La Modernité : Une Très Courte Introduction
الحداثة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
1 - الأعمال الفنية الحداثية
2 - الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
3 - الفنان الحداثي
4 - الحداثة والسياسة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - الأعمال الفنية الحداثية
2 - الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
3 - الفنان الحداثي
Page inconnue
4 - الحداثة والسياسة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الحداثة
الحداثة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
كريستوفر باتلر
ترجمة
Page inconnue
شيماء طه الريدي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
الفصل الأول
الأعمال الفنية الحداثية
يبدو مرجحا أن أسلوب الشعراء في حضارتنا، بصورتها الحالية، لا بد أن يكون «صعبا» بالضرورة؛ فحضارتنا تتضمن قدرا كبيرا من التنوع والتعقيد. هذا التنوع وذاك التعقيد، اللذان يلعبان على وتر من الإدراك المصقول، لا بد أن يسفرا عن نتائج متنوعة ومعقدة. ولا بد للشاعر أن يصبح أكثر وأكثر شمولا، وأكثر تلميحا، وأكثر مراوغة، من أجل دفع اللغة، وخلخلتها إن لزم الأمر؛ لتتلاءم مع مقصده.
تي إس إليوت، «الشعراء الميتافيزيقيون» (1921)
أغطية المداخن التي تنبئ بنهاية العالم
تصيح في قبعة الرقيب المخملية
الحمير والطيور الورقية الأخرى
Page inconnue
تقيأت مراسيم بابوية على القط.
محاكاة ساخرة من جيه سي سكوير لقصيدة رباعية كتبها تي إس إليوت
يدور هذا الكتاب حول الأفكار والأساليب التي تخللت الأعمال الفنية المجددة في الفترة من عام 1909 حتى عام 1939. إنه لا يتحدث، في الأساس، عن «الحداثة»؛ أي الضغوط والمتاعب التي وقعت خلال هذه الفترة بفعل فقدان الإيمان بالدين، وتصاعد اعتمادنا على العلم والتكنولوجيا، وتوسع الأسواق، وتحويل كل شيء إلى سلعة بفعل الرأسمالية، ونمو الثقافة الجماهيرية وتأثيرها، واجتياح البيروقراطية للحياة الخاصة، وتغير المعتقدات بشأن العلاقات بين الجنسين. لقد كان لكل هذه التطورات تأثيرات خطيرة على الفنون، كما سنرى، ولكن فكرتي الأساسية هنا تتمثل في التحدي الذي يواجه فهمنا للأعمال الفنية الفردية.
يمكننا استخلاص فكرة أولية جيدة عن طبيعة الحداثة في العمل الفني من خلال النظر إلى بعض الصعوبات التي جالت بذهن إليوت؛ لذا سوف أتناول رواية ولوحة فنية وعملا موسيقيا، وأتساءل إن كان بإمكانها أن تخبرنا عن طبيعة الفن في حقبتها (وتركز الأعمال الثلاثة جميعا على جانب عظيم من الحداثة؛ ألا وهو الحياة في المدينة). سوف أحاول من خلال هذه الأعمال أن أوضح كيف يمكن أن يحدث تفاعل بين الأساليب التجديدية والأفكار الحداثية. وفي غضون ذلك، يتعين علينا تقبل بعض المشكلات الصعبة المتعلقة بالتأويل؛ إذ إن جميعها تنحرف بطرق مثيرة عن المعايير والمبادئ الواقعية للقرن التاسع عشر، والتي لا نزال نعول عليها بوجه عام لفهم العالم، ولكن روايات مثل «ميدل مارش» و«آنا كارنينا» (على الرغم من تركيزها على التوترات التي جلبتها المطالبات الجديدة فيما يتعلق بوضع المرأة) تبدو الآن وكأنها تأتينا من إطار فكري مستقر نسبيا، وتقدم لنا عن طريق راو ودود - بدرجة أو بأخرى - وواضح وذي مصداقية على المستوى المعنوي، ويخلق لنا عالما يتوقع منا إدراكه، وينتمي للماضي. ولكن الفن الحداثي أقل مباشرة من ذلك بكثير؛ فبمقدوره أن يجعل العالم يبدو غير مألوف لنا؛ إذ يعاد ترتيبه من خلال تقاليد وأعراف الفن. «يوليسيس»
تبدو الكلمات الافتتاحية لرواية جيمس جويس «يوليسيس»، للوهلة الأولى، وكأنها قادمة من العالم الواقعي، ولكن المظاهر خادعة، وتصبح أكثر خداعا مع تعمقنا أكثر في الرواية، وتصبح انحرافاتها الأسلوبية أكثر وضوحا، على الرغم من أنها مرتكزة في الأساس داخل تاريخ دقيق إلى حد كبير.
في جلال، طلع باك موليجان من رأس السلم حاملا دورقا مملوءا برغوة الصابون عليه مرآة وشفرة حلاقة وضعتا متصالبتين. كان هناك روب أصفر اللون، غير محزم، مرفوع بخفة من خلفه على نسيم الصباح المعتدل. رفع الدورق إلى أعلى ورتل: - سآتي إلى مذبح الرب.
ثم توقف عن الغناء وأطل برأسه لأسفل نحو الدرج الملتف المظلم وقال بصوت أجش: - اصعد يا كينتش. اصعد أيها اليسوعي المخيف!
يكمن الأسلوب الحداثي الأساسي هنا في صياغة جويس للإشارات الضمنية التي تقودنا لاستشعار حضور بنيات مفاهيمية أو شكلية. وهكذا، وكما يشير هيو كينر في دليله العبقري، في هذا الكتاب، الذي سيوازي أسلوبه السردي أسلوب «الأوديسا» لهوميروس، فإن الكلمات التسع الأولى تحاكي إيقاعات تفعيلة سداسية هوميروسية، والإناء الذي يحمله موليجان أيضا، في عالم التلميح الضمني الموازي، يمثل كأسا قربانية تستقر عليها أدوات حلاقته «متصالبة». والروب الأصفر يحاكي ثياب الكهنة - لأجل تلك الأيام التي لم يكن يحدد فيها لون آخر - ذات اللونين الأبيض والذهبي. وعلاوة على ذلك، فإن كون الروب «غير محزم» (بمعنى أن حزام الروب غير مربوط، كما هو الحال بالنسبة للطقس الكهنوتي الخاص بإثبات العفة) يعني أن الكاهن عريان من الأمام، جاعلا عورته مكشوفة يعبث بها الهواء الخفيف، وهو يعي ذلك أيضا. وكلمة «يرتل» متعمدة؛ ففي أثناء استعداده للحلاقة يعزف أيضا في «القداس الأسود» مع كاهنه العاري. إن الكلمات التي يتحدث بها، والتي تخص «أسقف القداس الكاثوليكي»، مشتقة من نسخة القديس جيروم اللاتينية من كلمات عبرية منسوبة إلى ناظم ترانيم في المنفى: «سوف أصعد إلى مذبح الرب.» لذلك فهو اقتباس من اقتباس من اقتباس، وهو بوجه عام صرخة استغاثة يهودية وسط الاضطهاد.
بالطبع لا يلاحظ من يقرأ لأول مرة كل هذا - أو ربما لا يحتاج لملاحظته - ولكن الكتاب ككل يصوغ مثل هذه المحاكيات، التي تعزز وعينا بالمتوازيات البنيوية المهمة؛ ومن ثم يشير كينر أيضا إلى أنه:
قد نلاحظ أيضا خلال قراءة أخرى لاحقة مدى ملاءمة عبارة مبدئية بعبرية متخفية، فيما يتعلق بكتاب بلوم؛ بطلها اليهودي، النسخة الحديثة من يوليسيس. لاحظ أيضا أنه مثلما يتقمص الكاهن الروماني دور ناظم الترانيم، كان الوعي السياسي الأيرلندي في تلك السنوات يلعب دور «الشعب المختار» الأسير، مثل دور بريطانيا العظمى بالنسبة لبابل أو مصر.
Page inconnue
تعد رواية «يوليسيس» حداثية بشكل نموذجي لأنها، على أقل تقدير، عمل يعبر عن الترابط التلميحي والموسوعي، مع اهتمام هائل بالتغيرات الثقافية التي تطرأ على حياة المدينة شأنه شأن «الأرض الخراب» أو «الأناشيد». ولعل أحد الأشياء التي يحققها جويس من هذا، بالنسبة للرواية، هو تنظيم خرافي وتاريخي أيضا للسرد، وأيضا وسيلة للمقارنة بين الثقافات بطرق ساخرة بشكل متنوع: كيف يكون الأيرلنديون «شعبا مختارا» مضطهدا؟
كثير من تلك الأساليب أساسية لنا لفهم قدر كبير من الفن الحداثي، وأنا أقترح أن بوسعنا فحص «المادة الحداثية» (سواء كانت لوحة أو نصا أو عملا موسيقيا) إلى جانب هذين البعدين: البعد الخاص بفكرة جديدة مثيرة للفكر، والبعد الخاص بأسلوب مبتكر. بالنسبة لجويس (وإليوت وباوند، ومن قبلهما ميلتون وبوب)، كانت فكرتا المقارنة الثقافية والتزامن هما المتاحتين من خلال أسلوب الإشارات الضمنية داخل النص. «المدينة»
شكل 1-1: فرناند ليجيه، «المدينة» (1919). التكعيبية كمجموعة من تصوراتنا للمدينة.
في لوحة فرناند ليجيه الضخمة «المدينة» (1919) (الشكل
1-1 )، علينا أن نواجه تأثير الرسم التكعيبي لبابلو بيكاسو، وجورج براك (ويتجسد الأخير في الشكل
1-2 )، الذي وصفه الناقد الفني لويس فوكسيل في نوفمبر 1908 بأنه «شاب جريء لأقصى الحدود ... يزدري الشكل، ويحول كل شيء من أماكن وأشكال ومنازل إلى أشكال هندسية.» وهذا «التحويل» جزء من نزعة عامة نحو التجريد في الرسم الحديث توجد بأشكال متنوعة في أعمال هنري ماتيس، وخوان جريس، وفاسيلي كاندينسكي، وبيت موندريان، وخوان ميرو، وكثيرين آخرين. وقد كان تأثير هذا على الرسامين أمثال ليجيه يتمثل جزئيا في جعل شكل أو تصميم هندسي سمة أساسية لأعمالهم؛ لأن التكعيبيين كانوا قد دمروا، من عام 1906 حتى عام 1912، الأعراف والمبادئ الواقعية لصالح منظور ثلاثي الأبعاد كان سائدا في الفن منذ عصر النهضة، فكانت الأشياء في اللوحات التكعيبية تقدم على نحو متناقض من أكثر من وجهة نظر داخل نفس سطح الصورة، وهذا أدى إلى:
إنشاء لوحة في إطار شبكة خطية أو هيكل خطي، واندماج الأشياء مع ما يحيط بها، واندماج العديد من الرؤى لشيء ما داخل صورة واحدة، واندماج عناصر مجردة وتمثيلية في نفس الصورة.
شكل 1-2: جورج براك، لوحة «كنيسة القلب المقدس» (1910). تنطوي اللوحة والمبنى على أنواع متنافسة من العمارة الهندسية.
بدا هذا لكثيرين الابتكار الفني الأساسي الذي أتى به العصر الحديث، ومنذ ذلك الحين تأثرت معظم اللوحات به أو عرفت نفسها في إطاره؛ فقد انطوى على انحراف جذري عن الخداع الواقعي. ويمكننا أن نرى هذا التأثير في لوحة ليجيه. وقد وصفها كيرك فارندو بأنها «لافتة إعلانية يوتوبية للحياة المدنية في عصر الماكينات». يمكننا أن نرى كيف أنها تحمل عناصر المنظور المنحسر، مثل السلالم في المنتصف، والتي تتناقض أو لا تتسق مع الأسطح المتداخلة إلى اليسار وإلى اليمين؛ فهناك عوارض، وعمود، وما يشبه ملصق حائط، وربما مدخنة على سفينة، ولكن هذه الأشياء لا تشكل مشهدا متماسكا؛ فهي مرسومة داخل مجموعة من الأشكال المتداخلة شبه التمثيلية. والأشياء التي «يجب» أن ترى قريبة أو بعيدة، وهكذا على مقاييس مختلفة أحدها بالنسبة للآخر، ليست في نصابها الصحيح (على سبيل المثال، الأشكال البشرية الأنبوبية)؛ فالأشياء هنا غير مرتبة وفقا لوسيلة تمثيلية تقليدية، ولكنها وضعت متجاورة من قبل الفنان في حالة من التزامن داخل سطح اللوحة. لقد قام ليجيه بترتيب عدد من العناصر المتمايزة هندسيا، والتي تشبه المدينة من أجل تشكيل تصميم مجرد (ثمة فن مماثل للغاية؛ وهو فن التجاور المتناقض بدلا من الارتباط المنطقي، يوجد في أشعار جيلوم أبولينير وتي إس إليوت في هذه الفترة). وقد استخدم العديد من الفنانين التكعيبيين مواد رائجة (مثل كئوس الخمر، والألواح الفولاذية، والجرائد، وما إلى ذلك) كأساس للوحاتهم؛ ومن ثم فمن المغري أن ننظر إلى لوحة «المدينة» أيضا بوصفها محاكاة لتأثيرات ملصقات الدعاية الضخمة في المدينة (ولذلك خلفت رسوم جيمس روزينكيست التصويرية، المنتمية للفن الشعبي، ليجيه في هذا المقام).
مرة أخرى، يقف جانبان من جوانب الثقافة: شكلية «راقية»، ومضمون شعبي «متدن»، أحدهما في مواجهة الآخر. وهذا النوع من التفاعل يشكل أهمية هائلة للحداثة. إن لوحة ليجيه تعد حداثية؛ لأنها تستغل لغة أو قواعد نحوية جديدة من أجل اللوحة، بمبادئ جديدة للتنظيم، فتجد عناصرها غير متناسقة معا بأي حال من الأحوال كتناسقها داخل القواعد الواقعية. ويبقى اكتشاف تشابه أجزاء اللوحة مع العالم أمرا متروكا لنا، ولكنه يعتمد أيضا على تعلمنا كيفية تقدير نظم التجريد الحديثة، والطرق التي قد تتلاءم فيها على نحو مرض داخل أي تصميم. «أوبرا البنسات الثلاثة»
Page inconnue
ليست كل الأعمال الحداثية تجريبية بهذا الشكل الجلي، ومثالي المستمد من الموسيقى أسهل كثيرا في فهمه ظاهريا، والواقع أنه شعبي من حيث الشكل في الأساس، ومليء بالإيقاعات الراقصة المعاصرة المطعمة بنغمات حداثية «خاطئة». تتبع «أوبرا البنسات الثلاثة»، التي كتبها كيرت فايل لنص من تأليف برتولد بريخت، أسلوب جون جاي من خلال استخدام ألحان شعبية (لكنها أصلية في هذه الحالة) تجعل العمل أقرب كثيرا إلى عرض في ملهى ليلي منه إلى عرض لفيردي أو فاجنر؛ فالمحتالون والشحاذون ومن يديرون ألعاب القمار المقيمون بسوهو، في أواخر العصر الفيكتوري، في رواية بريخت، يسيرون في خط متواز ومتباين مع الأشقياء في «أوبرا الشحاذ» الأصلية التي ألفها جاي؛ ففي رواية جاي، يلعب بيخوم دور شخص يتلقى بضائع مسروقة. أما في رواية بريخت فيقوم بتنظيم مافيا من المتسولين المحترفين. وغالبا ما تكون الأساليب الموسيقية محاكاة ساخرة لأساليب سابقة؛ ومن ثم يتجسد التلميح الضمني مرة أخرى، على سبيل المثال، في المقدمة التي تتخللها لحظات من موسيقى هاندل ومحاولة في موسيقى الفوجا. هذا التذبذب الأسلوبي له وظيفة مهمة؛ إذ يفترض به أن يصعب علينا أكثر أن نصبح مندمجين مع الشخصيات على نحو متواصل ومتعاطف، كما كنا سنفعل في الأوبرا السابقة؛ لذا:
عند الغناء، يقوم الأبطال «بتبني مواقف» وليس إخبارنا بأي شيء عن شخصياتهم أو مشاعرهم الحقيقية، والتي لا يحوزونها على وجه التحديد، على الأقل بأي معنى تقليدي؛ فالعلاقة بين الكلمات والموسيقى ليست إطنابية وغامضة على نحو متعمد؛ فالكلمات يمكنها أن تقول شيئا، بينما تقول الموسيقى شيئا آخر.
