ومدت ذراعا نحيلة واهبة وأخذت منها كوب الشاي، وجلست أمها على طرف السرير تنظر إليها؛ لماذا هي صامتة؟ لماذا لا تقول شيئا، لماذا لا ترفع يديها للسماء وتردد دعوتها القديمة؟ راح الحلم وضاع الوهم، إنها لم تلد فلتة من فلتات الطبيعة، من قال لها إنها ستلد فلتة؟ ولماذا هي بالذات؟ لماذا بطنها بالذات؟ ملايين البطون تلد كل يوم فمن الذي وضع في رأسها ذلك الوهم؟ ربما أمها هي التي أورثتها هذا الوهم كما ورثته فؤادة عنها؟! إنها امرأة من العائلة تصورت بطنها غير البطون، إنها واحدة التي بدأت، لا بد أن تكون هناك واحدة بدأت، لا بد أن يكون هناك دائما من يبدأ.
وسمعت صوت أمها يقول في حزن: ما لك يا فؤادة؟ لماذا لا تتكلمين؟ كان صوتها حنونا إلى حد أنها رغبت في البكاء، لكنها ابتلعت دموعها وفتحت فمها المر لتقول: عندي صداع شديد. وسألت الأم: هل آتي لك بأسبرين؟ وهزت رأسها: نعم. وخرجت الأم إلى الصالة مرة أخرى. وبينما هي في الصالة دق جرس التليفون، وقفزت فؤادة من فوق السرير وهي ترتعد؛ أيكون الساعاتي؟ ووقفت على عتبة بابها تنظر إلى التليفون. واقتربت أمها من التليفون لترد لكنها صاحت: لا ترفعي السماعة يا ماما! هناك شخص لا أريد أن أكلمه! لكنها تذكرت فجأة أنه ربما يكون «فريد» فقفزت إلى التليفون في خطوة واحدة ورفعت السماعة وهي تلهث، ألو؛ وجاءها صوت الساعاتي اللزج فسقطت على الكرسي كالجثة الهامدة.
الفصل الثالث
خرجت فؤادة من الوزارة، وسارت بحذاء السور الحديدي الصدئ، كان رأسها ثقيلا، وقلبها ترتج داخله الجلطة المتصلبة المزمنة، ورأت المرأة الجالسة على الرصيف، تحتضن طفلها في صدرها وتمد يدها الفارغة للناس، والشارع صاخب مزدحم، لا يرى الذراع الممدودة أحد، وقد يدفعها واحد بعيدا ليفسح الطريق أو يدوسها آخر وهو مسرع، وسمعت بكاء الطفل وهي تمر بجانبها، ورأت هيكلا صغيرا له عينان غائرتان وخدان بارزان وفم صغير مدبب، يحاول دون جدوى أن يمص قطعة جلد أسمر مجعد تتدلى من صدرها.
ووضعت يدها في جيبها لتخرج قرشا، لكن يدها بقيت داخل جيبها، ورفعت عينيها إلى الشارع، كانت العربات الطويلة تجري الواحدة وراء الأخرى، وفي كل عربة منها رأس لامع يعكس الضوء، ورقبة مكتنزة باللحم تشبه رقبة الساعاتي.
وأخرجت القرش وأمسكته في يدها لحظة، ماذا يفعل القرش؟ هل يكسو عظام الهيكل الصغير باللحم؟ هل يدر اللبن في تلك القطعة المتدلية من الجلد؟ وعضت بأسنانها على شفتها؛ ماذا يمكن أن تفعل؟ اكتشاف كيمائي يقضي على الجوع؟ غاز جديد يتنفسه الملايين بدل الأكل؟
وتركت القرش يقع من بين أصابعها في الكف الفارغة الممدودة، لن يفعل القرش شيئا، ولكن ليكن صدقة عابرة ترضي بها ضميرها ليكن ثمنا بخسا تدفعه وتنسى.
إنها كلمات فريد تعود، وصوته في رأسها له دبيب، وعيناها تبحثان عن عينيه البنيتين اللامعتين، عيون كثيرة من حولها فلماذا عينيه بالذات؟ حين كانت تنظر في عينيه من قرب لم تكن تشعر بذلك الاستغراب، وهي تستغرب منظر العيون عن قرب، حتى عيني أمها، بل حتى عينيها هي نفسها، حين كانت تقربهما من المرآة يختفي الشكل المألوف، كأنهما عينا حيوان غير أليف، لكن عيني فريد كان فيهما شيء غريب، شيء قريب، يقترب ويقترب ولا يبدو غريبا، وحين تتلاشى المسافة بينها وبينه ويتلامسان تحس بأمان شديد.
أيكون ذلك كله وهما؟ أتخدعها أحاسيسها إلى هذا الحد؟ وإذا كذبت أحاسيسها فأي شيء تصدق؟ كلمات من حبر على ورق، خطابا رسميا عليه ختم الوزارة، شهادة بصم عليها اثنان؟ أي شيء تصدق إذا كذبت أحاسيسها؟
وتوقفت فجأة لتسأل: ولكن ما هي الأحاسيس؟ أيمكن أن تلمسها؟ أيمكن أن تراها؟ أيمكن أن تشمها؟ أيمكن أن تضعها في أنبوبة اختبار وتحللها؟ أحاسيس ... مجرد أحاسيس ... حركة غير مرئية تحدث في رأسها، كالأوهام، كالأحلام، كالقوى الخفية، أيؤمن عقلها الكيميائي بهذه الخزعبلات؟
Page inconnue