1 - ظلام وخطر
2 - حلم أو سكر
3 - أجمل المناظر
4 - ليست أهلا للمحبة والزواج
5 - بحسب الناموس لا المحبة
6 - أجوبة غير مقنعة
7 - ادعاء نسبي
8 - التذكار
9 - كذبة فظيعة
10 - في البحث عن الحقيقة
11 - جهنم على الأرض
12 - من هو؟
13 - الإقرار
14 - هل تتذكرني؟
15 - الخاتمة
1 - ظلام وخطر
2 - حلم أو سكر
3 - أجمل المناظر
4 - ليست أهلا للمحبة والزواج
5 - بحسب الناموس لا المحبة
6 - أجوبة غير مقنعة
7 - ادعاء نسبي
8 - التذكار
9 - كذبة فظيعة
10 - في البحث عن الحقيقة
11 - جهنم على الأرض
12 - من هو؟
13 - الإقرار
14 - هل تتذكرني؟
15 - الخاتمة
الغادة الإنجليزية
الغادة الإنجليزية
تعريب
لبيبة ماضي هاشم
سيداتي
اسمحن لي أن أتقدم إليكن بغادتي هذه الإنكليزية، موشحة بحلة عربية ترفل بها بينكن غير مبالية باحتقار وامتهان. ليس لأنها تدعي العصمة؛ فإن الكمال للواحد المنان، بل طمعا منها بحلمكن، وهذا مما لا يختلف فيه اثنان. كيف لا وحاكمها الجنس اللطيف السامي المقام، أفتخشى عذلا بعد ذلك أو ملاما، فإن ترمقنها بعين الانتقاد أكن لكن شاكرة، وإن تعذرن قصوري فإني به عالمة.
لبيبة ماضي
الفصل الأول
ظلام وخطر
قال بطل الرواية: إني حرصت على تدوين تاريخ حياتي لاشتماله على غرائب الاتفاق التي تقودني أحيانا إلى الريب بصحتها حال كونها حقيقة، وها أنا أسرد على القارئ أهم ما صادفت في حياتي من العجائب وما لقيت من الغرائب، من دون زيادة ولا نقصان متكلا على خالق الأكوان، فأقول:
إني رجل روماني الأصل، كاثوليكي المذهب، مقيم في إنكلترا، وقد توفي والدي وأنا صغير السن، ثم لحقت به والدتي رحمهما الله بعد أن بلغت من العمر ثلاثا وعشرين سنة، أي قبل بداءة حوادث قصتي بسنتين. وقد خلفا لي مالا وافرا لا يقل دخله عن خمسة آلاف ليرة سنويا. وكنت قوي البنية شديد العزم مطلق الإرادة والتصرف بما ورثته من والدي، ومع ذلك فإني كنت أتعس البشر محروما من ملذات هذا العالم، لا أتمتع بمناظر الطبيعة ولا أتعزى برؤية الأكوان ومشاهدة المخلوقات البشرية. وكثيرا ما كنت أغبط بل أحسد من هم دوني منزلة، حتى بلغ بي الأمر أني تمنيت الاستعطاء والتسول ممن تقوى عيناي على مشاهدتهم؛ لأني كنت فاقدا حاسة البصر محروما - وا أسفاه - من لذة النظر!
فلا ريب أن من يطلع على هذه العبارة الأخيرة تتأثر شعائره، ويرثي لحالتي ويشعر بما يستولي علي من الكدر، عندما أتقلب على فراش الأحزان متفكرا بحالتي التعيسة التي ستنتهي بي على هذا المنوال لا رفيق لي سوى الظلام، ولا ما أتمناه سوى الموت الزؤام.
ففي إحدى ليالي شهر آب الحارة بينما كنت جالسا في غرفتي إذا بالباب يقرع، وسمعت صوت الخادم معلنا بقدوم الطبيب - وهو الذي آلى على نفسه بمعالجة عيني، وكان صديقا لوالدي المرحوم - فانتعش قلبي بقدومه وترحبت به، وبعد أن جلسنا سألني عن كيفية استعمالي الدواء، فأجبته أني مثابر على الخطة التي أرشدني إليها. وبعد ذلك شعرت أنه نهض من مكانه وأدنى من وجهي مصباحا، وسألني إغماض إحدى عيني ففعلت، فقال لي: ماذا ترى بالثانية؟ - نورا طفيفا وشيئا خفيفا. - أغمضها وانظر بالأخرى.
فأطعت. - ماذا ترى؟ - ضوءا قد تشعب منه ثلاثة أنوار. - الحمد لله فقد توطد مني الأمل، وتحقق عندي نجاح العمل. - أفلا يوجد خطر؟ - إن الخطر ما زال مترصدا فرص الإهمال، وما دمت محافظا على الاعتناء فالشفاء قريب بإذن الله.
فشكرت اهتمامه بي، ثم ودعني وانصرف.
ولبثت بعد ذهاب الطبيب برهة صامتا متفكرا بما ستصير إليه حالتي، فكنت أرى أحيانا من خلال الظلام المخيف المحدق بي نجما يتلألأ فيبتهج قلبي سرورا، إذ تتمثل لي الدنيا بزخرفها فتطيب لي الحياة، ثم تحجبه الغيوم المتكاثفة فلا أعود من ثم أرى سوى الظلمة التي تعيد إلي الأحزان وتوجه فكري إلى حقيقة الحال التي أنا فيها، فأشعر إذ ذاك بأن الدم يجري في عروقي تارة حارا وأخرى باردا، وتظمأ نفسي لتجرع كأس الردى، فناديت الله والدموع سائلة على وجنتي متضرعا إليه أن ينظر إلى حالتي ويعيد إلي ما فقدت، ثم نهضت متثاقلا وانطرحت على سريري ملتمسا الرقاد متمنيا من صميم الفؤاد أن يكون رقادا أبديا.
وبعد أن صرفت مدة ساعتين متقلبا على مثل القتاد لا يقلق سكينة الغرفة إلا هبوب النسيم الحار مارا على وجهي من إحدى النوافذ، تشوقت للخروج من غرفتي كالعادة مصحوبا بأحد الخدم، ولكني لم أشأ إيقاظهم هذه المرة، فألقيت علي لباسي، وقصدت باحة الدار ومنها إلى الرواق الخارجي حتى انتهيت إلى الباب، وفي أثناء ذلك لم أسمع إلا صوت أنفاس النائمين، فوصلت إلى الطريق مسرورا لأني لم أعثر بما يزعجني، وأقفلت الباب وحفظت مفتاحه بيدي اليسرى وباليمنى عصا أسترشد بها. وسرت متمهلا متأنيا حذرا أن أتيه عن الطريق، ولما أتيت على ستين خطوة تقريبا عطفت في طريق آخر كان طوله نحوا من ثمانين خطوة، ثم عرجت على شارع طويل أفضى بي إلى زاوية هناك، وكنت قد غلطت في الحساب فانثنيت راجعا، وبينما أنا ماش لطمت بجدار لم أعثر به حين قدومي، فتحققت الغلط، وعلمت أني وقعت في الشطط.
وبعد إعمال الفكرة رأيت من الأوفق أن أتربص في مكاني إلى أن يمدني الله بمساعدة أحد المارة، فلم يمض إلا القليل حتى سمعت صوت وطء أقدام مقبلة نحوي، فاستغثت بالقادم أن يرشدني إلى شارع ويل بول، فأجاب: شارع ويل بول؟ سأفتكر بهذا الأمر حال وصولي إلى البيت.
فتضرعت إليه قائلا: تكرم علي يا سيدي وقدني إلى شارع ويل بول. - شارع ويل بول. ها. ها. لقد سمعت كثيرا بهذا الاسم لما كنت صغير السن لا أفقه المعاني العويصة جيدا، وأما الآن فإني المالك العادل والفيلسوف ال... - رحماك يا سيدي إني ضرير، وقد ضللت عن الطريق فاهدني إلى شارع ويل بول، ولك أجر عظيم عند رب السموات. - ها. ها. أعمى يا مسكين ... تقصد شارع ويل بول. ها. ها. ها. تأبط ذراعي إذن لنسير كأصحاب، بشرط أن تعيرني ساقيك وأعيرك عيني، وبذلك نأمن على أنفسنا الخطر. قال ذلك وهوى علي من فعل الخمرة التي فاحت رائحتها من فيه فكادت تزهق روحي، فقلت في نفسي: «أعمى يقود أعمى وكلاهما يسقط في الحفرة.»
وبعد أن سرنا قليلا، وقد أراني الموت ألوانا بثرثرته وشقشقة لسانه وقف بغتة، وقال: ها قد وصلنا إلى الشارع المطلوب فدعني أذهب بك إلى منزلك. - لا لا. أشكرك من صميم قلبي فاذهب بسلام. قلت هذا ووضعت يدي على الحائط متهاديا حتى انتهيت إلى آخر العطفة، فلم أشعر إلا وأنا واقف أمام الباب، فأولجت المفتاح الذي كان بيدي في القفل، وبأقل من دقيقة صرت داخل الحديقة، ثم جعلت أفكر في الوقت الذي صرفته ذهابا وإيابا راجيا ألا تكون قد طالت مدة تغيبي فيفتقدني الخدم وربما تتبلبل أفكارهم لغيابي.
وبينما أنا كذلك إذ أوقف مجرى أفكاري صوت رنات الساعة وكانت تسعا - وهي ابتداء تاريخ قصتي العجيبة - فلم أنته من عدها حتى وقفت مبهوتا إذ عثرت رجلي بسلم لم أعهده قبلا في منزلي.
فمن يقدر أن يصف ما خامرني من العجب والخوف في تلك الساعة، فاستعنت بالله وصعدت ذلك السلم وكان خمس درجات، فوقفت في أعلاه متحيرا في أمري بين أن أرجع أدراجي أو أداوم المسير، وصرت أناجي نفسي قائلا: لعلي دخلت في غير مسكني، ولكن كيف يمكن ذلك والمفتاح قد ولج في القفل بسهولة فالبيت إذن بيتي، ولكن لا علم لي بوجود هذا السلم فيه.
وهكذا تضاربتني الأفكار حتى ظننت نفسي في حلم، فوضعت يدي على وجهي ثم قرصت طرف أذني حتى كدت أصرخ من شدة الألم، فتأكدت حينئذ أني مستيقظ، ثم تذكرت أنه يوجد في حائط غرفتي الخارجي حجر ناتئ كنت ألمسه بيدي كلما دخلت، فانطلقت إلى حيث ظننت الطريق الموصلة إليه ولكني لم أحظ بالعلامة المذكورة، بل عثرت يدي بحلقة باب فاتضح لي حينئذ غلطي، وتيقنت ما كنت مرتابا منه.
فحولت وجهي نحو الباب قصد الرجوع من حيث أتيت، ولكني رأيت نفسي غير قادر على السير في الطريق المستقيم بدون دليل؛ لأنه من المحتمل أن المفتاح يناسب سائر أبواب ذلك الشارع، وعليه فأطرق جميع المنازل في جوف الليل، فلا يعد أمرا عجيبا إن خالني الناس لصا وأوسعوني ضربا وشتما قبل أن يفهموا حقيقة حالي. فقلت في نفسي: ما ضر لو دنوت من باب الغرفة وقرعته بلطف، ثم أعرض حالتي على من سيقابلني وأفهمه سبب مجيئي، والمفتاح أعظم شاهد على صحة مقالي، وهذا الفكر قد أعاد إلي الطمأنينة.
فرفعت يدي لأقرع الباب؛ إذ وقع في أذني صوت أناس يتكلمون، وسمعت عقيبه لحنا شجيا وتبعه غناء امرأة بصوت رخيم جدا يأخذ بمجامع القلوب، ثم انقطع الصوت فجأة، وناب عنه صيحة شديدة وصوت وقوع جسم على الأرض وتبعه أنين ضعيف، وعلى أثر ذلك حدثت غوغاء وكثر اللغظ والضجيج، فصح عندي حدوث جريمة داخل القاعة التي لا فاصل بيني وبينها إلا ذاك الباب الخشبي، فخفق قلبي وجرى الدم بسرعة في عروقي، وشعرت أن الأرض مادت تحت رجلي، وأخذ العرق البارد ينسكب من جبيني، ولم أعد أفكر بحالتي ولا بالخطر المحدق بي، بل كان اهتمامي معرفة ما هو جار بالداخل.
فدفعت الباب بيدي ودخلت كأني أريد إغاثة من لا بد أن يكون مظلوما، بيد أني لم أجهل كوني أعمى وغير قادر أن آتي بنفع، ولكن قوة غريبة دفعتني إلى صحن القاعة، فما خطوت خطوتين حتى عثرت بجسم ملقى على الأرض، فهويت فوقه، وأصابت يدي منه مادة لزجة فاترة، وعند ذلك طوقتني الأيدي من كل صوب وضغط بعضها على عنقي حتى كادت تبلغ روحي التراقي، فأيقنت أن لا نجاة لي منهم، وأقبلت على نفسي باللوم والتقريع لمخاطرتي وإقدامي على ما أجهله بدون أن أنظر في العواقب، فوقعت في هاوية لا أرجو منها مناصا ولا آمل خلاصا، أنا الذي منذ قليل كنت أستدعي الموت ولا يجيب، وجدت في تلك الساعة أن حياتي المنكودة المظلمة ثمينة بل هي أثمن شيء عندي، فصرخت بصوت أرجفه الخوف وقواه الأمل بالحياة: ارحموني ارحموني أنا أعمى.
الفصل الثاني
حلم أو سكر
قلت ذلك وقد جعلت نفسي كآلة صماء بين أيديهم، وأصبحت أطوع لهم من بنانهم؛ لأني تأكدت عدم مقدرتي على المقاومة، وتيقنت أن أقل إشارة آتي بها للدفاع عن نفسي ستكون مني الحركة الأخيرة، فرأيت أولى بي وأوفق أن أكرر القول بأني أعمى، لعلهم يرحموني أو يوجد فيهم من يسمع صوتي فيرثي لحالي، فما كان منهم إلا أن ألقوني بجانب الجسم الممدد على الأرض، ثم فرجت عني الأيدي.
فليتصور القارئ حالة شاب وجد دون قصد منه في بيت أناس يجهل حقيقة حالهم، فكان كلما يطرق سماعه همس يظنهم يتآمرون على إعدامه، وأقل حركة يشعر بها بينهم يظنها اليد التي تقصد قتله فيتصورها ماسكة خنجرا وستغمده في صدره.
أكتب ذلك ويدي ترتجف من تذكار تلك الليلة التي أحسبها أسود نقطة في تاريخ حياتي، فتمر حوادثها في ذاكرتي، فيخفق لهولها قلبي وتسري الرعدة في جسدي.
وبعد قليل شعرت بنسيم بارد هب على وجهي، فعلمت أن الباب قد فتح ثم خرج منه أحدهم وعاد فأوصده، ثم تقدم واحد مني وربما ركع بجانبي أو انحنى فوقي؛ لأني شعرت بأنفاسه تمر على خدي، وقرب إلي مصباحا أصابت حرارته وجهي وكأني به يفحص عيني، ثم ابتعد عني ووكزني برجله وأمرني بالوقوف، فتحركت لأتيقن ارتفاع الأيدي عني ونهضت مذعورا، ومن تلك الدقيقة أملت بالحياة ثانية. ثم وضعت يد على كتفي ورفعتني بلطف، وقائل يقول لي: سر مستقيما أربع خطوات. ففعلت، غير أني لم أخط خطوتين حتى لطمت جبهتي بجدار البيت، فعلمت أنها كانت حيلة منهم ليتحققوا بها صدق مدعاي. فلبثت واقفا أنتظر تتمة الأوامر، فسمعت أحدهم يقول: يجب أن تبقى على هذه الحالة إلى أن نستدعيك، وإذا أتيت بأقل حركة أو أملت رأسك نحونا تكون قد سعيت إلى حتفك بظلفك. فارتعدت فرائصي لهذا التهديد ولبثت صاغيا لما يحدث حولي.
فابتدأوا يتهامسون بأصوات منخفضة جدا، حتى إني مع كل ما بذلت من الجهد لاستماعهم لم أفقه حرفا مما فاهوا به. ثم طرق سمعي حركة أجسام عنيفة ووقع أقدام كثيرة وتبعها قلقلة مفاتيح بالأقفال ثم خشخشة ورق ورنة دراهم وبعده تمزيق أثواب. وقد شممت رائحة أوراق محترقة، وبعد قليل شعرت بهبوب نسيم بارد، فعلمت أن الباب قد فتح ثانية، ثم ازدحمت عليه الأقدام وخرج منه أناس كثيرون وكأنهم مثقلون بحمل عظيم.
وبعد أن ساد السكوت في الغرفة، سمعت صوت خطوات خفيفة وتنهد عميق، وكأن شخصا رمى بنفسه إلى كرسي، فعلمت أني لم أكن وحيدا في ذلك المكان، فسألته من دون أن ألتفت نحوه: كم من الزمن سأبقى أسيرا عندكم؟ فسمعته يتململ بكرسيه ولم يجب بكلمة، فأعدت القول: هلا يطلق سراحي قريبا؟ فإني لم أر شيئا مما حدث بينكم، فأستحلفكم بالله أن تخرجوني خارجا خوف أن يداهمني الجنون إذا بقيت على هذه الحالة. فلم أحصل على جواب، فنكصت صاغرا مستعينا بالله على هذه البلية التي جلبتها لنفسي بيدي، وساقني إليها سوء حظي. وبعد برهة أمسك ذراعي بيد قوية قادتني إلى كرسي أمرت بالجلوس عليه فأطعت، ثم قال أحدهم: أخبرنا الآن من أنت؟ ولم أتيت إلى هذا المكان؟
فشرحت لهم أمري دون أن أماطل بحرف سوى أني أخفيت عنهم اسمي الحقيقي خوفا من بث العيون علي بعدئذ، ولم أنه حديثي حتى شعرت بكأس طافحة بمادة سائلة قد وضعت بين أصابعي، وقائل يقول: خذ واشرب. فصرخت: لا، لا أريد، فما هذا إلا سم. فسمعت قهقهة ممن هو قريب مني، ثم قال: اطمئن، فهذا ليس كما توهمت، ولكن هذا - ووخزني بجبهتي بحدة - نوع آخر، فاختر لنفسك ما يحلو. ففضلت شرب ما في الكأس ولو أنه الموت بعينه، وإذ ذاك طرق سمعي صوت آخر يقول: إذا كنت رجلا حكيما فتقول غدا عندما تستيقظ من نوم طويل، لقد رأيت حلما أو كنت سكرانا، وتذكر بأنك لم ترنا، وأما نحن فقد رأيناك. ولم يأت على آخر هذه الكلمات حتى استولى علي نعاس شديد وشعرت بخدر متزايد في أعضائي حتى لم يعد بي قوة لامتلاك نفسي من السقوط، فهوى رأسي على صدري وأوشكت أن أسقط إلى الأرض لو لم تحل دون ذلك يد قوية وضعت على صدري.
وبعد أن مضى علي ردح من الزمن وأنا غائب عن الوجود، استيقظت فوجدت نفسي ملقى على فراش، فجعلت أمر يدي على وجهي متعجبا مما صارت إليه حالتي، ثم استويت جالسا وتأملت مليا بما مر علي من الحوادث، وكدت أقنع نفسي بأني لم أر إلا حلما. ولكني عندما تمددت ثانية وشعرت ما بجسدي من الضعف وبفمي من العطش، أيقنت بحقيقة ما حسبته وهما أو حلما، فوثبت مذعورا وصرخت صرخة اليائس، وقد عاودتني المخاوف، ثم عدت فجلست معتمدا رأسي بين يدي.
وعند ذلك سمعت صوت مربيتي تقول: آه يا عزيزي جلبرت. ثم تبع كلامها صوت رجل بنغمة لطيفة قائلا: لا تجزعي، فسيدك يشفى قريبا، دعني أجس نبضك يا مستر فوكهان.
فقلت: من هذا؟
قال: أنا الطبيب جورج صديقك. - اصدقني القول، هل كنت مريضا؟ وإذا كان كذلك فكم من الزمن صرفت في مرضي؟ - عدة سويعات فلا تجزع، إنما أنت مفتقر إلى الراحة، فاصمت غير مأمور والزم السكينة. فصرخت: الماء، الماء، أدركوني بالماء، فإني أكاد أموت ظمأ.
وبعد أن ارتويت قليلا شعرت بقليل من الراحة، ثم سمعت الطبيب يخاطب مربيتي بقوله: أعدي له قليلا من الشاي، وإذا طلب طعاما فلبيه، أو عرض له ألم فلا تتأخري عن إعلامي. قال ذلك وخرج، فشيعته بريسلا إلى الباب.
وفي تلك الساعة عادت إلي الأفكار وصرت أردد في ذاكرتي حوادث الليل الغابر، وحينئذ دخلت خادمتي الأمينة وكأني سمعتها تشرق بدمعها، فسألتها: كم هي الساعة الآن؟ فأجابت بصوت حزين: قريبا يصير الظهر يا سيدي. - الظهر! ماذا ألم بي؟!
