ما أهون الخسارة التي مني بها صابر والتي انحصرت في بهائمه. رجع إلى البيت راضيا؛ فقد كان من ذلك النوع من الإنسان الذي يظل خائفا من المجهول، حتى إذا وقعت خسارة أو ألم به مكروه حمد الله أنها أقل مما كان ينتظر. لقد أصبح منذ وفاة أمه وأبيه من ذلك النوع الذي يتوقع من المصائب أفدحها، ومن الكوارث أشدها عنفا، حتى إذا وقعت حادثة كهذه التي أصابت بهيميته اعتبرها نعمة لا نقمة؛ لأنه كان يتوقع من سير الأيام وتقلبها ما لا طاقة له به، فإذا انكمش هذا التوقع المروع إلى فقدان بهيمتين وسقف حظيرة فما أهون الأمر وما أضأله! فقد كان مع هذا القلق من الدنيا متفائلا يقدر أن الأيام إذا عاجت يوما في طريقها اعتدلت بعد ذلك أياما طوالا.
مسكين ذلك الإنسان! يعيش من دنياه في هلع دائم، يتربص باللحظات عالما أنها تتربص به، وعجيب ذلك الإنسان! يحب الحياة رغم ذلك، ولو كان عاقلا لكفاه التهديد الدائم الذي يلح على مشاعره حتى يكرهها، ويتمنى أن ينتقل إلى الأمن السرمدي هناك مع الرفرف الخضر والطمأنينة الخالدة. •••
أصبح الصباح فإذا وداد تعاني من حرارة شديدة يتوقد لها جسمها جميعا، ويتفصد لها جبينها بل كل جارحة فيها، وتوشك أن تهذي من وقدة الحمى، ويسارع صابر إلى الطبيب يستدعيه. إنه التهاب رئوي حاد، ويبدأ العلاج وتزداد بها الحمى سعارا. ويأتي طبيب، وآخر، ثم آخر، وتموت وداد.
2
زوج يحب زوجته ولم يحب غيرها طوال حياته، وهي قد فاضت عليه بالحب خالصا صافيا، لا يرنقه كدر ولا ينغصه حرج أو تصرف يضيق به، ووهبت له البنين، وتضاعف الحب بين الزوجين بالتقاء قلبيهما حول ولديهما.
وفجأة وقبل أن تسعى بهما الحياة في مدارجها، وقبل أن تمسك بيد طفليها وهما في خطوات العمر الأولى، تموت الزوجة فتنزل الطامة بالشاب المؤمن نزول الصاعقة، وتعصف به أنواء الخوف والذعر من المستقبل. وتصبح نظراته إلى أولاده كلها ألم وحذر وحيرة وإشفاق، بعد أن كانت حبا وتعاطفا وحنينا مع قربهما إليه، وتفانيا حتى لقد كان يتمنى أن يصبح بعضا من كيانهما، أو يصبحا بعضا من كيانه، فكيانه اليوم ممزق، ونظرته إلى أبنائه فرق وخوف يطحن، وحيرة مع المستقبل في شأنهما.
كان كل يوم يمر يقترب به من بؤر الدوامة، حتى لقد أوشك أن يفقد اتزانه وقدرته على الحياة.
وفي إلهامة ربانية يصحب ابنيه إلى حج بيت الله.
وفي «لبيك اللهم لبيك» ارتدت إليه نفسه وعاد إلى رشده، وكأنما أجابته أستار الكعبة أن وداد في ظلال وريقة في الملكوت الأعلى. وتغلب حبه لها على جزعه لفقدها، ووجد الأبناء في حضن أبيهما أمنا بعد فزع، وطمأنينة بعد حيرة وهلع، وأصبح صابر منذ وقوفه أمام البيت إنسانا آخر، لقد رأى هناك أن الدنيا جميعا ما هي إلا طريق إلى الخلود عند صاحب النفوس وخالقها وقابضها، وهكذا عاد إلى مصر وقد امتلأت نفسه بحب العبادة والتفاني في ذكر الله وفي الزكاة، والعجيب من أمره أنه أصبح محبا للزراعة وحريصا على إتقانها، مرتئيا أن الله حين يهب إنسانا نعمة فإنه ينبغي على العبد أن يشكر ما أنعم به الله، ولا يكون ذلك إلا برعاية ما وهبه سبحانه لعبده، وكان أول ما صنعه أن بنى مكان الحظيرة التي تهدمت مسجدا غاية في الفخامة، وأسماه «مسجد الوداد»، وراح يوزع نفسه بين أرضه وبنيه، وكان يلجأ إلى حماته ألفت هانم أن ترعى ولديه، وتمر بهما كلما اضطرته ظروف العمل أن يترك الطفلين. وقد صحب لهما من القرية نبوية البوهي التي توفي عنها زوجها الخفير صالح عوض وهي في ريعان الشباب ورفضت بعده أن تتزوج، ولم تكن نبوية بذات بنين أو بنات، فأفرغت حنان الأمومة الرباني على عبد الغني وعبد الودود.
وتمشي الحياة وهي دائما تمشي لا يقف بها شيء، وإنما تشرق شموس الأيام من أجواف الظلمات، ثم يسقط الليل على النهار فيفنيه. وكما يولد في كل مطلع شمس يوم جديد، فإنه ما يلبث أن يموت بخطوات الظلام إلى الشمس، وتصبح الحياة كلها حياة وفناء. ومن الحياة يأتي الفناء، ومن الفناء تختلج الحياة، وتصبح هكذا سنة الحياة جميعا في كل لحظة من لحظاتها حياة وفناء! ومع مولد طفل في كل لحظة، تموت حياة في نفس اللحظة، وقد يكون الفقيد طفلا أو شابا أو عجوزا ولكنه يموت. وهل ميلاد طفل إلا هدية يقدمها الغيب إلى الموت في موعده الموقوت، لا يستقدمون عنه ولا يستأخرون. أوليس هو مخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي؟ أولا يصدق هذا على كل حياة في الأرض من إنسان أو نبات أو حيوان؟ وتمضي الحياة مهما يكن الميت عزيزا على آله، ومهما يكن أثيرا عندهم، ومهما يكن في ريعان الفتوة وزهوة الشباب. تمضي الحياة ففي ألفاظ حروفها معنى الموت، وإن كانت جملة الحروف تقول حياة. ولكن هل هناك حياة بغير موت؟ أو هل هناك موت بغير حياة؟ حتى يرث الله الأرض وما عليها فتكف الحياة عن لعبتها المتواصلة ويفرض الله الخلود، ويحيي النفوس التي أنشأها هو أول مرة، ويكون الحساب عند الحق الذي لا يضيع لديه أجر من أحسن عملا، وتصبح حروف الحياة وقد فقدت معنى الفناء واكتسبت صفة الخلود. فتلك إذن هي الحياة الحق، وما هذه التي نحياها إلا طريق إليها نقطعه شئنا أو أبينا، وعند نهايته ندري أضلالا كان سعينا أم كان على هدى؟ وننطوي في ظل الجلالة العليا مخبتين آمنين، ولو لم نجد في رحباته إلا الأمن وحده لكان في ذلك حسبنا غاية الحسب، وهل بعد الأمن نعيم؟
Page inconnue