وهناك راوي المسرح الذي يصنع سردا «ملحميا» منفصلا للأحداث (ففي النص الأوبرالي الذي يعود لعام 1928، والذي كان بريخت يعتقد أنه تجربة ناجحة في نوع جديد من «المسرح الملحمي»، كان يتم تشجيع المنتجين على عرض النصوص السردية المترابطة على الشاشات). ويعد ذلك استخداما مبكرا لتلك الأساليب الإبعادية أو «التغريبية» التي تشكل أهمية للتطور اللاحق للدراما السياسية البريختية، كما سنرى. والشيء الحداثي المميز هنا هو وجود عداء للأفكار «البرجوازية» المتعلقة بالتعاطف والاندماج؛ لارتباطها بالواقعية التقليدية (كما في أوبرا «فيرسيمو» لبوتشيني، أو الحركة في «الفارس ذو الوردة»، على الرغم من علاقتها بالفالس الفييني الأشبه بمحاكاة ساخرة)، وعليه يكون ابتكار بريخت للعديد من التأثيرات التحررية النقدية التغريبية، المصممة لمساعدة الجماهير، ليس «لاستنزاف» العمل، ولكن للتراجع خطوة إلى الخلف؛ من أجل التفكير والتدبر في الدلالة السياسية للشخصيات في القصة، وليس للتعاطف مع مشاعرهم كأفراد والتغذي عليها. ففي النسخة الأصلية من مشهد الإعدام الأخير، يخرج ماك ذا نايف (أي ماكهيث) من سياق دوره ليجادل، في مواجهة صوت «مؤلف» قادم من وراء الكواليس، بأن المسرحية لا يشترط أن تنتهي بإعدامه.
تشترك الرواية مع كثير من الفن الحداثي في كونها تنأى بنفسها عن الماضي بمحاكاته على نحو ساخر. فدافع «الفعل الدموي» المرتبط بماك ذا نايف يعد محاكاة ساخرة بسيطة لتخصيص فاجنر فكرة موسيقية متكررة للشخصية؛ فتجد القصيدة الغنائية لقواد، ودويتوهات ماكي وبولي الغرامية الكاريكاتيرية مدهشة وغريبة. وعلى ذلك فإن «أوبرا البنسات الثلاثة» ضد الفردية التعبيرية، وضد الرومانسية. وبحسب تعبير فايل في أحد الحوارات عام 1929، مستخدما منطقا يساريا نموذجيا مفاده «بعد هذا، لم يعد لذاك وجود»: «إن هذا النوع من الموسيقى هو رد الفعل الأكثر توافقا تجاه فاجنر؛ فهو بمنزلة دلالة على الانهيار التام لمفهوم الدراما الموسيقية.» وقال فليكس سالتن (في مراجعة للعرض المقدم في عام 1929 في فيينا): إن الموسيقى «مثيرة في إيقاعها كأبيات القصائد الشعرية، وتافهة، وزاخرة بالتلميحات على نحو مدروس ورائع كالقوافي التعميمية، وخفيفة في معالجة الجاز للآلات الموسيقية، ومعاصرة وجريئة ومليئة بالمرح والعنف مثل النص.»
التنويع الأسلوبي
هذه أعمال تشير إلى اتجاهات مختلفة من شتى الأنواع، وسيكون من التضليل استخدامها لوضع أي حدود صارمة «للحداثة» أو لتقديم «تعريفات» لها؛ فقد كانت تضم شتى أنواع الأشياء. وهذا التعدد والارتباك كان واضحا في ذلك الوقت، كما يمكن أن نرى من التعريفات المتناقضة والاستراتيجيات التفسيرية التي طبقت آنذاك على الأعمال الفنية الجديدة. على سبيل المثال، حين شاهد إف إس فلينت، الذي شارك مع إزرا باوند في الترويج لما يسمى «المدرسة التصويرية» في الشعر، باليه «العرض» (1917)، الذي جمع بين موسيقى إريك ساتيه التصويرية المستوحاة من الموسيقى والملابس ذات الطراز التكعيبي من تصميم بيكاسو، ونص أوبرالي ساذج تماما من تأليف جان كوكتو، وذلك في ساحة إمباير ليستر سكوير في لندن؛ تساءل:
أي عبارة يمكن أن تصفه؟ تكعيبي مستقبلي؟ نظم حر حسي ؟ موسيقى جاز من آلة بلاستيكية؟ الشكل الزخرفي الغريب؟ لا يوجد أي انسجام به. إن البرنامج لا يفيد كثيرا. إنه يخبرك أن الفترة هي القرن الثامن عشر، والموضوع يدور حول المحاولات العابثة لمنظمي أحد العروض لجذب العامة للدخول إلى أكشاكهم، ولكنك تبدأ في التساؤل عما إذا كان تحليل البرنامج للباليه المعروض حديثا ليس مجرد جزء آخر من فكاهة السيد ماسين، حين تكتشف «المدير الأمريكي» متنكرا في هيئة ناطحة سحاب، و«المدير» كطرفة معمارية أخرى، ومديري السيرك وقد ارتطموا معا بأظرف أحصنة البانتومايم التي شوهدت على الإطلاق. يسهل تمييز السيد ماسين في دور العراف الصيني، وكذلك الحال بالنسبة لمدام كارسافينا في دور الطفلة الأمريكية المضحكة، لا على طراز القرن الثامن عشر ولكن على طراز القرن العشرين، وقد ارتدت معطف بحار ورابطة بيضاء ضخمة في شعرها، ولا يمكن لأحد أن يخطئ الآنسة نيمتشينوفا والسيد زفيرف في دور لاعبي الأكروبات في رداءيهما الأزرق الضيق.
بحلول تلك الفترة (نوفمبر 1919)، كان هناك، بالنسبة إلى فلينت والآخرين جميعا، العديد من الأساليب والطرق الجديدة وجدت في الفن المعاصر؛ وذلك بفضل الازدهار الكبير للتغيير التقني من عام 1900 حتى عام 1916؛ ففي الفن، تخلى أنصار الحركة الفوفية أو الوحشية، الذين يحذون حذو جوجان وفنسنت فان جوخ، عن اللون المحلي؛ بحيث كان من الممكن أن تكون الشجرة زرقاء، وتخلى التكعيبيون عن منظور النقطة الواحدة، واتجه كاندينسكي نحو نوع من الفن التجريدي لم يبد أنه يمثل الأشياء في العالم الواقعي على الإطلاق. كان جويس منخرطا في الحلقات الأكثر تجريبية من «يوليسيس»، التي كتبت جميعا بأساليب شديدة التنوع، مستخدما جميع شخصيات كتب البلاغة في «أيولوس»، وتحريف موسيقي لمقاطع وقواعد لغوية في «حوريات البحر»، ومحاكيات ساخرة لأساليب النثر من الأنجلو ساكسون حتى الأمريكية الحديثة في «الثيران»، والأدب الشعبي في «نوسيكا»، وكل شكل من أشكال الفانتازيا الدادائية والتعبيرية والسريالية في «سيرس»، وغير ذلك كثير. وقد اخترع أرنولد شونبرج وأتباعه موسيقى لا مقامية رفضت، شأنها شأن الفن التكعيبي، تنسيق العمل بالإشارة إلى نقاط التنظيم المقامية المركزية؛ ومن ثم هجر الترتيب الهرمي للعلاقات الوترية التي ظلت لها الغلبة لقرون، وابتكرت حرية جديدة للترابط بين الأصوات، فصنع إيجور سترافينسكي تكوينات إيقاعية شاذة على نحو بالغ لم يسمع بها من قبل في «طقوس الربيع» (1913)، وقامت التجارب الشعرية لكل من جيلوم أبولينير، وبليز سندرار، وإزرا باوند، وتي إس إليوت، وأوجست سترام، وفليبو توماسو مارينيتي، بتجميع ومجاورة أجزاء السرد والمجاز، مستبعدة العديد من تلك الوصلات المنطقية والنحوية التي كانت فيما مضى تصوغ قصة للقارئ.
كل هذا أدى إلى تنويع أسلوبي في كل واحد من الفنون التي كانت أساسية ومحورية لفترة الحداثة. ويعد بيكاسو معتنقا تقليديا لهذا، وكان يجيد الاستعارة من الآخرين. فعلى مدار مشواره المهني المبكر، راح يتطور بالانتقال من المحاكيات الانطباعية الأولى إلى «المرحلة الزرقاء»، ثم إلى مرحلة تكعيبية، وصولا إلى مرحلة كلاسيكية حديثة. إن تطوره ليس خطيا، وإنما تراكميا ومتشابكا؛ فيتوافر لديه العديد من أساليب التعبير، مثل جويس، وسترافينسكي، وإليوت. فقانون فن الماضي بالنسبة لهؤلاء الحداثيين متاح دوما لإعادة التفسير، والتقليد، وحتى المحاكاة الساخرة أو المزج بين عدة أعمال. وعن ذلك قال بيكاسو: «بالنسبة لي، لا يوجد ماض أو مستقبل في الفن، وشخصية هؤلاء الفنانين هي - في النهاية - ما تجمع الأشياء معا (وهذا هو السبب في إمكانية اعتبار مجموعة «الاقتباسات» الواردة في «الأرض الخراب» لإليوت اعترافا جنسيا، على الرغم من تأييده لفكرة «التجرد»، تماما مثل مجموعة التشويهات غير العادية التي يلحقها بيكاسو بأجساد النساء).
قال بيكاسو: «لو كانت الموضوعات التي أردت التعبير عنها قد أوحت بأساليب مختلفة للتعبير لما ترددت لحظة في تبنيها.» وهذا الاختيار الحداثي للأساليب ليس دلالة على التذبذب وعدم الاستقرار، ولكنه جانب من جوانب الحرية؛ فتنوع الأساليب هو ديمقراطية حرة في الفن. وكما سنرى، فقد كانت الديكتاتوريات النازية والسوفييتية هي التي طالبت بارتداد صريح عن الحداثة، والعودة إلى وحدة رسمية في الفنون متمثلة في الأسلوب الواقعي.
Page inconnue
الأسلوب والفكرة
ولكن هنا يثار السؤال حتما: ماذا كان الهدف من كل هذه التجربة الفنية؟ ما الفكرة التي كانت تحاول توضيحها ؟ يتضمن جزء من الإجابة، بالنسبة للأعمال الثلاثة المستعرضة أعلاه، مقارنة ثقافية، والتزامن المتعارض للتجربة الحضرية الحديثة، والمسافة الحرجة التي أتاحتها المحاكاة الساخرة. وإذا تسنى لنا الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق نحو فهم الفن الحداثي. ونحن بحاجة، على نحو خاص، إلى معرفة كيف كانت هذه التغيرات الفنية مدفوعة بأفكار جديدة، أو تغيرات في المخطط المفاهيمي لفنان من نوعية ثورية. إن الفنان في عملية القيام بالاكتشافات الشكلية يكون مدعوما بتوقع متمثل في أنها ستكون ذات أهمية فيما يتعلق بمحتوى بعينه. أي إنها ستؤدي إلى مكسب معرفي؛ لأن التطور الفني والتجريبي الذي نراه في العمل الحداثي ينبع على نحو شبه دائم من تغيرات عميقة في الافتراضات الفكرية للفنانين. فالأفكار الكامنة في عقول الرجال والنساء، كتلك المتعلقة بالنفس، والخرافة، والعقل الباطن، والهوية الجنسية، والتي أخذها الحداثيون من جهابذة أمثال: فردريك نيتشه، وهنري برجسون، وفليبو توماسو مارينيتي، وجيمس فريزر، وسيجموند فرويد، وكارل يونج، وألبرت أينشتاين وآخرين، هي التي تصنع الثورات الثقافية. فالفكرة - سواء فكرة خلق إشارات ضمنية عبر الثقافات، أو البحث عن نموذج تحليلي شبه علمي - تحفز تغيرا في الأسلوب الفني. وهذه الإنجازات الفذة بطبيعتها «تقدمية»؛ لأنك ما إن تتمكن من إتقان الأسلوب (أو من محاكاته على أقل تقدير، مثلما فعل صغار التكعيبيين؛ أمثال: ألبرت جليزس، وجان ميتزينجر) حتى يصبح بمقدورك أن تفعل شيئا لم تستطع فعله من قبل.
وهكذا قدمت أكثر الأعمال الحداثية تأثيرا إجراءات نموذجية أمكن استخدامها فيما بعد لأغراض متنوعة كثيرة، كجزء من حركة حداثية تقدمية بوجه عام، موجهة نحو «الجديد». ومن ثم تقوم لوحة «المدينة» بتطوير نموذج التكعيبية. وفكرة أن المدينة، مثل جريدة يومية (مثلما أشار المستقبلي مارينيتي)، هي مكان الأحداث المتزامنة التي لا يسعنا سوى وضع أحدها بجوار الآخر. ومع ذلك، تقوم فيرجينيا وولف، التي لم تجد في نفسها الكثير من القبول للنبرة الأخلاقية في «يوليسيس»، بتوسيع نموذجها في روايتها «السيدة دالواي» (1927)، التي تتبع تيار الوعي الخاص بشخصياتها الأساسية على مدى أربع وعشرين ساعة من الحياة في إحدى المدن الكبيرة. وتستخدم نقاطا طوبولوجية وزمنية مركزية لتوجيه الشخصيات والقارئ (فيتحول عمود نيلسون في رواية جويس إلى ساعة بج بن لدى وولف)، وتؤسس حبكتها الدرامية على اللقاء الذهني الذي أرجئ طويلا بين شخصين متضادين: أحدهما صغير، والآخر أكبر سنا.
إذن كي نفهم أي تجديد، نحتاج لفهم النموذج الفكري الذي يستخدمه الفنان أو العالم. يمكننا أن نتساءل ما إن كان مارسيل بروست، أو تي إس إليوت، أو جيمس جويس، أو فيرجينيا وولف قد وضعوا افتراضات برجسونية بشأن الذاكرة وطبيعة العقل أو النفس، أو نتساءل: إلى أي مدى كانت فرويدية ريتشارد شتراوس في «إلكترا»، أو أرنولد شونبرج في «التوقع»؟ غير أنه من أجل نقل قناعة تاريخية، يحتاج الفنان المجدد أيضا إلى أن يكون مدعوما بأدلة على انتشار الفكرة؛ كالإيعاز بتحليل مثير للقلق للطرائق والمعتقدات التقليدية. وهكذا تقدم «أوبرا البنسات الثلاثة» وأعمال بريخت التالية منظورا «تغريبيا» جديدا عن الشخصية الفردية. وفي سياق ذلك، تحاول تشجيع منظور ماركسي مناهض للرأسمالية فيما يخص العلاقات الطبقية. وهذا الجانب من أي معارضة مجددة لما مضى ضروري لوصف الحقب الفنية؛ لأنه يساعدنا على إبراز التغيرات في الحالات الذهنية والشعورية السائدة التي تخللتها؛ ولذلك أتحول في الفصل التالي إلى الحركات الحداثية وعلاقتها بالتقليد الثقافي.
الفصل الثاني
الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
إن «الأرض الخراب» لإليوت في اعتقادي هي التبرير «لحركة» تجربتنا الحديثة منذ عام 1900.
إزرا باوند، خطاب إلى فليكس شيلينج،
يوليو 1922
إن المناخ الفني هنا لا يمكن أن يدعم أي شيء بخلاف الأشياء الأحدث، والأجدد، والأكثر عصرية، والدادائية، والسيرك، والمنوعات، وموسيقى الجاز، والإيقاع المحموم، والسينما، وأمريكا، والطائرات، والسيارات. تلك هي آفاق تفكير الناس هنا.
Page inconnue
أوسكار شليمر في عام 1925 عن حركة الباوهاوس من فايمار إلى ديساو
التعاون الحداثي
في جميع الحقب الزمنية، يميل الفنانون الكبار لمعرفة أحدهم الآخر، وتعاونهم (أو تنافسهم، كما في حالة بابلو بيكاسو وهنري ماتيس) يتأتى من منطلق «ما الذي يجري؟» وهذا المنطلق يمكن أن يتجاوز ذلك الخاص بأي حركة فنية مقيدة ببيان مبادئ . وربما كان كلود ديبوسي هو أول شخص يسمع «طقوس الربيع»، بالجلوس إلى البيانو لعزفها مع ملحنها، الذي كان أيضا صديقا لموريس رافل، وإريك ساتيه، وجان كوكتو، وأندريه جيد، وبول كلاودل، وبول فاليري، وبابلو بيكاسو، وفرناند ليجيه، وأندريه ديرين. وكان بيكاسو، شأنه شأن سترافينسكي، على معرفة وثيقة بالحركة الطليعية الباريسية في جميع الفنون، منذ تصميمه البارع لغلاف مقطوعة سترافينسكي «راجتايم»، الذي أتى من خلال توصية بليز سندرار لدار نشر «إيسيون دي لا سيرين»، وتصميماته لباليه «العرض» لساتيه، الذي أنتجه سيرجيه ديجليف. وغالبا ما تستقى معلومات عن تطور الفن في السير الذاتية أكثر من تلك المستقاة من البيانات أو دعاية النقاد؛ فالتفاعلات العملية المثيرة للأنظار بين سترافينسكي، ورافل، وساتيه، وليون باكست، وألكسندر بينوا، وماتيس، وبيكاسو، وكوكتو، وجيد، وكثيرين آخرين داخل فرقة الباليه الروسي، هي التي أدت للأعمال ذات الطابع الطليعي الواضح، مثل: «طقوس الربيع» و«العرض»، وكذا لأعمال أكثر تقليدية في الفكرة، ولكنها تظل حداثية أسلوبا، مثل: «الكرنفال» المأخوذة عن شومان، أو «الغزلان» لفرانسيس بولانك. وقد كانت فرقة الباليه الروسي من أماكن التجمعات الحداثية البارزة، لا سيما لقدرة ديجليف الفريدة على حث الفنانين الطليعيين على العمل معا.