فبكت بصوت منخفض ولم تجبني. فكررت السؤال عليها، إلى أن قالت بصوت متقطع: يا سيدي جلبرت ... ماذا اعتراك؟ ... وكيف ... أقدمت على هذه ... الفعلة ... الشنعاء؟ ... آه لو تعلم ما حل بي حينما أتيت الغرفة صباحا ووجدت الفراش فارغا و... - وهل وجدت الفراش فارغا؟ إذن أنا في يقظة ولست في حلم، فاجلسي يا بريسلا وأخبريني بالتدقيق ماذا جرى بعد ذلك؟ - سيدي، لي الحق أن أعاملك كولدي، وطالما سمعتني أكرر كلمات والدتك الأخيرة وهي على فراش الموت، فقد أوصتني أن أعتني بك، وقد أقسمت لها بذلك، وها أني ناصحة لك بألا تعود لإدمان الخمرة التي اتخذتها عادة جديدة فأكثرت منها الليلة الماضية، وإذا كان لا بد لك منها فلا تخرج من البيت وتطوف في شوارع المدينة وأنت لا تبصر شيئا و... - لقد جننت يا بريسلا، فخلي عنك الهذيان وأخبريني ماذا حل بي أثناء الليل الغابر؟ - عندما استيقظت صباحا دنوت من باب الغرفة كالمعتاد لأرى إذا كنت نهضت من الرقاد فأسعفك بخدمة، فلم أسمع حركة تؤذن بوجودك، ثم انتبهت للباب فإذا به مفتوحا فعجبت لذلك، وبعد أن ولجته وجدت الغرفة خالية خاوية فجمدت برهة، وكان معظم خوفي من أن تكون قد سعيت إلى حتفك لأني كثيرا ما سمعتك تردد ذلك لقنوطك من الشفاء. فأسرعت توا إلى الزقاق أسأل عنك كل من أصادفه في طريقي، حتى إذا وجدت نفرا من الشرطة أعلمتهم بفقدك ورجوتهم أن يساعدوني بالتفتيش عليك، فأخبرني أحدهم أنه على مسافة ميلين من شارع ويل بول قد وجد شابا ملقى على قارعة الطريق لا حراك به، فأحضره إلى محل الشرطة للبحث في أمره، وقد تحقق كونه سكرانا، فانطلقت إلى حيث كنت موجودا فرأيتك ملقى على الأرض محاطا بالحرس، وهم يتباحثون في أمرك، وكنت فاقد الرشد وثيابك ممزقة وملوثة بالأوحال، فحاولت عبثا إمساك دموعي لما رأيتك على تلك الحالة المحزنة، وفكرت في أقرب الطرق التي أقدر أن أنقذك بها من نظرات الاحتقار. فسألت الشرطي أن يسمح لي بأخذك إلى المنزل بعد أن أفصحت له عن اسمك ومحل سكنك، ثم اكتريت عربة وصحبتك بها، وكنت إذ ذاك بين حي وميت، وبقيت على تلك الحالة نحوا من ست ساعات، ولا تسل عما خامرني من الجزع وأنا واقفة بجانبك منتظرة انتباهك بذاهب الصبر. وفي أثناء ذلك استدعيت لك الطبيب فأنشقك بالحال بعض المنعشات، ولم يمض إلا القليل حتى عادت إلي الطمأنية وذلك عندما سمعت كلماتك المتقطعة التي أعادت إلي الأمل بسلامتك. - أشكرك يا بريسلا، فإنك قد أخلصت لي الخدمة، وعسى ألا أكلفك هذه المتاعب ثانية، أما الآن فأحضري لي شيئا من الطعام لأني جائع.
فذهبت لإتمام ما أمرتها به، ولم يكن قصدي بذلك إلا إبعادها كي أختلي بنفسي لحل ما أشكل علي فهمه، فجعلت أدير في خلدي تصورات حوادث الليل الغابر، وأتذكر انفصالي عن البيت وشرودي عن الطريق، ثم مصادفتي للسكير ودخولي غير منزلي واستماعي تلك النغمة الشجية التي لم تزل إلى الآن ترن في أذني، وبعد ذلك دخولي بغتة تلك الغرفة وسقوطي فوق ذلك الجسم الممدد، وإذ ذاك تنبه فكري لتلك المادة السائلة التي بلا شك كانت قد تلوثت منها أصابعي، فخفق قلبي بشدة، وللحال ناديت خادمتي وأريتها يدي ثم سألتها بلجاجة إذا كان عليهما أثر الدماء، فقالت: لا يا سيدي فإني غسلتهما حالا حين أتيت إلى المنزل؛ لأنهما كانتا ملطختين بالأوحال والأقذار. - ألم تري شيئا من ذلك على أكمامي؟ - لقد كانت أكمامك مقطوعة ويداك عاريتين.
فلم يعد عندي شك بحقيقة ما كنت أحسبه وهما، ووقعت في حيرة من جراء ذلك، حتى إنه لم يبق لي صبر عن إظهار ما يكنه صدري من الغرائب، وما ازدحم في مخيلتي من تذكار تلك الحوادث. فاستدعيت من أثق به من أصدقائي وقصصت عليه ما صادفته في ليلتي حرفيا، وكنت كلما أتوغل في الحديث أجده أشد هولا وأكثر غرابة من ذي قبل. وقد انتظرت عبثا أن أسمع من جليسي حركة تعجب أو اندهاش، ولكنه قد اقتصر على السكوت كمن يصغي لأقاويل لا طائل تحتها. فتأثرت لذلك ولم يفتني أن بريسلا قد سبقت فأطلعته على ما علمته هي من أمري. وأخيرا قلت له: كيف رأيت يا عزيزي إدوار؟ فأجاب ضاحكا: إن أحلام الخمرة قد تجسم الوهم أحيانا إلى حد أن تجعله حقيقة. - أنت تهزأ بي. - معاذ الله يا صديقي. - ثق إذن بما أرويه لك فترى أهمية ما أدعيه. - إني على يقين تام من أنك تتكلم عما تظن حدوثه، ولكني لا أراه أكثر من حلم تخايل في ذهنك أو تخيلات وهمية.
فلزمت الصمت لما رأيت نفسي عاجزا عن الإتيان ببراهين ثابتة تؤيد صحة قولي. ثم اجتمعت بصديق لي آخر، فكان منه ما كان من ذاك. فيئست من معرفة المجرمين، وقصدت أن أتناسى هذا الأمر إذ رأيت أن أعز أصدقائي ومن عرفتهم من سن الطفولية قد هزأوا بحديثي ونبذوه ظهريا، فماذا أنتظر من الغرباء أو إذا لجأت إلى المحاكم فعلى من أرفع دعواي؟ وكيف أقدر أثبت حدوث تلك الجناية؟ وفوق ذلك أعرض حياتي لأخطار مخالفة إنذار الرقباء وقولهم: «إننا رأيناك وعرفناك، وأما أنت فلم ترنا.»
ولم يمض زمن طويل حتى تناسيت هذه الحوادث المزعجة وصرفت فكري لما هو أهم، فإن العالم تراءى لي مضيئا للمرة الثانية، وقد تبلج صبحه من خلال الظلام المدلهم، فبدد عن عيني تلك الغشاوة، وبرق بارق الأمل بحياة جديدة، فمحا من ذاكرتي ما كنت فيه من التعاسة، وعاد إلي الأمل بالسعادة. فتداركني الباري برحمته إذ أعاد إلي حاسة البصر، فصرت أبصر وقلبي مفعم حبورا ولساني ناطق بشكر مولاي القادر، فقد تم لي الشفاء بمشيئة الله بعد أن أجرى الطبيب عملية جراحية وأمرني عند نهايتها بالاحتجاب عن النور بضعة أشهر. وليتصور القارئ اللبيب بأي قلق صرفت تلك المدة التي حسبتها دهرا وحجبت عن مشاهدة العالم ثانية، فتارة كان يتراءى لي الفوز بمبتغاي، وأن السعادة قد أصبحت في قبضة يدي، وتارة يخال لي استحالة ذلك الأمر وأراه فوق طاقة البشر، فأسأل نفسي: هل يمكن يا ترى لأعمى أن يبصر؟ فيجيبني صوت من أعماق قلبي مرددا في ذهني كلمات الطبيب: «لا تيأس من الشفاء.» فألبث حاسر الرأس راضيا بقليل من الأمل. فيا لها من ساعة بهجة اهتز لها فؤادي طربا وطابت بها نفسي انتعاشا، ساعة سمح لي بها أن أحل تلك الرباطات الحاجبة عن بصري النور. ولكني أمرت باستعمال النظارات وقاية لعيني الضعيفتين اللتين ما لبثتا أن تداركتهما الصحة رويدا، وبعد زهاء سنتين كاملتين تمت لي أسباب السعادة فأبصرت كل شيء واضحا جليا، وتمتعت بجمال الطبيعة وبهجتها وزهاء الكون ورونقه، فظهر لي العالم باسما يهنئني بحصولي على كامل الملذات.
وكم من مرة نهضت من فراشي ليلا، وخرجت إلى الحديقة أمتع نظري بمرأى أشجارها المثمرة وأزهارها المعطرة التي وشحها الربيع بحلله السندسية وزينها الندى بقطراته اللؤلؤية، والقمر يلقي عليها أنواره الفضية فيحدث منه ظل خفيف يتماوج من خلال أوراقها، بينما النسيم يلثم خدود الورد فتنحني له الأوراق استحياء، وتتمايل الأغصان منه طربا وإعجابا. فيا لله كم كان يفوتني من مثل هذه المناظر التي تدفع عني الهموم وتجلي الغموم. وحينئذ كنت أرفع عيني إلى السماء ممجدا المبدع الوهاب، فأرى فوقي النجوم الساطعة تتلألأ في السماء وترقص في الفضاء، فيرقص لها قلبي طربا ويدفعني السرور إلى الركض في الروضة كالطفل الصغير مندهشا لكل ما تقع عليه عيني.
وكنت أحسب نفسي أسعد البشر، وما كان يقلقني سوى تذكار سماع ذلك الأنين المؤلم الذي سمعته في تلك الليلة المرعبة، وما كنت أنساه مع ما مر بي من الأيام، وما كان من اختلاف الأحوال.
الفصل الثالث
أجمل المناظر
بارحت إنكلترا في أواسط الربيع مع صديقي إدوار قصد التجول في نواحي إيطاليا، وذلك إذعانا لأمر الطبيب الذي ما برح منذ شفيت يحثني على التجول والترحال ترويحا للنفس وتنزيها للخاطر. وأول مدينة أتيناها هي تورين، فصرفنا فيها زهاء أسبوع متجولين في شوارعها العظيمة ومنتزهاتها الجميلة معجبين بمشهد بناياتها الشائقة وقصورها الشاهقة، وكنائسها العظيمة التي زاد منظرها إجلالا تقادم عمدها واتساع هياكلها.
فبينما كنا ذات يوم نتنزه بين الأشجار على ضفة جدول بهج تجري مياهه بسرعة فوق حصباء كالدر، وقد نقش الريح على الماء زردا، وهز معاطف الأغصان فتمايلت عجبا، وغردت الأطيار على أفنانها فازددنا طربا، ووقفنا برهة نمتع النظر بمشاهدة عجائب الكون وجمال الطبيعة، وأفكارنا سابحة في تيار التأملات اللذيذة، إذ أوقف مجرى تأملي في بدائع الكائنات سماع وطء أقدام خفيفة، فالتفت وإذا بغادة هيفاء قامتها نجلاء مقلتها لا يشتكي منها قصر ولا طول، وهي من أجل ما وقع نظري عليه من الجنس اللطيف، مرت سريعا بالقرب منا تصحبها امرأة مسنة. فذهلت لمرآها ووددت لو أني استوضحت محياها جيدا، فأتبعتها النظر حتى توارت داخل باب دير الكاثوليك، وكان حينئذ وقت الصلاة. فاتفقت مع رفيقي على اتباعها، ثم ذهبنا وكلانا متشوق لرؤيتها، فلما دخلنا الدير جلست على مقعد خشبي بعزلة عن الناس، وأول شخص وقعت عيني عليه عندما أجلت نظري بالجموع كان تلك الحسناء، فتأملتها طويلا وإذا بها جالسة بهدو تام مطرقة إلى الأرض لا تميل برأسها إلى جهة ما. وقد حاولت عبثا أن أرى وجهها جليا، فلم أظفر إلا بجانب منه، فألفيته ذا بشرة بيضاء ضاربة إلى الصفرة، وقد تدلى فوقه خصلة من شعرها الحالك السواد المتجمع في أم رأسها على أجمل هيئة وألطف زي، فزاد منظرها هذا وقارا وجمالها كمالا. وإني لأقول إنها إنكليزية الأصل لما ظهر لي من هيئة ملابسها، غير أن تلك الخادمة المرافقة لها تدل ملامحها صريحا على أنها إيتاليانية. وبقدر ما كانت الفتاة ذاهلة غير مكترثة بالصلاة تتلاطمها أمواج الأفكار، كانت الأخرى ساجدة مواصلة التضرع بدموع حارة كأنها مجرمة وشاعرة بثقل نير خطيئتها، فأتت تلتمس من الباري عفوا ورحمة.
وعقيب أن أنهت الخادمة الصلاة، تحفزت للنهوض وأشارت بذلك إلى الفتاة فأطاعتها، ولم تنبس ببنت شفة. فهرعت مع رفيقي إلى الباب ننتظرهما، فرأيت على مقربة منا كهلا ربع القامة عريض الكتفين واقفا بهيئة تدل على أنه بانتظار أحد، ثم رأيت الخادمة مقبلة والفتاة إلى جانبها، فتقدمت الأولى لتدهن جبهتها بالماء المقدس كما هي العادة، وظلت الفتاة واقفة تنتظرها برهة تمكنت بأثنائها من مشاهدة وجهها دون مانع، فإذا هو من أجمل ما يتصوره العقل، ذات عينين سوداويين وأهداب طوال ترمي الناظر إليها بنبال عن قوسي حاجبها، ولها نظرات حادة تدل على أن داخل تلك الجبهة الناصعة البياض والمكللة بتاج الرصانة والجمال فكرا عميقا وسرا عظيما. وبعد أن رسمت الخادمة إشارة الصليب تقدمت نحوها وذهبتا سوية.
وبعد أن خرجنا من الكنيسة دنا منهما ذلك الرجل الذي رأيته قبلا، فاندهشت الخادمة لرؤيته ثم حيته مقبلة يده. أما الفتاة فلم تنظر إليه باهتمام، بل فتحت شفتيها الأرجوانيتين كأنها تريد التكلم، ثم أعرضت عن ذلك، ومالت برأسها اشمئزازا، وإذ ذاك وقع نظرها على نظري، وقد أرسلت أهدابها ظلا خفيفا على خدها العاجي، فما كانت لتبارح ذهني قط تلك الهيئة الملائكية.
وفي أثناء هذه الفترة كانت الخادمة قد أنهت حديثها مع ذلك الرجل، فذهب وهو ينظر إليها كمن يعيد أمرا على الآخر لإتمام طلبه، فأجابته بإشارة من رأسها تعني بأنها قد فهمت المغزى من تلك النظرة، ثم تقدمت من الفتاة وجذبتها من ذراعها بلطف وسارتا، فقلت لرفيقي: أنظرت هذه الحسناء؟ قال: نعم، وهي على جانب عظيم من الجمال. - إن هذا المحيا لأبدع ما رأيت في حياتي، ولكن أمرا يشوه جماله. - هل جرت العادة عند رجال الإنكليز أن يصفوا جمال هذه وقباحة تلك بينما هم على الطريق؟ أم هذه عادة الإيتاليان؟
طرقت آذاننا هذه الكلمات بصوت جهوري صادر من رجل بالقرب منا فالتفتنا نحوه، وإذا هو شاب في الثلاثين من عمره طويل القامة، ينبعث من عينيه أشعة الخبث والدهاء، فعزمت أن أبطش به لو لم يتداركني رفيقي ويخاطبه برقة قائلا: لقد أجمع رأي العالم قاطبة على استحسان كل ما هو حسن والعكس بالعكس، ومع ذلك فإذا كنا أتينا أمرا منكرا نرجو أن يقبل عذرنا لدى حضرة السيدة وجناب قرينها أو أخيها. فقال الغريب: إني لست أحدهما. - إذن فنسيبها أو صديقها، وعلى كل يسرنا أن نراك تبالغ في الغيرة عليها.
قال رفيقي ذلك بلهجة الساخر، وأدار ظهره دون أن ينتظر جوابا، فلبث الغريب شاخصا إليه بعينين يتطاير منهما الشرر لما ألحق به من الاحتقار. وأما أنا، فعندما عاينت منه ذلك توقفت عن المسير خوف أن يغدر به ذاك الشقي، ولكنه وجد أخيرا أعقل مما ظننته لأنه ما عتم أن سار في طريق غير التي سلكناها. وبهذه الفترة التي أضعناها بمجادلة ذلك الرجل كانت الفتاة قد توارت مع رفيقتها عن العين، ولم ندر في أي طريق سارتا، وقد خجلت أن أسأل رفيقي الإسراع بالمسير واللحاق بهما، ووددت لو أكون وحدي فأتبعهما وأستعلم عن اسمها ومحل سكنها، ولكن كان لي أمل أن أراها مرة أخرى، وحينئذ لا تفوتني الفرصة لإتمام رغائبي.
ما كل ما يتمنى المرء يدركه؛ فإني كثيرا ما ترددت إلى ذلك المكان ولم يتح لي الحظ أن أراها هناك. وأخيرا يئست من مصادفتها واستولى علي حزن عميق، وكنت كيفما أذهب وكل ما أراه من الغرائب لا يشغل ذهني أو ينسيني ذلك الوجه الجميل، وأحيانا أسخر من نفسي ومن الضعف الذي استولى علي، فتمكنت من قلبي صورة من لم أرها أكثر من مرة واحدة ومن لم أخاطبها قط أو أعلم عن حقيقة أحوالها أمرا، فأناجي نفسي قائلا: ما لك يا جلبرت ولهذه الفتاة المجهولة لديك؟ وما يجديك التفكر بها سوى التعب والبلاء؟ وما يدريك أنها ليست ذات بعل وأنها حرة الفؤاد، وكيف كان الحال فليس لك أمل برؤيتها ثانية، فالأجدر بك أن تنساها. غير أني تأكدت بعد قليل أني غير قادر على ذلك؛ لأنني كلما طردت ذكرها من ذهني ازداد إليه ترددا أو حاولت إمحاء رسمها من ذاكرتي انتصب طيفها اللطيف أمام عيني.
ودامت لي الحال على هذا المنوال نحو عشرة أيام أعلل النفس بلعل وعسى، إلى أن رأيت إصرارا من صديقي على مبارحة تلك المدينة حيث لم تعد تسمح له الظروف بإطالة المكث، فبارحناها وفي النفس حسرة لمفارقة أرض نبتت فيها زهرة آمالي، فسرنا إلى جينوى ثم إلى فلورنسه فروميه ونابولي ومنها توا إلى جزيرة سيسيليا، وعرجنا على بعض أمكنة، ثم رجعنا إلى لندره وكان قد مضى أكثر الصيف.
وفي صبيحة اليوم الثاني شيعت صديقي إدوار إلى شاطئ البحر حيث توجه إلى بلاد اسكوتلاندا لأشغال دعته إليها. فما كان فراقه إلا ليزيد فؤادي انكسارا وقلبي حزنا وتعذيبا. فجلست على صخر كبير منفردا عن الناس أتأمل بالأمواج المتلاطمة وهي تتقلب متقدمة نحوي باسمة متلألئة بأشعة الشمس المنعكسة على سطح الأوقيانس العظيم، ثم ترتد إلى الوراء ويتفرق شملها كبنات نعش، فأثر بي هذا المنظر تأثيرا عظيما، وعاودني ذكرى ذلك المنظر البهج الذي شاهدته في إيطاليا؛ لأنه يحاكيه جمالا لوجود تلك الغانية. فقلت في نفسي: ما كان أسعدني لو أراها الآن بعين الحقيقة لا بعين الخيال الذي قد طال علي تردده فأذاقني صنوف العذاب ... ليتني بقيت أعمى ولم تقع عيني على سبب هيامي ومصدر همومي، فكان أولى بي أن أحيا تعيسا من أن أموت شهيدا، ثم فاضت مدامعي وجعلت أنوح كالثكلى.
وإني لعلى تلك الحالة إذا شعرت كمن مسه سلك كهربائي، فهببت واقفا على أقدامي وجعلت أنظر كالمعتوه إذ شاهدت بغتة فاتنتي مقبلة مع خادمتها. نعم، نعم، رأيت ثانية تلك التي عانيت من أجلها أمر العذاب، نعم رأيتها وهي لم تزل كما كانت آية الجمال والكمال، فمن يصف حالتي في تلك الساعة التي انتقلت بها من الغم والقنوط إلى السعادة والأمل! أما هما فظلتا سائرتين إلى الجهة الأخرى وأنا أتبعهما النظر، إلى أن ابتعدتا عني قليلا، ثم سرت على أثرهما متأخرا عنهما نحو مئة خطوة، وعند ذلك عرجتا على شارع «ريجنت»، ولم تسيرا طويلا حتى عطفتا في شارع آخر ودخلتا نزل «مايدا»، فعلمت أنهما غريبتان عن البلاد وقاطنتان في ذلك النزل، فلبثت برهة واقفا وإذا بنافذة فتحت في الطابق العلوي، وبانت منها الفتاة وكانت منهمكة بوضع بعض الأزهار في إناء خزفي، وبعد أن أنهت عملها ألقت نظرا هادئا على الطريق، ثم توارت داخل الغرفة.
