La Modernité : Une Très Courte Introduction
الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
ليست كل الأعمال الحداثية تجريبية بهذا الشكل الجلي، ومثالي المستمد من الموسيقى أسهل كثيرا في فهمه ظاهريا، والواقع أنه شعبي من حيث الشكل في الأساس، ومليء بالإيقاعات الراقصة المعاصرة المطعمة بنغمات حداثية «خاطئة». تتبع «أوبرا البنسات الثلاثة»، التي كتبها كيرت فايل لنص من تأليف برتولد بريخت، أسلوب جون جاي من خلال استخدام ألحان شعبية (لكنها أصلية في هذه الحالة) تجعل العمل أقرب كثيرا إلى عرض في ملهى ليلي منه إلى عرض لفيردي أو فاجنر؛ فالمحتالون والشحاذون ومن يديرون ألعاب القمار المقيمون بسوهو، في أواخر العصر الفيكتوري، في رواية بريخت، يسيرون في خط متواز ومتباين مع الأشقياء في «أوبرا الشحاذ» الأصلية التي ألفها جاي؛ ففي رواية جاي، يلعب بيخوم دور شخص يتلقى بضائع مسروقة. أما في رواية بريخت فيقوم بتنظيم مافيا من المتسولين المحترفين. وغالبا ما تكون الأساليب الموسيقية محاكاة ساخرة لأساليب سابقة؛ ومن ثم يتجسد التلميح الضمني مرة أخرى، على سبيل المثال، في المقدمة التي تتخللها لحظات من موسيقى هاندل ومحاولة في موسيقى الفوجا. هذا التذبذب الأسلوبي له وظيفة مهمة؛ إذ يفترض به أن يصعب علينا أكثر أن نصبح مندمجين مع الشخصيات على نحو متواصل ومتعاطف، كما كنا سنفعل في الأوبرا السابقة؛ لذا:
عند الغناء، يقوم الأبطال «بتبني مواقف» وليس إخبارنا بأي شيء عن شخصياتهم أو مشاعرهم الحقيقية، والتي لا يحوزونها على وجه التحديد، على الأقل بأي معنى تقليدي؛ فالعلاقة بين الكلمات والموسيقى ليست إطنابية وغامضة على نحو متعمد؛ فالكلمات يمكنها أن تقول شيئا، بينما تقول الموسيقى شيئا آخر.
وهناك راوي المسرح الذي يصنع سردا «ملحميا» منفصلا للأحداث (ففي النص الأوبرالي الذي يعود لعام 1928، والذي كان بريخت يعتقد أنه تجربة ناجحة في نوع جديد من «المسرح الملحمي»، كان يتم تشجيع المنتجين على عرض النصوص السردية المترابطة على الشاشات). ويعد ذلك استخداما مبكرا لتلك الأساليب الإبعادية أو «التغريبية» التي تشكل أهمية للتطور اللاحق للدراما السياسية البريختية، كما سنرى. والشيء الحداثي المميز هنا هو وجود عداء للأفكار «البرجوازية» المتعلقة بالتعاطف والاندماج؛ لارتباطها بالواقعية التقليدية (كما في أوبرا «فيرسيمو» لبوتشيني، أو الحركة في «الفارس ذو الوردة»، على الرغم من علاقتها بالفالس الفييني الأشبه بمحاكاة ساخرة)، وعليه يكون ابتكار بريخت للعديد من التأثيرات التحررية النقدية التغريبية، المصممة لمساعدة الجماهير، ليس «لاستنزاف» العمل، ولكن للتراجع خطوة إلى الخلف؛ من أجل التفكير والتدبر في الدلالة السياسية للشخصيات في القصة، وليس للتعاطف مع مشاعرهم كأفراد والتغذي عليها. ففي النسخة الأصلية من مشهد الإعدام الأخير، يخرج ماك ذا نايف (أي ماكهيث) من سياق دوره ليجادل، في مواجهة صوت «مؤلف» قادم من وراء الكواليس، بأن المسرحية لا يشترط أن تنتهي بإعدامه.