هذا النوع من التعاون بين الفنانين، وكذلك التعاون الذي قام بين مجموعة بروك للرسامين التعبيريين (إرنست لودفيج كيرشنر، وإيريش هيكل، وماكس بيشتاين وآخرين) أو بين شونبرج وآلبان بيرج وأنطون ويبرن، الذين عملوا جميعا معا بود وصداقة خالصة، هو الذي منحهم، ومنحنا أيضا، معنى «الحركة الحداثية» كنزعة عامة في ذلك العصر، مثلما حدث عندما قرأ باوند وإليوت الحلقات الأولى من رواية جويس «يوليسيس» في النسخة المطبوعة، وأدركا أن التوازيات بين الماضي والحاضر يمكن أن تتاح من خلال الإشارة الضمنية، وبعدها كتبا «الأناشيد» و«جيرونشن» و«الأرض الخراب». ويمكن قراءة مقاله «التقليد والموهبة الفردية» (1919)، بما يحمله من تأييد لوجود وعي لدى المؤلف بأن «كل الأدب في أوروبا بدءا من هوميروس، وفي القلب منه كل أدب بلاده، له وجود متزامن، ويشكل نظاما متزامنا» كتبرير لأعمال المؤلفين الثلاثة في هذا الوقت. ومع ذلك، فغالبا ما تترك لنا مهمة استنتاج النوايا الفنية؛ لأن الحداثيين العظماء لم يكونوا دائما يشرحون أفكارهم أو يكتبون بيانات؛ فقد ابتكر بيكاسو وبراك الحركة التكعيبية دون أن ينبسا بكلمة واحدة توضيحية عنها؛ فقط اكتفيا بمشاهدة ومناقشة النشاط العملي أحدهما للآخر في الاستديو. ويمكننا فقط استنتاج ما طرأ عليهما من «تطور» في الفترة من عام 1907 إلى 1915 من التكعيبية «التحليلية»، والتي تعنى في الأساس بتشويه هندسي وعر لجسم الشيء من وجهات عديدة، في نوع من الوحدة اللونية، مع وجود دلائل قليلة للغاية على اللون المحلي (بحيث يمكن أن يبدو رأس في لوحة وكأنه منظر طبيعي لصخور) نحو تكعيبية «تركيبية» أكثر استيعابا، وتستخدم ألوانا أكثر بكثير، وأشكالا هندسية أكثر تسطحا، ويمكن أن تبدو كعناصر مجمعة على سطح لوحة من قماش القنب.
حتى الأشكال الأكثر إثارة على مستوى الوعي الذاتي والمستوى السياسي من الاستفزاز الفني، مثل «بيانات الحركة المستقبلية» العديدة (عن الرسم، والموسيقى، والرغبة، وما إلى ذلك) غالبا ما لا تعدو كونها مجرد تحالفات مؤقتة بين الفن والفكرة. وقد كان المستقبليون والدادائيون، على الجانب الآخر، يسيرون على نفس نمط هؤلاء الذين كانوا يفضلون العمل في إطار اتجاه نظري متشدق، كان يدعي أنه «طليعي» من خلال انتشار الأفكار الثورية. ثمة تطورات أخرى في البيانات كانت أكثر توجها نحو الجانب الفني؛ ومن ثم يقوم باوند بدفع إف إس فلينت لكتابة بيان للشعر التصويري يؤيد «المعالجة المباشرة «للشيء»، سواء كانت موضوعية أم ذاتية»، والتركيب «في تسلسل الجملة الموسيقية»، وما إلى ذلك.
مفاهيم التطور: الفن والتجريد
كانت مثل هذه الأفكار في غاية الأهمية بالنسبة للحداثة كحركة فنية منغمسة في حقبة من حقب التغير الفكري الكبير. وهكذا لا يكون هناك غرابة في أن أصبحت الأفكار الخاصة بالتطور «الضروري» للفن جزءا مهما من الحركة في العموم؛ وكان هذا يعني أن التفسير النقدي كان لازما تماما مثل البيانات. ومن الأمثلة الجيدة على نوعية التغير الحداثي التي كانت بحاجة إلى تفسير وشرح نمو التجريد في الرسم، والذي انطوى على هدم لتقاليد واقعية القرن التاسع عشر، من أجل صناعة فن حداثي يرفض أي أهداف نحو التحلي بشفافية خانعة، حتى وإن كانت عبقرية، تجاه العالم. ولذلك أصر على وجود وعي المشاهد بالتقاليد الخاصة بالعمل الفني، ومن ثم جلب علاقة إيحائية أكثر انحرافا بكثير تربط العمل بالعالم.
كان هناك تطوران أساسيان؛ الأول، كما لاحظنا بالفعل، هو تحرر الرسم من تجسيد «اللون المحلي الحقيقي»، والذي أتاح للون الخالص خلق تأثيراته العاطفية الخاصة، كما في أعمال فان جوخ الأخيرة، وأعمال ماتيس. وقد كان لذلك أهمية بالغة على نحو خاص بالنسبة لكاندينسكي، الذي كان يرى أن:
لون الزنجفر يجذب ويهيج كشعلة لهب يركز عليها رجل نظرته الجائعة؛ فلون أصفر ليموني متوهج يسبب ألما بعد فترة، تماما مثلما تؤلم النغمات العالية للبوق الأذن؛ فتزداد العين تهيجا، ولا تستطيع تحمل الأثر لفترة طويلة للغاية، وتبحث عن سلام عميق في الأزرق أو الأخضر.
ومع هذا التطور، سار تطور آخر أكثر تأثيرا، يتمثل في ظهور إدراك متصاعد بقيمة تبسيط الشيء في الرسم. ويوضح ديسموند ماكارثي هذا في تمهيده لكتالوج معرض لندن لفن ما بعد الانطباعية عام 1910، باستخدام استعارة مجازية موسيقية (توحي أيضا على نحو شبه دائم بأن الرسم، مثل الموسيقى، له لغته «الخاصة»)، فيقول إن:
Page inconnue
هذا البحث عن تناغم مجرد للخطوط من أجل إيقاع متناغم قد تم الوصول به إلى حدود بعيدة غالبا ما تحرم الشكل من كل لمحات الطبيعة. إن التأثير العام للوحات ماتيس هو تأثير أقرب للعودة إلى الفن البدائي، بل ربما عودة إلى الفن البربري ... إن الفن البدائي، مثل فن الأطفال، لا يقوم على محاولة لتجسيد ما تدركه العين بقدر ما يقوم على محاولة لوضع خط حول تصور ذهني للشيء.
كان كلا المنهجين بمنزلة ضربة قاصمة لاستقلالية العمل الفني؛ بسبب الطريقة التي نرغم بها على التفكير في العمل في إطاره الفردي الخاص، وليس كمجرد مرآة للواقع؛ فاللون بمجرد أن ينفصل عن التجسيد المحلي يمكن «تنسيقه»، كما يذهب ماتيس، لخلق تأثير موسيقي:
لا بد أن ينتج عن العلاقة التي وجدتها في جميع الدرجات اللونية تناغم حي بين الألوان؛ تناغم مماثل لتناغم مقطوعة موسيقية.
واجه روجر فراي الجمهور المحافظ بشأن هذه القضايا، وحاول توضيح مميزات الفن الجديد في المعرض الثاني لفن ما بعد الانطباعية عام 1912، من خلال إدخال مفردات نقدية جديدة:
لا يبحث هؤلاء الفنانون الآن عن إعطاء ما يمكن، في النهاية، ألا يكون سوى صورة منعكسة باهتة للمظهر الفعلي، ولكن يبحثون عن إيقاظ القناعة بحقيقة جديدة وقاطعة. إنهم لا يسعون لتقليد الشكل، وإنما يسعون لخلق شكل. لا يسعون لمحاكاة الحياة، بل لإيجاد مكافئ للحياة. أعني بذلك أنهم يتمنون خلق صور من شأنها، من خلال وضوح بنيتها المنطقية ووحدة تركيبها المحبوكة بدقة، أن تروق لخيالنا الفاتر والمتأمل بشيء بنفس الإشراق والوضوح مثلما تروق الأشياء في الحياة الواقعية لأنشطتنا العملية. في الواقع، هم لا يستهدفون الخيال، بل يستهدفون الواقع.
إن هذا يؤكد على تأملنا للعمل الفني في حد ذاته، وهو أمر في غاية الأهمية؛ فنحن نستشعر «تلك الوحدة الزخرفية للتصميم التي تميز جميع فناني هذه المدرسة». وماتيس، على وجه الخصوص، إنما «يستهدف إقناعنا بأشكاله من خلال استمرارية وتدفق خطه الإيقاعي، ومن خلال منطق علاقاته المكانية، وفوق كل ذلك من خلال استخدام جديد تماما للألوان».
شكل 2-1: هنري ماتيس، لوحة «المحادثة» (1909-1912). تجريد بالغ التعقيد في الرسم بدا في الأساس مجرد نوع من السخف والصبيانية.
ويمكننا أن نرى بعضا من هذا في لوحة رائعة؛ هي «المحادثة» التي يعود تاريخها لعام 1909-1912، والتي عرضت في المعرض الثاني لفن ما بعد الانطباعية في لندن في عام 1912 (والمستنسخة في الشكل
2-1 ). التناغمات اللونية في هذه اللوحة، بالأزرق وبالأحمر والأخضر، مذهلة للغاية. وهناك تباين عاطفي قوي بين الألوان المستخدمة للغرفة والحديقة، فتجد أزرق باردا وأسود بداخله، وأخضر دافئا وأحمر من الخارج. والأشكال المستخدمة للشجر وحوض الزهور تحاكي أشكال الزوجين اللذين يتحادثان، ولكنها لوحة بالكاد معبرة؛ فأشكال ماتيس وزوجته أميلي تقليدية جدا وجامدة؛ فهي مبنية على مسلة ل «حمورابي» تقع أمام الآلهة الجالسة شاماش، والتي كان ماتيس قد شاهدها في متحف اللوفر. فتبدو أميلي وكأنها تعطي أوامر، وإجابتها قد تكون هي «لا» التي نستطيع رؤيتها في الأشغال الحديدية الموجودة في الشرفة. ولكن تبسيط الأشكال، والإحساس بوجود توازن متعمد، وافتقاد الاهتمام بالتفاصيل المكانية هو ما يبرر ادعاء هذه اللوحة بانتمائها للتجريد الذي وصفه فراي وزملاؤه. وكما يوضح، فإن:
الحد المنطقي لمثل هذا المنهج سيكمن بلا شك في محاولة التخلي عن كل تشابه مع أشكال الطبيعة، وخلق لغة مجردة على نحو بحت للشكل؛ أي موسيقى مرئية. وأعمال بيكاسو الأخيرة تظهر ذلك بوضوح كاف.
Page inconnue
لم يكن فراي قد شاهد سوى بعض من أعمال كاندينسكي الأولى في لندن في هذه الفترة، إلا أن تنبؤه بشأن تجريدية تقدمية، الذي قام على افتراض أن تأثيرات الرسم التجريدي يمكن أن تزداد تشابها مع تأثيرات الموسيقى أكثر وأكثر، يتأكد من خلال الطريقة التي تزداد بها الرمزية التنبئية للقلاع والأبراج والرماح والقوارب في أعمال كاندينسكي الأولى صعوبة في إدراكها وتمييزها أكثر وأكثر. تعود اللوحة المستنسخة هنا (الشكل
2-2 ) إلى الفترة من 1915-1921، حين اتجه إلى الأشكال العضوية البحتة، ثم التجريدية الهندسية (في الباوهاوس)؛ ففي لوحة «البقعة السوداء»، بإمكاني أن أرى عقربا محتملا، وربما قاربا ومجاذيف، في موقعها المعتاد لدى كاندينسكي، في أسفل الجهة اليسرى، وربما أجزاء من الرسم التخطيطي لزوجين مضطجعين - وهي إحدى أفكاره المعتادة - فوق القارب مباشرة. لكن قد يكون ذلك وهميا؛ فالألوان وديناميكية العلاقات بين الأشكال هي العامل المهم هنا. وبالنظر إلى لوحات تلك الفترة، تجد جيلينا هول-كوتش نفس الصعوبة التي أجدها في الإجابة عن سؤال: «متى بدأ كاندينسكي، في الواقع، إدخال عناصر مرئية جديدة وحرة تماما لا تحمل أي شبه للأشياء الطبيعية، أو أي نوع آخر من الأشياء المألوفة في لوحاته؟» لكن لا شك أن الهدف الأسمى هو الوصول إلى تجريدية أكبر. يمكننا أن نرى هذا في أبهر صوره في السلسلة المدهشة المكونة من عشرة «مؤلفات» رسمها كاندينسكي من عام 1910 حتى 1939.
شكل 2-2: فاسيلي كاندينسكي، لوحة «البقعة السوداء» (1921). التجريدية العضوية تبتعد عن التجسيد الطبيعي متجهة نحو الأشياء الخيالية.
ويتكرر ظهور الأفكار الخاصة بالتجريد في جميع لغات أوروبا، في محاولة لإظهار أن الفنانين الحداثيين قد عملوا «على نحو تقدمي» على التخلي عن التناظر الفوتوغرافي، وكأن الهدف هو أن يصبحوا «تجريديين» أكثر وأكثر، ولكن، مثلما رأينا، بطرق شديدة الاختلاف (أبدي بيت موندريان أسفه لعدم وصول بيكاسو مطلقا لهذه المرحلة).
لغات جديدة للفنون
يفسر هذا النوع من التقدم الحداثي كتطوير وتعديل لما مضى؛ ومن ثم يمكن توضيح الصلات بأي فن سابق بشكل أكثر وضوحا، ولكن هؤلاء الفنانين الذين غيروا اللغة الأساسية للفن كانوا الأكثر تطرفا بشكل واضح. والشخصيات البطولية في بداية الحقبة الحداثية - بيكاسو، وجويس، وكاندينسكي، وشونبرج، وسترافينسكي، وباوند، وإليوت، وأبولينير، ومارينيتي - جميعهم فعل هذا فيما يتعلق بفنونهم الخاصة؛ فنجد بيكاسو مع «آنسات أفينيون» (1907) بشخصياتها العارية القبيحة المنفعلة البائسة، وببعض وجوهها التي تشبه الأقنعة الأيبيرية، فيما كانت الأخرى مشوهة مثل وجوه مرضى الزهري. وهناك جويس مع الصفحات الأولى من مقاله «لوحة الفنان» (1914)، التي تعد تجسيدا استثنائيا للتجربة المرئية وتيار الوعي لدى طفل صغير. وشونبرج مع الحركة الأخيرة من مقطوعته «الرباعية الوترية الثانية» (1908)، التي يطفو فيها الصوت الذي أضافه بشكل مطرد إلى أعلى داخل «النغمة الجديدة» لموسيقى ليس بها نقاط مرجعية مقامية. وسترافينسكي مع «طقوس الربيع» (1913) بوحشيتها البدائية يتبعها تغيرات متنافرة غير مسبوقة في الإيقاع، ثم اندفاع أوجي أخير في «رقصة الأرض»، وفيها ترقص فتاة عذراء حتى الموت على سبيل التضحية.
كذلك تحدت الترابطات الحرة غير المنطقية للشعراء؛ أمثال: أبولينير، وسندرار، وباوند، وإليوت، وجوتفريد بن، وجاكوب فان هوديس، وأوجست سترام وآخرون، اللغة الأساسية للترتيب المنطقي، ودلالاتها بالنسبة للتوافق الاجتماعي. فترى بروفروك؛ بطل قصيدة إليوت، يقول: «لنمض إذن»، لننطلق عبر شوارع بوسطن القذرة، التي قد تقودنا نحو «سؤال ملح» مثلما تفعل القصيدة ذاتها. ولكن في قصيدة تحوي - على الأقل - خمسة عشر سؤالا، من الصعب تحديد الملح منها، لما كانت جميعها تتسبب فيما يبدو في حرج لبروفروك. إن الفكرة المجددة لهذه القصيدة لا تعتمد فقط على ما تحويه من مجموعة مدهشة من التلميحات، لكل من دانتي، ولافورج، وهسيود، وسفر الجامعة، ومارفيل، ويوحنا المعمدان وآخرين، ومحاكياتها الساخرة الأسلوبية لشكسبير وسوينبرن، من ضمن كثيرين آخرين، وإنما تعتمد على العمل غير المسبوق الذي تظل تدفعنا للقيام به، عبر مساحاتها البيضاء العديدة، والتي تعد أيضا فجوات مفاهيمية بين الفقرات التي تتبع منطقا ترابطيا وليس سرديا، وليس لها حتى ترتيب متماسك نفسيا. هل حقا يواجه بروفروك ألغاز الكون وأسراره، أم هو مجرد رجل واسع الاطلاع والتخيل بشكل عميق مذعور من الذهاب إلى حفل شاي ليغازل امرأة جذابة؟ كما هو الحال مع قدر كبير للغاية من الفن الحداثي، فإن القارئ أو المشاهد أو المستمع هو المنوط بإيجاد علاقة جزء بالذي يليه، ثم الذي يليه، في إطار عملية اقتفاء ومعرفة منطق يختلف تماما في الواقع عن منطق الفن الذي جاء قبله، والذي يظل يمثل تحديا بعد مرور مائة عام.