وحينئذ شعرت أن قوة غير منظورة دفعتني لباب ذاك النزل، فقرعته، ولم يكن إلا القليل حتى فتحته امرأة قصيرة القامة غليظة الجسم، فسألتها: هل يوجد غرفة للأجرة؟ أجابت: نعم يا سيدي. وقبل أن تنهي كلامها صعدت السلم فتبعتني وشرعنا بالتطواف في النزل غرفة فغرفة حتى انتهينا إلى أحسنها، فأسلفتها الأجرة وعدت للإتيان بما أحتاج إليه من الملابس مدة إقامتي هناك. وهكذا في اليوم الثاني كنت من جملة سكان ذلك النزل، وقد شعرت بسرور عظيم من هذا الاتفاق؛ لأنني كنت في الأمس آيسا من وجودها حزينا لبعدها، واليوم هي على مقربة مني لا يسومني التمتع بمشاهدة طلعتها البهية كثير عناء.
الفصل الرابع
ليست أهلا للمحبة والزواج
فمضى علي أسبوع في تلك الغرفة وأنا أرى في كل يوم تلك الغانية، واسمها بولينا - هكذا كنت أسمع الخادمة تناديها - وكانت عاطفة الشوق تزداد بي يوما فيوما لمحادثتها، وقد ظهر لي من مراقبتها أنها من السذاجة بمكان عظيم لا تتكلف حركة تشف عن كبرياء وخيلاء، وهي ملازمة الصمت إلا فيما ندر، وذلك عندما تحتاج إلى الخادمة فتلقي إليها بعض كلمات مقتضبة ثم تعود إلى حالتها الأولى من الجمود والسكينة.
وقد انتظرت فرصة تخولني التقرب منها، فذهبت أتعابي ضياعا، وما كنت قط لأسمع صوتها العذب لو لم أقف لها بالمرصاد وقت ذهابها وإيابها، فأشير إليها مسلما فتجيبني ولكن بدون اهتمام.
هذا وقد ضقت ذرعا عن كتمان أمري وإخفاء سري، فعزمت أن أنبذ الخوف والجبن ظهريا وأذهب إليها شاكيا حالتي، ولكني لما رأيتها في اليوم الثاني لم أتجرأ على إتمام عزمي؛ فإن سطوة جمالها أذهلتني ونظرها الحاد الجامد لعثم لساني، فأحجمت وأنا أندب سوء حظي، ولم أذق طعاما ذلك النهار بطوله، وعندما خيم الظلام ألقيت بنفسي على سريري حيث ضاق صدري وخنقتني العبرات، فبكيت كالطفل. وإني لكذلك إذ سمعت رنة وتحطم إناء خزفي في باحة الدار عقبه صراخ وعويل، فأسرعت إلى الخارج وإذا بتيريزا خادمة بولينا ممددة على الأرض تشكو من صدع ألم برجلها، وقد انتثر حولها قطع صغيرة من الخزف، وتندت أثوابها بما كان من المرق في ذلك الإناء، فخاطبتها برقة مقدما لها يد المساعدة، فشكرتني بكلمات إنكليزية استنتجت من لهجتها أنها غير لغتها. فسألتها بالإيتاليانية عما إذا كانت تريد أن أحملها إلى غرفتها، فبرقت أسرتها لاستماع لغتها، ونظرت إلي بعين الامتنان ثم تحفزت للقيام، فرأيتها غير قادرة على ذلك، فأسندتها إلى ذراعي وأعنتها على الوقوف، ولكنها لم تقو على المسير، فحملتها إلى غرفتها ووضعتها على السرير وعدت لأرسل من يأتي بطبيب، فصادفت بولينا خارجا مسندة إلى الجدار وهي على حالها من الهدو، فلما صرت على مقربة منها هشت لي وشكرتني على ما أبديته من المعروف، ثم مدت لي يدها البيضاء فهززتها بلهفة، وبعد ذلك انسحبت إلى غرفة خادمتها وخلفتني جامدا كالصنم أنظر إلى الباب الذي حجبها عن عيني مفكرا في ذاك المحيا الذي خطت عليه يد الحدثان آيات من الحزن يكتنفها رسم من الأسرار العميقة على جبينها الوضاح كما يتبين من هيئتها الذابلة.
وفي صباح اليوم الثاني من هذه الحادثة رأيت بولينا ذاهبة للنزهة دون رفيق، فتناولت قبعتي وتأثرتها مسرعا، وبعد مطارحة السلام افتتحت الحديث بهذه الكلمات: هل لك مدة طويلة في إنكلترا أيتها الآنسة؟ - لا. - لقد أسعدني الحظ بمشاهدتك في دير الكاثوليك «بتورين» منذ ثلاثة أشهر.
فرفعت عينيها وحدجتني بنظرة طويلة، فتممت قولي: وقد كنت مصحوبة بقهرمانتك. - نعم لقد ذهبنا مرارا إلى هناك. - أظنك إنكليزية الأصل كما يتبين من اسمك؟ - نعم. - أعازمة على البقاء في إنكلترا طويلا أم ستبارحينها إلى إيطاليا؟ - لست أعلم.
ثم بادرتها بحديث طويل أستطلع به أميالها وأدرس طباعها ذاكرا لها ما يهم النساء معرفة كالموسيقى والرقص والتصوير والأزهار، ولكن كل هذا لم يكن يستلفت منها الأفكار، فقلما كانت تطرب أذني باستماع ألفاظها الرقيقة، بل كان دأبها الإصغاء لحديثي، ولم أحظ منها إلا بكلمة: لا، ونعم. وذلك عندما تضطر إلى إجابتي. وقد تبين لي أنها لا تفهم كلامي، فكانت تارة تشخص بي ذاهلة مندهشة وطورا تنكس رأسها وتعود إلى الافتكار دون أن تبدي بكلمة، ولو كنت منتظرا الجواب.
هذا ما علمت من أمرها أثناء تجولنا، فلما عدنا إلى المنزل ودعتها بكل احترام، وذهبت إلى غرفتي حزينا لما استوضحت من أطوارها وذهولها وأشفقت عليها وعلى نفسي؛ لأني كنت لم أزل أحبها. ولقد تعزيت نوعا لأنها لم تأنف من مرافقتي مرارا. حتى وفي المرة الأخيرة كاد يقضى علي من شدة الفرح إذ رأيتها تبسم لقدومي، وحينئذ تجرأت أن أقدم لها ظرفا قد رقمت عليه اسمها الجميل، ووضعت فيه كتابا أصف فيه حالتي وهيامي، فتناولته مني وجعلت تنظر إليه باندهاش وحيرة كأنه لم يقع نظرها على مثله قبلا، ثم أرجعته لي وانثنت مسرعة إلى غرفتها، وقد أوضحت لي حركاتها جليا أنها لا تفقه القراءة، فلبثت حائرا في أمرها قائلا في نفسي: هل يمكن لمثلها أن يحرم من وسائط التعليم وهيئتها تدل على المكانة والشرف؟
وفيما كنت أفتكر في أمر الفتاة كانت تيريزا مطلة من النافذة ترقب حركاتنا وسكناتنا، وعيناها تقدح شررا كأنها غير راضية عن هذا الاجتماع؛ ومن ثم عادت لاستصحاب بولينا كعادتها متحملة الآلام باذلة جهدها بإبعادي عنها.
ويوما ما مرت تيريزا بقرب غرفتي، فاغتنمت هذه الفرصة ودعوتها، فدخلت إلى حجرتي، وقدمت لها كرسيا، فجلست وهي تنظر إلى ما حولها كأنها ترغب فهم معنى هذه الدعوة، فبادرتها بالسؤال عن رجلها، فأجابت بصوت أجش أنها أحسن حالا. فقدمت لها كأسا من الخمر تجرعته بدون تردد، ثم قلت لها: كيف صحة الآنسة بولينا فإني لم أرها اليوم؟ أجابت وقد خنقها الغيظ وأرجف صوتها التهديد والوعيد: إنها على أحسن حال. - ربما لم يخف عليك بأنها هي السبب الذي استدعيتك لأجله. - نعم لقد علمت كل شيء.
قالت ذلك ونظرت إلي نظرة تشف عن استعدادها لإشهار حرب ضدي. - إذن فأنت تعلمين ما لا أقدر على كتمانه بعد ... إني أحب الآنسة بولينا. فأجابت بخشونة وثبات: إنها ليست أهلا لأن تحب. - ليست أهلا للمحبة! كيف لا وهي شابة أديبة وجميلة، فإني أحبها وأريد أن تكون شريكة حياتي.
فقالت: إنها ليست أهلا للزواج. - تيريزا أخبريني ما المانع؟ فأنا شاب شريف ومثر وذو حب طاهر ولا أيأس من رضاها؛ فإن الأمل بذلك عظيم لما أراه من نظراتها إلي المقرونة بالحنو، فأستحلفك بكل ما هو عزيز لديك ومقدس أن توضحي المقال وتزيلي عني العناء بلفظة قدر لي بها السعادة أو الشقاء. - إنها ليست أهلا للمحبة والزواج. - تيريزا لقد عيل صبري فلم هذا العناد، ناشدتك الله أن تخبريني فقط من وأين هي عائلتها أو أنسباؤها فأتقدم إليهم بطلب يدها. - قلت ولم أزل أقول ما لا أقدر أن أفوه بسواه، إنها ليست أهلا للمحبة والزواج.
وعند ذلك لم يعد بوسعي الصبر، فاتقدت عيناي بنار الغيظ والغضب، وكدت أن أبطش بها وأريها نتيجة إصرارها لو لم يخطر لي ما هو أقدر على كبح جماح النفوس من كل شيء ولا أعظم من سطوته على القلوب. وبالحال نفحتها صكا ماليا بقيمة ألف فرنك ، فبرقت له أسرتها وانجذب بصرها لتلك الورقة، فظننت أني فزت بالوطر، ولكنها ما عتمت بعد أن صمتت برهة أن نهضت من مكانها مكررة قولها: إنها ليست أهلا للمحبة والزواج. ثم أرادت أن تخرج.
فأوقفتها وضاعفت لها المبلغ، فلبثت جامدة لا تبدي حراكا، ثم تمتمت: ألفي فرنك! ألفي فرنك! ثمن كلمة ولكن لا، لا أبيعها فهي أثمن من ذلك، وهمت بالخروج ثانية، فضاعفت المبلغ أيضا حتى بلغت قيمته أربعة آلاف فرنك. وقد أخذني العجب والاندهاش عندما لحظت بأنها لم تكتف بعد، فوعدتها بأن سأدفع لها أيضا قدرهم في يوم تكون بولينا عروسي، ففغرت فاها وشخصت بأبصارها وظلت برهة كالبلهاء، ثم قالت: سأجيبك في وقت آخر ... بعد استشارة الطبيب. - من هو هذا الطبيب، ألا أقدر أن أراه؟ - هل أتيت على لفظة طبيب! فهذا سهو مني، ولكن سأكاتب وليها بهذا الشأن وأبذل جهدي في مساعدتك. - لا تتأخري، واذكري الوعد. - سأباشر ذلك حالا. - والآن اصدقيني القول يا تيريزا، هل تفكر بي بولينا في خلواتها، ألم تذكر اسمي؟ - من يعلم، ولكني أقول للمرة الأخيرة، إنها ليست أهلا للمحبة والزواج.
فقلت في نفسي ساخرا بها: يا لك من بلهاء لا تعرفين المي من اللي، تقولين إنها ليست أهلا للمحبة والزواج مع أنه إذا وجد من الفتيات من هي أكثر أهلية للزواج فلا تكون غير بولينتي الجميلة. ولكن لا بد لثبات رأي هذه الشمطاء في بولينا من أسباب محاطة بالأسرار الخفية. ثم تذكرت تلك المصادفة في دير الكاثوليك، وكيف كانت تصلي بحرارة، ففكرت أنها ربما تكون كثيرة التدين وتقصد اجتذاب بولينا إلى الدير لنذر العفة. هذا ما رجحته في ذهني على بقية الأفكار، ولكن ساء فألها فإني استرضيتها بالدرهم الوضاح، ولم يعد علي سوى استعطاف بولينا والاجتماع بها غالب الأوقات فأكتشف منها على ما يهمني معرفته من أحوالها. وعندما داخلني هذا الفكر شعرت بالراحة والسرور بما توفر لدي من وسائل الفوز والنجاح، وبت ليلتي مرتاحا أحلم بالسعادة التي كنت بانتظارها.
ولما كان الصباح ذهبت إلى السوق لقضاء بعض الأشغال، فصرفت بضع ساعات، وعند رجوعي لم يكن اهتمامي سوى مقابلة بولينا، فاتجهت نحو غرفتها بقلب خافق، وعند دخولي رأيت ما لم أكن أنتظره، وما الموت إلا دونه هولا وحزنا، رأيت ما سحق قلبي وأوقف سريان دمي، وجعلني كالمعتوه الفاقد الرشد، رأيت غرفة من قصرت عليها آمالي ومن أسرت فؤادي خالية خاوية لا عين فيها لبولينا ولا أثر. فانطلقت مسرعا نحو صاحبة النزل لأستطلع منها واقعة الحال، وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى خوفا من أن جوابها يحجب عن عيني الشعاع الأخير من أمل لقياها، ولكني وجدت أن لا مهرب من الاستعداد لاحتمال الصاعقة التي ربما تنقض علي من جوابها السلبي، فقويت عزمي واستعنت بالصبر الجميل ولو ذهبت روحي، قائلا:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني
صبرت على شيء أمر من الصبر
فتقدمت من المرأة ونشدت ضالتي لديها ولسان حالي يستعطفها بالتوقف قليلا عن الجواب إذا كان ما أخشاه قد جرى حقيقة، فلم أستفد منها سوى أن تيريزا نقدتها ما عليها من أجرة البيت وذهبت إلى حيث لا تدري. فجزعت لهذا الخبر ثم خرجت أتعثر بأذيال الخيبة والقنوط، وقد زهدت في الحياة وكدت أقع مغشيا علي لو لم أثبت جأشي ببقية من القوة. فأتيت غرفتي وانطرحت على سريري خائر القوى، واستغرقت في بحار الأحزان وبت والأفكار المزعجة تقلق راحتي، وصرفت نحوا من عشرة أيام على هذه الحال المنكرة، وكلما مر بي يوم ولم أحظ بفائدة أنتظر اليوم الثاني مؤملا زيارة تيريزا أو كتابا منها؛ ولذلك لم أكن أخرج من الفندق إلا حينما أقصد البحث عنهما.
ولكن لم أتنسم خبرا يخفف عني وطأة البلوى، وهكذا مضت بي الأيام جزافا إلى أن مللت الانتظار، فعزمت على الرجوع إلى منزلي وبعده أشخص إلى إيطاليا علي ألتقي بها هناك.
وبينما أنا كذلك إذ ورد علي كتاب ممهور باسم «مناويل سنيري» يعلمني بقدومه وقت الظهيرة. فاستغربت زيارة شخص ليس لي به سابق معرفة، ولكنه أحيا بي بعض الأمل؛ إذ لا بد من وجود علاقة له مع بولينا. ولم يأت الوقت المعين حتى أتت صاحبة النزل تعلمني بأن شخصا يريد زيارتي، ثم ما عتم أن ظهر وراءها ذاك الرجل الحسن الوجه العريض الكتفين الذي رافق بولينا وتيريزا خارج دير الكاثوليك في إيطاليا، فدخل وسلم ثم جلس بعد أن أمر علي نظرا سريعا، فترحبت به دون إظهار أقل تعجب لزيارته الغير المنتظرة، فابتدرني بهذا الكلام: ربما علمت سبب قدومي. - أرجو أن يكون كذلك. - أأنت المستر فوكهان؟ - نعم. - اعلم إذن أني أنا الطبيب مناويل سنيري، وقد أتيت من جينوى عندما بلغني أنك تطلب بولينا التي هي ابنة شقيقتي زوجة لك. - نعم، هذا غاية ما أروم.
وقد أخذني العجب بادعائه أنه خالها وتذكرت عدم اهتمامها بمقابلته للمرة الأولى التي نظرتها. - اعلم يا مستر فوكهان أنه يوجد أسباب جمة تمنعها من ذلك، إنما تشديد طلبك يسهل لدي المصاعب، فلنبحث الآن في هذا الأمر ...
وكان يتكلم بإنكليزية واضحة ولسان طلق. - لقد بلغني أنك مثر وذو نسب شريف. - يمكنك أن تتحقق ذلك. - فأنت والحالة هذه قادر أن تجعلني على يقين من وفور ثروتك لأني باحتياج إلى ذلك، لا سيما وأن بولينا لا تملك شروى نقير.
فحنيت رأسي باسما، وأخرجت من جيبي قرطاسا وكتبت له تحويلا على شركائي بأن ينقدوه قيمة ما بلغ من دخل أملاكي في نواحي بحيرات سكسونيا، ثم ناولته إياه، وقد انحطت منزلته لدي لما ظهر لي من قحته، فأخذه بلهفة وأردف كلامه: لقد كانت بولينا ذات ثروة فقدر لها فقدانها. - إنني لا أطمع منها بدراهم، وسيان عندي غنية كانت أم فقيرة. - أحسنت، ولكن اعلم أن من كانت بولينا زوجته يشترط عليه أن يقبلها بالحالة التي هي فيها دون أن يطلب الاطلاع على عائلتها أو ما هي حياتها، بل يكتفي أن يراها شابة جميلة وأنه يحبها.
فاستغربت هذه الشروط حتى إني توقفت عن الجواب مع ما بي من الشوق للحصول عليها. ثم قال: والذي أقدر أن أفهمك إياه هو أنها طيبة القلب عفيفة النفس ولا تنتسب لعائلة أحط منزلة من عائلتك وعوائدها أشبه بالإنكليز من الإيتاليان؛ فبناء عليه يكون زواجكما غاية في المناسبة!
فصرخت بلهفة رافعا يدي كمن يطلب صدقة: من علي ببولينا فلا حاجة لي بسواها. - إذن ما من مانع بأن تعتبرها من الآن وصاعدا خطيبة لك ... والآن يا مستر فوكهان سأدهشك كثيرا بطلبي هذا الأخير؛ فإنك تحب بولينا وأؤمل ألا يمضي عليها ردح من الزمن حتى تبادلك هذه العاطفة، فبناء عليه لا أرى مانعا من الإسراع بالزفاف، فإني مجبر على مبارحة إنكلترا بمدة وجيزة، ولا يمكنني إبقاؤها هنا وليس لها من رفيق سوى خادمتها.
فصرخت: إني أتمنى الزفاف في هذا النهار إذا لم يكن من ثم مانع. - لا لزوم لهذه السرعة؛ فلنا فرصة يومين بعد.
فذهلت لهذه الكلمات حتى خيل لي أنه أحمق، وجعلت أنظر إليه كأني غير مصدق ذلك، ولكن أنى لي أن أرفض سعادة قد انتظرتها زمنا طويلا، والآن وافتني دون منازع، فما يهمني أمره حاذقا كان أو مختلا. فقلت: وما أدراك أن بولينا ترتضي بي؟ - إنها لأطوع لي من بناني، فلا تعصي لي أمرا لا سيما والغاية آيلة لنجاح مستقبلها. - ولكن كيف يتم ذلك بمدة وجيزة، فهلا تؤخر سفرك؟ - لا يمكنني ذلك أصلا، ولكني أصحبها معي بعد أن أرجع لك المال، هذا إذا لم أكن على ثقة من أني أتركها بين يدي من يودها كنفسه.
فنهضت حينئذ قائلا: هيا بنا نتوجه إليها فنرى ما يكون من أمرها.
وفي أثناء هذه المحادثة كنت جالسا قرب النافذة، فحجب ظلي النور عن وجه الغريب الذي كان جالسا أمامي ينظر إلي بإمعان وأنا غير منتبه لذلك.
ثم قال: أذكر أني رأيتك في وقت ومكان أجهلهما. - لقد أبصرتني منذ ثلاثة أشهر في دير الكاثوليك في تورين.
فتظاهر أنه استفاق لهذه الذكرى مكتفيا مئونة التفكر، ثم رغب إلي في المسير فجاريته مسرورا بعد أن تجرع كل منا كأسا من الخمر. ولم نسر طويلا حتى وقف تجاه مسكن صغير، وقال: انتظر هنا قليلا غير مأمور ريثما أدخل وأعلم بولينا بقدومك.
فاندهشت لسرعة وصولنا وعجبت لجهلي مقرهما بينما هما على مقربة مني. فلبثت برهة وإذا بتيريزا مقبلة نحوي وعيناها الصغيرتان تبرق إشارة الظفر والانتصار ولسان حالها يطالبني بإنجاز الوعد، وقالت بعد أن طارحتني السلام: هل أحسنت في دوري؟ - جزاك الله عني خيرا فلست أنسى صنيعك، ولسوف أنقدك المبلغ عاجلا. - أصغ يا مستر فوكهان، فإن هذا آخر كلامي معك، إن الآنسة بولينا مارك ليست أهلا للزواج.
أما أنا فلم أعرها أذنا صاغية، بل دنوت من الباب، فلما رأتني على تلك الحال مالت برأسها عني قائلة: إن الكلام لا يجدي معك نفعا، فتكرم بالدخول الآن لأني إنما أتيت لأدعوك.
