فلما جاء بنو العباس، اتخذوا بغداد مقرا لكرسيهم، والسواد شعارا لهم، وكانت جنودهم تسمى المسودة؛ لأن راياتهم سود، والأصل في اتخاذ العباسيين الأسود شعارا لهم مخالفة الأمويين، وتلك سنة إخلاف الملوك لأسلافهم، وأمثال ذلك كثيرة معروفة، منها: أن المأمون الخليفة العباسي لبس الأخضر؛ لأنه من العلويين، فكاد يختل أمر الملك؛ فرجع بعد أسبوع إلى الأسود.
وصارت بغداد في عهد الرشيد وابنه المأمون منبعا للحضارة، ومشرقا للمعارف، ولا نزيد عصر العباسيين وصفا، ولا حضارتهم تعريفا، بغير قولنا إن أوروبا كانت على عهدهم تتخبط كلها في غيابة الغواية والضلالة، وتهيم في فيافي التوحش والجهالة، ثم غير القوم ما بأنفسهم؛ فغير الله ما بهم، وتمزق هذا الملك الإسلامي الفخيم، وتشتت شمل هذه الدولة الهائلة، وأصبحت الخلافة الإسلامية مثلثة، على حين أن دين التوحيد يدعو إلى توحيدها، فكانت أولاهن في العراق في آسيا، وهي «العباسية»، ومركزها بغداد، والثانية في مصر في أفريقيا، وهي «الفاطمية»، ومقرها القاهرة، والثالثة في الأندلس في أوروبا، وهي «الأموية» وعاصمتها قرطبة، من أعمال إسبانيا الآن.
أما الخلافة العراقية، وهي «العباسية»؛ فقد أسرعت إليها عوامل الانحطاط والانحلال لسببين: أحدهما ديني، والآخر سياسي، فأما الديني فلأنها تشبثت بالخلافيات والجدليات، وفتحت الباب لظهور النحل المتعددة، والمحن السيئة، وأكبر محنة في الإسلام القول بخلق القرآن، الذي نصره وأيده بعض خلفاء بني العباس، ومنهم المأمون بن هارون الرشيد، ومناظرات العلماء في تلك المسألة وفي حضرة المأمون سودت بها صحف كثيرة. وأما الثاني فلأن الأتراك والغلمان قد استحوذوا منذ زمان طويل - أي من أيام المعتصم - على مقاليد التدبير فيها، وانتهى إليهم الحل والعقد في كل أمر، حتى في اختيار الخليفة ومبايعته، ولم يتركوا لصاحب التاج سوى اسم الخلافة، حتى كان أبو القاسم أحمد المعتمد على الله بن المتوكل يطلب الشيء الحقير فلا يناله، وضاق به الحال واشتد عليه الأمر يوما، فقال في ذلك متوجعا:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما هان ممتنعا عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعا
وما من ذاك شيء في يديه
واستمروا في هذا التدلي والانحطاط حتى انتقلت الدولة والملك في آخر أيام المتقي وأول أيام المستكفي إلى آل بويه، والذي بقي في أيدي العباسيين إنما هو أثر ديني اعتقادي، لا ملك دنيوي سياسي، وأصبح القائم من ولد العباس إنما هو رئيس الإسلام، لا ملك الإسلام.
وما زالت دولتهم تتأخر وأمرهم يتقهقر، حتى دهمتهم جنود التتر، فلم يكن لهم من أمر الله مفر، وحينئذ تصدعت أركان هذه الدولة المجيدة، وتقوضت دعائمها، وطمست معالمها، وذهبت مع أمس الدابر، ودخلت في خبر كان.
هذا ولا عبرة بالظل الذي ظهر لها فيما بعد بديار مصر، فإن تلك الخلافة العباسية الثانية كان القائم بها إنما يؤدي وظيفة دينية، كأنه شيخ طريقة من طرق الصوفية، بل لم يكن لصاحبها سوى تثبيت السلطان في المركز الذي يرشحه له عصبته من المماليك، على أن هذا الظل لم يبق له أدنى أثر في الوجود عندما ظهر آل عثمان على مصر، ولا غرابة؛ فكل ظل معرض للزوال.
Page inconnue