ثم نهضت قاصدا الانصراف، وأنا لا أعي من شدة الغيظ لأنني لم أقصد جينوى ولا تحملت مشاق السفر ومر الانتظار إلا لأستنير بأخبار تعود بالنفع على تلك المسكينة، فما ازددت إلا غموضا، ولست بعائد إلى لندره إلا كما زايلتها. غير أن كلماتي الأخيرة أثرت بسنيري فلطفت نظراته الوحشية، وقال باسما: لا تسرع بالحكم علي كمذنب وأنت لا تعلم الأسباب التي تلجئني لأن أكون كذلك. فاعلم يا عزيزي أن بولينا قد ورثت من والديها مبلغا وافرا لا تقل قيمته عن ستمئة ألف ليره، وإذ ذاك كنت مثقلا بالديون بل على شفير السقوط في وهدة الذل والفاقة، فاقترضت قسما عظيما من أموالها التي كنت حر التصرف بها حيث إني كنت وليها، ثم أنفقت ما بقي من المال جزافا وبذرته إسرافا إلى أن نفد الكل، فلما تحققت الفتاة أنها أصبحت صفر اليدين استولى عليها حزن عظيم أفضى بها إلى مرض شديد عقبه الجنون. - وهل حلل لك ضميرك التصرف بمال يتيمة وحيدة؟ أولم تدر بأن هذه جناية؟ - جناية أو جريمة، فإني لا أعبأ بذلك، إن المال قد وجد للاستعمال وقضاء الحاجات، فكيف يمكني أن أذل نفسي وأكون محتقرا لدى مدائني بينا أنا قادر أن أدرأ عني العار والمال في قبضة يدي. - وهل ظننت أن اهتمامك بزواجها يعوض عنها ما جلبت عليها من الوبال؟
فأجاب بصوت منخفض: لقد أجبرت على مفارقتها وليس لي أمل أن أراها بعد فقد قضي علي أن أنهي حياتي بعيدا عن الوطن.
فقلت متهكما: أتعني بأنك مندوب لارتكاب جريمة أخرى؟ - لم أعن إلا ما قلته، فأودعك الآن الوداع الأخير.
قال ذلك وقدم لي يده التي لم يسعني رفضها، وأردف قائلا: ربما أكاتبك بعد سنة أو أكثر، وعندئذ تخبرني شيئا عن أحوال بولينا، وإذا لم أفعل فلا تحمل نفسك أتعاب البحث عني.
وبعد ذلك شيعني إلى الباب حيث كانت العربة لم تزل بانتظاري، فسار كل منا في طريق، ولم أسر طويلا حتى تعرض لي في الطريق الرجل الذي دعاه الطبيب «ماكيري»، فأشرت إلى السائق بالوقوف، وللحال صعد فجلس بجانبي، ثم قال: أرأيت الطبيب يا مستر فوكهان؟ - نعم فإني إنما الآن آت من عنده. - أرجو أن يكون كشف لك النقاب عما أتيت بصدده. - بعض الكشف.
فقال ساخرا: إذن لم يطلعك على كل شيء. فتميزت من شدة الغيظ، ولكني لزمت الصمت. فأتم حديثه قائلا: أظنك لو سألتني لأفدتك أكثر منه. - لقد طلبت إليه أن يفهمني الأسباب التي جلبت إلى قرينتي داء لا أشك بأنك عالم به، فإذا كان كذلك أرجوك بأن تفهمني الحقيقة. - ولكن ماذا أجاب سنيري بهذا الشأن؟ - قال إنه نتيجة حزن استحوذ عليها فجأة، فهل من سبب يلجئك أنت أيضا إلى الكتمان مثله، وإن صح ذلك فما هو السبب يا ترى حتى إنك لا تفتدي به حياة شخصين وسعادتهما. - سأفعل، ولكني ... أخاف. - ممن؟ - من أنك تفتك بصديقي متى أحطت علما بأفعاله المنكرة. - ولكني أعدك بل أحلف لك بكل ما هو عزيز ومقدس لدي ألا أتناوله بأذى. - ألست عازما على الرجوع إلى إنكلتره. - بلى، في أقرب آن. - فتكرم علي بنمرة محلك، فإما أن أكاتبك أو أذهب إليك بنفسي.
فلبيت طلبه، وفي أقل من طرفة عين كان منتصبا خارج العربة يرمقني بعينين تتقدان خبثا ودهاء، وقال: سوف تجني ثمرة اهتمامك بمعرفة ماضي حياة بولينتك الجميلة. فكانت كلماته كسهم سمعت له رنة في قلبي، وأوشكت أن ألقي بنفسي من العربة وأضغط بيدي على عنقه ولا أدعه يتملص منها حتى يوضح لي عبارته الأخيرة، ولكني عدت فتجلدت إذ لا ينفع الغضب في مثل ذلك الحين.
الفصل السابع
ادعاء نسبي
عدت إلى لندره وقلبي يحدثني بأن ربما تغيبي تلك المدة يكون قد محا رسمي من ذاكرة بولينا، ولكن لم تتحقق أوهامي ؛ فإنها قد تذكرتني حالا ورحبت بي وكانت مسرورة جدا بقدومي، فآه كم كنت سعيدا لو أنها صحيحة العقل كاملة الشعور.
Page inconnue