ثم اتجهت بي نحو غرفة رأيت فيها بولينا جالسة وإلى جانبها خالها، فحينما شعرت بقدومي رفعت إلي نظرها باسمة، ثم نهضت على قدميها، فأسرع الطبيب وأخذني بيدي وقدمني إلى ابنة شقيقته قائلا: هل سبقت لك معرفة يا بولينا بالمستر فوكهان؟ - نعم. - هو يرغب في الاقتران منك فهل تجيبي طلبه؟ - نعم إذا أراد ذلك.
أجابت بصوت رخيم دون ارتباك أو خجل. فسكرت بخمرة الفرح وصرخت بلهفة: بولينا أنت سؤلي وغايتي من الحياة، فبك رجائي وعليك قد علقت آمالي، فهل يمكنني أن أرفض سبب سعادتي؟
ولم آت على آخر كلامي حتى سحبت يدها من يدي وفرت من الغرفة بخفة الظبي.
فقال سنيري: أرجوك يا مستر فوكهان أن تدعني مع بولينا نهتم بمعدات الزواج ريثما يكون غدا كل شيء معدا فيمكنك أن تزورنا.
فودعته دون أن أرى بولينا، وذهبت واجف القلب قلق البال تتنازعني الأسرار من كل الجهات، فما كنت لأفقه كلمات تيريزا، ولا أدري مراد الطبيب بهذه السرعة. ومما زاد في قلقي وارتباكي جمود بولينا وذهولها، ولكن مهما كانت النتيجة فلا يمكنني الانفصال عمن كلفت بها، حتى إني صرت أرغب بالحياة لأجلها، وقلت: لا بد أن المستقبل يغير الأحوال، ومتى تأكدت خلوصي لها واعتنائي الشديد بها لا تكتمني أمرا يتعلق بماضي حياتها. وإذ ذاك أفقأ بعيني خالها حصرما، وأكتفي مئونة التعب بنفي أقوال تيريزا.
وفي اليوم الثاني زرت بولينا وحدثتها في مواضيع شتى، فكانت كعادتها هادئة تقتصر على كلمة لا ونعم، وأحيانا ينجدها الطبيب - الذي كان مرافقا لنا كالظل - بكلمات ينهي بها الحديث دون أن يدع لها مجالا للتكلم. وعند الساعة العاشرة من صباح اليوم الثالث كانت بولينا واقفة إلى جانبي مرتدية أثوابا حريرية بيضاء أشبه منها بالملائكة، وقد طوق رأسها البديع إكليل من الزنبق يشابه جبينها الوضاح، فما كنت لأصدق وأنا بذلك الموقف أن الفتاة التي كنت يائسا من لقائها منذ ثلاثة أيام هي الآن موثقة معي بعهود لا يحلها إلا الموت.
الفصل الخامس
بحسب الناموس لا المحبة
ما من يصف سروري وابتهاجي حينما كان يقلني القطار مع بولينتي المحبوبة في ظهيرة اليوم الذي تم به عقد زواجنا، فإنه عند نهاية الصلاة ودعت الطبيب وذهبت ببولينا إلى جنوبي إنكلترا، وهو سار إلى جينوى تصحبه تيريزا التي لم أخلف لها بوعدي، بل نقدتها القيمة بكل طيبة خاطر فودعتني شاكرة. وعند وصولنا إلى أول محطة خرج الناس أفواجا لتسريح النظر في تلك الجهات، وبقيت أنا وبولينا، فجعلت أنظر إلى محياها اللطيف بينما كان النسيم يهب متلاعبا بشعرها الحريري فألفيتها أجمل جدا من ذي قبل، وما تمالكت نفسي أن هتفت صارخا: بولينا، ما أجملك! آه كم أحبك! فرمقتني بنظرة باردة وأمالت رأسها عني كأني بها لم تفقه كلامي، فبكيت حزنا، ثم أخذت يدها بين يدي وقبلتها قائلا: إنك لا تحبيني الآن يا بولينا، ولكن سوف تحبيني فيما بعد.
فكأنها تأثرت لمشاهدتها الدمع يذرف من عيني فبكت، فقلت لها: لم تبكين يا بولينا؟ فلم تجب بل ارتعشت قليلا ثم خفضت رأسها وعادت للافتكار، فاعتمدت رأسي بين يدي وجعلت أتأمل في الحالة التي صرت إليها، وقد ندمت حيث لا ينفع الندم باتخاذي زوجة حسب الناموس لا المحبة المتبادلة، وقلت في نفسي: ما ضرني لو كنت ذهبت مع الطبيب وخطيبتي إلى جينوى وانتظرت ريثما أتأكد منها الخلوص، ومن ثم لا أصادف منها عدم مبالاة فأحيا سعيدا. وأما الآن فما لي أن أعاتبها على جفاها لأني أنا الجاني على نفسي. لقد رضيت بالاقتران بها دون أن أعلم عن حقيقة حالها أمرا، زاعما أنها لا تلبث طويلا حتى تتجرد من هذه الهيئة المحزنة المغايرة لكل ذي فكر، فما أتعسني إذا دامت على هذه الحال! وهكذا كانت تتقاذفني الأفكار، فأعدت على ذاكرتي ما مر بي في سالف حياتي من غرائب الحوادث من حين كنت أعمى حتى تلك الساعة، فلم أر سوى أسرار ومخاوف تترصدني من كل الجهات. ثم نبهني تماهل سير القطار معلنا بالوصول إلى «إدنبرج»، فالتفت إلى بولينا فلم أر أقل تغيير في هيئتها الجامدة وكأنها ألفت تلك المناظر قبلا. فصرفنا نحو ثلاثة أيام بالتفرج على مدينة إدنبرج لم أفتر بأثنائها عن الاعتناء ببولينا واستلفات أفكارها لكل منظر جميل. لكن واأسفاه! لقد اختبرت طباعها واتضحت لدي كلمات تيريزا من عدم أهليتها للزواج، وعلمت مقاصد الطبيب سنيري وشرطه على من تكون بولينا زوجته أن يرضاها بالحالة التي هي فيها. فيا لشقاوتي! إن من أفرغت لها أرفع المنازل في قلبي هي فاقدة الشعور، بيد أنها لم تكن خالية العقل، إنما كانت فاقدة قوة الذاكرة، فلا تذكر شيئا ماضيا ولا تبالي بمن حولها من الناس، وكان جل اهتمامها بقوتها وراحتها وترتيب أثوابها. فتنقاد لأقل إشارة تبدو مني دون أن تعلم النتيجة منها، فهي آلة صماء، وبعبارة أخرى: عقل طفل في جسم امرأة. أفألام إذا حسبت نفسي أتعس المخلوقات؟ فإني ما زلت ولن أزال أحبها، بل أصبحت أشد ولوعا بها من ذي قبل؛ فإن هيئتها الذابلة وجمالها السامي وسكوتها الدائم لمما يجعلها كالحمل الوديع، ويقوي عاطفة حنوي إليها ويذيب قلبي شفقة عليها.
فقلت لها ذات يوم: هل لك رغبة بالرجوع إلى لندره؟ فلم تبد إشارة تعلن بعدم ارتياحها إلى ذلك، بل نهضت حالا وأعدت أمتعتها لمرافقتي، فسافرنا من إدنبرج قصد الرجوع إلى الوطن، وقد عزمت بعد ذلك على اللحاق بالطبيب ليوضح لي الأسباب التي جلبت على زوجتي هذا الداء، فربما يوجد وسيلة لشفائها.
وبعد أن قضينا أكثر الليل على الطريق وصلنا إلى محطة بوستون، وكان قد أشرق جبين الصباح، فخرجت مع بولينا من الباخرة لاستنشاق نسيمات السحر، وعندما وقعت عيني على تلك المناظر تبسمت بمرارة متذكرا يوم أتيت ببولينا ولم أكن أعلم وقتئذ من حالها شيئا، بل كنت أعد نفسي من أسعد البشر غير عالم بما خبأ لي الدهر من الرزايا. ثم التفت إلى بولينا فوجدتها بيضاء كالرخام وقد فارق الذهول عينيها الجميلتين، فجعلت تنقل بناظريها إلى كل الجهات باشة الوجه منتعشة بذلك النسيم اللطيف الذي كان يهب عليها مجعدا أطراف ثوبها، فوددت من صميم قلبي أن تكون بولينا كما أشتهي ولو فقدت كل ما تملكه يدي. وعند الساعة السابعة وصلنا إلى منزلي في شارع ويل بول، وبأثناء ذلك سألتها إذا كانت تعلم مقر الطبيب سنيري لأكاتبه؟ فكان جوابها بأن خفضت رأسها ولم تفه ببنت شفة، فأعدت القول: أجهدي الفكرة يا عزيزتي علك تهتدين إلى الصواب. فجعلت أصابعها الفضية على صدغها ولبثت برهة جامدة، فلحظت أنها باضطراب شديد، فقصدت أن أنبه منها الفكر فقلت: أظن بأن تيريزا تعلم ذلك. - نعم فاسألها. - ولكن أين هي؟
فأمالت رأسها عني ولم تجب. فقلت أيضا: لقد أخبرني الطبيب أنه ذاهب إلى جينوى، فهل تدرين لأي جهة منها؟ فنظرت إلي بارتباك ولم تفه بكلمة، فتيقنت أنها غير قادرة على مساعدتي، فقصدت السفر إلى جينوى حتى إذا ما التقيت به هناك أذهب توا إلى إيطاليا. وفي اليوم الثاني ودعت بولينا قائلا لها: إنني سأغيب عنك بضعة أيام فلا تتكدري مدة تغيبي، وإنك لتجدين من يعتني بك كثيرا. قالت: كما تريد يا عزيزي جلبرت. قد علمتها أن تناديني هكذا لأني ألذ باستماع اسمي يلفظ من بين شفتيها. فذهبت بعد أن أوضحت لبريسلا حالة بولينا وحرصتها على الاهتمام بشأنها والاعتناء بها، وقبل أن أخرج من باب الحديقة نظرت إلى النافذة حيث فارقت حبيبتي الجميلة، ويا لها من ساعة شملت فؤادي وسرور ملأ قلبي فكان لي زادا للسفر؛ فقد عاينت بريق الأمل يلوح لي من خلال دموع قد تساقطت على خديها كقطر الندى، ولبثت واقفة أمام النافذة تنظر إلي وأنا أسير الهويناء متلفتا نحوها حتى تواريت عنها، وكانت هي المرة الأولى التي ظهر عليها التأثر والانفعال.
الفصل السادس
أجوبة غير مقنعة
أتيت جينوى آمل أن أحظى بالطبيب سنيري دون مشقة؛ لأنه من شأن الأطباء إذاعة أسمائهم ومحلات سكنهم لرواج بضاعتهم، ولكن ساء ما توهمت؛ فإني قضيت أسبوعا بالتفتيش عن سنيري ولم أقف له على أثر. وأخيرا تيقنت أنه إما أن يكون قد أخبرني بغير اسمه الحقيقي، أو أن جينوى لم تكن وطنه كما زعم، ولكن كيف كان الحال فقد آليت على نفسي ألا أنفك عن التفتيش عنه حتى أجده ولو بذلت في ذلك ما عز وهان.
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى
فما انقادت الآمال إلا لصابر
وفي صباح اليوم الثاني بينما كنت أتجول في شوارع المدينة إذ لمحت عن بعد رجلا ظهر لي أني أعرفه قبلا، فدنوت منه، وبعد إمعان النظر فيه ألفيته نفس الشاب الذي كاد يتخاصم مع رفيقي إدوار بإيطاليا، فقلت في نفسي: أبشر يا جلبرت فقد فزت بالمرام؛ فإن هذا الشاب يطلعك على ما تريد معرفته، لأنه لا بد أن يكون من أصدقاء الطبيب، وحينئذ دنوت منه وحييته بالإنكليزية، فرد تحيتي بأحسن منها، فبادرته بالكلام قائلا: هل لك يا سيدي أن تجيبني على سؤال أعرضه عليك؟ - قل ما تشاء فإني مستعد أن أقدم لك ما يمكني من الخدم. - أطلب منك أن ترشدني إلى محل الطبيب مانويل سنيري.
ولم آت على هذه الكلمة حتى اضطرب وتغيرت ملامحه، ولكنه عاد فتغلب على اضطرابه بالحال، وأجاب بسكينة: إنني لا أعرف رجلا بهذا الاسم. وتركني وانصرف، فتبعته وأوقفته قائلا: كيف لا تعرفه وأنت أحد أصدقائه؟! - قلت لك إني لست أعرف رجلا يدعى سنيري فاقتصر. - لا خوف عليك يا سيدي من الإقرار بكونك صديقه، ولقد شاهدتك برفقته. - أين؟ - في تورين قرب دير الكاثوليك.
فحملق بي برهة، ثم قال: الآن تذكرت أنني رأيتك هناك صحبة شخص آخر، وقد أهنتما بالكلام إحدى السيدات فرمت المدافعة عنها. - إننا لم نقصد إهانتها يا سيدي، فأرجوك أن تتناسى ذلك، لا سيما وأن لأجل هذه الفتاة أسألك عن محل سنيري خالها.
فأجاب مندهشا: وكيف عرفت بأنه خالها؟ - هو قال لي ذلك. - إذن ينبغي قبل كل شيء أن نلتجئ إلى مكان منفرد؛ فإن الحديث ذو شأن. - هلم معي إلى النزل حيث أنا مقيم.
قلت ذلك وأخذت بذراعه حتى أتينا غرفتي، فقلت له: تكلم الآن فإننا بمأمن من إفشاء سرنا. - هل يمكني معرفة من أتشرف بمخاطبته؟ - جلبرت فوكهان. - أرجوك يا مستر فوكهان أن تفيدني أولا عن الأسباب التي تلجئك للبحث عن سنيري. - لا يمكنني أن أقول لك ذلك، فعذرا. - ولكن كيف تأتى لك المعرفة بابنة شقيقته؟ - عمن تعني؟ أعن زوجتي؟ - وهل بولينا زوجتك؟ - نعم.
فنظر إلي وقد جحظت مقلتاه وامتقع وجهه وارتجفت أعضاؤه، وقال: أبدا. أبدا. لا يمكن أن يكون ذلك فأنت كاذب. فكدت أتميز من الغيظ وانتصبت واقفا وقلت له بصوت جهوري: أقصر يا هذا واعتذر بالحال عما ألحقت بي من الإهانة أو أطردك خارجا.
أما هو فأدرك خطأه وحول بوجهه عني قائلا: أرجو عفوا، فقد فهت بذلك دون ترو، ولكن هل علم الطبيب بزواجكما؟ - كيف لا وقد تم القران بحضرته.
فجعل يتمشى في الغرفة بخطوات متسعة، ويتمتم بكلمات لم أفهم منها سوى: «لقد خدعت.» ثم تمالك روعه، وأجاب بلهجة الساخر: إني أتمنى لك التوفيق بحصولك على رفيقة جميلة فما الذي تبتغيه الآن من سنيري؟ - شيئا مهما.
فبرقت أسرته وكشر عن أنياب المكر والدهاء، وقال: ربما أهميته تعود عليك بالانفصال عن عروسك. فاغتظت من كلامه، وقد ظهر لي أنه عالم بحال بولينا، ولكني لجأت إلى ملاطفته بغية الاطلاع على كنه المسألة، فقلت: أرجوك الآن أن ترشدني إلى محل سنيري ولك الفضل. - هو الآن متغيب عن البلدة، وسيقدمها بعد أسبوع، وحينئذ أعلمه بقدومك.
ثم ودعني وذهب، وبعد أن مضى أسبوع على تلك الحادثة أتاني كتاب وهذه صورته:
إذا كنت تود الاجتماع بي فدونك عربة تجدها على باب الفندق عند الساعة السابعة فتقلك إلى حيث أنا مقيم.
التوقيع: م. س.
وعند الساعة السابعة تماما كانت العربة بانتظاري، فسارت بي إلى منزل صغير خارج المدينة، فترجلت وقرعت الباب، وإذا بالطبيب قد انتصب أمامي، وبعد أن تبادلنا التحية أدخلني إلى حجرة صغيرة فيها من الأثاث كرسيان قديمان ومنضدة عليها بعض الأوراق، فجلسنا ثم افتتح سنيري الحديث بقوله: بلغني أنك أتيت جينوى للبحث عني. - نعم، فإني أرغب إليك ببعض أسئلة تهم بولينا. - وإني مستعد لإجابة سؤلك قدر إمكاني. - لم لم تجعلني على بصيرة من طباع بولينا قبل أن أقترن بها؟ - لأنك رأيتها وحدثتها مرارا، فكنت خليقا والحالة هذه أن تختبرها بنفسك. - لقد أغريتني يا مستر سنيري، وكان الأجدر بك أن تطلعني على الحقيقة وتنجو من سهام الملام. - ولكن لم يمكني ذلك لأسباب تتعلق بي. - وما هي تلك الأسباب؟ - هي من جملة الأسئلة التي لا أقدر أن أجيبك عليها. - إذن كان من الواجب ألا تدعني أقترن بها بينا أنك عاجز عن إظهار أمرها. - لقد كانت حملا ثقيلا على عاتقي فأردت الخلاص منه، ولذلك لم يمكني أن أخيب طلبك. - ولكنك لم تخش عاقبة خداعك لرجل ربما أفضى به الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، وذلك عندما يتبين لديه أن المرأة التي اقترن بها فاقدة الرشد. - قد ظننت أنها لا تلبث طويلا حتى تعود إلى ما كانت عليه من قوة الإدراك. - إذن هي لم تكن كذلك منذ ولادتها؟ - لا، وإنما طرأ عليها حزن فجائي أورثها مرضا شديدا كانت عاقبته البله. - ما هو سبب حزنها؟ - لا أقدر أن أقوله. - ولكن لي الحق أن أسأل. - ولي الحق أيضا أن لا أجيب. - أوضح لي على الأقل أمر عائلتها. - هي وحيدة وما من أحد ينسب إليها سواي. - وذاك الإيتالياني صديقك، أي علاقة له مع بولينا فإني ما ذكرت اسمها لديه حتى تغيرت ملامحه واعتراه اضطراب شديد؟
فتبسم هازا كتفيه، وقال: أتعني بقولك ماكيري؟ فاعلم أنه منذ سنة أو اثنتين، أي قبل أن تفقد بولينا الإدراك، كان هذا الفتى يتزلف إليها طمعا بالاقتران بها، فسبقه إليها المرض، وهكذا لبث بانتظار الشفاء.
فقاطعته قائلا: ولم لم تنتظر أنت أيضا شفاءها فتزفها إليه؟ - يظهر أنك ندمت على هذا الارتباط يا مستر فوكهان. - لا، طالما لي أمل بشفائها، ولو بعد حين ... ولكني أقول لك يا مستر سنيري إنك خدعتني ظلما.
ثم نهضت قاصدا الانصراف، وأنا لا أعي من شدة الغيظ لأنني لم أقصد جينوى ولا تحملت مشاق السفر ومر الانتظار إلا لأستنير بأخبار تعود بالنفع على تلك المسكينة، فما ازددت إلا غموضا، ولست بعائد إلى لندره إلا كما زايلتها. غير أن كلماتي الأخيرة أثرت بسنيري فلطفت نظراته الوحشية، وقال باسما: لا تسرع بالحكم علي كمذنب وأنت لا تعلم الأسباب التي تلجئني لأن أكون كذلك. فاعلم يا عزيزي أن بولينا قد ورثت من والديها مبلغا وافرا لا تقل قيمته عن ستمئة ألف ليره، وإذ ذاك كنت مثقلا بالديون بل على شفير السقوط في وهدة الذل والفاقة، فاقترضت قسما عظيما من أموالها التي كنت حر التصرف بها حيث إني كنت وليها، ثم أنفقت ما بقي من المال جزافا وبذرته إسرافا إلى أن نفد الكل، فلما تحققت الفتاة أنها أصبحت صفر اليدين استولى عليها حزن عظيم أفضى بها إلى مرض شديد عقبه الجنون. - وهل حلل لك ضميرك التصرف بمال يتيمة وحيدة؟ أولم تدر بأن هذه جناية؟ - جناية أو جريمة، فإني لا أعبأ بذلك، إن المال قد وجد للاستعمال وقضاء الحاجات، فكيف يمكني أن أذل نفسي وأكون محتقرا لدى مدائني بينا أنا قادر أن أدرأ عني العار والمال في قبضة يدي. - وهل ظننت أن اهتمامك بزواجها يعوض عنها ما جلبت عليها من الوبال؟
فأجاب بصوت منخفض: لقد أجبرت على مفارقتها وليس لي أمل أن أراها بعد فقد قضي علي أن أنهي حياتي بعيدا عن الوطن.
فقلت متهكما: أتعني بأنك مندوب لارتكاب جريمة أخرى؟ - لم أعن إلا ما قلته، فأودعك الآن الوداع الأخير.
قال ذلك وقدم لي يده التي لم يسعني رفضها، وأردف قائلا: ربما أكاتبك بعد سنة أو أكثر، وعندئذ تخبرني شيئا عن أحوال بولينا، وإذا لم أفعل فلا تحمل نفسك أتعاب البحث عني.
وبعد ذلك شيعني إلى الباب حيث كانت العربة لم تزل بانتظاري، فسار كل منا في طريق، ولم أسر طويلا حتى تعرض لي في الطريق الرجل الذي دعاه الطبيب «ماكيري»، فأشرت إلى السائق بالوقوف، وللحال صعد فجلس بجانبي، ثم قال: أرأيت الطبيب يا مستر فوكهان؟ - نعم فإني إنما الآن آت من عنده. - أرجو أن يكون كشف لك النقاب عما أتيت بصدده. - بعض الكشف.