كان هذا السعي لإيجاد طريقة جديدة جذريا ومحددة تماما لترتيب أي عمل فني أساسيا لبعض الفنانين لتصورهم لمهمتهم؛ مثل هؤلاء الذين اتبعوا شونبرج في خروجه عن حدود المقامية المتدرجة لمقطوعته «الرباعية الثانية» و«بييرو في ضوء القمر»، نحو تطوير تقاليد جديدة للموسيقى الاثنتي عشرية. ويوضح شونبرج - بشكل خاص - الطريقة التي أراد بها هؤلاء الفنانون الطليعيون الذين استهدفوا إحداث تغيير جذري في النموذج، أيضا أن تدون أسماؤهم في «تاريخ فني» تقدمي. ولذلك يهاجم هؤلاء الذين يتجاوزون «القوانين» أو «القواعد» التي كان يرى (ببعض المبالغة) أنها قد «شرعت» للموسيقى الألمانية، ولكنه بعد ذلك توصل إلى بعض القوانين الخاصة به، مخبرا تلميذه جوزيف روفر في صيف 1921 أنه قد توصل إلى «اكتشاف ستضمن الموسيقى الألمانية بفضله تفوقها وسيطرتها على مدى الأعوام المائة القادمة». وقد جاء أول توضيح لسمات وخصائص نظامه الجديد «للنغمات الاثنتي عشرة» للعالم في مقال تلميذه إرفين شتاين بعنوان «المبادئ الشكلية الجديدة» في عام 1924. بشكل بسيط للغاية، لا بد أن تبنى الحركة الموسيقية للعمل من «صف» واحد من النغمات، وهي «المجموعة الأساسية» التي تستخدم جميع النغمات الاثنتي عشرة للسلم الكروماتيكي، بترتيب ثابت يظل كما هو بلا تغيير على مدار المقطوعة. يمكن وضع سلسلة النغمات في اللحن المعاكس، أو الترجيع، أو الترجيع العكسي، والبدء من أي نغمة من النغمات الاثنتي عشرة (وهذا يعني أن المؤلف لديه ثمانية وأربعون صفا من النغمات متاحة لأي مقطوعة، ولكن النموذج يتضمن، بالرغم من ذلك، عددا مذهلا من القيود).
كانت مقطوعة «خماسية آلات النفخ» لشونبرج، المقطوعة رقم 26 عام 1924، هي أول مقطوعة طويلة يتم تأليفها بالكامل وفقا لهذا المنهج (وهذا العمل هو ما يدرسه سترافينسكي عن كثب في عام 1952، بعد سنوات، في إطار «تحوله» إلى منهج شبه تسلسلي في التأليف). من الممكن أن تبدو الموسيقى الاثنتي عشرية شبيهة إلى حد كبير بنمط معياري للبناء الهندسي - بما تحويه من قواعد لاتباعها قد تقضي على أي نوع من التعبيرية الشخصية - وكان التبرير لهذا الإجراء بالنسبة لشونبرج علميا بشكل موضوعي؛ فقد زعم أن تجاربه قد كشفت عن الطبيعة الحقيقية للعلاقات بين الأصوات، من خلال اكتشاف توليفات من النغمات اللافيثاغورثية. والمذهل في الأمر أنه بحلول 23 يوليو من عام 1925، كان آلبان بيرج قد كتب كونشيرتو الحجرة، الذي يعد عملا منهجيا رسوليا للغاية، ووصل بالتأليف الموسيقي اللامقامي والاثني عشري إلى مستويات معقدة ورمزية رقمية. غير أن تفصيلة «المنهج» الاثني عشري لا تهم كثيرا بقدر أهمية المزيج الغريب من «الأفكار» الطليعية عن أهميته الفلسفية وشبه العلمية التي نسبها إليه شونبرج ومترجموه، وأبرزهم تيودور دبليو أدورنو.
لذلك غالبا ما يوجد نوع من «العلمية الزائفة» في كثير من النشاط الحداثي؛ وهو توجه نحو العالم الحديث يطالب بأن تستخدم الفنون طرائق إنشائية عقلانية حتى نصل إلى مستوى أكثر بساطة من الواقع، والذي غالبا ما يخال أنه مألوف بالنسبة للفن والعلم (بل وللكون ككل). وقد أطلق بيت موندريان وأتباعه في حركة دي ستيل هذه النوعيات من المزاعم، وزادوا الأمور تعقيدا بأن أضافوا إليها طبقة ميتافيزيقية من اللاهوت الصوفي. فحين ننظر إلى لوحات موندريان في الفترة ما بين 1917 و1921، نرى عملا يبدو خاليا من موضوع يتسم بالمحاكاة والتقليد، عدا نفسه؛ لأنه ينتمي لتقليد حداثي له آراء نظرية قوية حول استخدام لغة مقيدة محكومة بقواعد من الخطوط المستقيمة والأسطح اللونية المستطيلة. لقد أنتج فنا تجريديا كان «منقى» مقارنة بفن الآخرين، ولكنه أيضا (بطريقة كانت منبئة بالتجريد الهندسي اللاحق) يسفر عن أسلوب يسهل تمييزه سريعا. على سبيل المثال، تتسم لوحة «تكوين بالأحمر والأصفر والأزرق والأسود» تعود لعام 1921 (الشكل
Page inconnue
2-3 ) ب «توازن ديناميكي من القوى المتعارضة»، يوجد به «أسطح حدية ضيقة» إلى جانب مربع أحمر كبير، «يطغى» على بقية المساحة، مما يسمح ب «مجموعة متنوعة من القراءات المكانية والمتناسبة»؛ إذ إن «المساحة الحمراء الكبيرة تقابل بالعديد من الأسطح الصغيرة التي لها دور داعم تراكمي».
شكل 2-3: بيت موندريان، «تكوين بالأحمر والأصفر والأزرق والأسود» (1921). التوازن والتناغم في تشكيل رياضي.
ثمة غموض استثنائي شبه فلسفي في كتابات موندريان عن فن كهذا؛ لأن صيغته للتكوين، وللتأثير المتوقع للوحاته، كلاهما يقع تحت نفس المفاهيم شديدة العمومية، مثل «العالمية» أو «العلاقة اللونية المتوازنة»، فيبدو أن لوحاته ترفض التعبير الفردي؛ لأنه «فقط حينما يتوقف الفرد عن كونه عقبة في الطريق يمكن للعالمية أن تتجلى بوضوح»، فالهدف في تناغم داخل العمل؛ ومن ثم: «يسمح «إيقاع» العلاقة بين اللون والبعد (في «التناسب والتوازن» الحتمي) للمطلق بالظهور داخل نطاق نسبية الزمان والمكان.» ويعتمد استمتاعنا بأعمال موندريان (إن لم يكن إعجابنا الفلسفي به) على شعورنا بالتناغم والتوازن، وشعور حدسي بأن أبعاد اللوحة مثيرة بشكل لافت (يفترض أن يكون هذا التوازن مملا، ولكن كما أوضح وادينجتون، لا تندرج أبعاد لوحات موندريان تحت أي نسب رياضية واضحة).
يعد موندريان نموذجا جيدا للأفلاطونية الحديثة، وكذلك «التشكيلية الجديدة» في لوحاته، ومعه نرى بداية مهمة للمطالبة بفهم الفن، بوصفه تجسيدا للمفاهيم ذات الطابع المادي لأي نظرية (والذي يحظى بتاريخ طويل، وصولا إلى الفن المفاهيمي لفترة ما بعد الحداثة)؛ نظرا لأنه كان مدفوعا لإيجاد لغة داخل اللوحة تتبع قناعاته الدينية والفلسفية بشأن البساطة (بعيدا عن أي دلالة رمزية أو إشارة إلى أشياء واقعية، كتلك التي توجد في أعماله السابقة).
إن الفلسفة بمنزلة دافع للرسم. ويعد هذا من الدوافع المألوفة لدى فناني حركة دي ستيل، ولآخرين في هذه الفترة، ممن كانوا يتعقبون حلم إيجاد لغة تتسم بالبساطة والوضوح والتحديد والكفاية، تتجاوز حدود الألغاز البراجماتية للحياة اليومية. ومع قيام شونبرج وآخرين بإعادة كتابة القواعد اللغوية المقامية للموسيقى التي كانت مقبولة فيما مضى، بحث موندريان وزملاؤه عن قواعد لغوية للرسم من شأنها أن تكون مستقلة عن التقليد المحلي، ولكنها، شأنها شأن موسيقى شونبرج، قريبة إلى «واقع أكثر بساطة». من الصعوبة بمكان أن ترى في هذا النوع من الأعمال أي شيء يسبب هذه التأثيرات المزعومة له. ربما تعمل بمنزلة رمز، من خلال تذكير تابعيه بمعتقد ديني تصوفي، ولكن تأثيراته تأملية إلى حد كبير؛ ومن ثم تعمل على تغيير الفرد. ويمكن لمثل هذه الأعمال، بوصفها تصميمات متناغمة، وليس كرموز دينية، أن تمنح قدرا كبيرا من المتعة.
الحداثة والحركات الفنية
هل كان الفنانون الذين ناقشناهم أعلاه جزءا من «الحركة الحداثية»؟ الأمر ليس على هذا النحو إذا كان يشار بذلك ضمنيا إلى مجموعة واحدة من الأفكار المتفق عليها مركزيا، كأفكار حزب سياسي، على الرغم من أن بعضا منها، كما أشرت، حقق انتشارا واسعا للغاية. وبالنظر إلى التعددية والانشقاق اللذين يميزان هذه الفترة، يمكن أن نرى أن الجماعات الطليعية الحداثية: الفيكتوريين، والتصويريين، والمدرسة الفيينية الثانية، ودي ستيل، والدادائيين، والسرياليين وما إلى ذلك، قد أحدثوا تغيرا جيليا خطيرا. وحين تجتمع الجماعات ذات العقليات المتشابهة قليلا أو كثيرا، كما في الحركة الفيكتورية، يمكننا أن نرى أن باوند وإليوت وجويس ولويس وآخرين مثل هولمي وفلينت، اللذين كانا على اتصال وثيق بهم، قد تعاونوا معا بشكل مؤقت، في «حركة» يتجلى من خلالها وعى ذاتي جمعي بأقصى وضوح، ولكن على نحو زائف في الغالب، تجلى من خلال بيان أحدهم، كما في عددين من أعداد مجلة «بلاست» لويندهام لويس، ما يترتب عليه، كما يعتقد، إحداث «ثورة حديثة عظيمة» في جميع الفنون، ضد «الشعيرات الباكية» و«التآخي مع القردة» لدى الفيكتوريين. لقد كانت بالنسبة له ولباوند نهاية الحقبة المسيحية.
نفس الوعي الذاتي يؤثر على كاندينسكي وشونبرج في الفترة من عام 1909 حتى عام 1914، وكذلك الأعضاء الآخرين لجماعة «الفارس الأزرق» (ومنهم أوجست ماك، وفرانز مارك، وجابرييل مونتر). وفي مطبوعتهم «التقويم» الصادرة عام 1912 دليل على تغير مماثل للأفكار في ميونيخ. وهذا يعني أنه قبل ظهور «النظرية» بزمن طويل، لا يتسنى فهم كثير من الفن الحداثي إلا من خلال التنظير شبه الفلسفي، اللاهوتي، والسيكولوجي الذي ساعد على الإيحاء بها، كما في أعمال مثل «الجانب الروحي في الفن» (1912) لكاندينسكي، و«رؤية» (1925) لدبليو بي ييتس، وكتابات جماعة دي ستيل.
كما سنرى، تبنت بعض الجماعات الطليعية منهجيات قصدت أهدافا سياسية مباشرة بشكل أوضح، كان أبرزها في بداية الحركات التعبيرية والمستقبلية الألمانية، والدادائية في ألمانيا بعد عام 1918، وفي برامج الباوهاوس التي كانت معنية بشدة بالحداثة، وخاصة بمكانة التكنولوجيا في المجتمع؛ نظرا لأن فن العمارة السائد في الحقبة هو ما يبقى معنا، ويقدم تعريفا لحقبة ماضية؛ فلا يزال الفن المعماري لمدرسة الباوهاوس المبتكر حديثا في ذلك الوقت، وتصميم الأثاث، وقواعد الطباعة معنا إلى اليوم. وكانوا معنيين، بشكل خاص، بالعلاقات المتغيرة بين الإنسان والآلة. وبحسب تعبير موهولي-ناجي، في مقال بعنوان «البنائية والبروليتاريا» (مايو 1922):
واقع قرننا هو التكنولوجيا؛ اختراع وإنشاء وصيانة الآلات؛ فأن تكون مستخدما للآلات يعنى أنك أصبحت بمنزلة روح هذا القرن؛ فقد حلت محل الروحانية المتسامية للعصور الماضية.
Page inconnue
ويردف قائلا:
إن الجميع سواء أمام الآلة، فأنا أستطيع استخدامها؛ إذن يمكنك أنت أيضا. من الممكن أن تسحقني، ونفس الشيء يمكن أن يحدث لك. لا وجود للتقاليد في التكنولوجيا، ولا وجود للوعي الطبقي. كل إنسان يمكن أن يكون سيدا أو عبدا للآلة.
غالبا ما كان المقصد من مثل هذه البرامج المثالية أن تكون ديمقراطية وعادلة، وإن ندر أن تكون كذلك في الواقع، كما أوضح فيلم تشارلي شابلن «الأزمنة الحديثة» (1936) لقطاعات جماهيرية ضخمة عبر أوروبا وأمريكا.
ثمة منهج كوميدي بنفس الشكل، ولكنه يحمل تهديدا للتعامل مع الآلة تم تبنيه أيضا من قبل فرانسيس بيكابيا ومارسيل دوشامب، خاصة في الفترات التي كانا فيها معا في نيويورك، بين عامي 1915 و1917، ينشران الأفكار المشابهة للدادائية، ويصبح لهما تأثير هائل على تطور الحداثة في أمريكا. وتأخذ لوحة بيكابيا «العهر العالمي» عام 1916 (الشكل
2-4 )، وهي واحدة من عدد من الأعمال التي تحمل فكرة مشابهة؛ الاستجابة الحسية الجسدية بعيدا عن أي تجسيد للمرأة كآلة، وتتضمن قدرا كبيرا من كراهية النساء. في هذه الفترة، أعلن بيكابيا أن «عبقرية العالم الحديث تكمن في الآلات ... إنها حقا جزء من حياة الإنسان؛ وربما هي جوهر الروح.» يمكن للمرء أن يقدر الاستعارات المجازية الخاصة بالطاقة والتكنولوجيا المتضمنة في هذه اللوحة، وفي تجسيد بيكابيا «لفتاة أمريكية صغيرة» في صورة شمعة احتراق؛ فهي في الأساس جسم حديث يتم التحكم فيه بواسطة الرجال (كما في قصيدة إي إي كامينجز «إنها تتجدد»؛ حيث يقارن تحكم الذكر في العلاقة الحميمة بقيادة سيارة). ويمكن أن نجد تطورا في غاية التعقيد لهذه الاستعارة المبكرة، المستوحاة بشكل هزلي، من الأناركية والدادائية للجنس وحداثة الآلة في لوحة دوشامب الشهيرة «الكأس الكبرى» (1915-1923) والأعمال التي مهدت لها.
شكل 2-4: فرانسيس بيكابيا، «العهر العالمي» (1916). البشر كما ينظر إليهم في عصر الآلة.
إن الانتشار العام للأفكار من خلال التفسير النقدي للحقبة (كما في أعمال فراي وبل المستشهد بها أعلاه)، وليس فصاحة وبلاغة البيانات؛ هو ما يقربنا لأقصى حد للتغيرات في الفكر والشعور التي يمكن أن تحدثها خبرة الأعمال الفنية الجديدة. وكانت استجابات العديد من الكتاب، مثل استجابات فوكسيل وأبولينير إزاء المرحلة الأولى من التكعيبية؛ هي ما وسعت نطاق استقبال لغة الفنانين الجديدة؛ وذلك من خلال ابتكار أساليب خطاب مقاربة لتفاصيل الأسلوب المستخدم. لذلك ثمة فجوة بين وعينا بالقصدية المجددة لدى براك وبيكاسو في 1910-1911، والتأويلات الاستنباطية اللاحقة لأعمالهم، التي ساعدت على ظهور مفهوم الطليعية التكعيبية، على سبيل المثال، في أعمال جليزس ومتزينجر والدعاية لمعرض «جماعة المقطع الذهبي» بحلول عام 1912.
وهذا النوع من الاستقبال هو ما أصبح من خلاله الفنانون في جميع الأوساط على وعي بحركة أوروبية أرادت أن «تجدد»، وظنت نفسها «حديثة» أو «حداثية».
