نعم، لماذا؟ لماذا؟ إنها لا تعرف. أتكون الكيمياء هي السبب؟ ولكن أهي الوحيدة التي درست الكيمياء؟ أتكون مدام كوري هي السبب؟ ولكن أهي الوحيدة التي سمعت عن مدام كوري؟ أتكون مدرسة الكيمياء؟ ولكن أين هي مدرسة الكمياء؟ إنها لا تعرف عنها شيئا. إنها لم تسمع عنها شيئا منذ تركت المدرسة، أتعلق حياتها على كلمة قالتها امرأة مغمورة؟ أتكون أمها؟ ولكن أتعرف أمها شيئا عن العالم الواسع خارج جدران البيت؟ أيكون فريد؟ ولكن أين هو فريد؟ من هو؟ إنها لا تعرف أحدا يعرفه، ولا تعرف أين هو، ولا تعرف أكان موجودا حقا في يوم من الأيام، ربما كان وهما، ربما كان حلما، إنه غائب، وما دام غائبا فكيف إذن تفرق بين الحلم والحقيقة؟ لو ترك ورقة صغيرة بخط يده لاستطاعت أن تعرف. نعم، ورقة صغيرة تستطيع، أما هي برأسها وذراعيها وساقيها فلا تستطيع شيئا، لا يستطيع جسمها شيئا، ولا رأسها أيضا. كل شيء يتحول داخل رأسها إلى طنين أخرس، كل شيء ينسحق داخلها إلى صفير حاد مستمر كذلك الصفير الذي يدوي حين تصمت كل الأشياء.
نعم؛ إنه الصمت المطبق في أعماق ذلك الجسد الممدود في عجز تحت الغطاء. الصمت ولا شيء غير الصمت، إنه عاجز عن أن يقول شيئا، تلك الكلمات التي تخرج من بين شفتيه ليست كلماته، إنها أصداء متناثرة لكلمات سمعها من قبل، كلمات قالها فريد، أو أمها، أو مدرسة الكيمياء، أو كلمات قرأها في الكتب. نعم؛ إنه يردد ما سمع وما قرأ، إنه قادر على الترديد فحسب كأي جدار من الحجر.
وحركت جسمها تحت الغطاء؛ كان ثقيلا كأنه قد تحجر، وأحست بسخونة شديدة وعرق غزير يبلل جسمها، وسائل دافئ لزج ينساب من أنفها، فأخرجت المنديل من تحت الوسادة ومسحت أنفها في تقزز. أنفها يرشح كصنبور بال وجسمها ينز بالعرق. إنها ليست جدارا جافا نظيفا. ولكنها جدار رشق في رأسه وبطنه بصنابير بالية ترشح من فوق ومن تحت، بلولة لا إرادية مقززة.
ورفست الغطاء عن جسمها، كانت تريد أن ترفس عنها ذراعيها وساقيها، كانت تريد أن ترفس عنها جسدها. لكنه ظل ملتصقا به، مشدودا إليها، جاثما فوقها بثقله الكئيب وبلولته الكريهة كشخص آخر غريب عنها.
غريب عنها! غرابة أي شخص يقابلها صدفة في طريق، غرابة بواب العمارة، غرابة الساعاتي! وارتعدت. نعم، غريب كل هذه الغرابة، يبتلع الأكل في جوفه ولا تعرف ماذا يفعل به؟ تسمع أصواتا أحيانا في معدتها كمواء القطط كأنها لا تعرف ماذا يدور هناك، أين تذهب تلك الكميات الكبيرة من الطعام؟ كالطاحونة، تدور وتدور وتسحق الأشياء الصلبة، إنه الدوران والسحق ولا شيء سواهما، لا شيء آخر.
وماذا يمكن أن يكون الشيء الآخر؟! ذلك الوهم الذي كان يتراءى من وراء الضباب؟ أنبوبة الاختبار يتراقص من فوهتها غاز جديد؟ وماذا يفعل الغاز الجديد؟ قنبلة هيدروجينية جديدة؟ صاروخ له رأس نووي جديد؟ ماذا ينقص العالم؟ وسيلة جديدة للقتل؟
ولماذا القتل؟ ألا يكون شيئا آخر له فائدة؟ شيئا يقضي على الجوع؟ على المرض؟ على الشقاء؟ على الظلم؟ على الاستغلال؟ نعم نعم؛ أيها الرأس المصمت، ردد الكلمات التي سمعتها من فريد، ردد الصدى كأي جدار، ماذا تعرف أنت عن الجوع؟ وماذا تعرف عن المرض؟ وماذا تعرف عن الشقاء؟ وماذا تعرف عن الظلم؟ وماذا تعرف عن الاستغلال؟ ماذا تعرف عن هذه الأشياء التي تحدث للناس وأنت لا تعيش مع الناس؟ تنظر إليهم من بعيد وتتأمل حركاتهم وسكناتهم وكأنهم صور متحركة فوق شاشة بيضاء. هل جعت يوما؟ هل رأيت يوما إنسانا جائعا؟ تلك الشحاذة الجالسة على رصيف الوزارة وفي حجرها الطفل الصغير، هل رأيتها مرة؟ هل نظرت في عينيها لحظة؟ ألم تكن ترى منها إلا ظهرها الذي تغرقه الشمس الدافئة وتحسدها؟
هل عرفت شيئا من هذا أيها الرأس المصمت؟ لم الإصرار إذن على هذا الوهم؟ ألا تأكل وتشرب وتبول وتنام كالآخرين، لماذا لا تكون كالآخرين؟ لماذا؟
نعم؛ لماذا؟ لماذا؟ لماذا لا تكون كالآخرين وتستقر وتهدأ وتقبل حياتك كما هي؟ لماذا لا تأخذ الحياة كما هي؟ وهذه الكلمات أيضا ليست كلماتك، ألم تسمع هذا السؤال نفسه من الساعاتي بالأمس في المعمل؟ أتختزن في جوفك كل الكلمات؟ حتى كلمات الساعاتي؟ يا لتفاهتك! ألا تقول كلمة واحدة من عندك؟
وأفاقت فؤادة على صوت أمها، ورأتها تقف إلى جوارها تمد يديها النحيلتين المعروقتين بكوب من الشاي، ونظرت إلى أصابعها الرفيعة الطويلة المجعدة، أصابعها طويلة رفيعة كأصابع أمها، وسوف تصبح مجعدة كأصابعها بارزة المفاصل كعيدان الذرة الجافة. ورفعت إليها عينيها، ورأت وجهها ذا التجاعيد الكثيرة، وشفتيها اليابستين منفرجتين. الفرجة نفسها، والأسنان نفسها، ولسوف تملأ التجاعيد نفسها ووجهها هي أيضا، ولسوف تعجز قدماها عن المشي السريع وتزحفان مثل قدميها.
Page inconnue