فقال ساخرا: إذن لم يطلعك على كل شيء. فتميزت من شدة الغيظ، ولكني لزمت الصمت. فأتم حديثه قائلا: أظنك لو سألتني لأفدتك أكثر منه. - لقد طلبت إليه أن يفهمني الأسباب التي جلبت إلى قرينتي داء لا أشك بأنك عالم به، فإذا كان كذلك أرجوك بأن تفهمني الحقيقة. - ولكن ماذا أجاب سنيري بهذا الشأن؟ - قال إنه نتيجة حزن استحوذ عليها فجأة، فهل من سبب يلجئك أنت أيضا إلى الكتمان مثله، وإن صح ذلك فما هو السبب يا ترى حتى إنك لا تفتدي به حياة شخصين وسعادتهما. - سأفعل، ولكني ... أخاف. - ممن؟ - من أنك تفتك بصديقي متى أحطت علما بأفعاله المنكرة. - ولكني أعدك بل أحلف لك بكل ما هو عزيز ومقدس لدي ألا أتناوله بأذى. - ألست عازما على الرجوع إلى إنكلتره. - بلى، في أقرب آن. - فتكرم علي بنمرة محلك، فإما أن أكاتبك أو أذهب إليك بنفسي.
فلبيت طلبه، وفي أقل من طرفة عين كان منتصبا خارج العربة يرمقني بعينين تتقدان خبثا ودهاء، وقال: سوف تجني ثمرة اهتمامك بمعرفة ماضي حياة بولينتك الجميلة. فكانت كلماته كسهم سمعت له رنة في قلبي، وأوشكت أن ألقي بنفسي من العربة وأضغط بيدي على عنقه ولا أدعه يتملص منها حتى يوضح لي عبارته الأخيرة، ولكني عدت فتجلدت إذ لا ينفع الغضب في مثل ذلك الحين.
الفصل السابع
ادعاء نسبي
عدت إلى لندره وقلبي يحدثني بأن ربما تغيبي تلك المدة يكون قد محا رسمي من ذاكرة بولينا، ولكن لم تتحقق أوهامي ؛ فإنها قد تذكرتني حالا ورحبت بي وكانت مسرورة جدا بقدومي، فآه كم كنت سعيدا لو أنها صحيحة العقل كاملة الشعور.
فمضى علينا بعد رجوعي عدة شهور دون أن يحدث شيء مهم، وفي خلال ذلك استدعيت أمهر الأطباء في إنكلتره لمعالجتها، فأجمع رأيهم على الأمل بشفائها قريبا لا سيما إذا عرف سبب اختلالها، فكان ذلك مما يزيدني حسرة لمرأى ماكيري أو كتابا منه. وهكذا ذهبت بي الأيام وأنا أتقلب على جمر الانتظار مترقبا هذا الرجاء الأخير.
وكنت أصرف معظم أوقاتي في منزلي في شارع ويل بول لا أنيس لي ولا سمير سوى بولينتي المحبوبة، فألبث ناظرا إلى محياها الجميل كمن ينظر إلى تمثال منحوت أو رسم متقن، وإذ ذاك يستولي علي الغم والحزن فألهي نفسي بقراءة بعض الكتب التي كانت سلوتي الوحيدة في تلك الشدة، وكان يعز علي جدا الحضور في المجتمعات وانتياب مجالس الأنس دون بولينا؛ لأنها لم تكن تسر بذلك، بل كان يستحوذ عليها اضطراب شديد لدى استماعها عزف الموسيقى حتى يكاد يغمى عليها؛ ولذلك كنت أتجنب حتى في البيت ممارسة بعض الألحان على البيانو مع أني كنت شديد الولوع بها.
وكأني بها أحيانا تشعر بعنايتي الشديدة بها فتبتسم كأنها تريد أن تشكرني، وهمت مرتين أو أكثر بأن تقبل يدي، وبالجملة كانت كطفل صغير يتعلم رويدا كيف يحب أباه.
وفي أحد الأيام بينا أنا منفرد في غرفتي دخل علي أحد الخدم معلنا قدوم شخص من جينوى، فعلمت أنه ماكيري السيئ الأدب، وكدت أرفض مواجهته متذكرا ما ألحق بي من الإهانة والاحتقار فيما مضى، ولكنني عدت فافتكرت بأنه ربما يطلعني على سبب مرض مليكة فؤادي، أو عل مجالسته إياها تنبه في ذاكرتها شيئا من سالف حياتها أو تذكرها بحوادث مرت عليها.
فتوجهت نحو ردهة الاستقبال حيث تبادلنا التحية، فبادرني بالكلام قائلا: أرأيت كيف لم أنكث بوعدي؟ - إني على ثقة من صدق كلامك. فهل لك مدة طويلة في لندره؟ - بضعة أيام. - وهل تطيل الإقامة فيها؟ - ريثما تستدعيني الظروف لمبارحتها. - فنظرت إليه بإمعان علي أستطلع خفايا نواياه.
فقال ضاحكا: أظنك حزرت الخطة التي أنا سائر عليها. - يتبين لي أنك رجل سياسي وكثير الفتن. - نعم سياسي كثير الفتن، وإن شئت فقل رسول الحرية. - ولكن الحرية قد نشرت على بلادك لواء الغبطة والهناء منذ أزمان. - أجل، ولكن بلدانا أخر تحتاج لما ذكرت، وقد بذل صديقي المسكين سنيري جهده في هذا الأمر وكاد ينجح لو لم تمنعه أشغال يومه الأخير. - وهل مات؟ - كلا، ولكن بعد أن فارقته في جينوى بمدة وجيزة ألقي القبض عليه ثم حوكم في بطرسبورج، وسيقاد إلى سبيريا حيث يقضي اثنتين وعشرين سنة بالأشغال الشاقة. - أوهربت أنت إذن؟ - بدون ريب، وإلا كيف أتيح لي الوجود في هذا المكان أتلذذ بتبغك الجيد وخمرك المعتق ... آه إنه لا يمكنني التفكر بحالة سنيري المسكين إلا ويعتريني اضطراب شديد، وذلك لأني لاحق به لا محالة، والآن ائذن لي يا مستر فوكهان بالخوض معك في حديث ذي شأن ربما أفضى بك إلى الاندهاش. - قل، فكلي آذان لاستماعك. - إن قبل الشروع به أسألك ماذا قال لك سنيري عني؟ - لم يقل لي سوى اسمك. - ولكنه لم يذكر لك اسمي الحقيقي. - وهل تدعى بغير ماكيري؟ - إنني أعرف بين الناس بأسماء جمة، ولكن اسمي الحقيقي هو أنتونيس مارك شقيق بولينا زوجتك.
فذهلت متحيرا لهذا الخبر الجديد ولم أصدقه البتة، ولكني لزمت الصمت لأسمع تتمة الحديث علي أستوضح قصده بذلك، ثم قال: أعلمت يا مستر فوكهان كيف تصرف خالي سنيري بالأموال التي تركها والداي لي ولبولينا؟ - إنه كما أعلمني كان قد استخدم قسما منها لوفاء ديونه و... - وأنا أخبرك كيف ذهب بالقسم الآخر.
فتنبهت أفكاري وشخصت به مستبشرا بكشف الغوامض، أما هو فتمم حديثه قائلا: لقد أنفقه في سبيل منفعة إيطاليا، وإني لا ألومه قط لتورطه في هذه الأعمال، بل بالعكس أجل مقاصده وأعتبرها مع أن هذه الأعمال نفسها هي التي أوصلتني إلى حضيض الفقر. - إذن دعنا من ذلك. - ولكني باحتياج شديد لمساعدتك في هذا الشأن، فإن دولة عمانوئيل قد تشيدت واستتب له الأمر ودانت له البلاد رغما عن كثرة أضداده، فإذا شددت أزري وأخذت بناصري لعرض الدعوى على الملك فلا شك أنه يعوض علينا بعض ما بذلناه من الخسائر حبا بالوطن، وإنه لا يبعد أن يكون لك أصدقاء في إنكلتره قادرين على استمالة قلب الملك، كما وإن لي أيضا بعض الأصحاب في إيطاليا لهم علاقة مع أحد الوزراء فنطلب مساعدتهم، ولا يغرب عن فهمك أن بعملك هذا تسترد ثروة زوجتك أيضا. - ولكني لست باحتياج إلى دراهم.
فأجاب مقهقها: وأما أنا فإني خالي الوفاض، أو كما يقال أفلس من أبي طنبورة، وقد جعلت اتكالي عليك، فإذا لم أفز بمرغوبي لا أظنك تبخل علي بدريهمات قليلة ... والآن هل يمكنني مشاهدة بولينا؟ - نعم، سأدعوها إليك. - وهل هي أحسن حالا يا مستر فوكهان؟
فأملت رأسي بهيئة محزنة.
فقال: مسكينة، مسكينة. أظنها لا تعرفني الآن لأني فارقتها حينما كنت في الثامنة عشرة ولم أرها منذ ذلك الحين.
وعند ذلك طرقت ذهني كلمات الطبيب التي تنافي زعم ماكيري، فقلت في نفسي: لا بد أن يكون أحدهما قد خدعني، ولكني أرجح الآخر إذ اتضحت لدي غايته من ذلك، ولكن ساء وهمك أيها الإيتالياني فحيلتك لم تنطل علي. فقلت له: يا مستر ماكيري ... - عفوا، فاسمي مارك. - أجل فيا مستر مارك ألا يمكنني أن أعرف ما هي الأسباب التي جلبت على زوجتي هذا الداء.
فأطرق إلى الأرض برهة متظاهرا بالكآبة، ثم قال: سأخبرك في وقت آخر، ثم قطع حديثنا دخول بولينا فنهض ماكيري وتقدم نحوها قائلا: هلا تذكريني يا بولينا؟ فرمقته بنظرة طويلة حادة ولم تجب، وكأني بها قد اندهشت لهذه المفاجأة، ثم أمالت رأسها عنه وكانت كمرتابة في أمرها. ثم قال لها: لقد طال زمن لم أرك فيه يا بولينا، ولكنه غير كاف لأن ينسيك إياي. فصوبت نظرها الحاد نحو وجهه بهيئة مزعجة، ولكنها لم تبد إشارة تدل بأن لها سابق معرفة به.
فقلت لها: ألا تعلمين من هو يا عزيزتي؟ فأمرت يدها على جبهتها بعد أن خفضت رأسها ، ثم تمتمت هاتين الكلمتين بالإيتاليانية: لا تذكرني.
وقد لحظت بأنها تود الفرار منه عندما قبض على يدها للسلام، ولكنها ما لبثت برهة حائرة حتى رمت بنفسها على كرسي وهي تصعد الزفرات.
هذا ولم ترفع عنه نظرها أثناء زيارته، بل كانت شاخصة بوجهه لا تمل من مراقبة كل حركة يأتيها. فتفاءلت بالخير لهذا التأثير الذي ظهر عليها، وأدركت بأن هذا الرجل الذي لا أعلم إن كان عدوي أم صديقي هو الشخص الوحيد الذي يقدر أن ينشلني من وهدة التعاسة، ولذلك بالغت في إكرامه والتمست منه مواصلتي بزياراته كلما سنحت له الفرصة.
وبعد أن ذهب رأيت بولينا تتحرك في كرسيها مضطربة وهي تمر يدها على جبهتها حينا بعد حين كأنها تطلب تفسير أمر أشكل عليها، وأحيانا تقترب من النافذة فتلقي نظرات غير مستقرة على إحدى الجهات ثم تعود فتلتفت نحوي بهيئة مستغربة تغاير حالتها العادية. أما أنا فتظاهرت بعدم اهتمامي بتلك الحركات التي أكدت لي أن رسم الماضي سيعود لذاكرتها شيئا فشيئا.
وهكذا انتظرت ماكيري في اليوم الثاني علها إذا أكثرت من النظر إليه يرجع إلى ذهنها ما تجهد نفسها الآن لمعرفته. أما هو فلم ينكث بوعده بل وافاني في الوقت المعين - لا سيما وأنه باحتياج إلي - فكان دأبه بعد ذلك التقرب مني والمبالغة باعتباري، وبالجملة فإنه أجاد تمثيل دوره بمهارة وحذق.
ثم زارنا بعد ذلك مرارا، وفي كل مرة كنت أتبين في هيئة بولينا تأثيرا يزداد يوما فيوما، فكانت في أثناء زياراته تلازم الغرفة التي يجلس فيها دون أن تفوه بكلمة، وكأني بها تزداد حزنا لدى مرآه، وبالعكس وقت ذهابه فإني كثيرا ما عاينتها تتنهد واضعة يدها على صدرها كأن حملا ثقيلا قد تزحزح عنه، فينفطر قلبي أسفا عندما أراها على تلك الحال، وأنا غير قادر على كشف همها وتفريج كربها، وكنا ذات يوم جالسين في الحديقة عند الغروب أنا وماكيري، وبولينا على عادتها شاخصة بالزائر وهو يقص علينا أهم ما حدث له في المواقع الحربية. فمن قوله أنه أشرف يوما على الموت إذ طعنه أحد الأعداء بمدية أصابت يمناه فقطعتها، قال ذلك وأخرج يده المقطوعة من كمه وأرانا إياها، ثم تناول خنجرا صغيرا من جيبه وحركه في الفضاء وأردف قائلا: وهكذا استللت سيفي باليسار وصوبته نحو خصمي وضربته فيه ضربة واحدة أرديته على الأرض قتيلا. ولم يأت على هذه العبارة حتى سمعت أنة عميقة بجانبي وصوت وقوع جسم على الأرض، فالتفت وإذا ببولينا مطروحة قربي وعيناها مطبقتان ولا حركة بها تدل على الحياة. فأسرعت وحملتها إلى غرفتها ثم عدت إلى ماكيري مستأذنا بمفارقته، فقال: عسى ألا يكون بها ما يخشى عاقبته. - لا، ولكن قد حصل لها إغماء بسيط، ربما كان نتيجة إشارتك التي أرهبتها.
قلت ذلك وأسرعت بالرجوع إلى غرفة زوجتي، فإذا هي لم تزل على حالها ممددة بلا حراك، صفراء كالموتى. فنضحت وجهها بالماء، وأنشقتها بعض المنعشات ولكن بدون جدوى، فلبثت على هذه الحال نحو ساعتين كنت بأثنائها جاثيا بجانبها أقبل يديها ساكبا عليهما الدموع وقلبي ينفطر حزنا لهذا المشهد المؤثر، وأوشكت أن أيأس من سلامتها لو لم أضع أصابعي على معصمها، فأشعر بضربات خفيفة تؤذن بحياتها، ثم قربت وجهي من وجهها فحسست بأنفاسها الهادئة تمر على خدي كأنها تبشرني بسرعة عودها إلى الوجود. ثم طرق ذهني فكر أحيا بي بعض الأمل برجوع شعورها بغتة إذ لا يبعد أن الحادثة التي سببت لها هذا الإغماء قد نبهت في ذاكرتها أمرا كان لديها منسيا، فلعل هذا التذكار يجعل فيها تأثيرا حسنا.
وبينما أنا كذلك إذ تحركت وفتحت عينيها ثم نظرت إلي. ولا يمكني أن أصف خفقان قلبي عندما عاينت في نظرتها نورا لم أره قبلا.
الفصل الثامن
التذكار
لقد أفاقت بولينا وجلست على فراشها بهيئة مغايرة لما كانت عليه قبلا، وجعلت ترسل أسهم نظراتها الحادة مخترقة ما حولها من الجهات، ثم تململت وهي تصعد الزفرات وقطبت حاجبيها، فناديتها باسمها وكررت ذلك مرارا قصد استلفات أفكارها وملافاة أحزانها واضطرابها، فلم تع لكلامي ولم تنتبه لوجودي في الغرفة، ثم نهضت بغتة وخطرت نحو الباب فجذبتها بلطف من ذراعها كي تعود إلى فراشها وتأخذ لنفسها بعض الراحة، ولكني ألفيت بها من القوة ما أرجعني بالخيبة، فرجوتها بأرق عبارة أن ترجع عن قصدها، ولكن لا حياة لمن تنادي، فتركتها وشأنها تسير حيث شاءت، وأنا أتبعها لأرى أخيرا ماذا يكون من أمرها.
فزايلت الغرفة وحينئذ تبين لي أنها تقصد الباب الخارجي، فلبست للحال قبعتي وأخذت برنسا ووضعته على كتفيها فاقتبلته دون ممانعة، وسارت مسرعة وأنا أتبعها حتى أفضت إلى الزقاق، وعند ذلك أوصدت الباب وأخذت المفتاح بيدي ولحقت بها، فطافت بي شارع ويل بول ثم عطفت إلى الجهة اليمنى منه، وابتعدت مسافة نصف ميل، وفي أثناء ذلك كنت أعيد عليها التنبيه وأفهمها أن ذهابها ليس بذي أهمية، ولكني كنت كمن يضرب في حديد بارد. وإذ تجاوزنا الشارع الأخير عرجت على زقاق فسيح فلم نسر به طويلا حتى وقفنا تجاه قصر شاهق قد أرخى الظلام عليه سدوله فلم أر فيه نورا البتة، إنما هيئته تدل على أنه مهجور، فحققت النظر في بنائه على مصباح خفيف ينير الطريق، فوجدته محتويا على ثلاث طبقات كثيرة المداخل والمخارج، فبعد أن وقفنا برهة قلت لها: يا عزيزتي بولينا لقد أبطأنا بالرجوع، فماذا تقصدين بوقوفك هنا؟ والظلام حالك، ولم لم تختاري سوى هذا الباب من بين سائر الأبواب؟ فإذا كنت تبغين الدخول فلا يمكنك ذلك إذ هو موصد، فلنرجع إلى المنزل، وفي الغد إن شاء الله تأتي فتفعلين ما تشائين. ولكنها لم تكترث بقولي، بل لبثت تعالج الباب كأنها تؤمل سهولة فتحه، فتركتها تفعل ما تريد حتى إذا ما ملت وضجرت من الانتظار نكصت راجعة بخفي حنين. وبينما أناجي نفسي بذلك وقد أخذني العجب لمجيء بولينا إلى هذا البيت المهجور في ذلك الليل الدامس، فطنت بغتة لمفتاح منزلي فأخذته وأدخلته في القفل غير آمل بنتيجة لذلك سوى الخيبة، ولكنه ما لبث أن مر به بسهولة، وبأقل من لمح البصر فتح الباب. وللحال شعرت بأنه قد مسني سلك كهربائي، فارتعشت أعضائي عندما فكرت بمناسبة المفتاح لذلك الباب الذي ولجته حين كنت أعمى.
أما بولينا فلم تبطئ بل دفعتني ودخلت بسرعة بقدم ثابتة دون أن يعيقها الظلام، ثم شرعت بالصعود على سلم فتبعتها، وكان خمس درجات فأصابتني عند ذلك قشعريرة وكأن الدم قد جمد في عروقي، فتغلبت على اضطرابي وسرت إلى حيث سبقتني بولينا، وحيث ظننت باب الغرفة فبلغته بلا عناء - ولا عجب من ذلك فإني زرت هذا المكان قبلا واختبرت طرقه - ولكن أنى تأتى لبولينا معرفة ذلك حتى دفعت الباب حال وصولها ودخلت دون أن تلتمس لذلك دليلا! أما أنا فأخرجت من جيبي نفطا كنت أستعمله للتبغ وأشعلته، فأول شيء وقعت عيني عليه هو بقية شمعة موضوعة على منضدة في وسط الغرفة، فأنرتها، وللحال أبصرت بولينا واقفة في منتصف الحجرة معتمدة رأسها بين يديها تتنازعها الأفكار، فتارة تطرق إلى الأرض وطورا تجيل أبصارها في الغرفة بهيئة يذوب لها الجماد حزنا، فتقدمت إليها وخاطبتها برقة فلم يجدني ذلك نفعا، فأخذت بيدها وحركتها مناديا إياها، ولكنها لم تنتبه لوجودي أمامها، فلبثت حائرا في أمري لا أدري ما الواسطة لإيقاظ شعورها. وبينا أنا بالانتظار أخذت أنقل النظر من مكان إلى آخر في تلك القاعة، فرأيت فيها قليلا من الأثاث مكسوا بالغبار مما يدل على طول هجره، ثم تصورت القتيل الذي سقطت فوقه في المكان الذي أنا واقف فيه الآن، ثم التفت إلى الزاوية التي عن يميني فتذكرت وقوفي بها إذ أمرت بألا أتحرك أو أقتل وكيف بعد ذلك قدت إلى كرسي وأسقيت المسكر.
وبينا أنا آخذ بالتذكار متلفتا من جهة إلى أخرى رأيت بابا في الجهة اليمنى من الغرفة، فدنوت منه وإذا بمخدع آخر يشبه الأول وإلى إحدى زواياه بيانو قد وضع عليها كتاب الأنغام، فعلمت أن من هذا المخدع قد طرق أذني ذلك النغم الشجي في تلك الليلة الرهيبة، فدخلت إليه مرتعشا ولا أعلم أي قوة جذبتني نحو آلة الطرب، فجلست أمامها وجعلت أوقع الأنغام التي صادفتها أمامي على الكتاب المفتوح بعد أن نزعت الغبار عنه بمنديل، وإلا لما قدرت أن أميز حرفا منه. فيا للعجب أن هذه الأنغام لم تكن سوى تلك التي سمعتها في ذلك الليل وأنا كفيف! وإني لكذلك إذا ببولينا هبت مسرعة ودنت من الآلة، وكأني بها تريد الجلوس مكاني، فأخليت لها الكرسي ووقفت جانبا أعاين حركاتها، فابتدأت بتوقيع هذه الأنغام بغاية من الدقة والإحكام، وأصحبتها بصوت رخيم ذهلت لسماعه، فلم أشك بعد ذلك أن هي التي سمعتها في ذلك الحلم المريع، وصرت أتوقع وصولها إلى النقطة التي قطع بها الصوت وقام مكانه الأنين. وهكذا كان فإنها لم تأت على هذا النغم حتى انتفضت كعصفور بلله القطر، وقد جحظت مقلتاها ثم صرخت صوتا مرعبا كمن مسه خوف شديد، وتبع ذلك أنين ضعيف ثم هوت فطوقتها بذراعي قبل وصولها إلى الأرض.