الكلاسيكية الجديدة
غير أنه يجب التمييز بين هذا النوع من التغير الطليعي الواعي بالذات في لغة الفن، وبين رغبة ربما تكون أبسط وأكثر ملاءمة من الناحية الاجتماعية في «التجديد»؛ فالكثير من الفنانين لم تكن لديهم الرغبة في اعتبارهم مقيدين بشكل أو بآخر، سواء لخير أو لشر، داخل الحس الدعائي لشخص آخر للميول «الرجعية» أو «التقدمية». ويعد سترافينسكي مثالا سيئا لهذا؛ فقد أنتج بعضا من أكثر أعمال القرن العشرين ثورية، إلا أنه لم ينتم أبدا لأي حركة حداثية من النوعية المذكورة أعلاه. ومع ذلك، كان من المدهش بعد باليهاته التجريبية والميالة للمواجهة والصدام - وأبرزها «طقوس الربيع» (1913)، و«حفل الزفاف» (1914-1917، أوركسترا 1923) - أن يتجه لإنتاج أعمال مثل «بولسينيلا» (1919-1920)، بلغة أسهل كثيرا، بل بأسلوب كلاسيكي جديد يعتمد على المحاكاة. وقد اشتق هذا الباليه، الذي يصاحبه أغنيات من موقع الأوركسترا، من توزيع موسيقي وإعادة تأليف جزئية للغاية لأعمال تنسب في الأساس لبيرجولزي، فيما تولى بيكاسو تصميم الأزياء. كان الباليه كلاسيكيا وواضحا، ولم يكن يحمل الطابع الروسي على الإطلاق، وكان فرنسيا ولم يكن ألمانيا؛ ومن ثم كان أقرب بشكل خطير لأن يكون مجرد محاكاة ومزج بين أعمال أخرى من هذه الفترة؛ مثل: باليه «متجر الألعاب السحري» لراسبيجي-روسيني (1919)، و«السيدات المرحات» لتوماسيني-سكارليتي (1917)، والتي كانت أيضا عبارة عن إعدادات أفضل وأكثر إثارة لموسيقى سابقة.
Page inconnue
ظن سترافينسكي أن «بولسينيلا» عمل ثوري آخر، في وضعه للأصوات الأوركسترالية جنبا إلى جنب وكأنها تباينات لونية (على سبيل المثال، في الثنائي الجازي الرائع بين آلة الترومبون والكونترباص)، ولكن العمل كان ساحرا أكثر من اللازم لدرجة جعلته لا يبدو تجريبيا، والدمج بين اللحن الرشيق وشخصيات الكوميديا المرتجلة ذات الطابع الكلاسيكي الجديد التكعيبي لبيكاسو جعل العمل (والفضل في ذلك يرجع مرة أخرى إلى دياجليف) عصريا بشكل جدي. بحلول عام 1934، استطاع كونستانت لامبرت أن يشكو من أن «أي ملحن بلا غريزة إبداعية وبلا إحساس بالأسلوب، يمكنه أن يأخذ كلمات من العصور الوسطى، وينظمها على طريقة بيليني، ويضيف إيقاع القرن العشرين، ويطورهما بالطريقة التسلسلية والشكلية المميزة للقرن الثامن عشر، وأخيرا يقوم بتلحين العمل برمته بآلات الجاز.» ولكن سترافينسكي لم يكن من هذا النوع من المؤلفين، والباليهات الكلاسيكية الجديدة العظيمة التي تلت «بولسينيلا»، بدءا من «أبوللو» ووصولا إلى «آجون»، التي اعتمدت جزئيا على الموسيقى الاثنتي عشرية؛ تعد الآن أساسية لذخيرة الباليه الحديث؛ بفضل عبقرية تصميمات الرقصات التي وضعها جورج بالانشين.
اتهم سترافينسكي من أتباع شونبرج بالارتداد الرجعي والفشل في إدراك الجدلية الداخلية لتطور فني تقدمي بحق لغة الفن:
اعترض سترافينسكي: «كلا، كلا! إن موسيقاي ليست موسيقى حديثة ولا موسيقى للمستقبل، إنها موسيقى اليوم؛ فلا يمكن للمرء أن يعيش في الأمس ولا الغد.» «ولكن من هم الحداثيون إذن؟»
ابتسم سترافينسكي قائلا: «لن أذكر أي أسماء، ولكنهم هؤلاء السادة الذين يتعاملون مع صيغ كبديل عن الأفكار. وقد فعلوا ذلك كثيرا جدا لدرجة جعلتهم يضعون كلمة «حديث» تلك تحت طائلة الشبهات. أنا لا أحبها. لقد بدءوا بمحاولة الكتابة لكي يصدموا البرجوازيين، وانتهوا بإرضاء البلاشفة.»
علم شونبرج بهذا الحوار، فقام بكتابة رد في مقاله «إيجور سترافينسكي: مدير المطعم» بتاريخ 24 يوليو 1926، وجاء في سطره الأول: «إن سترافينسكي يسخر من الموسيقيين المتلهفين (على عكس ما يفعل؛ فهو يريد ببساطة أن يؤلف موسيقى اليوم) لتأليف موسيقى المستقبل.» ها نحن هنا أمام اثنين من كبار المؤلفين الموسيقيين (وأتباعهما) يصارعان من أجل كسب تأثير طويل المدى: شونبرج الذي يقدس باعتباره موسيقيا تقدميا، وسترافينسكي الذي تعرض للتشهير والذم (من قبل أدورنو في عام 1948) لسقوطه في حالة من الارتداد «الصبياني» أدت إلى الأعمال الكلاسيكية الجديدة التي تعتمد على المحاكاة والمزج.
يصبح هذا الفارق، بين أن تكون جزءا من حركة منظمة نوعا ما وبين مجرد الاستغلال «المعاصر» لأسلوب رائج أو عصري؛ أكثر أهمية مع زيادة تسييس التطورات الحداثية. فيمتثل شونبرج، في رأي أدورنو، للقوانين الداخلية للتاريخ، من منظور ماركسي. وبحسب تعبيره في الجزء المعنون «شونبرج والتقدم»، في كتابه «فلسفة الموسيقى الحديثة»:
إن القواعد (وتحديدا قواعد الموسيقى الاثنتي عشرية) لم توضع اعتباطا، إنها تكوينات من القوة التاريخية الموجودة في المادة . في الوقت ذاته، تعتبر هذه القواعد صيغا تضبط بها نفسها لتواكب هذه القوة. وفيها يتولى الوعي زمام الأمور من أجل تنقية الموسيقى من رواسب المخلفات العضوية المتحللة (تحديدا مخلفات الأساليب السابقة). هذه القواعد تشن حربا ضروسا ضد الوهم الموسيقي.
هذه نظرية ماركسية كتبت في علم الجمال، بإدراكه لوجود جدلية داخلية للتاريخ، وتحديه «للوعي الزائف» للبرجوازية الفردية، وهي متضمنة داخل التقليد الموسيقي المقبول حتى الآن.
ولكن الاتجاه إلى فن الماضي في عشرينيات القرن الماضي لا يبدو كذلك للمشاركين فيه؛ إذ إن هذه المزاعم التلميحية بالاستمرارية قد اتخذت شكلا حداثيا ساخرا ومحاكيا بشكل مميز، اندمج بشكل مباشر ونقدي مع الافتراضات الاجتماعية لجمهوره. وقد كان ذلك مهينا للغاية؛ من حيث إنه أعقب فترة من التجريب الشكلي شديد الجدية بعد الحرب. وكما أشار بول ديرميه: «إن فترة من الوفرة والقوة لا بد أن يعقبها فترة من التنظيم، والتقييم، والعلم؛ أي عصر كلاسيكي.» فيما رأى بيير ريفردي أن «الفانتازيا قد مهدت الطريق لحاجة أكبر لإيجاد بنية». وكان لهذه الإعادة لتقييم علاقة الفنان بالماضي دورها في تأسيس حس جمالي بالوعي الذاتي الأسلوبي؛ ومن ثم تأسيس وعي حاد بالتناقض بين الحداثة والماضي. «لقد كانت «بولسينيلا» هي اكتشافي للماضي، ولحظة التجلي التي أصبحت من خلالها كل أعمالي اللاحقة ممكنة»، على حد قول سترافينسكي. فينظر إلى العمل في إطار تاريخ الفن، والأسلوب المخصص للسخرية التي تعد سمة بارزة من سمات الفن الحداثي الرفيع: «إن التقليد محفوظ: فتتحول سمات الفالس أو الجالوب أو المارش إلى نماذج نمطية، وتتم المغالاة فيها عن عمد، وتعطى طابعا ساخرا؛ ومن ثم توضح النماذج المبدئية عن طريق رسوم الكاريكاتير»، وليس فقط في أعمال سترافينسكي، بل أيضا في أعمال لو سييز، وبروكوفيف، وشوساتكوفيتش، ورافل، وكثيرين آخرين، ولكنه أيضا يتيح في أعمال أكثر جدية مثل «اللحن الثماني» لسترافينسكي، والذي تعود جذوره إلى الطباق (أو مزج الألحان) الباخي، إحساسا أعمق بالتقليد. وكان سترافينسكي يفكر فيها في إطار مصطلحات مستعارة من فن الرسم، كشيء مكاني مشابه للتجريد الهندسي: «إن عملي «اللحن الثماني» ليس عملا «عاطفيا»، ولكنه مقطوعة موسيقية بنيت على عناصر موضوعية كافية في حد ذاتها ... شيء له شكله الخاص. ومثل جميع الأشياء له وزن ويشغل حيزا من الفراغ.» وبحسب تعليق ميسينج:
في هذا العمل، يظهر سترافينسكي في ضوء البنائي، في ضوء الهندسة؛ فكل أفكاره تترجم إلى سطور تتميز بالدقة والبساطة والكلاسيكية؛ والصدقية المطلقة لكتاباته، المتجددة دائما، تكتسب هنا في جفافها ودقتها قوة وسلطة دون تكلف.
Page inconnue
تعتبر هذه التعددية الأسلوبية، وإمكانية الوصول التي تتأتى في بعض الأحيان من التبسيط سمة نموذجية مألوفة لفترة ما بعد الحرب، التي أصبحت فيها الأساليب الحداثية عصرية، وتمثل دلالة على حدوث زيادة كبيرة في الأعمال الفنية التي تعتمد على هذا التلميح القياسي التاريخي. وكل هذا كان جزءا من «دعوة لمراعاة النظام» انتشرت في فترة ما بعد الحرب في الفنون (ارتبطت أيضا لدى المزيد والمزيد من صغار الفنانين، باستدعاء محافظ، بوجه عام، للأشكال الوطنية والقومية من النظام في مجال السياسة). واتجه الحداثيون من شتى الأطياف إلى تكييف أعمال الماضي، وإلى الانتقائية الأسلوبية، وإلى المحاكاة الساخرة، وإلى النزعة الإحيائية المميزة للكلاسيكية الحديثة، وما إلى ذلك.
شكل 2-5: فرناند ليجيه، «الفطور الكبير» (1920-1921). لوحة من الأثريات التكعيبية تترك مساحة محدودة لشبق التجسيدات السابقة للعري.
شكل 2-6: بابلو بيكاسو، «ثلاث نساء على النبع» (1921). لوحة تجسد النساء كتماثيل: الكلاسيكية الجديدة في منافسة مع أسلافها.
على سبيل المثال، تبتعد لوحة فرناند ليجيه «الفطور الكبير» [«الفطور، النسخة الكبرى»] (شكل
2-5 ) عن الاحتفاء التزامني بالحداثة في «المدينة» لتتجه نحو نسخة آلية من الكلاسيكية الجديدة. هؤلاء «جوار»؛ ما يذكرنا بالرسام جان أوجست دومينيك إنجر المنتمي للكلاسيكية الحديثة، فيما يبدو لون الجلد الرمادي اللامع وكأنه مصقول ومنحوت؛ ما يعيد إلى الأذهان الشكل البطولي الرزين المتماسك لسيدنا داود، وفي تورم أجساد النساء، ما يعيد إلى الأذهان الأسلوب الكلاسيكي لنيكولا بوسان، بطريقة مشابهة لأعمال بيكاسو ذات الطابع الكلاسيكي الحديث لهذه الفترة، مثل «ثلاث نساء على النبع» (1921) (شكل
2-6 )، حتى إن بيكاسو قد أجرى دراسة كارتونية بالطباشير الأحمر مستوحاة من عصر النهضة من أجل هذه الصورة النحتية، والتي تشير ضمنا إلى لوحة بوسان «إليزر وريبيكا عند البئر» (1648)، ولكن أكثر ما تشبهه هو منحوتة جنائزية إغريقية. ويغلب على اللوحة بالتأكيد طابع الحزن والتقيد، وهو ما يعد تناقضا؛ نظرا لأن الموضوع عادة ما يشير ضمنا إلى الاحتفال بالخصوبة. وتشير إليزابيث كولينج إلى أن اللوحة قد تكون تجسيدا لحالة الحزن والحداد التي سادت بعد الحرب.
لم يكن هذا الفن قط مجرد فن طارد، أو يعتمد على المحاكاة الساخرة. وهذا هو الفارق، مرة أخرى، بين الكلاسيكيين الجدد وأتباع ما بعد الحداثة؛ فالكلاسيكية الجديدة في الفنون تستعين بأفكار المجرد، والمطلق، والمعماري، والخالص، والموجز، والمباشر، والموضوعي، وتمثل علامة لعودة إلى إيمان باللغة «العالمية» للفن، وليس إيمانا بالاستحداث الجذري للغات جديدة.
كذلك بدا انتقال بيكاسو إلى أسلوب كلاسيكي حديث محاكيا بشكل علني للبعض وكأنه تخل عن التجريب الطليعي (لقد كان أيضا مهتما بتقليد إنجر في لوحته التي رسمها لمدام فيلدشتاين، على سبيل المثال). وقد ذهب جون برجر فيما بعد إلى أن مثل هذه الأعمال:
ليست مرضية أو عميقة مثل الأعمال الأصلية؛ نظرا لوجود فاصل من الوعي الذاتي بين شكلها ومحتواها. فطريقة رسمها أو تلوينها ليست نابعة مما يرغب بيكاسو في قوله بشأن موضوعه، ولكنها نابعة، بدلا من ذلك، مما يرغب بيكاسو في قوله بشأن تاريخ الفن ... [فهو] يمنح مدام فيلدشتاين قناع أعمال إنجر، وكان باستطاعته أن يمنحها قناع لوتريك، ولكنه كان سيصبح منفرا اجتماعيا.
التقليد المتبع
Page inconnue
إن أعمال إزرا باوند وتي إس إليوت «أوروبية» الطابع بشكل واضح ... فالشاعر «الأوروبي» لديه وعي كبير جدا بالعالم الاجتماعي الذي يعيش فيه، وينقده، ولكن بأسلوب تهكمي وليس بأسلوب ساخط، ويؤقلم نفسه عليه، ويهتم بمخزونه المتراكم من الموسيقى والرسم والنحت، بل وحتى بتحفه الثمينة القديمة. وإذا كان الشاعر منخرطا في التقليد «الأوروبي»، فإنه يصف عناصر الحضارة أينما وجدها: في روما، في بلاد الإغريق، لدى كونفوشيوس، أو حتى في كنيسة العصور الوسطى، ويعقد مقارنة بين ما تتسم به عناصر تلك الحضارة وعنف الحياة المعاصرة وفوضاها .
لقد اتخذ الحداثيون منظورا شديد الاتساع للثقافة وجدوا فيه أنفسهم؛ فلا تزال مطالبة إليوت ب «حس تاريخي» بها متسع لماري لويد و«تلك العبارة الشكسبيرية» في «الأرض الخراب». ومع ذلك، إذا قرأت القسم الأول من القصيدة منفردا، فسوف تضطر على الأقل لمعرفة قدر عن تشوسر، وشكسبير، وفاجنر، والعهد القديم، والأسطورة الإغريقية، وأسطورة «النبات»، وبودلير، وما إلى ذلك. في الواقع، وبحسب تعبير إليوت في مقاله «التقليد والموهبة الفردية»: «ليس فقط الأجزاء الأفضل، ولكنها الأجزاء الأكثر فردية من عمل [الشاعر] هي الأجزاء التي قد يؤكد فيها الشعراء الراحلون؛ أي أسلافه، على خلودهم بأقصى قوة.» لأن الأصالة الطليعية هنا نابعة من طريقة استخدام اختيارات إليوت من قواعد ومبادئ الأدب الأوروبي، حسب رؤيته له، لتشكيل وجهة نظر معقدة عن العلاقة بين الحضارات عبر الزمن. وهذا الاستعداد لتعديل أعمال الماضي شائع لدى جويس، وبيكاسو، وسترافينسكي، وبيرج، وشونبرج، وتوماس مان وكثيرين آخرين. والتقليد بالنسبة لسترافينسكي «ينتج من قبول واع ومدروس ... فالطريقة تتبدل: (بينما) التقليد يتم ترحيله من أجل إنتاج شيء جديد. وهكذا يؤكد التقليد استمرارية الخلق». كان حداثيو القرن العشرين يتأملون تأملا واعيا علاقة وتناقض أعمالهم مع أعمال الماضي التي ينافسونها؛ فأعمالهم متأثرة بالتاريخ، وتمارس تأثيرها من خلال تكرار الأفكار والموضوعات (التي تمنحها العالمية)، ومن خلال تباين متزامن مع الماضي (الذي ينقل في أحيان كثيرة للغاية سخرية نسبية). ومع ذلك، فثمة اختلاف كبير للغاية بين تقليد كورال لباخ في «أوبرا البنسات الثلاثة»، والذي يوحي بانحدار الدين إلى عاطفة رخيصة وغير صادقة، وبين اقتباس كورال باخ «يكفي هذا» من مقطوعة الكانتاتا «الخلود، أنت صوت الرعد»، التي تشكل ذروة رثائية بشكل لا يحتمل لمقطوعة «كونشرتو الكمان» لبيرج. ويمنح كلا المؤلفين عمقا في المعنى لأعمالهما، بتوقع تقبلها والاعتراف بها؛ ومن ثم يمكن لشيء من السياق النصي الأصلي أن يكون بمنزلة أثر عاطفي للعمل الحديث. ومثل هذه التأثيرات تتجاوز مجرد المزج والمحاكاة؛ لأنها ليست مجرد انحرافات أسلوبية، ولكنها تثير شعورا بالتوافر الخالي من الحنين - بوجه عام - لأعمال من الماضي كمعايير لمشاعرنا في الحاضر.
