؟ - أدرس في المدرسة، لعلني أعلم أولادكم. - انتظر.
وقال الرجل في الوسط إلى الرجل الذي يجلس على يمينه، وهمس ببضع كلمات، قام بعدها الرجل وانتقل إلى داخل القصب لحظات، ثم عاد فمال على الرجل الأوسط وهمس ببضع كلمات، قال بعدها الرجل الأوسط: اتبع هذا الرجل.
وقال عبد الباقي أفندي هالعا: والبقرة؟!
فقال الرجل في حزم: اتبعه.
وسار عبد الباقي أفندي وراء الرجل، وما هي إلا خطوات حتى وجد نفسه أمام ثلاثة شخوص آخرين، وقال أوسطهم: اسمع يا عبد الباقي أفندي ... - أتعرفني؟ - اسمع ولا تطل الحديث. نحن نعرف حكايتك وقد رأينا أن نشفق عليك. - أطال الله عمرك وأبقاك. - ستأخذ البقرة إلى السوق. - نعم. - وتبيعها، وتأتي إلينا. - نعم . - تأخذ نصف الثمن. - نعم. - ونأخذ نصف الثمن. - نعم. - فقط. - أمرك. - وإن غالطت في الثمن؟ - نعم. - سنقتلك. - نعم! - سنقتلك. - أمرك.
والتفت إلى الرجل الذي قاده إليهم، وقال له في لهجة آمرة حازمة: أعطه البقرة.
وخرج عبد الباقي أفندي ذاهلا عن نفسه حيران لا يفكر في شيء، وسار به الطريق بأقدام لا تعي، وحين بلغ السوق جلس يلهث في جهد كبير، وطلب من بعض من الناس قدحا من الماء، وأتبعه بقدح آخر، ثم قام يسحب بقرته حيث يجتمع تجار البقر. بستين جنيها بل بسبعين، بثمانين، بثمانين، بثمانين، لم تزد. باع عبد الباقي أفندي البقرة بثمانين جنيها، وسار في الطريق الذي جاء منه. أعطيهم أربعين جنيها، وماذا أصنع بالأربعين جنيها الأخرى؟ لقد كان أول ثمن للبقرة ستين جنيها. ماذا يحدث لو قلت لهم إنها لم تأت بأكثر من ستين جنيها، وأشتري أنا الحلة؟ وسلمى ماذا ستفعل؟ هذا حظي وماذا أستطيع أن أفعل؟ ماذا أستطيع ... أن أفعل؟ يجب أولا أن أخفي العشرين جنيها، يجب أن أخفي العشرين جنيها، نعم في الطربوش بين الخوص والصوف في الطربوش. ودخل عبد الباقي أفندي إلى القصب وأخذ من الثمانين جنيها عشرين أخفاها في الطربوش، ووضع الستين جنيها في جيبه كما كانت وعاد إلى الطريق، وحين بلغ المكان المعهود وجد الرجل الذي استقبله في الصباح واقفا، ولم يتكلم الرجل ولا تكلم عبد الباقي أفندي، وإنما تبعه في صمت، ووجد الثلاثة الذين استقبلوه الاستقبال الأول. - هيه يا عبد الباقي أفندي. - نعم. - بكم بعت البقرة؟ - نعم. - بكم بعت البقرة؟ - بستين جنيها. - ماذا؟! - نعم. - ماذا؟! - بستين جنيها. - يا خسارة يا جدع. - نعم. - لقد حكمت على نفسك بالإعدام. - أنا! - لقد بعتها بثمانين جنيها. إعدام، من أجل عشرين جنيها. - أنا! - أنت. - أنا في عرض النبي. - لقد كذبت يا عبد الباقي أفندي، لقد كذبت. - أنا في عرض النبي. - أين العشرون جنيها؟ - أنا في عرض النبي. - أين العشرون جنيها؟
ودون وعي قال: لا أدري. أنا في عرض النبي.
وقال الرجل الأوسط في حزم: خذه فاقتله.
وارتمى عبد الباقي أفندي على قدمي الرجل، وقال الرجل في عظمة هادئة: أستغفر الله العظيم يا عبد الباقي، أستغفر الله العظيم. ولكني لا أستطيع أن أعمل لك شيئا؛ العدل يجب أن يأخذ مجراه.
وحينئذ مال الرجل الذي يجلس على الجانب الأيمن على الرجل الأوسط وهمس ببضع كلمات، ثم قال له: خذه إليهم.
وقال الرجل الذي كان يجلس على الجانب الأيمن: اتبعني يا عبد الباقي أفندي.
وقام عبد الباقي أفندي زائغ النظرات مبهوتا ضائعا، وتعثر خطوتين ليلقي بنفسه أمام الثلاثة الآخرين، وقال أوسطهم: لقد كذبت يا عبد الباقي أفندي. - أنا في عرضك. - لقد وجب قتلك. - من أجل ابنتي التي سأزوجها. - لقد كذبت. - آخر مرة.
والتفت إلى الرجل الواقف وقال له في تسامح: خذ منه المبلغ كله مع ما أخفاه واتركه يمضي.
وقفز عبد الباقي أفندي هاتفا: يحيا العدل، يحيا العدل.
وبأصابع مرتعشة أخرج من الطربوش العشرين جنيها، وأعطاها ليد اختطفتها منه وراح يقفز من القصب، وهو يهتف: يحيا العدل، يحيا العدل.
وراح يجري وينكفئ ويلهث ويقوم ويجري وهو يهتف: يحيا العدل، يحيا العدل.
ودخل القرية وهو يهتف وتحلق حوله الفلاحون، فراح يتفلت منهم وهو يهتف: يحيا العدل.
ودخل بيته وانكفأ على الأريكة: يحيا العدل.
وسألته زوجته: أين ثمن البقرة؟ - يحيا العدل. - البقرة يا عبد الباقي أفندي، أين ثمن البقرة؟ - يحيا العدل.
فهزته زوجته هزة عنيفة وهي تقول: البقرة.
وفي صوت يقطعه نشيج البكاء راح عبد الباقي يقول: يحيا العدل، يحيا العدل.
Page inconnue