ولبثت غائبة عن الصواب بضع دقائق وهي مسندة إلى صدري، ترسل أصواتا مقلقة، وقد ضاق عليها التنفس، فدنوت من النافذة وفتحتها لتستنشق نقي الهواء، فانطفأ الضوء عند هبوب أول نسمة منه، وكدنا نصير في ظلام تام لو لم ينجدنا مصباح آخر أسنى بهاء وأعظم ضياء؛ فإن القمر كان في بدء طلوعه قد نشر أشعته الفضية على الكون، فأصاب منه وجه بولينا شعاع زاد في هيئتها ذبولا وفي جمالها تأثيرا.
ولم يمض إلا القليل حتى سكن اضطرابها وانتظم خفقان قلبها، فعاد الدم إلى مجراه ودبت الحرارة في جسدها المثلج، فصارت أنفاسها تعلو وتهبط بسهولة ممتزجة بالنسيم اللطيف المار على محياها المصفر كأنه يريد تقبيل ثغرها الباسم بنوع من الهويناء، فتسعى إليه أراقم شعرها منسابة حول وجهها الجميل كأنها تذود عن ذلك الكوثر العذب.
أما أنا فطفقت أتأمل بهذا الجمال السامي وتلك الهيئة الملائكية، كيف جار عليها الزمن ودهمتها طوارق الحدثان ولا ذنب لها ولا إثم؟ فكاد قلبي يتقطع لا سيما عندما افتكرت أنه قد مضى عليها ثلاث سنوات وهي في هذه الحالة التعيسة، ولا ريب عندي في أنها اطلعت على تلك الجريمة التي جرت في ذلك الليل المخيف؛ لأنني قد سمعتها تتأوه بما يماثل فعلها الآن، ولا بدع فإنها أمسكت وقتئذ بأيد تختلف كثيرا عن الأيدي التي تحيط بها الآن. فيا لهم من قوم برابرة قد وجدوا ليسلبوا الناس راحتهم وسعادة أيامهم! أفتظن بعد يا سنيري أنك تخدعني؟ وأنت يا مكيري اللئيم ألم تزل مطمئن البال من عدم اطلاع أحد على فظائعك، لقد ساء فألكما أيها الشقيان، فأبشرا بالعقاب فقد برح الخفاء وأتاكما فوكهان يطالب بثأر من ظننتماها فقدت من الأنام نصيرا.
وبينما أنا أناجي نفسي بذلك رفعت بولينا يدها وأمرتها على جبينها ثم استوت جالسة وكأنها تبحث عن شيء مفقود، فأمعنت النظر في وجهها فألفيته لم يزل على حاله مرسوما عليه آيات الحزن الشديد، فقبضت على يدها قائلا: ألا تبغين الخروج من هذا المنزل يا عزيزتي؟ فكان جوابها بأن نهضت متثاقلة وتأهبت للمسير، وعند ذلك تراءى لي نور سطع في الغرفة المقابلة لنا وظهر فيها أربعة أشخاص منتصبين حول المائدة، منهم ثلاثة تبينتهم جيدا إذ كانت وجوههم مصوبة نحوي، فالأول هو سنيري بعينه وكان شاخصا ببصره نحو رجل على يمينه قصير القامة غليظها على وجهه خال، وإلى يساره ذاك الإيتالياني ماكيري أو حسب زعمه أنطونيوس مارك، وأما الرابع فلم يكن لي الحظ أن أرى منه سوى عرض كتفيه. وكان هؤلاء الأربعة موجهين أنظارا فائزة نحو شاب ملقى على الأرض بلا حراك وقد أغمد خنجر في صدره.
فارتعدت فرائصي لهول هذا المشهد وأخذت أنظر كالمعتوه، فوضعت يدي على عيني لأتحقق بأني لست أعمى هذه المرة، وأني قد أبصرت حقيقة ما طالما تاقت نفسي لرؤيته فيما مضى. وأخذت بيد بولينا وسرنا نحو القاعة المضيئة ولم تطأ أقدامنا أرضها حتى عاينت ما زادني ذهولا واندهاشا بل ما كدت لأجله أعترف بوجود السحر والسحرة، فإن النور قد اختفى بغتة ولم يكن في ذلك المكان سواي وبولينا. وبعد هنيهة عدنا إلى الغرفة الداخلية ولم يستقر بنا الجلوس حتى أعيد على نظري ذلك المشهد، ثم تكرر بعدئذ مرارا فلم يعد ريب في أن ما رأيته لم يكن سوى خيالات قد صورها الوهم أمامي لما مر بي تلك الليلة من الأمور المستغربة لا سيما انقياد بولينا لذاك البيت المهجور وحنينها لتلك الألحان الشجية. ولا يبعد أيضا من أنها تكون قد أبصرت سابقا ذاك القتيل وعادت فتذكرته هذه الليلة عندما رأت ماكيري مشهرا بيده خنجرا، فقصدت المجيء لترى مكان تلك الجريمة التي عاد تذكارها المحزن لمخيلتها.
فمن هو ذاك القتيل يا ترى؟ وما العلاقة بينه وبين بولينا؟ ومن قتله؟ لا أظن الفاعل سوى ماكيري، بل إنني على يقين من أن ليس سوى يده الأثيمة التي أغمدت الخنجر في صدر ذاك المسكين. فإذا صح ذلك فما الفائدة التي حصلت له بارتكاب هذا الجرم وما غايته بذلك؟ فسأبحث عن هذا الأمر فيما بعد، وأما الآن فمن الواجب قبل كل شيء أن أرجع ببولينا إلى البيت.
فأخذت بذراعها وأشرت إليها بالذهاب، فنكست رأسها وسارت دون ممانعة، وقد عاد إلى محياها البله، فسرت بها وعندما صرنا على الطريق التقينا بعربة مارة فحسبتها نعمة هبطت من السماء لتساعدني على سرعة الوصول إلى منزلي. ولم تنته بنا تلك المسافة إلا وتلاشت قوى بولينا، فسقطت ثانية فاقدة الشعور، فهلع قلبي خوفا على حياتها لما قاست من الاضطراب، وبوصولنا استدعيت لها طبيبا ماهرا فبذل من العناية معظمها لكنه لم ينجع بها دواء ولبثت على تلك الحالة كل الليل.
الفصل التاسع
كذبة فظيعة
وابتدأت عند الصباح تفوه بكلمات متقطعة وتدعو حبيبا لها بأعز الألقاب، وكان يتخلل كلامها صراخ محزن وتنهد عميق، فخفق قلبي لاستماع صوتها وخفت أن تكون قد استيقظت، لكن وا أسفاه أن تلك الألفاظ لم تكن سوى هذيان ناتج عن حمى شديدة قد أصابتها كما أوضح لي الطبيب! فلبثت بجانب سريرها والقلب يتقلب على جمر العذاب منتظرا أن أسمع اسمي بين شفتيها، فيا لقلبي ما أشقاه، وأنا الذي سعادته تقوم باستماع كلمة واحدة تصوب إلي من فمها الطاهر! يا لتعاستي، لقد ظهر لي أني رجل مجهول لديها! فمن هذا الذي كانت تناديه يا ترى، أليس هو ذاك القتيل الذي شاهدته أنا أيضا؟ قلبي يحدثني أنه قضى شهيد الظلم والغدر، فآه منك يا ماكيري الماكر يا من سلبت هذا الحمل الوديع السعادة انتظر عاجلا جزاء ما جنته يداك فإن الله لا يهمل عقاب المجرمين، وأنت أيتها الملاك الطاهر انعمي بالا وقري عينا فسوف ينتقم لك من الظالمين.
وعند ذلك أعلمت بزيارة ماكيري فتلقيته بالترحاب وقد أخفيت عنه ما يكن له صدري من الحقد والغيظ، وعندما لمست أيدينا بعضها شعرت بارتعاش قد سرى في جميع مفاصلي لزعمي أن اليد التي أنا قابض عليها ملطخة بدم المعصية، بل لا يبعد أن تكون هي نفس اليد التي قبضت علي عنقي فيما مضى، ثم صرت أفكر بأي عبارة يجب أن أبتدره الآن، وبأي وسيلة يمكن أن أستطلع منه هذه الأسرار، ولو قلنا إنه أقر بالحقيقة فكيف يمكن إثبات الدعوى لدى الحكومة وقد مضى على الحادثة ثلاث سنوات؟ ثم قاطعني عن التفكر بقوله: لقد أتيت لعيادة شقيقتي علما مني أنها مريضة. وكان يتظاهر أثناء الحديث بتأثير عظيم حتى لا يدع للشك مكانا بكونه أخاها، ثم انتقل فجأة لحديث آخر، فقال: يسوءني أن أزعجك وأنت بمثل هذه الحال، إنما للضرورة أحكام، فهل أنت مزمع بعد على معاضدتي بطلب المساعدة من فكتور عمانوئيل؟ - لا أفعل ما لم أقف منك على حقيقة أمور تهمني.
فانحنى باحترام قائلا: إني مستعد لخدمتك. - أولا يجب أن أتحقق إذا كنت أخا لزوجتي.
فرمقني بنظر الاستغراب محاولا التبسم، وقال: هذا أمر سهل جدا، فلو كان الطبيب سنيري حاضرا لنفى الشك عنك بكلمة واحدة. - ولكنه أخبرني خلاف ما تدعيه. - ربما فعل ذلك لأهواء في النفس أو لأنه لا يمكنه إظهار الحقيقة. أما أنا فلست أخشى شيئا ويمكني أن أثبت قولي في الحال حيث يوجد كثيرون ممن يعرفون حقيقة حالي.
فقلت له متمهلا وأنا أتفرس به جيدا لئلا تفوتني ملاحظة ما يطرأ عليه من التغيير: لم قتلت رجلا من مضي ثلاث سنوات في أحد منازل شارع هوراس؟ فنظر إلي بتعجب وكأني به يتساءل كيف عرفت ذلك، ثم صرخ قائلا: هل بك من جنون؟ - أصغ. في الساعة التاسعة من مساء العشرين من شهر آب سنة (... 176) في شارع هوارس قد طعنت صدر شاب بخنجر، وللحال سقط قتيلا في غرفة اجتمعت بها مع سنيري واثنين آخرين.
فأحدق برهة دون أن ينطق ببنت شفة، ثم تقدم نحوي وقبض على ذراعي، فظننت بادئ بدء أنه يقصد بي سوءا، فاستعديت المدافعة عن نفسي، ولكني أدركت بعد قليل أنه يبتغي التفرس بي فقط، فقلت له في نفسي: ألم تعرفني بعد؟ وهل يغير العمى الإنسان إلى درجة لا يعود يعرف بها بعد أن يعود إليه بصره؟ ولكن لا، فإنه قد عرفني أخيرا لأنه ما لبث بعد أن حدجني بأبصاره أن همس قائلا: الويل لهم لم لم يدعوني أتمم عملي وقتئذ؟ ثم جعل يخطر في أرض الغرفة طولا وعرضا، وبعد أن سكن جأشه قليلا وقف أمامي ونظر إلي كأنه غير مبال بتبرؤ نفسه، وقال: لقد صدقت فيما نطقت يا مستر فوكهان، فأنا قاتل، نعم قاتل، ولا لزوم بعد للإنكار، فعلى ما يظهر لي أنك مطلع على كل شيء. فاعلم يا صهري العزيز أني لم أقتل هذا الشقي إلا لأنه كان محبا لزوجتك وشقيقتي، وإذ علمت ذلك تهيج الدم الشريف في عروقي ولم أتمالك أن قتلته، نعم قتلته بحضورها وبمساعدة سنيري خالها وتركتها تندبه كل أيام حياتها. فهل علمت الآن معنى الكلمات التي ألقيتها إليك على طريق جينوى من أنك سوف تجني ثمرة اهتمامك بمعرفة ماضي حياتها؟
ولما أتى على هذه العبارة هجمت عليه قاصدا إعدامه، ولكنه كان قد استعد لذلك ودبر طريقا للهرب إذ جعل مكانه قرب الباب، وهكذا فر من أمامي وهو يقول: إلى الملتقى يا مستر فوكهان، فهذا ليس وقت الانتقام.
فصرخت: اغرب عن عيني يا شقي، فكل ما فهت به كذب وبهتان.
وبعد ذهابه شعرت أن هواء الغرفة قد فسد من أنفاسه الدنسة، فهرعت لمخدع زوجتي وجلست قرب سريرها، وأصغيت لكلماتها المتقطعة، فإذا هي لم تزل تردد أحب الألقاب لذلك الشخص الذي أحاول معرفته والذي نسب إليه ماكيري تلك الكذبة الفظيعة.
فلا شك أن هذه حيلة عمد إليها ليبرئ ساحته أو لينتقم مني لأني تزوجت بولينا بينما كان يحبها حسب زعم سنيري، ولكن كيف كان الحال فلا يمكنني أن أطرد كلامه من ذهني، وسوف أتجرد من الراحة والسلام كل أيام حياتي. آه، من لي فيطلعني على حقيقة هذه الأسرار الغامضة ويخلصني من عذاب أليم! انهضي يا حبيبتي بولينا وانزعي عنك جمودا يدمي فؤادي واقرني جمال هذه العيون بنظر صادر عن تعقل وحكمة ومني علي بقولك: «إني بريئة.» فأسكب إذ ذاك دموع الفرح على أقدامك، وأكون من أسعد البشر.
الفصل العاشر
في البحث عن الحقيقة
ومضى علي عدة أيام وأنا أتقلب على فراش الأحزان لا يهنأ لي عيش ولا يهدأ لي بال، وأخيرا عولت على اللحاق بسنيري لأني فكرت أنه الشخص الوحيد الذي أقدر أن أستوضح منه هذا السر الذي كما أظن لا يعلمه سوى ثلاثة أشخاص منهم ماكيري الشقي الذي بارح إنكلتره ثاني يوم وقوع تلك الحادثة، وتيريزا التي لم تقع عيني عليها منذ اقترنت ببولينا، وسنيري القاطن سبيريا، فمهما كانت المسافة بيني وبينه شاسعة وأتعاب السفر شاقة لا بد لي من الذهاب والاجتماع به فأستطلع منه ما أمكن ولا أرجع هذه المرة خاسرا، والويل له إذا أصر على الكتمان.
فبعد أن فكرت طويلا بهذا السفر رأيت به من الصعوبات يرجعني عن عزمي ويثبت لي أن النجاح مستحيل، ولكن ما العمل وكيف يمكنني احتمال هذه الحال، وكلمات ماكيري تهشم قلبي بأنياب أحد من السنان، فلا بد لي من مقاومة المصاعب، وأخيرا سوف تبدد كلمات الطبيب عن عيني غيوم الشك، فإما أن تدحض دعوى ماكيري أو تحكم علي الشهامة بانفصالي عن بولينا إلى الأبد.
فقصدت عند ذلك صديقا لي مقربا من الرجال العظام وأصحاب المراكز السامية، فأظهرت له شدة احتياجي للسفر وافتقاري لمساعدته، فأتحفني بكتاب إلى سفير إنكلتره في بطرسبرج يطلب منه أن ينظر إلي بعين الالتفات ويساعدني في قضاء حاجتي. ثم أوصيت خادمتي بريسلا أن تسهر على راحة بولينا وتعتني بها كثيرا حتى إذا نقهت من المرض لا تفتر عن الذهاب بها إلى أماكن النزهة، وأوصيتها أيضا بألا تذكر اسمي لديها البتة، وإذا أكثرت من السؤال عني فلا تقول لها سوى أنني أحد أنسبائها، وقد أتيت بها من مدة وجيزة وسأعود إليها قريبا فعسى أن تقتنع منها بهذا الكلام، وتلبث مطمئنة لحين رجوعي. وقد طلبت إليها أن تكتب لي عنها دائما، وبت تلك الليلة قلق البال، وفي عزمي أن أسافر في صباح اليوم التالي.
وعند الساعة السادسة صباحا كنت قد هيأت أمتعتي وكل احتياجاتي أثناء السفر ولم يبق علي سوى وداع بولينا ومشاهدة وجهها المحبوب، فدخلت حجرتها بقلب خافق ونظرت إليها بأعين ملأى بالدموع، فإذا هي ملقاة على السرير ورأسها مائل فوق وسادة تقل بياضا عن بشرتها الناصعة يفصل بينهما حلقات شعرها الحريري مسترسلة على كتفيها وصدرها الخافق بأنفاس هادئة. وكأني بها تقول وهي بتلك الهيئة الملائكية إنني لست شاعرة بثقل الذنوب التي اتهمت بها، ولذا تراني لا أعبأ بأقوال المنافقين، ولقد ترديت من الطهارة دروعا تدفع عني سهام الماكرين. أجل لم يتراءى لي سوى تلك الكلمات مسطورة بين شفتيها، فلو قام الناس بأجمعهم يشهدون بصحة دعوى ماكيري لما أمكن أحد منهم أن يحل مني مكانا للشك ببراءتها، ومع ذلك فلا بد لي من الذهاب إلى سبيريا، وهكذا عولت على الخروج دون أن أوقظها وأتزود نظرة أخيرة من تلك العينين النجلاويين؛ لأني لم أحسب نفسي إذ ذاك سوى رجل غريب عنها.
ولقد أدركت من نفسي خطأ عظيما بدخولي حجرتها وامتثالي لديها، فلذلك وجب علي الرضوخ لحكم الآداب، فلا تقع أنظارنا على بعضها قبل أن يماط عن وجه الحقيقة النقاب.
وحينئذ حولت بوجهي نحو الباب وقصدت مزايلة المكان، فلم أخط خطوة حتى سقطت جاثيا بجانب سريرها وانحنيت على يدها أقبلها باحترام، فتململت قليلا وارتعش جفناها. أما أنا فأسرعت بالفرار من الغرفة خوف أن تستيقظ فتراني على تلك الحال ، وكنت إذ ذاك كمذنب قد شعر بخطئه.
وفي اليوم الثاني كنت بعيدا عن الوطن محروما استنشاق هواء عطرته بولينا بأنفاسها، لا تعزية لي سوى التعلل بالآمال ولا شاغل إلا التفكر بما ستئول إليه الحال، فكنت تارة أتوهم وصولي لسبيريا ومشاهدتي سنيري مسجونا مهانا ينظر إلي بانكسار وكأنه يصادق على كلام ماكيري بقوله: «لقد خدعتك فانتقم مني.» وتارة كنت أراه بحالة الغضب الشديد يتوعد ماكيري بالقصاص الرهيب مقابلة لكذبه الفظيع ثم يقول: «لا تيأس فستتضح لك الآن براءة بولينا حين أطلعك على هذه الأسرار.» ومن ثم أرجع إلى حيث تركت امرأتي المحبوبة، وأي سرور يشمل قلبي إذا وجدتها متمتعة بصحة الجسم والعقل معا.
ثم وصلت إلى بطرسبرج ووضعت أمتعتي في أحد الفنادق وذهبت توا إلى ذلك السفير، وبعد أن عرفته بنفسي قدمت له كتاب صديقي، فلم يتم قراءته حتى نظر إلي بابتسام، وأظهر رغبة عظيمة في مساعدتي، ولكنه حتم علي بوجوب الانتظار بضعة أيام ريثما ترتاح البلاد وتخمد منها نيران الفتن.
فشكرته من صميم قلبي ثم ودعته وقصدت الانصراف، فاستوقفني قائلا: من هو هذا السجين، وماذا تقصد من لقائه؟ - سيدي لا أعرف شيئا عن هذا الرجل سوى أنه طبيب إيتالياني من رجال السياسة يعرف باسم سنيري، وليس قصدي من لقائه إلا أن يجيبني على بعض أسئلة مهمة لدي سأقترحها عليه. - سنيري، ما من أحد من الذين سجنوا مؤخرا يدعى بهذا الاسم؟ - إلهي، هل يمكن أن أخدع ثانية. - ألا تعرفه بالنظر يا مستر فوكهان؟ - نعم إني أعرفه جيدا. - إذن لا تيأس من وجدانه لأنه إذا أمكنه إبدال اسمه فلا يمكنه تغيير هيئته، أما الآن فبقي علي أن أوصيك بالمحافظة على شرائع هذه البلاد التي تختلف كثيرا عن شرائعنا نحن الإنكليز، فإنك إذا نطقت بأقل كلمة دون ترو تكون قد سعيت إلى حتفك بظلفك.