وقد وضعت هذه التوزيعات جزءا كبيرا من الحداثة داخل حركة أوروبية بشكل واع للذات؛ فآمن باوند وإليوت وجويس (أي أمريكيين وأيرلندي واحد) ب «عقل أوروبا»؛ الذي رأوا أن أفكار هنريك إبسن، ونيتشه، وبرجسون، وفرويد، وأينشتاين، ومارينيتي وآخرين قد قدمت له إسهامات حيوية. وكان جميع الحداثيين الكبار على وعي بالغ بلغات وثقافات أخرى، حتى عندما كانوا أيضا منشغلين انشغالا عميقا باهتمامات قومية (مثل ييتس، الذي كان لديه اهتمام شديد بالثقافات الهندية واليابانية وكذلك الكلتية)، فكان نطاق قراءات ييتس، ومان، وجيد، وجويس، وسترافينسكي، على سبيل المثال، واسعا بشكل مذهل. وكانت إشارات بيكاسو المرجعية إلى الرسم، وإشارات شونبرج وبيرج إلى موسيقى الماضي، جامعة بشكل مماثل، وكانت أعمالهم على نفس الدرجة من التعقيد مثل أعمال إليوت وجويس في هذا المقام.
ولكن لا يوجد حداثيون كبار في أوروبا لم تكن أعمالهم مستوحاة - بشكل كبير - من الثقافات القومية غير الأوروبية، متضمنة جوانب من الثقافات غير الغربية في كثير من الحالات، كما في سيمفونية مالر «أنشودة الأرض»، ومسرحيات ييتس المحاكية لمسرح النو وأشعاره الأخيرة، وديوان «كاثاي» لباوند»، ومسرحيتي «المرأة الطيبة من سيتشوان» و«دائرة الطباشير القوقازية»، ورواية «سيدهارتا» لهيسه. وكان الرسامون التعبيريون الألمان، وبيكاسو في المرحلة الأولى من حياته، وداريوس ميلهود، وسترافينسكي، ودي إتش لورانس من بين الحداثيين العديدين المهتمين بما كانوا يعتقدونه ثقافات «بدائية»، وأغلبها من الثقافات الأفريقية، وتكييفها داخل الفن الأوروبي.
اعتمد تطور الفن التجريبي أو المتقدم في أمريكا بشكل كبير أيضا (في المرحلة الأولى) على امتصاص للثقافة الأوروبية، وكان ذلك واضحا للغاية في حالات والاس ستيفينز، وإي إي كامينجز، والأعمال الأولى لويليام كارولز ويليامز، الذين كانوا جميعا من الفرانكوفيل.
كان لويليامز وستيفينز اهتمام خاص في هذا المقام؛ نظرا لمعرفتهم بالرسم ما بعد التكعيبي، لا سيما عند عرضه في نيويورك في «معرض مخزن الأسلحة» عام 1913. وبحسب وصف ويليامز:
في باريس، كان الرسامون بدءا من سيزان حتى بيكاسو يرسمون لوحاتهم القماشية الثورية على مدى خمسين عاما أو أكثر، ولكن عندما وقعت عيناي على لوحة مارسيل دوشامب «عارية تهبط السلم» انفجرت ضاحكا من الارتياح الذي جلبته لي! لقد شعرت كما لو أن عبئا هائلا قد رفع عن روحي، وهو ما شعرت نحوه بالامتنان على نحو جامح.
إن تخليه عن التسلسل السردي، على سبيل المثال في مجموعته الشعرية «إلى من يريده»، يجعل قصائده أشبه كثيرا بلوحات فنية؛ فقد أراد إحداث تأثير مثل تأثير الرسم الحديث، كما في الصورة البصرية في قصيدة مثل «الشكل المنظوم». وقد قاده هذا إلى اهتمام بالشيء أو الجسم (كما في أعمال سيزان والتكعيبيين)؛ ومن ثم بتطوير الحياة الجامدة الديناميكية في الشعر؛ فالقصيدة، من وجهة نظره، مثل أعمال الفن المرئي، جسم حر مستقل بذاته له شكله الخاص.
ويقول في مقدمة كتابه المنتمي للسريالية الأولية «كورا في الجحيم»: إن «القيمة الحقيقية تكمن في تلك الميزة الخاصة التي تمنح شيئا ما شخصية خاصة به، والقيمة الترابطية أو العاطفية زائفة.» وتعد قصيدته «آلام الربيع» (ضمن المجموعة الشعرية «إلى من يريده» التي قد ترجع إلى أواخر عام 1916) محاولة لتجربة الرسم التكعيبي في الكلمات. ويتضح تفتيته للعبارات والصور الذهنية في «الشخصية العظيمة». وهي قصيدة ترجمت إلى رسم على يد تشارلز ديموث، في لوحته «رأيت الرقم 5 بالذهب» [1928]، والتي رسمها بالاشتراك مع ويليامز. في هذه الفترة، كان يبحث عن الموضوع «الأمريكي» المميز (إلى جانب ستيجليتز وديموث وهارتلي). وفكرته عن الجديد راسخة بقوة في التقنيات والأساليب الحداثية، ولكنها كانت بحاجة إلى موضوع أمريكي جديد بالقدر نفسه لكي تصبح مستقلة، في الشعر، عن التقليد ذي الطابع الأوروبي، المتبع من قبل باوند وإليوت؛ ففي الأجزاء النثرية من «الربيع وغيره»، يقوم بتوليف قيم التجريد مع رغبته في اكتشاف الشيء الأمريكي (مثل المصورين والرسامين في جماعة ستيجليتز) في «الواقع المرئي للمشهد الأمريكي». ويشير دجيسكترا إلى سلسلة «صباح يناير» المؤلفة من خمس عشرة قصيدة في ديوان «إلى من يريده»، التي يحوي كل منها شيئا أو اثنين يلاحظان عن كثب؛ «من أجل تشكيل «مجموعة» صور فوتوغرافية في الأساس»، وتعد قصيدة عربة اليد الشهيرة نموذجا لها.
كان والاس ستيفينز يتسم دائما بطابع «أمريكي» من خلال عمله في إطار نوع من التقليد الإيمرسوني الرفيع، ولكنه أيضا، شأنه شأن ويليامز، كان شريكا لرعاة الفن والتر أرسينبرج وكارل فان فيشتن؛ ومن ثم كان على وعي جيد بالواقع الطليعي في الرسم، بما في ذلك لوحة دوشامب الشهيرة «عارية تهبط السلم»، التي شاهدها في شقة أرسينبرج. ويتجلى تأثر لوحاته الأولى تأثرا واضحا بالنسبيات المماثلة في التجربة المرئية، واشتهر كثيرا في زمانه حين أظهر هذا في قصيدته «ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى الشحرور» (1917). آنذاك كان النظم الحر لستيفينز المصوغ ببراعة وإبداع دليلا كافيا جدا على طليعيته. وتعد قصيدته «الرجل ذو الجيتار الأزرق»، المنشورة عام 1937، بمنزلة تلخيص رائع لرؤيته للفن الحداثي، وفلسفة تعاطينا مع العالم. إنها تأمل ممتد للتشكيل الفني الحداثي للواقع من جديد، في الشعر والرسم.
Page inconnue
كانت الحداثة الأوروبية بالنسبة لكاتب أحدث نوعا ما، مثل ويليام فوكنر، تمثل جزءا كبيرا مما كان يعرفه؛ فقد كان يقرأ لجويس وآخرين؛ ومن ثم قام بتطبيق أساليب تيار الوعي الخاصة بهم بقوة؛ فشخصية كونتن كومبسون في روايته «الصوت والغضب» (1929) شخصية واسعة التفكير والثقافة، وتلميحية، وذات ميول شعرية مثل بروفروك وستيفن ديدالوس. وينظر إليه في السياق الجدلي لعائلة كومبسون، وتأثيرات تاريخ ما بعد الحرب الأهلية في الجنوب، الواقعة عليهم جميعا. وكل هذا يتم إدراكه بتفاصيل دقيقة كأي شيء في دبلن، كما تناولها جويس. يسير مع هذا جنبا إلى جنب ترتيب خرافي ورمزي في شدة التعقيد؛ فحلقات رواية «الصوت والغضب»، على سبيل المثال، توازي الأيام الثلاثة لعيد الفصح المسيحي، وينشئ فوكنر هنا، وأيضا في رواية «أبشالوم، أبشالوم»، علاقة تبادلية وثيقة وبارعة بين حبكة الرواية والتجلي التراجيدي للماضي التاريخي المنبثقة منه. إن النظرية المعرفية للرواية الفوكنرية - أي علاقتها بالمدركات والعلاقات المشوهة، وبتقليد تاريخي شفهي - هي واحدة من أعقد النظريات في التقليد الحداثي، وهي تتجاوز أي شيء في أعمال جيمس وبروست. وفي هذا السياق، صار فوكنر، شأنه شأن وولف، واحدا من أكثر الروائيين التجريبيين انفتاحا في القرن العشرين؛ نظرا لأن كل كتاب من كتبه (حتى ثلاثية «سنوبس» التي يغلب عليها الواقعية)، كما هو الحال مع وولف، يكتب بأسلوب النثر الشعري، ويتخذ ترتيبا شكليا معبرا وفرديا بشكل كلي؛ على سبيل المثال، في التفتيت النفسي المتسم بالتعارض والعرضية لتيارات الوعي العديدة المتفاعلة في رواية «بينما أحتضر».
كان الوقت متأخرا للغاية حين رفض ويليامز، على سبيل المثال، هذه الهيمنة الأوروبية المطالبة بتطبيق الأساليب الحداثية على موضوع أمريكي متميز. ولكن كان على الحركات الفنية «الأمريكية الخالصة» ذات الأثر العالمي، التي شقت طريقها بعيدا عن الاهتمامات الحداثية الأوروبية، الانتظار حتى الحرب العالمية الثانية؛ فقط عندما نشأت التعبيرية التجريدية في الرسم، المنبثقة من رحم السريالية وبدايات أخرى غيرها، حققت حركة فنية أمريكية قومية ومستقلة أصالة تجريبية، ومجدا قوميا - بشكل واضح - وذا أهمية عالمية. ومن الواضح بالقدر نفسه أنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أظهر الأدب التجريبي الأمريكي، على يد والتر أبيش، وجون بارث، ودونالد بارثيلمي، وروبرت كوفر، ودون دي ليلو، وويليام جاس وآخرين، أصالة وحيوية واهتماما أكبر من أي تقليد سردي تجريبي معاصر (وفي ذلك تيار «الرواية الجديدة» الفرنسي المرتبط بالنظرية).
كان أغلب الحداثيين الكبار ينظرون إلى أعمالهم في أغلب الأحيان باعتبارها نابعة من التقاليد الأولى للفن، ردا عليها وإشارة إليها؛ تلك التقاليد التي كانوا على وعي شديد بها. فقد كان لدى ماتيس وبيكاسو، على سبيل المثال، مقدرة بالغة على الرسم بالأساليب الأولى؛ ومن ثم حققا عالمية اتخذت طابع الكلاسيكية الجديدة إلى حد كبير من حيث الإلهام. وحتى ظهور الحركات الدادائية والسريالية، بتركيزها الشديد ذي الطابع الرومانسي المجدد على الخيال والإبداع الفردي، لم يكن الهدف بالنسبة لمعظمهم يقتصر فقط على «التجديد»، أو «الأصالة»، أو «التجريبية»، أو «الثورية»، وكأن لم يكن للمرء أسلاف سبقوه؛ فقد كان الحداثيون الأوائل ينظرون إلى التقليد، أولا وقبل كل شيء، باعتباره مجموعة محددة تاريخيا من القواعد والمبادئ يستطيعون «العمل» في نطاقها، أو يتجاوزونها؛ مثلما تجاوز ديبوسي فاجنر، ومثلما يرى شونبرج أن أعماله تبني على أعمال برامز، وبالتبعية أيضا التحولات اللامقامية لحركة المارش الماهلرية في «المقطوعات الست للأوركسترا» (1909-1910) لفيبرن، و«ثلاث مقطوعات للأوركسترا» (1914-1915) لبيرج.
بالطبع كان بعض الحداثيين يؤيدون الرفض الكامل للماضي قدر الإمكان، وأدى هذا إلى مزاعم قوية بالأصالة، التي كانت آنذاك، مثلما يحدث الآن، غالبا ما يتم تناقلها وتوارثها على حساب الغموض وعدم الوضوح عن طريق معايير الماضي، أو عن طريق الرفض الساذج لها. وكانت اعتراضات مارسيل دوشامب، النابعة من الأهداف التحررية للحركة الدادائية الأصلية، مؤثرة بشكل خاص في هذا المقام. وتعد لوحته «النافورة» (1917) عملا رمزيا من هذا النوع الطليعي؛ فعن طريق شراء مبولة وقلبها رأسا على عقب، والتوقيع عليها باسم «آر موت»، اختبر دوشامب مفهوم المشاهد لمقومات العمل النحتي أو «العمل الفني»، وربما ما كان أكثر أهمية بالنسبة للتطورات اللاحقة ما فعله من اختبار المؤسسات الفنية بسؤالهم عما هم، في الواقع، على استعداد لعرضه، في المستقبل (إن كانوا سيفعلون) كأعمال فنية. وقد فتح ذلك الباب لعدد من الأفكار والموضوعات التي تعد محورية لفن ما بعد الحداثة.
التشخيص الثقافي
بالنظر إلى هذه المجموعة من الافتراضات، اعتبر الفنانون الحداثيون أنفسهم نقادا ثقافيين عظاما. ويتضح هذا في إنجلترا من الأعمال النثرية لباوند، وإليوت، وويندهام لويس، ودي إتش لورانس، وألدوس هكسلي (ومان وجيد وكثيرين آخرين في بقاع أخرى) بكل تأكيد. فقد كانوا يميلون للانفصال عن المجتمع الذي يعيشون فيه والحياة على هامشه، متبعين في ذلك تقليد القرن التاسع عشر الانفصالي المناهض للبرجوازية الذي اتبعه فلوبيرت، وإبسن، ووايلد، وفرويد، وإليوت، على سبيل المثال، الذي يتسم نثره بالمحافظة إلى حد كبير؛ إذ يبدأ بتقليد قصائد جول لافورج الموبخة للذات بسخف وحمق، والذي كان قد عرفه الطريق من خلال إماطة اللثام عن خداعات الذات البرجوازية السائدة في ذلك الزمن، في الشعر الذي اتسم بطابع ساخر وكوميدي. وبالتبعية أيضا، انفصل تأييد جويس لاتباع أخلاقيات مخالفة، من خلال ستيفن ديدالوس، عن القيود السياسية والدينية المتعارف عليها، وذلك في رواية «لوحة الفنان»، التي تعد المثال الكلاسيكي للمعارض الفردي، الذي يجد مهنة في الفن، لا سيما في لغته، وليس في المتطلبات الاجتماعية للدين أو السياسة، فهذا هو ستيفن الطالب الذي يقال له إن مقاله عن «الفن والحياة»، المكرس لإبسن «يمثل مجمل الارتباك الحديث والفكر الحر الحديث». ومن هنا أيضا نبع تطور وعي بروست في «البحث عن الزمن المفقود»، من قبول ساذج للافتراضات الطبقية إلى نقد ذاتي منفصل لها. والعديد من أعمال تلك الحقبة بنيت على اهتمام بالتناقض بين ثقافة الماضي الرفيعة وانحدار الظروف الاجتماعية الحالية.
وكان من أوسع الكتب التي تستكشف هذا النوع من التناقض قراءة كتاب توماس مان «الجبل السحري» (1924)، الذي يعد في الحقيقة أيضا رواية تكوينية (أو رواية للتطوير التربوي)، من خلال الشاب هانز كاستورب، الذي - بحسب المؤلف:
يقتاد بأسلوب كوميدي ومرعب عبر التناقض الروحاني للتوجهات الإنسانية والرومانسية، والتقدم ورد الفعل، والصحة والمرض، ولكن ذلك من أجل منفعتها الجوهرية؛ بهدف التعرف عليها أكثر وليس بهدف تدبر قرار. إن الأمر برمته له روح هزلية عدمية.