تشترك الرواية مع كثير من الفن الحداثي في كونها تنأى بنفسها عن الماضي بمحاكاته على نحو ساخر. فدافع «الفعل الدموي» المرتبط بماك ذا نايف يعد محاكاة ساخرة بسيطة لتخصيص فاجنر فكرة موسيقية متكررة للشخصية؛ فتجد القصيدة الغنائية لقواد، ودويتوهات ماكي وبولي الغرامية الكاريكاتيرية مدهشة وغريبة. وعلى ذلك فإن «أوبرا البنسات الثلاثة» ضد الفردية التعبيرية، وضد الرومانسية. وبحسب تعبير فايل في أحد الحوارات عام 1929، مستخدما منطقا يساريا نموذجيا مفاده «بعد هذا، لم يعد لذاك وجود»: «إن هذا النوع من الموسيقى هو رد الفعل الأكثر توافقا تجاه فاجنر؛ فهو بمنزلة دلالة على الانهيار التام لمفهوم الدراما الموسيقية.» وقال فليكس سالتن (في مراجعة للعرض المقدم في عام 1929 في فيينا): إن الموسيقى «مثيرة في إيقاعها كأبيات القصائد الشعرية، وتافهة، وزاخرة بالتلميحات على نحو مدروس ورائع كالقوافي التعميمية، وخفيفة في معالجة الجاز للآلات الموسيقية، ومعاصرة وجريئة ومليئة بالمرح والعنف مثل النص.»
التنويع الأسلوبي
هذه أعمال تشير إلى اتجاهات مختلفة من شتى الأنواع، وسيكون من التضليل استخدامها لوضع أي حدود صارمة «للحداثة» أو لتقديم «تعريفات» لها؛ فقد كانت تضم شتى أنواع الأشياء. وهذا التعدد والارتباك كان واضحا في ذلك الوقت، كما يمكن أن نرى من التعريفات المتناقضة والاستراتيجيات التفسيرية التي طبقت آنذاك على الأعمال الفنية الجديدة. على سبيل المثال، حين شاهد إف إس فلينت، الذي شارك مع إزرا باوند في الترويج لما يسمى «المدرسة التصويرية» في الشعر، باليه «العرض» (1917)، الذي جمع بين موسيقى إريك ساتيه التصويرية المستوحاة من الموسيقى والملابس ذات الطراز التكعيبي من تصميم بيكاسو، ونص أوبرالي ساذج تماما من تأليف جان كوكتو، وذلك في ساحة إمباير ليستر سكوير في لندن؛ تساءل:
أي عبارة يمكن أن تصفه؟ تكعيبي مستقبلي؟ نظم حر حسي ؟ موسيقى جاز من آلة بلاستيكية؟ الشكل الزخرفي الغريب؟ لا يوجد أي انسجام به. إن البرنامج لا يفيد كثيرا. إنه يخبرك أن الفترة هي القرن الثامن عشر، والموضوع يدور حول المحاولات العابثة لمنظمي أحد العروض لجذب العامة للدخول إلى أكشاكهم، ولكنك تبدأ في التساؤل عما إذا كان تحليل البرنامج للباليه المعروض حديثا ليس مجرد جزء آخر من فكاهة السيد ماسين، حين تكتشف «المدير الأمريكي» متنكرا في هيئة ناطحة سحاب، و«المدير» كطرفة معمارية أخرى، ومديري السيرك وقد ارتطموا معا بأظرف أحصنة البانتومايم التي شوهدت على الإطلاق. يسهل تمييز السيد ماسين في دور العراف الصيني، وكذلك الحال بالنسبة لمدام كارسافينا في دور الطفلة الأمريكية المضحكة، لا على طراز القرن الثامن عشر ولكن على طراز القرن العشرين، وقد ارتدت معطف بحار ورابطة بيضاء ضخمة في شعرها، ولا يمكن لأحد أن يخطئ الآنسة نيمتشينوفا والسيد زفيرف في دور لاعبي الأكروبات في رداءيهما الأزرق الضيق.