فوعدته بذلك بعد أن أبديت له شكري وامتناني لإرشاداته، وودعته وذهبت إلى النزل حيث لبثت مدة أسبوعين أعلل النفس بالأماني، وأخيرا حصلت على رقعة يدعوني بها إليه، فأسرعت بالذهاب وبعد أن تبادلنا التحية، قال: لقد أسعدك الحظ يا مستر فوكهان، فكل شيء قد تم ويمكنك منذ الآن أن تسافر إلى سبيريا مصحوبا بتوصية تجعل الكبير والصغير ينظر إليك باحترام.
ففاض لساني بشكره وشعرت من نفسي بالعجز عن إظهار فضله، ثم قال لي: إن القيصر يدعوك إليه فهو يود مشاهدة الرجل الذي قصد هذا السفر الطويل بقصد إلقاء بعض الأسئلة على أحد المسجونين.
فساءني هذا التعاكس لما أنا عليه من الاجتهاد بسرعة السفر، وكنت أتمنى كثيرا أن أرفض هذا الشرف، ولكن عندما رأيت أن لا مناص لي من ذلك ذهبت مع السفير وفي نيتي أن أبذل الجهد في تقصير الزيارة، وبدقائق قليلة وصلت بنا العربة إلى باب كبير تحف بجانبيه الحرس ويليه باحة الدار الخارجية المزدانه بتماثيل بديعة الإتقان محكمة الوضع تحيط بها حديقة غناء قد حوت من الأزهار أجملها ومن الأشجار المثمرة أشهاها، ثم صعدنا سلما قد كسيت درجاته بالطنافس الثمينة وجانباه مغشيان بالذهب الخاص. فاستوقفتني هذه المناظر برهة، ولم أنتبه لنفسي حتى أومأ لي قائدي بالدخول إلى القصر، فتبعته وإذا بي واقف في دار فسيحة الجوانب مزينة بالنقوش البديعة والصور الجميلة قد رصعت جدرانها بأنواع الحجارة الكريمة وغشيت أرضها بأصناف المعادن الثمينة، أما ما فيها من حسن الرياش فحدث عنه ولا حرج. فأخذني العجب والاندهاش مما رأيت وعاينت من تلك المناظر التي لم أتصور نظيرها قبلا.
ثم دخلنا قاعة جميلة فيها أيضا من الزخرفة والزينة ما يبهر النظر ويأخذ بمجامع العقل، وفي صدرها القيصر إسكندر الثاني إمبراطور روسيا جالس على عرش مرتفع، وهو رجل طويل القامة عريض الصدر جميل المحيا، تلوح على جبينه لوائح النجابة والذكاء، وفي نظراته من الرقة والرزانة ما يجعله محبوبا من كل من يراه، فقدمني إليه السفير معلنا اسمي لدى جلالته، فرمقني بعين الحنو والابتسام، وأما أنا فتقدمت إليه خافضا رأسي احتراما لشخصه العظيم منتظرا أوامره السامية.
فكلمني بالإفرنسية قائلا: بلغني أنك مستعد للذهاب إلى سبيريا يا مستر فوكهان. - إذا أذنت لي جلالتكم بذلك . - بقصد أن ترى أحد المسجونين أليس كذلك؟
فأجبت بالإيجاب. - ولكن ماذا يلجئك لقطع هذه المسافة وتحمل مشاق هذا السفر الطويل؟ أهو صديق لك؟ - مولاي، لا أعلم إذا كان صديقا لي أم عدوا، ولكني أعلم جيدا أن سعادتي وسعادة زوجتي في قبضة يده.
فتبسم عند ذلك، وقال: إنكم معشر الإنكليز تحسنون معاملة نسائكم، فاذهب على الطائر الميمون وستحصل مني على أمر يدفع من طريقك العقبات ويسهل لديك المسير.
فانحنيت شاكرا، وانصرفت على أمل ألا أرى ما يعيقني عن بلوغ المرام.
وبعد ثلاثة أيام تناولت كتابا من بريسلا تخبرني أن بولينا متمتعة بصحة جيدة، وهي منتظرة بفروغ صبر صديقها المجهول، وأنها لم تزل على حالها من ضعف الشعور، وتلهج دائما بذكر جريمة حدثت قديما، وهي تنتظر من العدالة محاكمة الجانين، وأنه قد تراءى لها بحلم وهي مريضة أن رجلا مجهولا مطلعا على أسرارها يطالب بحقوقها.
فشعرت عندئذ بخفقان قلبي وإحياء آمالي، فزال عني بعض الكروب؛ لأني استوضحت من كلمات بريسلا أن بولينا أخذت تذكر رويدا ما مر عليها فيما مضى.
ثم إن هذه هي المرة الأولى التي أظهرت بها استغرابا لوجود خاتم العقد في بنانها، فكأنها لم تره قبلا وجعلت تديره بيدها مرارا بعد أن سألت بريسلا من أين أتاها؟ فقالت: لا أعلم. فبهتت برهة متفكرة، فسألتها: ما بك يا عزيزتي؟ فنظرت إليها باسمة، وقالت: أحلام، أحلام، أجهد نفسي بتذكارها.
فبعد تلاوة التحرير وددت لو أني أطير إليها، لكني تصبرت أخيرا، ورأيت أن لقاء سنيري لمن أهم الأمور، حتى إذا ما تمكنت من الرجوع أكون على ثقة ممن أوقفت لها حياتي وأتأكد أنها أنقى من ذهب ذلك الخاتم وأصفى سريرة من حجارته الكريمة.
بولينا. بولينا. يا عزيزتي بولينا، يا امرأتي المحبوبة، أبشري فسوف يصفو لنا الزمان ويطيب لنا العيش.
الفصل الحادي عشر
جهنم على الأرض
وفي اليوم الثاني بارحت مدينة بطرسبرج قاصدا موسكو، فوصلتها بدون عناء، وقد ساعدني بذلك الأمر الذي أنا حاصل عليه من جلالة القيصر.
فأقمت فيها زهاء يومين، ثم ذهبت إلى نيجني نوفو كورد بعد أن صحبت معي دليلا يعرف تلك الأنحاء، وبعد أن تهيأت لنا أسباب السفر شخصت مع رفيقي على باخرة إلى كازان ثم نهر كاما، فاجتزناه بقارب صغير ودخلنا أشهر مدينة في بيرم بعد أن صرفنا نحو خمسة أيام على وجه الغمر.
وقد صرنا الآن على وشك الخروج من قارة أوروبا، ولم يبق علينا سوى بضعة أميال لنقطع جبال أورال الحاجبة عنا آسيا.
فاكترينا عربة يجرها ثلاثة من جياد الخيل، فسارت بنا وهي تنهب الأرض ركضا، ولم نصادف على الطريق ما يستحق الذكر، وعند المساء حللنا في فندق للمسافرين فرأيت تجاهه عمودا مرتفعا فسألت الدليل ما معنى ذلك؟ قال: إن أحد أمراء الروس يدعى «برماك» أقامه للمسافرين، فحققت به النظر وإذا مكتوبا عليه لجهة الغرب أوروبا وإلى الشرق آسيا، فبت ليلتي بين القارتين وكنت أفكر في بعد المسافة بيني وبين بولينا قائلا لنفسي: هل يتسنى لي الرجوع يا ترى فأراها؟ ثم جددت المسير في اليوم الثاني قاصدا توبلسك، وكان علي أن أنتظر هناك ريثما يرخص لي الحاكم بالذهاب.
غير أن كلمات القيصر القليلة جعلته ينظر إلي باحترام، فأعطاني كتابا إلى قائد الحرس في إيركتسك واسمه فارلاموف ورقعة مرور، فشكرته ورمت الذهاب، فلم يخل طريقي بل طلب إلي أن أتناول الغذاء معه، فاعتذرت أولا بعدم إمكاني، ولكنه ألح علي بذلك، فأجبت سؤله عن غير طيبة خاطر.
وعندما انتهينا من الأكل أحضر الشاي بآنية كبيرة جدا حتى إني لم أقدر أن أتصور معدة تسع كل ما فيها، ومع وفور الكمية كانت حارة جدا لدرجة لا تكفيها نصف ساعة لتلطيفها.
فنهضت عندئذ عن المائدة والتمست من الحاكم عذرا بعدم مقدرتي على مشاركتهم هذا الحظ الأخير لما أنا عليه من الشوق لسرعة السفر، ثم ودعته وذهبت ولساني ينطق بشكره.
وبعد ذلك سمعت من أهالي البلاد أن بعضهم يستعملون الشاي وقت الأكل ممزوجا بدماء الحيوانات، فشكرت الله لأني لم أذقه، وكنت أود أن أكون خالي البال فأستقصي عوائد تلك البلاد الغريبة ، ولكن الضرورة ألجأتني لمبارحتها حالا. فذهبت إلى تاره ثم كنسك وكوليفيان ومنها إلى كرسونياك وإرنسك، وأخيرا وصلنا إيركتسك وفيها نهاية سفري. وهناك سألت عن فارلاموف، فقيل لي: إنه ذهب بالمسجونين إلى خارج البلدة لكي يتعاطوا الأشغال العادية، وسيعود غدا الساعة الرابعة بعد الظهر، فلم يكن أسهل لدي من الانتظار لما أنا عليه من التعب.
وفي اليوم الثاني بلغني وفود المسجونين فنهضت مسرعا إلى السجن، وهناك شاهدت الرئيس فإذا به شاب ممتلئ الجسم خفيف الحركة ذو أعين وقادة وجبهة مرتفعة، يستر قسما من جبينه قبعة بيضاء مستطيلة الأطراف ومرتديا أثوابا عسكرية وعلى جنبه سيف عريض. وبالجملة فهيئته تدل على الأنس والشهامة، فحييته بالإفرنسية، فرد تحيتي ببرودة دون أن يرفع إلي بصره، فانتظرت برهة ريثما فرغ من أشغاله وناولته الكتاب، فلم ينه قراءته حتى نهض إجلالا وقدم لي كرسيا ثم تبغا، وقال: إن هذا الكتاب يدفعني إلى بذل الجهد لمساعدتك، فأي خدمة تريد؟ فأخبرته أن قصدي لقاء رجل يدعى سنيري، فتبسم قائلا: إنه يندر وجود من يصرح باسمه الحقيقي بين المسجونين. - إذن فما العمل لأن أراه. - هل تعرفه بالنظر؟ - نعم، جيدا. - اتبعني إذن لنبحث عن ضالتك.
قال ذلك وتقدم بي نحو الباب وهو يرسل من فيه الدخان كغيوم متلبدة لا تلبث أن تلعب بها أيدي الرياح فتبددها، ثم نادى أحد الغفراء وأمره بإحضار مفاتيح أبواب السجن، فأطاع، وللحال دخلنا بابا صغيرا فإذا بممر طويل أشبه بمغارة لا ينفذ إليه إلا قليل من النور، هواؤه فاسد وأرضه مكسوة بالأعشاب وجدرانه مغطاة بالعناكب، فعندما أتينا على آخره تقدم الحارس وفتح بابا آخرا، فدخلنا دارا مظلمة تحيط بها غرف فارغة تنبعث منها رائحة العفن، فكادت تزهق روحي، ثم فتح أيضا باب تبين أن وراءه فضاء، فهرولت مسرعا بالخروج قدر إمكاني، ولم تطأ رجلي ذلك المكان حتى وقفت مبهوتا وجعلت أجيل أبصاري من جهة إلى أخرى بقلب يقطر دما لحالة أولئك المنكودي الحظ لأني رأيت أشخاصا مختلفي الهيئات والأجناس متجمعين فرقا وكل منهم مشغل بأمر، فبعضهم يضحكون ويلعبون ويمرحون وبعضهم يقذفون بأنواع الشتائم، ويتفوهون من وقت إلى آخر بكلمات تشمئز لسماعها النفوس الأبية، وقد تأثرت من ذلك المشهد المريع وتلك الأصوات التي كان يخالطها رنة القيود والسلاسل. وبالجملة فإن ذلك السجن ومن فيه كان لدي بمثابة جهنم على الأرض، وكنت أقول لنفسي: ألا يستطيع هؤلاء المساكين الهرب. ثم سألت القائد سرا عن هذا السؤال، فأجابني بأن كثيرين قد حاولوا الإفلات وذلك عندما يرسلون لأعمالهم، ولكن لا يلبثون أن يعودوا على أعقابهم بالخيبة إذ يجبرون على المرور بطريقهم في مدن سبيريا، فيرجعهم الحرس المنتشر في كل الأصقاع، ويكون جزاؤهم مضاعفة الأشغال.
ثم أومأ لي بالمسير، فتبعته وأنا أتأمل بتلك الوجوه، فما كنت أرى للطبيب أثرا، فجزعت جزعا عظيما وكدت أحقق أن أتعابي ذهبت ضياعا لو لم تقع عيني بغتة على رجل في زاوية المكان منفرد عن الجميع ورأسه منحن فوق صدره بما أخفى عني وجهه، فدنوت منه ولمست كتفه بلطف، فانتبه لنفسه ورفع رأسه المرسوم عليه آيات الحزن ونظر إلي بأعين ضعيفة، فتأملته جيدا وإذا به «مانويل سنيري».
الفصل الثاني عشر
من هو؟
وما لبث أن تغيرت نظراته فحملق بي هاتفا: مستر فوكهان في سبيريا؟!
فقلت بصوت ثابت: نعم أنا هو، وقد أتيت من إنكلترا لكي أراك، ثم التفت إلى فارلاموف قائلا: لقد حظيت بلقاء من أجد وراءه، فأجاب: إنه يسرني ذلك، ولكنك لا تقوى على الوقوف هنا طويلا لرداءة الهواء وخبث الرائحة، فيمكنك أن تذهب به لغرفة أحد الضباط حيث تبتعد عن هذه المناظر القبيحة. ثم أمر الحارس أن يرشدنا إلى حيث قال، فذهبنا من باب أدى بنا إلى حديقة مستديرة ومن حولها غرف عديدة، فدخلنا إحداها وكانت عارية تقريبا ولكنها نظيفة، فجلست على مقعد بال وابتدرت سنيري بهذه الكلمات: أتيت من سفر طويل جدا وتحملت مشقات كثيرة كي أراك يا مستر سنيري. - ولكنك ستعود قريبا، وأما أنا فلا أمل لي بالرجوع البتة، فما أطول سفري!
وكان يتكلم بلهجة محزنة وينظر إلي بتذلل، فتأثرت جدا لا سيما وقد ظهر على وجهه نتيجة عذاب تلك المدة التي قربته من الشيخوخة عشر سنين.
فقلت: ربما أنا الآخر لا أرجع أيضا، ويمكنك أن تتحقق صعوبة مركزي من مجرد مشاهدتك إياي في سبيريا.
فزفر زفرة طويلة، وقال: هل أنت المستر فوكهان؟ نعم أنت هو، ولكن من وأين أنا؟ هل هذه مدينة لندره أو جينوى أو مكان آخر؟ هل أستفيق يا ترى وأرى أن كل تلك الأتعاب التي تحملتها كانت حلما؟
فحزنت لكلماته الجارحة، وقلت: كنت أود أن يكون كذلك. - ألست أنت أحد أصحابي؟ أولم تأت لتخلصني من ربقة الأسر؟ - حبذا لو أمكنني ذلك، إنما مجيئي لم يكن بهذا الصدد، بل لأستوضح منك أمورا لا يعلمها سواك. - قل ما بدا لك. - هل تعدني أنك تتكلم الصدق؟ - لم لا، وممن أخاف، وماذا أرجو بعد من الحياة؟ - فأول ما أريد أن تعلمني من هو ماكيري؟ - فارتاع لذكره وارتعش، ثم صرخ بملء صوته: خائن، خائن. ولأجله أود التخلص من سجني فآخذ بثأري ممن سلمني ... آه، ليته الآن حاضر هنا عوضا عنك، فكنت مع ما بي من الضعف أجد من نفسي قوة تكفي لأن أضغط بيدي على عنقه ولا أتركه وفيه رمق من الحياة. - دعنا من هذا الآن، وقل لي ما اسم ماكيري الحقيقي؟ - لا أعلم له اسما آخر فهو رجل إيتالياني أرسله أبوه إلى إنكلتره خشية أن يسقط من اعتبار والديه بأعماله المنكرة، فاتفق أني رأيته بينما كنت باحتياج لرفيق نظيره، وقد قاتل عني كبطل، ودافع عني بحرارة، ولكنه عاد فخانني، فلم تسألني؟ - لأنه ادعى بكونه شقيق بولينا.
وعند ذلك انقلبت سحنته وجحظت مقلتاه، ثم تململ وهو في مكانه وقال: شقيق بولينا؟! ليس لها أخ البتة. - فلم قال ذلك، وأن اسمه أنتونيس مارك؟ - آه، انتونيس مارك، شقيق بولينا، ماذا يقصد بهذا القول؟ أخبرني حالا. - هو أن أساعده باسترجاع ما صرفته أنت من ثروة بولينا شقيقته.
فتبسم بمرارة، ثم قال بهدو: قد اتضح لي كل شيء، فيا له من ماكر لئيم! لقد خان بدسائسه قوما ربما كانوا قادرين أن يقلبوا مملكة، وذلك لكي يسلمني ليد العدالة ... الويل له من غادر ... آه، اعف عني يا أنتونيس ... ويلي أنا الأثيم، لم لم أقتل في تلك الساعة؟ ولم سمحت يا إلهي بعذاب الأبرار؟
وبعد سكوت قليل قلت له: سوف تسمع مني ما يزيدك دهشة، ولكن أخبرني أولا: ألم تكن بولينا مقيدة بحب أحد الأشخاص قبل أن أقترن بها؟ - لا، إنما ماكيري كان يتودد إليها، ولكنها لم تحفل به. - ولا بغيره؟ - لا، وإني على يقين بأنها كانت حرة الفؤاد، وفوق ذلك فهي كريمة النفس، مهذبة الأخلاق، قويمة المبدأ، نقية القلب، ولو لم يفاجئها ذلك المرض لكنت أقول إنها أحسن امرأة وجدت على وجه البسيطة كما وأنك أسعد رجل بحصولك عليها. - ولكن ستجد الآن بأن نتيجة خداعك كان وبالا علي وعليها.
وعند ذلك شعرت بأن احتقاري الشديد لسنيري قد تجدد بي، ولكنني لم أرغب بالانتقام منه؛ إذ إن كذبة ماكيري أضحت كالشمس في رابعة النهار، وتأكدت أن بولينا لم تكن سوى آلهة العفة، وأني سأعود وأرى ذاك الوجه الجميل المرسوم عليه شارة الطهارة، ولكن فاتني معرفة ذلك القتيل الذي بسببه فقدت بولينا الإدراك والعلاقة التي بينها وبينه.
فقلت له: إني أسألك عن ذاك الشاب الذي قتله ماكيري بمساعدتك وبحضور بولينا، من هو، وبماذا استحق القتل؟ فامتقع وجه سنيري وأمال رأسه إلى الوراء حتى كاد يلطم بالجدار، وبدأت أنفاسه تتصاعد بسرعة، ولبث برهة على تلك الحال دون أن يحاول إنكار ما اتهم به، فأعدت القول: لم لا تتكلم؟ إني عالم بتلك الحادثة، فقد كنت مجتمعا مع ثلاثة أشخاص حول مائدة، وإلى يمينك ماكيري وإلى يسارك رجل آخر على خده خال، وفي زاوية الغرفة قرب الباب كان ذاك الشاب الذي قتله ماكيري ممددا، وفي الغرفة الثانية كانت بولينا توقع لحنا على البيانو، ثم توقفت بغتة في الوقت الذي سقط فيه الشاب قتيلا، ألم أحسن لك الوصف؟ وكان ينظر إلي أثناء حديثي باندهاش عظيم حتى إذا انتهيت جعل يلتفت إلى ما حوله، ثم وجه نظره نحو الباب كمن ينتظر دخول أحد.
وإذ لم أحصل منه على جواب، قلت له: أخبرني عن اسم الرجل وما هي علاقته مع بولينا. فأجفل من كلامي وحدجني بأعين متوقدة، وقال: لماذا تسألني؟ لا شك أن بولينا قد عاودتها قوة الإدراك، فأطلعتك على ما أنت عالم به، فلم جئت تعذبني؟ دعني وشأني. فزوجتك تخبرك ذلك، وحسبي ما أنا عليه من التعاسة. - إنها لم تزل فاقدة الشعور، ولم أستفد منها حرفا مما قلته. - إذن كيف أتيح لك معرفة هذه الأسرار، فأنا على يقين من أمانة تيريزا وسكوتها، وبيتروف قضى نحبه والآخر دهمه الجنون، وماكيري يستحيل عليه الإقرار لكونه القاتل. - ولكنك غفلت عن شخص آخر سوى الذي ذكرتهم.
فنظر إلي بإمعان، وقال: نعم لقد وجدنا رجلا غريبا في تلك الليلة الهائلة ولكنه لم ير شيئا، وكان أجمع رأي رفاقي على الفتك به، ولكني نهيتهم بعد أن أثبت قولي بالامتحان كونه أعمى. - إني أشكرك لذلك. - أنت تشكرني؟! ولماذا؟ - لأني صرت مديونا لك بحياتي. - أأنت هو ذاك الأعمى؟! - نعم.
فنظر إلي بانتباه، ثم قال: لقد علمت الآن كيف تأتى لذاكرتي رسمك منذ زمان طويل، وكنت دائما أسأل نفسي عن سبب ذلك فلا أهتدي للصواب، ولكني أراك تبصر الآن، فهل كنت مغشوشا حينما تحققت عماك؟ - لا، لقد كنت أعمى فشفيت. - إذن من أعلمك بتفاصيل الحادثة؟ - أخاف أن أخبرك فلا تصدقني.