إذن هو لا يشبه ستيفن ديدالوس في شيء مطلقا، ولكن إقامته في مصحة علاجية (هي جامعته) تورطه في جدال ممتد بين سيتمبريني (الذي استند إلى الإنسانية والليبرالية التقدمية لإميل زولا ومن جاءوا بعده، ومن بينهم شقيق مان؛ الروائي هنريك)، والرجعية الماكرة لليو نابهتا (وهو شخصية «ضد المنطق»، ويهودي، يسوعي، نخبوي، شيوعي، تشكلت شخصيته على نموذج جورج لوكاس). وقرب نهاية الرواية، نسمع من بيبركورن (الذي يمثل المبدأ الديونيسي النيتشوي، وصممت شخصيته على نموذج جيرهارت هوبتمان). ومن خلال هؤلاء، يمر كاستورب، الأحمق نوعا ما، بمنظور فلسفي تلو الآخر للحياة، بمعنى «الإنسانية، ثم الروحانية، ثم التحليل النفسي، والشيوعية البدائية الممتزجة بقدر من الهرطقة العرفانية»؛ ففي مناقشته على الجبل، يفترض به أن يسمو فوق الظروف الاجتماعية على الأرض، وأن يحقق نوعا من الانفصال التأملي، ولكن كما سنرى لاحقا، كان حل أزمة كاستورب من نوع مختلف غير استطرادي نوعا ما.
على مدار القصة، يتعين على كاستورب والقارئ خوض صراع مع تلك الأفكار المجردة المغلفة بقناع مادي، والتي يراها كثيرون جزءا من الثقافة الألمانية؛ ومن ثم فإن التناقضات الفلسفية والثقافية التي يرغب مان في إبرازها تفتقد أي تمثيل مادي حقيقي. ويعالج إي إم فورستر مثل هذه التناقضات من خلال وعي مماثل بالعلاقات بين الواقعية والرمزية والخرافة الدينية، بشكل أكثر تحديدا بكثير، وذلك في الأجزاء الثلاثة المتناقضة لأكثر كتبه شعرية وحداثة «ممر إلى الهند»، الصادر عام 1925، وفيه تدخل الرؤى الإمبريالية الإنجليزية للعالم ورؤى المسلمين والهندوس في حالة من التناقض والصراع الدرامي.
Page inconnue
إن «الثقافة الرفيعة» لمثل هؤلاء الكتاب من شأنها حفظ أفكار مهمة ثقافيا في قوالب تجعل فهمها سهلا على شتى المستويات، وأيضا تقدم القضايا التي تؤرق الثقافة في قالب إشكالي وقابل للنقاش. وهذا تحديدا ما يمكن أن نقوله عن أعمال مثل: «الأرض الخراب»، «البرج»، «يوليسيس»، «ميدان ألكسندر في برلين»، «ممر إلى الهند»، «البحث عن الزمن المفقود»، «ألحان جوني»، «الجبل السحري»، «الخطباء»، «بين قوسين»، «بين الفصول»، «رجل بلا صفات»، «دكتور فاوستس»، و«دائرة الطباشير القوقازية». بهذا القدر، ترتبط الحداثة ارتباطا وثيقا بصراعات التقليد التراجيدي، ولكن حري بنا أن نشير إلى أن الأعمال المشار إليها للتو تتسم جميعها تقريبا بطابع ساخر وكوميدي، وبمخاطبته الضمنية للاستجابة الإنسانية العادية، يبعد اللاهوتي المتغطرس، بوجه عام، فيما تصبح مزاعم الفلسفة (ولكن ليس الأخلاق) نسبية بشكل محكم ودقيق.
كانت الأعمال المقبولة بالنسبة لمثل هؤلاء الحداثيين هي نقاط مرجعيتهم للحظات مهمة وجدلية في الأساس في تاريخ ماضي الإنسانية، كان بعضها خطيرا ومحوريا، مثل استخدام إليوت لتشوسر وفاجنر وبوذا، وأسطورة النبات في «الأرض الخراب»، والآخر أكثر هامشية، كما في الأجزاء الأول من قصيدة «الأناشيد» لباوند، بتعديلها المتجاور لأسلوب شعر براونينج النظيري، والاعتماد على رؤية فينلوزا عن الصينيين، واستخدام نظريات دوجلاس الاقتصادية، والقراءة الشديدة التفرد والتميز لعصر النهضة والتاريخ الاقتصادي، التي أثبتت جميعا أنها أكثر ثانوية لاهتمامات القرن العشرين منها لاهتمامات إليوت.
إن مثل هذه الأفكار تحررية بطبيعتها، حين تؤخذ معا؛ ما يوفر وسيلة يمكننا من خلالها التوافق مع تعددية الرؤى للعالم واستيعابها، وتناقض القيم داخل الحضارة الغربية، وأيضا فهم كيفية نشأة العصر الحديث. والأهم من كل ذلك أنها تجنبت هوس اليقين والانتقائية لتلك الأيديولوجيات التي عارضت الفن الحداثي في ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها.
فكرة الخرافة
ربما يمكننا رؤية كل هذا بشكل أفضل نوعا ما في إطار مثال أشمل وأوسع نطاقا.
كان الاتهام السيكولوجي للحياة المعاصرة في «الأرض الخراب» يحظى بتقدير سهل من جانب المعلقين الأوائل؛ فقد اعتبر آي إيه ريتشاردز القصيدة تعبيرا عن «الحالة الذهنية لجيل في فترة ما بعد الحرب»؛ وهي تدور حول «الجنس باعتباره مشكلة جيلنا مثلما كان الدين مشكلة الجيل السابق». ورأى سي داي لويس أن القصيدة: «تعطي انطباعا حقيقيا صادقا عن عقلية المثقفين خلال فترة الانحدار النفسي الذي حدث عقب الحرب مباشرة.»
ولكن القضايا الأكبر داخل القصيدة، لا سيما قضايا الدين، لم تكن رؤيتها سهلة للغاية؛ لأنها هنا، كما في «يوليسيس» ترى في إطار الخرافة، التي كان العديد من الحداثيين (لا سيما هؤلاء ذوي العقليات التحليلية النفسية) يرونها تعبيرا، ليس فقط عن الخيالات «البدائية» للبشر المعاصرين، ولكن أيضا عن الطبيعة الطفولية لبدايات النوع. ومن خلال ذلك، نشأت الفكرة المزعجة التي مفادها أن الخرافة القديمة قد تقف سرا وراء التجربة الحديثة، لا سيما حين تكون جنسية أو تراجعية. هذا هو ما يعول عليه إليوت في «الأرض الخراب»، بعد إعجابه بجويس لقيامه بالشيء نفسه في «يوليسيس». فقد كان إليوت في الواقع يعتبر «الأسلوب الخرافي» الذي وجده فيها مشابها لاكتشافات أينشتاين؛ نظرا لتأثيره المحتمل على الكتابة الإبداعية. ويرجع هذا إلى أن «علم النفس (كما هو عليه، وسواء أكان رد فعلنا تجاهه هزليا أم جادا)، وعلم الأجناس البشرية، وكتاب «الغصن الذهبي» قد التقوا لجعل ما كان مستحيلا حتى قبل بضع سنوات ممكنا». (كان مستحيلا واضحا حتى بالنسبة إلى ييتس، الذي لم ينل حظه المستحق من الثناء عن طريق مدحه كمجرد «مصمم» للأسلوب لا أكثر). كان الأسلوب الخرافي «خطوة نحو جعل العالم الحديث ممكنا للفن» (وهنا يكمن المكسب المعرفي المعلن). وبغض النظر عن الإشارة الضمنية من (أ) إلى (ب)، يمكن أن يكون هناك أيضا تجاور دقيق، على سبيل المثال، في قصيدة «الأرض الخراب» حين كان العاشقان على نهر التيمز في الحاضر - الفتاة في القارب الصغير، التي غرر بها بالقرب من ريتشموند - يبدوان أكثر خسة من العاشقين - الملكة إليزابيث وليستر - اللذين يلهوان على نهر التيمز في قارب ملكي من الماضي، أم تراهما ليسا كذلك؟
اتجه إليوت والعديد من معاصريه إلى ثقافة الأفكار بحثا عن مفهوم للخرافة التي تتسم في جوهرها بالإشكالية والجدلية، كما يمكننا أن نرى إذا ألقينا نظرة على تباين الآراء المدلى بها في العديد من مصادره؛ فالاستخدام الحداثي للخرافة في العمل الإبداعي عبارة عن توليفة من محاورات متضاربة متعددة، جميعها لها علاقاتها المثيرة بالثقافة التي يعمل الفنان في إطارها. بالنسبة إلى إليوت وحده، كنا سنضطر للنظر إلى مجموعة كبيرة من المصادر الممكنة، كتلك المذكورة في «المعلومات الوهمية» الواردة بالملاحظات الخاصة بقصيدة «الأرض الخراب». وبمجرد أن نعكف على بحث كهذا، كما فعل كثيرون وكثيرون على أمل العثور على خرافة نموذجية لتوحيد القصيدة، سوف نجد أنه يتعين علينا أيضا الدخول في سجال مع أفكار إليوت عن علاقة الخرافة بالبدائية والدين، وقراءاته لفريزر (لا سيما عن «الرب المحتضر» في المجلد رقم 4 من «الغصن الذهبي»)، ولجيسي إل ويستون (لحد معين)، وجان هاريسون وغيرهم من علماء الأنثروبولوجيا بكامبريدج، ومفاهيمه عن الطقوس فيما يتعلق بالخرافة، ومعرفته العامة بالأنثروبولوجيا التي استقاها من مناهجه الجامعية، وما إلى ذلك.
فور تحديد مثل هذه المواد، نحتاج بعد ذلك لتقييم «وزنها الثقافي» المتباين مع دخولها وخروجها من القصيدة. قد تكون مثل هذه المحاورات جزءا من محادثة أو عبارة في كتاب (مثل تعريف ستيفن ديدالوس للتاريخ بأنه «كابوس أحاول الاستيقاظ منه»، والذي يكمن بالتأكيد وراء قصيدة «جرونشن»)، أو جاءت من الأطروحات والقصائد والأعمال الأنثروبولوجية والفلسفية والسيكولوجية العميقة المشار إليها أعلاه.
كل هذه المصادر المحتملة لفكرة إليوت العامة عن الخرافة تجعلنا على وعي بالقضايا أو الأزمات التي تؤرق الثقافة. ومن بين هذه الأزمات القضية الجدلية التي تدور حول ما إذا كان ممكنا أن تدعم الخرافة الدين أو تحل محله. وقد ساعدت هذه الأزمات على ضمان المكانة المعتمدة كنسيا للعمل وأهميته المتواصلة في التأويل (وهو ما يعد واضحا بشكل مماثل لأعمال مثل «يوسف وإخوته» لمان، ولوحة «جورنيكا» لبيكاسو، مثلما سنرى). وينبغي أن تمثل قضية مكانة الخرافة أهمية للمؤمنين الورعين مثلما شكلت أهمية بالنسبة إلى إليوت في «الأرض الخراب»، ولأسباب مماثلة. إن الهدف من الأسلوب، في الواقع، هو إجراء تشخيص ثقافي في ضوء التاريخ؛ ولذلك تعد «الأرض الخراب» (و«مسودة 16 أنشودة» لباوند) «رؤية للاضمحلال الأوروبي» (كذلك مثل «نساء عاشقات» للورانس، و«الموت في فينيسيا» و«الجبل السحري» لمان، وقصيدة «ألف تسعمائة وتسعة عشر» لييتس، والعديد من النصوص الأخرى في تلك الفترة).
Page inconnue
الأهم من كل ذلك أن الرؤية الحداثية للخرافة يمكن أن تضع الفنون داخل علاقة جديدة بالتاريخ قد تكون استنزافية؛ إذ يمكن أن ترى (مع نيتشه) كتابة التاريخ نفسه كشكل من صنع الخرافة، وبالعكس، ترى الخرافة باعتبارها الشكل الحتمي للتاريخ الأساسي لأي أمة، كما في شعر ومسرحيات ييتس، على سبيل المثال؛ حيث تتمكن الخرافة الكلتية القديمة بشكل ملائم من تجاوز تاريخ المسيحية في أيرلندا من خلال التقدم عليه زمنيا؛ ومن ثم إيجاد «أيرلندا حقيقية» خارج الكنيسة الكاثوليكية، أو يمكن أن تدعم إنكارا محافظا للتغيير «التقدمي» خلال تاريخ ما؛ لأنه يعد «حقا» مادة (اتباعا لنيتشه مجددا) للتكرار الخرافي للمسلمات المتكررة، مثلما يبدو الأمر في «يوليسيس». فالخرافة بمنزلة تحد أزلي، إن لم يكن رجعيا، وربما تشاؤميا، للرؤى الماركسية أو أي رؤى تقدمية أخرى للأساسيات الاقتصادية للتاريخ، وكذا لأي مفهوم، خارج إطار الخيال العلمي، مفاده أن التقدم العلمي والتكنولوجي سوف يحدث تحولا جذريا لظروف السلوك الإنساني. والواقع أن أي حداثي كان سيقول إن الخيال العلمي والخيال اليوتوبي نفسيهما يميلان لامتلاك جميع السمات البنيوية المتكررة للخرافة القديمة، والتي تتوافر في جميع مراحل التطور العلمي.
لقد انشغلت الغالبية العظمى من الحداثيين الكبار - ييتس وإليوت وأودن وجيد وجويس ومان وسترافينسكي وشونبرج وماتيس وبيكاسو والسرياليين - في مرحلة ما بهذه العلاقة بين الخرافة والثقافة، واستخدموها كمبدأ سردي وبنيوي وتلميحي في أعمالهم.
وما إن يستطيع الفن الحداثي، على الطريقة الأرنولدية، مناقشة ادعاءات الدين والتاريخ بشرح وتفسير الثقافة، حتى نجد أن الأعمال المتغايرة مثل «المرثيات» لريلكه، و«الرباعيات الأربع» لإليوت، ورواية مان ذات الأجزاء «يوسف وإخوته»، على علاقة في غاية الاضطراب بالدين التقليدي بمفهومه لدى الغالبية في تلك الفترة. ويعود هذا، بوجه عام، إلى أن الفن منذ القرن التاسع عشر قد زعم أنه يتوغل أكثر من كل مثل هذه العقائد التقليدية نحو الحكمة القديمة الأعمق والراسخة التي توجد في تاريخ صنع الخرافة الدينية. وحسب تعبير مدام بلافاتسكي، التي كانت مصدر إلهام ييتس:
ربما يكون مستحبا أن نقول صراحة إن التعاليم، التي تحتويها تلك الكتب، مهما كانت مشرذمة ومنقوصة، لا تنتمي للديانة الهندوسية، أو الزرادشتية، أو الكلدانية، أو المصرية، ولا للبوذية، أو الإسلام، أو المسيحية بشكل حصري. فالعقيدة السرية هي جوهر كل هذه العقائد. والنماذج الدينية المتنوعة المنبثقة منها تدمج الآن مرة أخرى داخل العنصر الأساسي الذي خرج منه كل لغز، وكل عقيدة وتطور وأصبح ذا كيان مادي.
اضطلع الأدب القائم على مثل هذه المقدمات والفرضيات بمسئوليات جديدة، وبحسب تعبير سايمونز عن ذلك في كتابه «الحركة الرمزية»: «في حديثه إلينا ... مثلما كان الدين وحده يتحدث إلينا حتى الآن، يصبح الأدب في حد ذاته نوعا من الدين، بكل ما عليه من واجبات ومسئوليات للطقس المقدس.» وفي ظل التأثير العلماني الطابع للحداثي، قد يبدو تداخل الحداثيين مع الخرافة مدهشا، إلا أن العديد منهم، وفيهم ذوو الدين والورع (كاندينسكي، موندريان)، وهؤلاء الذين كانوا يعتزمون العودة إلى الدين التقليدي (إليوت، سترافينسكي، أودن، شونبرج)، والمشككون ولكن تحت سيطرة الإغواء (جيد)، ومؤلفو الأساطير والخرافات غير التقليديين (ييتس، ستيفينز)، وملحدو بلومزبري العلمانيون؛ جميعهم نظروا إلى مزاعم الفن بوصفها منافسة أو مكملة لمزاعم الدين التقليدي بشكل أو بآخر. وراح كثيرون آخرون؛ أمثال: ييتس، وشو، ولورانس، ومان، يبحثون عن بدائل للدين، أو اتباع خطى المفكرين أمثال يونج في رحلة البحث عن معادل فعال نفسيا له (هكسلي، ييتس)، أو تكوين مجادلات حجج نفسية داحضة له بوصفه مجرد وهم، بينما لديهم في الوقت ذاته حس قوي بحتميته العصابية، مثلما فعل فرويد. وهذا البحث عن سلطة إلهامية داخل الثقافة الرفيعة وليس داخل المؤسسات والمنشآت الدينية هو إرث أساسي من الحقبة الحداثية.