بحلول تلك الفترة (نوفمبر 1919)، كان هناك، بالنسبة إلى فلينت والآخرين جميعا، العديد من الأساليب والطرق الجديدة وجدت في الفن المعاصر؛ وذلك بفضل الازدهار الكبير للتغيير التقني من عام 1900 حتى عام 1916؛ ففي الفن، تخلى أنصار الحركة الفوفية أو الوحشية، الذين يحذون حذو جوجان وفنسنت فان جوخ، عن اللون المحلي؛ بحيث كان من الممكن أن تكون الشجرة زرقاء، وتخلى التكعيبيون عن منظور النقطة الواحدة، واتجه كاندينسكي نحو نوع من الفن التجريدي لم يبد أنه يمثل الأشياء في العالم الواقعي على الإطلاق. كان جويس منخرطا في الحلقات الأكثر تجريبية من «يوليسيس»، التي كتبت جميعا بأساليب شديدة التنوع، مستخدما جميع شخصيات كتب البلاغة في «أيولوس»، وتحريف موسيقي لمقاطع وقواعد لغوية في «حوريات البحر»، ومحاكيات ساخرة لأساليب النثر من الأنجلو ساكسون حتى الأمريكية الحديثة في «الثيران»، والأدب الشعبي في «نوسيكا»، وكل شكل من أشكال الفانتازيا الدادائية والتعبيرية والسريالية في «سيرس»، وغير ذلك كثير. وقد اخترع أرنولد شونبرج وأتباعه موسيقى لا مقامية رفضت، شأنها شأن الفن التكعيبي، تنسيق العمل بالإشارة إلى نقاط التنظيم المقامية المركزية؛ ومن ثم هجر الترتيب الهرمي للعلاقات الوترية التي ظلت لها الغلبة لقرون، وابتكرت حرية جديدة للترابط بين الأصوات، فصنع إيجور سترافينسكي تكوينات إيقاعية شاذة على نحو بالغ لم يسمع بها من قبل في «طقوس الربيع» (1913)، وقامت التجارب الشعرية لكل من جيلوم أبولينير، وبليز سندرار، وإزرا باوند، وتي إس إليوت، وأوجست سترام، وفليبو توماسو مارينيتي، بتجميع ومجاورة أجزاء السرد والمجاز، مستبعدة العديد من تلك الوصلات المنطقية والنحوية التي كانت فيما مضى تصوغ قصة للقارئ.
كل هذا أدى إلى تنويع أسلوبي في كل واحد من الفنون التي كانت أساسية ومحورية لفترة الحداثة. ويعد بيكاسو معتنقا تقليديا لهذا، وكان يجيد الاستعارة من الآخرين. فعلى مدار مشواره المهني المبكر، راح يتطور بالانتقال من المحاكيات الانطباعية الأولى إلى «المرحلة الزرقاء»، ثم إلى مرحلة تكعيبية، وصولا إلى مرحلة كلاسيكية حديثة. إن تطوره ليس خطيا، وإنما تراكميا ومتشابكا؛ فيتوافر لديه العديد من أساليب التعبير، مثل جويس، وسترافينسكي، وإليوت. فقانون فن الماضي بالنسبة لهؤلاء الحداثيين متاح دوما لإعادة التفسير، والتقليد، وحتى المحاكاة الساخرة أو المزج بين عدة أعمال. وعن ذلك قال بيكاسو: «بالنسبة لي، لا يوجد ماض أو مستقبل في الفن، وشخصية هؤلاء الفنانين هي - في النهاية - ما تجمع الأشياء معا (وهذا هو السبب في إمكانية اعتبار مجموعة «الاقتباسات» الواردة في «الأرض الخراب» لإليوت اعترافا جنسيا، على الرغم من تأييده لفكرة «التجرد»، تماما مثل مجموعة التشويهات غير العادية التي يلحقها بيكاسو بأجساد النساء).
قال بيكاسو: «لو كانت الموضوعات التي أردت التعبير عنها قد أوحت بأساليب مختلفة للتعبير لما ترددت لحظة في تبنيها.» وهذا الاختيار الحداثي للأساليب ليس دلالة على التذبذب وعدم الاستقرار، ولكنه جانب من جوانب الحرية؛ فتنوع الأساليب هو ديمقراطية حرة في الفن. وكما سنرى، فقد كانت الديكتاتوريات النازية والسوفييتية هي التي طالبت بارتداد صريح عن الحداثة، والعودة إلى وحدة رسمية في الفنون متمثلة في الأسلوب الواقعي.
Page inconnue