الفصل الثالث
الفنان الحداثي
اكتشاف أن الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الأساسي هو الخطوة الأهم إلى الأمام التي حدثت في علم النفس منذ كنت دارسا لذلك العلم.
ويليام جيمس، «مبادئ علم النفس» (1890)
أعمق مشكلات الحياة الحديثة تنبع من محاولة الفرد الحفاظ على استقلالية وجوده وتفرده في مواجهة قوى المجتمع المهيمنة، في مواجهة ثقل الإرث التاريخي، والثقافة الخارجية، وأسلوب الحياة.
Page inconnue
جورج سيمل، «المدينة والحياة العقلية» (1903)
دعنا نفحص للحظات عقلا عاديا في يوم عادي ... دعنا نسجل الذرات بينما تتساقط على العقل بالترتيب الذي تتساقط به. دعنا نتتبع النمط الذي يحرزه كل منظر أو واقعة على الوعي مهما كان مفككا وغير مترابط في ظاهره.
فيرجينيا وولف، «الأدب الروائي الحديث» (1925)
وجهة النظر الذاتية: تيار الوعي
كانت النزعة الأولى للفن الحداثي هي تقديم التجربة الشخصية، والتشديد على أهميتها، كما لم يحدث من قبل، فكان كبار فناني تلك الحقبة، الذين ورثوا من القرن التاسع عشر تركيزا على دور الصور المجازية، والرمزية، والأحلام، والعقل الباطن، يميلون دوما لتفضيل الإدراك الذاتي للفرد، وما هو أكثر من ذلك، من خلال الطرق الخيالية والحدسية، وأيضا، كما سنرى، طرق «التجلي» للتوصل للحقيقة، التي غالبا ما كانت في خصومة مع أساليب الجدل الأكثر عقلانية أو عمومية. وهذا الفكر يسري على جميع الفنون، فهو قابل للتطبيق على التأملات الباطنية في أوبرا ديبوسي «بيلياس»، وأغنية الحلم لكليمنسترا في أوبرا ريتشارد شتراوس «إلكترا»، مثلما تنطبق على شعر أبولينير وإليوت، والتعبير التعبيري عن المشاعر في شعر جوتفريد بن، ومونودراما «التوقع» ومقطوعة «بييرو في ضوء القمر» لشونبرج، وعلى الفوفيين الذين يحذون حذو فان جوخ في تعبيرهم عن الحالة النفسية بالتخلي عن الطابع المحلي، وعلى وجهة النظر ذات الطابع الشخصي الواضح للتكعيبية، وتجريدات كاندينسكي الحالمة.
ويعد الاستخدام الحداثي لتقنية «تيار الوعي»، بما يتضمنه من اعتماد على تداعي الصور الخيالية (الذي غالبا ما يفترض أن يكون مدفوعا بالعقل الباطن)، أساسيا لجميع الفنون. وهو يهدف إلى دقة أعلى للعمليات النفسية الخاصة، غالبا بالسمات التي أكد عليها برجسون، والمتعلقة بمرونة خبرتنا بالوقت الخاص (الديمومة) في مقابل الوقت العام. ومثل هذه الأفكار، عند سردها، لا تمتثل للمبادئ العامة المألوفة لأي لغة مكتوبة، كما كانت تفهم من قبل، فنجد ليوبولد بلوم؛ بطل رواية جويس، يفكر بشأن سمكة كما يلي:
لا بد من الانتهاء من هذا الفسفور. إذا تركت قطعة صغيرة من سمكة القد، على سبيل المثال؛ فإنني أرى اللون الفضي المزرق عليها. ذهبت ليلا إلى خزانة المؤن في المطبخ، لم ترق لي كل الروائح المنبعثة بداخله، والتي كانت تتلهف للخروج. ماذا كانت تريد؟ زبيب ملقة. تحضرني إسبانيا. قبل ميلاد رودي. الوميض الفسفوري المتدرج بين الأزرق والأخضر. إنه مفيد جدا للمخ.
أو في حلقة «حوريات البحر» من رواية «يوليسيس»، حين انزعج بلوم بشكل غريب من الصلصلة المتكررة للجرس على عربة أحد السائقين. يمكننا أن نتوصل إلى أن الأمر كذلك؛ لأن هذا يذكره بصوت الصلصلة الذي أصدرته الحلقات النحاسية أعلى فراش الزوجية في مشهد الإفطار الافتتاحي مع مولي، وسوف تصدره حين تضطجع فيه مولي مع عشيقها بليزس بويلان في ذلك المساء. والأمر يرجع إلينا في تفسير تلك الصور وجعلها تترابط مع أفكارنا بشأن شخصية بلوم ووقائع الحبكة. ويعد هذا مزجا محوريا للأسلوب (التداعي، وفي ذلك استخدام الإشارة الضمنية غير المباشرة، ومن دون الروابط المنطقية الصريحة) مع الفكرة. ونعني - بوجه عام - فكرة وجود عملية ذهنية من أحلام اليقظة، لا سيما حين تعبر عن نفسها في خواطر ما قبل الحوار. ثمة مفاهيم جديدة للخصوصية متضمنة هنا؛ إذ إن بلوم يحاول «ألا» يفكر في خيانة مولي له، ولكن مع ذلك لديه الكثير من الأفكار المتداعية المرتبطة بها، وتيار وعيه يعبر عما لم ولن يستطيع أن يجهر به (على سبيل المثال، أوهامه بشأن النساء في حلقتي «نوسيكا» و«سيرس»، أو خواطر بينجي الأحمق في «الصوت والغضب »).
إن المكسب التقدمي والتحرري هنا واضح؛ فبلوم - بطل جويس - لديه حقا عقل «عادي» بشكل مذهل، وستيفن ديدالوس لديه عقل مبدع بشكل مدهش، وخواطر مولي لا تصطحبنا فحسب داخل سرد لممارستها الحب، ولكنها تعبر عن توجهات إزاء بويلان لم تكن بالتأكيد لتمثل جزءا من حوارها، وتكشف - مثل قدر كبير من الكتابات الحداثية - عن جوانب من الاستجابة الجنسية للأنثى، والتي كانت غائبة بشكل كبير عن الرواية في القرن التاسع عشر.
إنه يطلق عليها أثدية. اضطررت للضحك. نعم إن هذا الشخص على أي حال يجعل حلماتي تتيبس. على أقل تقدير سأجعله يواظب على ذلك، وسوف أتناول تلك البيضات المخفوقة مع المارسالا كي أجعلهما سمينين من أجله. ما كل هذه الأوردة والأشياء وطريقتها الغريبة في تشكيل رقم 2، مثلما الحال مع التوائم؟ من المفترض أنها تمثل الجمال مثل تماثيل النساء الموجودة في المتحف، والتي يتظاهر أحدها بإخفائها بيده. إنها في غاية الجمال بالطبع مقارنة بهيئة رجل حقيبتاه مملوءتان، وشيئه الآخر متدل منه أو بارز نحوك مثل مشجب للقبعات؛ لا غرابة في أن يخفوه بورقة ملفوف.
Page inconnue
تعبر فيرجينيا وولف - بشكل واضح - عن فكرة أنه بمقدور الفنان بهذه الطريقة أن يصنع مكسبا معرفيا لنا جميعا في إطار الواقعية السيكولوجية، وهي تعد علامة على تحول مفاهيمي نحو استكشاف للأفكار الفلسفية الخاصة بشأن الذاتية، وهو التحول الذي من شأنه أن يحدث تغيرا في النموذج في مفهوم القرن العشرين للذات؛ ففي الروايات الواقعية، بحسب تعبيرها:
كل المدن من شتى الأنواع مجسدة، وعدد لا يحصى من المنشآت؛ فنرى مصانع وسجونا وإصلاحيات ومحاكم ومجالس برلمانية؛ صخبا عاما، صوت الطموح والسخط والجهد والصناعة يتصاعد من الكيان ككل، ولكن في وسط كل هذه الكتلة الضخمة المختلطة من الصفحات المطبوعة، وسط كل هذه المجموعة من الشوارع والخيول، ليس ثمة رجل أو امرأة نعرفه.
بعد ذلك، تتخيل وولف نموذجا للسيدة براون تجلس قبالتها في عربة قطار، مثلما قد يصفها إتش جي ويلز، أو جون جالزورثي، أو أرنولد بينيت؛ فقد بدا هؤلاء المؤلفون لها ذوي «قيمة عظيمة ، وأهمية كبيرة»، ولكن كتبهم «تترك المرء بشعور غاية في الغرابة بالنقصان وعدم الرضا، ومن أجل إكمالها يبدو ضروريا أن نفعل شيئا؛ أن ننضم لجمعية، أو الأكثر إحباطا؛ نكتب شيكا!» بعد ذلك تتجه وولف لوصف كيفية تناول هؤلاء الروائيين الثلاثة لشخصية السيدة براون بشكل غير واف، ولكن «تصوير السيدة براون بدقة» هو عنوان الفصل التالي في تاريخ الأدب. «دعونا نتنبأ مرة أخرى، سيكون هذا الفصل هو الأهم، والأكثر شهرة، والأكثر مصيرية.» وقد تم هذا «التصوير الدقيق» بنوع جديد إلى حد رائع وبعيد بالكلية عن أسلوب جويس القائم على إيقاظ الوعي؛ وذلك من خلال وولف ذاتها في رواياتها بداية من رواية «غرفة جيكوب» فصاعدا. وكان السبب الأساسي لاتباعها هذا الأسلوب أنه كان أكثر انطباقا على شخصية السيدة براون، وأنه قد حافظ أيضا على كبريائها الداخلي والعادي للغاية (مثلما تفعل الأفكار المجنونة لسبتيموس سميث أيضا في رواية «السيدة دالواي»).
كان هناك توحد بين الموسيقيين والكتاب والرسامين في هذا الاهتمام بطبيعة الخبرة الخاصة في إطار الظروف الحديثة، لا سيما في إطار المدينة. وفي ضوء هذا، لا بد لأذهاننا أن تستحضر قصيدة «الأرض الخراب»، بوصفها استكشافا للطبيعة الخاصة المذهبية والمضطربة عصابيا لتجربة إليوت مع الجنس في لندن، ولا بد بالمثل أن نكون على وعي بطبيعة الخلفية، ولكن بأقل درجة من الوعي بالهواجس الشعورية حين ننظر إلى استجابات بلوم ومولي وستيفن المختلفة تجاه دبلن في «يوليسيس»، أو الإخوة الثلاثة في رواية فوكنر «الصوت والغضب»، أو السيدة دالواي وهي تقطع شارع بيكاديللي وبوند؛ فليس لدينا فقط إدراك لانشغال عقل شخص آخر يمكن أن يثير مشاعر مهمة أخلاقيا وسياسيا بالتجانس والتعاطف، بل أيضا إدراك بتقدير هوية إحساس لغوي فردي داخل بيئة ثقافية معينة. إن الأمر لا يكمن في غياب المشاعر الخارجية، وإنما يكمن في رؤيتها من منظور فرد ما؛ ومن ثم إلغاء أو تجاهل (أو توقع) المعرفة الواقعية لكاتب موثوق، ولكن ما يعرفه هؤلاء الواقعيون النفسيون هو شيء مختلف: ... بج بن تدق. هناك! ها هي وقد انطلقت ترن عاليا. كنذير في البداية، يتماوج موسيقيا، ثم الساعة لا مسترد لها. الدوائر البطيئة المثقلة ذابت في الهواء. قالت في نفسها وهي تعبر شارع فيكتوريا: ما نحن إلا مغفلون. ذلك أن الله وحده هو من يعلم لم يحب المرء الدنيا هكذا، وكيف يراها المرء هكذا؛ يختلقها اختلاقا، يبتنيها حوله، يقلبها ويثنيها، يخلقها في كل لحظة من جديد. لكن إرث النسوة البائسات جلوسا عند العتبات (يواجهن سقوطهن) يفعلن الشيء ذاته. شعرت بيقين داخلها من أن أمرهن هذا لا يمكن تدبره بقوانين برلمانية لهذا السبب بالذات: إنهن يحببن الحياة. والحياة في عيون الناس، في التبختر والتسكع والتثاقل في المشية، في الصياح والصخب، والعربات والسيارات والحافلات والشاحنات، وجملة لوحات الإعلان على الصدور والظهور وهم يجرون أقدامهم ويتمايلون، والفرق النحاسية، والأرغن اليدوي الدوار، وفي النصر والرنة والنشيد الغريب العالي لطائرة ما فوق الرءوس؛ هي ما تحب؛ الحياة، لندن، هذه اللحظة من يونيو.
إن احترام «وجهة النظر الذاتية» للفرد، وعدم الثقة بالتجانس والوعي الجماعي (مثل الحكم السياسي ل «المواطن» في رواية «يوليسيس»، والافتراضات الطبية المهنية للطبيب برادشو في «السيدة دالواي») جانب أساسي من الحداثة؛ فالعديد من الروايات المهمة تبحث وجهة نظر وعي معين: ستيفن في رواية جويس، ومارسيل في رواية بروست، وهانز كاستورب في رواية مان، وليلي بريسكو في رواية وولف، وفرانز بيبركوف في رواية ألفريد دوبلين، ورواية «رجل بلا صفات» لروبرت موزيل. والشعراء؛ أمثال والاس ستيفينز، وويليام كارلوس ويليامز، ودبليو بي ييتس، وتي إس إليوت، ورينر ماريا ريلكه، وجوتفريد بن، وكثيرون آخرون، حملوا داخل أنفسهم معرفية العصر الجديدة، مثلما فعل الرسامون الذاتيون من فاسيلي كاندينسكي حتى سلفادور دالي وماكس إرنست، والموسيقيون أمثال أرنولد شونبرج وآلبان بيرج.
ينظر إلى نمو تحليل وجهة النظر الذاتية بنظرة فلسفية لدى برجسون، وبنظرة سيكولوجية لدى فرويد، ولكن تم تتبع أثره بأقصى درجات الدقة في الاعتماد الذاتي على الذات للفن الحداثي، الذي وضع حدودا لهذا النوع من علم النفس، وأيضا تتبع أثر التحرر المتنامي للفرد المعبر أو المبدع من أشكال الاعتقاد المقبولة اجتماعيا (كما في الصورة التي رسمها جويس لنفسه في شخصية ستيفن ديدالوس)، أو أعطى للقارئ حسا عميقا بوجود هوية تختلف أو تنشق. ولعل الأكثر إثارة، فيما يتعلق بسياسات قراءتنا حتى الآن، هو هويات النساء، مثلما تبين بطلة رواية تيار الوعي الضخمة ذات الأجزاء لدوروثي ريتشاردسون، ومولي بلوم، والسيدة دالواي، وليلي بريسكو.
التجلي والرؤية
يكمن الأمر الأكثر إثارة للدهشة في هذا الأسلوب في شيء يمكن للمرء، تبعا لجويس، أن يطلق عليه الاعتماد على خبرة التجلي. يمكن تعريف هذا بشكل فضفاض بوصفه كشفا يتحقق، ليس من خلال التفكير الاستطرادي، ولكن من الفهم الذاتي الدقيق لشيء هو «خاص» بالكلية. بالطبع توجد دلائل على هذا التقليد الأدبي، من ويليام ووردزورث وجيرارد مانلي هوبكينز والرمزية الفرنسية، ومن جورج إليوت حتى جوزيف كونراد، ولكن جويس قام بتأسيس عملية نفسية كانت في طريقها لأن تكون محورية بالنسبة إلى الفن الحداثي.
هذه هي اللحظة التي أدعوها التجلي. في البداية، ندرك أن الشيء المادي هو شيء «واحد» كامل لا يتجزأ، ثم ندرك أنه بنية موحدة منظمة؛ «شيء» في الحقيقة، وأخيرا حين تصبح العلاقة بين الأجزاء أروع ما يكون؛ حين تتواءم الأجزاء مع النقطة الخاصة، ندرك أن ذلك «الشيء» هو المقصود؛ فروحه، ماهيته تقفز إلينا من الثياب التي تغطي مظهره؛ فتبدو لنا روح أتفه الأشياء، التي تتسم ببنية متألقة شديدة التواؤم. إن الشيء يحقق تجليه.
من شأن هذه الحجة أيضا أن تقدم تفسيرا للتأثيرات المقصودة للفن التجريدي ورسم الطبيعة الصامتة، ويمكن أن تكون رسما تخطيطيا مبكرا لمفهوم بلومزبري عن «الشكل الدال»، ولكنها تعتبر عاقبة أخرى، أو نظرة متبصرة داخل طبيعة الواقع، الذي يعد أمرا محوريا بالنسبة للتجلي الأدبي؛ إذ يظهر لدى جويس، ومان، ووولف، وجان بول سارتر وآخرين. ويميل جويس لاعتبارها عملية نفسية من الانفصال الجمالي (التي تنحدر أصولها من والتر باتر) «يعطل» فيها العقل، و«يرتقى به عن الرغبة والنفور» داخل «علاقات المعقول والمدرك» (الذي يسري جيدا - بشكل خاص - على فهمنا للفن مثلما تنطبق على فهم موندريان له ).
Page inconnue