فنهض وجعل يخطر في أرض الغرفة ذهابا وإيابا حتى ملأ الفضاء برنة قيوده ودمدم قائلا: «ما من خفي إلا ويظهر.» ثم نظر إلي وقال: لقد صرت أصدق كل ما يختص بتلك الليلة المريعة التي لا يفارق ذكرها مخيلتي ... لقد تحملت عذابا شديدا، ولكنه غير كاف لأن أكفر عن ذنوب اقترفتها، فليت بإمكاني أن أنفعك بأمر ما تعويضا عما ألحقت بك من الأتعاب. - إنك لتنفعني إذا أجبتني على هذا السؤال، ولكني أستحلفك بالشرف وبكل ما هو عزيز لديك أن تصدقني المقال.
فظهر على شفتيه تبسم السويداء، ونظر إلي بإنكسار وقال: أي «شرف» تعني؟ ولكني أعدك بإظهار الحقيقة، فعجل بالسؤال. - لقد أخبرني ماكيري أنه قتل ذاك الشاب دفعا للعار، وذلك لأنه كان مشغفا ببولينا. زوجتي ...
فاحتدم سنيري غيظا، ورفس الأرض برجله، وانتصب واقفا وعيناه تقدح شرارا، وصرخ بصوت عال: يا لك من شقي يا ماكيري! لا تظن أن الله يتغافل عن معاقبتك، فلا بد لك من أن تشاركني هذه البلية آجلا أم عاجلا. وبعد ذلك عاد فجلس مكانه وساد السكوت في الغرفة، ثم حول وجهه الشاحب نحوي ونظر إلي بأعين مغرورقة بالدموع، وقال: إن ذاك القتيل الذي سقط بيد ماكيري لم يكن سوى أخا بولينا ... ابن شقيقتي ... أنتونيس مارك.
الفصل الثالث عشر
الإقرار
وبعد أن لفظ سنيري هذه الكلمات ستر وجهه بيديه، وجعل يذرف الدموع السخنة، وأنا شاخص إليه أردد في ذهني ألفاظه الأخيرة. ثم سألته أن يقص علي كل ما يتعلق بتلك الحادثة المشئومة.
فاستوى جالسا ومسح بكمه العبرات المنحدرة على خديه، وقال: ولدت من أبوين إيتاليين، وكان لي شقيقة بارعة الجمال، فهام بها أحد أشراف الإنكليز الموسرين واسمه مارك، فتقدم من والدي لطلب يدها، فلم يجيبا أولا طلبه لاختلاف الأهواء وتضارب العوائد بين الإنكليز والإيتاليان. ولكن عندما رأيا أن فتاتهما تميل إليه كل الميل ولا ترتضي بعلا سواه، منحاها حق الاختيار، فاقترنت به، ثم ذهبا إلى إنكلتره مسقط رأسه.
ومضى عليهما عدة سنين وهما في أرغد عيش وأحسن حال، ثم توفي زوجها عن ولدين وهما: أنتونيوس وهو في الثانية عشرة، وبولينا في العاشرة من العمر، وقد أوصى لزوجته بجميع ما ملكت يداه.
أما هي فعندما فقدت زوجها المحبوب لم يعد لها أرب بالسكن في أرض ضمت عظامه، فعادت إلى إيطاليا وانضمت إلى الأهل والأصدقاء، فصادفت بينهم كل ترحيب وإكرام، وكانت تميل إلي بنوع خاص وتستحسن كل الأعمال التي أبديتها، فأطلعتها ذات يوم على مقاصدي السياسية وأني عضو في جمعية سرية يترأسها غاريبالدي الرجل العظيم وزير فرنسا، وأن غاية هذه الجمعية ليس إلا المدافعة عن إيطاليا، وبذل النفس والنفيس في سبيل حريتها وجعل حكومتها جمهورية ، فاستصوبت أفكاري ووعدتني بالمساعدة متى حان الوقت، غير أن حزنها الشديد أنهك قواها وأذبل زهرة حياتها، فلحقت بزوجها وذلك بعد موته بأشهر قليلة، وقد سلمتني ثروة ولديها وعهدت إلي في تربيتهما على المبادئ الإنكليزية بحسب وصية زوجها الأخيرة.
وبعد وفاتها أرسلت الولدين إلى مدارس كلية في إنكلتره، فكانا يصرفان معظم السنة هناك، ويأتيان إيطاليا أيام العطلة، ولذلك لعدم وجود أصدقاء يأنسان بهم. فتمكنت منهما طباع الإنكليز وعوائد الإيتاليان معا. أما أنا فلم أنكث بوعدي لشقيقتي، ولا حنثت بيميني، بل كان دأبي الاهتمام بولديها والمحافظة على أموالهما إلى أن أزفت الساعة التي بها وقعت إيطاليا في ضيق وعسر مالي هددها بالخذلان والذل والقهر.
فلم يعد بإمكاني إمساك الدراهم عن الجيوش المستغيثة بأهل الغيرة ومحبي الوطن، فأنفقت الألوف من ثروة ولدي شقيقتي في هذا السبيل، ولم أبق سوى دريهمات قليلة تكفيني إلى أن يبلغا سن الرشاد، وقد فعلت ذلك دون أن أجاهر به لدى أحد من الناس، ورفضت جميع ما استحققت من الوسامات وألقاب الشرف من رئيس الحزب الذي كنت أقاتل معه بحمية لأني لم أحسب ذلك إلا فرضا واجبا على كل وطني، فلو قدر أن أقتل حينئذ وانتصر بعد ذلك حزبي لما قام أحد يطالب بحقوقي فتندثر أعمالي ويتلاشى ذكري. وعندما بلغ أنتونيوس الثانية والعشرين من العمر أرسل من إنكلترا يطالبني بثروته، فوعدته بالموافاة حالا، وكنت أضرب أخماسا لأسداس لا أدري بما أعتذر إذا سئلت عن المال، وحينئذ لا يكون نصيبي سوى السجن إذ لا يلبث أنتونيوس بعد أن يتحقق فقد المال أن يستنجد بالعدالة فيقتص مني. أما بولينا فلبثت في المدرسة إلى أن بلغت الثامنة عشرة وعند ذلك أتت إيطاليا، وقد وشحها الصبا بثوب من الجمال عزيز المثال فضلا عما كانت عليه من الذكاء وسمو الإدراك، فكنت مطمئنا من نحوها لأنها عريقة بهذه الصفات التي تؤهلها من أحد الأغنياء، وبذلك تحصل على السعادة. ولا يبقى علي حينئذ سوى التخلص من أخيها وهناك الطامة الكبرى، فبعد أن مضى عليها سنتان في إيطاليا، طلبت إلي بلجاجة أن تذهب إلى أخيها في إنكلترا. وكنت في أثناء هاتين السنتين قد تعرفت بماكيري الذي كان من حزبنا واستصحبته بالحروب، فكان يقاتل بغيرة وبسالة لأنه كان يصبو إلى الحرب وتتوق نفسه للقتال، وكان يأتي بعض الأحيان لزيارتي فيتظاهر بالاحتشام لا سيما بحضور بولينا، فكان يطنب بمدح نفسه ويدعي بعلو المنزلة ويتكلف بكل حركة يظن أنه يستجلب بها رضى بولينا التي كانت تمقته قدر ما تحتقره. أما أنا فما كنت لأتحمل منه ذلك لولا احتياجي الشديد لذراعه القوية، ولما لم يعد بإمكاني السكوت عن مطالبة أنتونيوس بماله رحلت مع بولينا إلى إنكلترا وقد لحق بنا ماكيري، وكان لا يفتر عن ملاطفتها واستمالتها. ولكن أتعابه ذهبت أدراج الرياح، ومع ذلك فإنه لم يقنط من الحصول عليها، فتقدم من أخيها حين وصولنا إلى إنكلترا وأظهر رغبته في ذلك، فضحك أنتونيوس على جسارته، ثم بين له عدم أهليته لها، فكاد يتميز ماكيري من الغيظ، ولم ير وسيلة تقربه من بولينا سوى الانتقام من أخيها زاعما أنها لا تلبث أن تجيب طلبه بعد أن ترى نفسها بدون نصير.
وقبل أن يفترق عنه بين له حقيقة الحال التي صار إليها، وأنه أصبح صفر اليدين لأني خنته وتصرفت في ثروته، فعندما سمع أنتونيوس ذلك أسرع إلي وعيناه متقدتان وطلب إلي أن أدفع له ما بقي من المال، فأمهلته إلى المساء ريثما أنهي الحساب.
وهكذا خلوت بنفسي وأخذت أفكر بأقرب الطرق التي يمكنني بها الفرار من وجه أنتونيوس، فلم أجد أوفق من أن أنسب إليه الجنون بعد أن أتواطأ مع طبيب آخر من حزبنا لإعطاء الشهادة بذلك، ثم أرسله إلى البيمارستان حيث لا تطلق حريته حتى يتنازل عن حقوقه. وهكذا ذهبت إلى صديق لي يدعى بيتروف لأطلعه على مقاصدي. وبينما كنت سائرا التقيت بماكيري فأعلمني بما جرى له مع أنتونيوس، وأنه يود الانتقام منه، فقلت له: إنك تكون أعظم مساعد لي في هذا المشروع ... وهنا انقطع صوت سنيري وفاض دمعه كالسيل ثم نظر إلي ، وقال: العني يا مستر فوكهان؛ فإني مستحق أن أتحمل كل أنواع الاحتقار، لأني مجرم، ولكن يشهد الله بأني لم أقصد قتله البتة، بل كنت أود من صميم قلبي أن يحيا ذاك الفتى الذي قضى ضحية الظلم والغدر، وما كنت لأسكت عن شكاية ماكيري لولا خوفي من أنه يفشي أسرار جمعيتنا لدى الحزب الملكي الذي كنا أضدادا له بل لكل ملك مطلق.
ثم عاد لإتمام حديثه فقال: وعند المساء حضر أنتونيوس وشقيقته إلى منزلي، وكنت حينئذ مجتمعا مع ثلاثة أشخاص منهم الطبيب، وقد عرفت القصد من إحضاره مع اثنين آخرين وهما ماكيري وشخص آخر أفهمتهما أن يثبا عليه حينما يجداه في حالة الغضب الشديد من جراء فقد المال، ويوثقاه ثم يحملاه إلى مأوى المجانين. وعندما دخل أنتونيوس نظر إلى رفاقي بازدراء، فعلمت المغزى من تلك النظرة، ولكني تجاهلت عنها والتفت إلى بولينا قائلا: يمكنك أيتها العزيزة أن تخلي لنا المكان برهة وجيزة؛ لأني أريد أن أخاطب أخاك على حدة. - لا لزوم لذلك كما أظن، ولكن إذا كانت هذه إرادتك فسأفعل.
قالت ذلك وانثنت راجعة إلى غرفة أخرى محاذية لغرفتنا، وجلست قرب البيانو ثم جعلت توقع بعض الألحان بصوت رخيم. وبعد قليل قلت لأنتونيوس: إن ما استدعيتك لأجله هو المخابرة بشأن ثروتك وثروة شقيقتك التي اؤتمنت عليها. - حسنا، ولكني لا أرى داعيا لحضور الغرباء بيننا في وقت كهذا. - ولكنهم ليسوا غرباء كما زعمت، بل أصدقائي المخلصون، كما وإنهم سالكون في نفس الطريق التي أنا سالك عليها، والتي أريد أن أخاطبك عنها. - ولكني لا أريد أن رجلا كهذا يعلم بأسراري.
قال ذلك باحتقار وأشار إلى ماكيري، أما هذا فلم تفت أعينه البراقة تلك النظرة، فاحمر وجهه وتقدم نحونا متمهلا وقد ستر يده بذيل جبته، غير أن أنتونيوس أعرض عنه بازدراء ثم جلس على كرسي، وقال: أريد من الآن وصاعدا أن تكون بولينا وثروتها تحت مطلق عنايتي؛ ومن ثم لا يطمع بها أحد الأوغاد كهذا الرجل الإيتالياني صديقك ... هذا كان آخر ما نطق به ذلك المسكين، ولم يكن إلا كلمح البصر حتى علت صدره يد ذاك الخبيث، فنظرت إليه نظرة تعني أنه لم يحن بعد وقت إمساكه، ولكنه كان قد سبق فأغمد خنجرا في صدر المسكين فأذاقه كأس الحمام.
ولما أبصرت بولينا من الغرفة الثانية ما حل بأخيها، انقطعت عن الغناء وصرخت صوتا مزعجا وسقطت مغشيا عليها، فبادر بيتروف لسد فيها خوفا أن ينم علينا أنينها المتواصل، ورمى عليها قطعة من القماش، ثم استدعى تيريزا فلبثت بجانبها كل الليل.
أما أنا فبقيت كالصنم لا أبدي حراكا، بينما كان ماكيري واقفا بجانب فريسته والخنجر لم يزل بيده يقطر دما ... وفي تلك الدقيقة دخل رجل فظن الجميع أنه رسول الانتقام، فتقدم ماكيري يريد أن يبطش به، فأوقفته كي أستوضح كلمات ذلك المسكين بقوله إنه أعمى.
وعندما تأكدت صدق مدعاه أسقيته كأسا من المسكر أضاع منه الرشد، ثم أرسلت بيتروف فأتى بعربة أغريت سائقها بالتخلي عنها بضعة دقائق. وبالحال حمل بيتروف الأعمى إلى العربة وابتعد به مسافة ميلين عن شارع هوراس ثم عاد فأرجع العربة إلى حوذيها وانضم إلينا.
وفي اليوم الثاني أشعت الخبر في المدينة، أن قد فاجأ المستر مارك مرض شديد، وكان الطبيب بيتروف يأتي في كل يوم لعيادته.
وبعد أسبوع نعيناه للأصدقاء، وكان الجسد حينئذ ملفوفا بالأكفان وموضوعا في نعش داخل غرفة خصوصية. وبعد أن انتهت فروض التعزية ذهبنا به إلى إيطاليا وواريناه قبر والدته، ونقشنا على الحجر اسمه وتاريخ موته، وبذلك أمنا كل خطر.
أما بولينا فكنت قد تركتها مريضة بين يدي تيريزا خادمتي الأمينة التي قد أحاطت علما بكل ما توقع. وعندما نقهت من المرض أرسلت فطلبت إليها أن تأتي مع بولينا إلى إيطاليا، وعندما اجتمعت بهما رأيت أن جريمة ماكيري أفقدت الشاب الحياة والابنة العقل.
غير أن بولينا كانت تنتقم مني بدون قصد أو علم بذلك بنظراتها الباردة التي لم تكن سوى أسهم تنفذ في فؤادي فتعدمني الراحة، وأخيرا لم يعد بوسعي الوقوف أمام تلك الضحية، فبذلت جهدي بالابتعاد عنها، فأقمت في غرفة قريبة من غرفتها وأوصيت الخادمة أن تعتني بها جدا، وتذهب أحيانا بها إلى النزهة، ولكنها لم تأنس بالسكن في إيطاليا بل كانت تطلب بلجاجة أن تذهب إلى إنكلتره.
أما ماكيري فكان لم يزل له أمل بالاقتران بها، حتى وفي الحالة التي هي فيها زاعما أنها لا تعي شيئا مما مضى فما يمنعه من ذلك، غير أني مع كل ما أتيت من المنكرات وما اقترفت من الذنوب لم أتجرد من الإحساس الشريف، ولذلك لم أرض عن زواج ابنة شقيقتي إلى قاتل أخيها. فأرسلتها إلى إنكلترا تصحبها تيريزا، وبذلك أمنت عليها غائلة ماكيري الذي كان كثيرا ما يتوعدني بانتشالها من تحت حمايتي والزواج بها سرا، وهناك قدر أنك رأيتها وأعلنت للخادمة تشوقك للحصول عليها، وأرسلتها تعلمني بذلك، وكنت حينئذ في جينوى، فلم أتأخر عن المجيء والاجتماع بك، وعندما رأيت كلفك الشديد بها لم يمكني رفض طلبك وأنا على تلك الحال، فهذا مما هيج غضب ماكيري وجعله ينفث علي سم شكايته.
وعند وصوله إلى هذه العبارة شعرت بأن حملا ثقيلا قد تزحزح عن صدري وحسبتها المرة الثانية التي كنت بها كفيفا فشفيت.
الفصل الرابع عشر
هل تتذكرني؟
وبعد أن أنهى حديثه جلس برهة صامتا وعيناه شاخصتان إلى الأرض، ثم نهض وقال: هل تجد عذرا يا مستر فوكهان؟ - إني أشفق عليك. - هل ترجح شفاء بولينا؟ - أرجو أن أجدها بحالة حسنة. - إذن فأخبرها عن الحالة التي رأيتني فيها، فلا ريب أنها تتعزى نوعا إذ ترى أن الله قد انتقم لأخيها، والآن يجب أن أذهب.
قال ذلك وخطا نحو الباب حيث كان الحارس بانتظاره، وقبل أن يخرج قلت له: أعلمني إذا كان بوسعي أن أخفف عنك بعض الأتعاب؟ فتبسم بمرارة وقال: يمكنك أن تنفعني بدريهمات قليلة. فلم أتقاعد عن إجابة طلبه، ثم سألته إذا كان يحتاج لغير ذلك؟ فشكرني وأراد الخروج. فاستوقفته قائلا: كيف تنتهي بك الحياة، وهل تلبث على هذه الحال عشرين سنة؟ - سيذهبون بنا قريبا إلى مدينة نيرتشك في أقصى داخلية سبيريا حيث نشتغل بالمعادن. - أف لهذه الحالة التعيسة، ألا يوجد طريق للفرار منها. - لا ولكن أرجو أن أنال حظوة في عيني الرئيس إذا اجتهدت في العمل عامين فقط، وبعد ذلك ربما ينقلني من الأعمال الشاقة إلى تطبيب المرضى المسجونين.
قال ذلك بصوت منخفض.
وعند ذلك ناداه الحارس بالخروج، وقبل أن يبارح الغرفة قال: أسألك حاجة أخرى، وهي أن ماكيري لا بد أن ينال جزاءه، فهل لك أن تتكرم بإعلامي عن محاكمته ونتيجة الحكم عليه إذا كنت لم أزل في قيد الحياة، فهذا مما يخفف آلامي إذ يكون قد انتقم لي منه. وخرج بدون أن ينتظر جوابي وهو يقول: أستودعك الله يا مستر فوكهان، وأطلب منك الصفح فإننا لا نلتقي بعد. ثم توقف قليلا بعد أن رفع يده إشارة للوداع ودخل السجن، وهكذا توارى عن عيني إلى الأبد. وفي الحال ذهبت إلى القائد فارلاموف، وأثنيت عليه وشكرت همته وذهبت مسرعا حيث كان الدليل والجوادان بانتظاري، وإذ ذاك لم يكن ليعيقني أمر عن الرجوع إلى الوطن وبولينا.
وفي مدة خمس وثلاثين ساعة وصلت نوفكورد، ثم ركبت القطار وسرت إلى موسكو ومنها إلى بطرسبرج حيث شكرت السفير ثانية، وهناك أخذت تحريرا من بريسلا تخبرني به أن بولينا قد نالت الشفاء التام، وهذا بعض ما قالت: «إنها تنمو كزهرة نضرة وتظهر بها نفس أخلاق وشعائر سيدي جلبرت.»
فكان قلبي يرقص لهذه البشرى طربا، وما كنت لأصدق قط بوصولي إلى منزلي ومشاهدتي امرأتي المحبوبة بحالة طالما تمنيت أن أراها بها، فهل تتذكرني يا ترى؟ وكيف يكون الملتقى؟ وهل تتعلم أخيرا أن تحبني؟ أيكون هذا اللقاء فاتحة أتعابي أو خاتمتها؟
وأخيرا وصلت إلى الوطن وسررت بمشاهدة أبناء جنسي، وانتعشت نفسي باستنشاق هواء إنكلترا، ثم اتجهت بقلب خافق نحو منزلي، وقد توهمت أن تلك المسافة الباقية أطول كثيرا من السفر الذي قضيته، وحين وصولي إلى باب الحديقة أبصرت بولينا داخلا وإلى جانبها برسيلا وهي جالسة قرب صخر تتفجر منه المياه فتسقي من حوله أزهارا عطر أريجها الفضاء. وفي يدها كتاب ذاهلة عنه وعيناها الجميلتان شاخصتان نحو شجرة قد أرسلت أغصانها ظلا يخترقه من خلال الأوراق رقط من أشعة الشمس الذهبية منتشرة على ثوبها الأرجواني تتماوج كلما حركها النسيم، بما يجعل بولينتي المحبوبة بل زوجتي المعبودة أشبه بكوكب يسطع في الفضاء في ليلة ظلماء. فتقدمت نحوها متمهلا وقد أخذ مني الارتعاش واشتد خفقان قلبي. أما هي فلما شعرت بوطء أقدام التفتت نحوي وحدقت بي برهة ثم صرخت: هذا هو. وبالحال نهضت واقفة ولبثت في مكانها تنتظرني دون أن تحول نظرها عني، فدنوت منها وصافحتها قائلا: هل تعرفيني يا بولينا؟
فأجابت ولسانها يتلجلج: لقد حدثتني عنك بريسلا مرارا. - ألا تذكرين بأنك رأيتيني قبلا؟
فزفرت زفرة طويلة، وقالت: كثيرا ما رأيتك بالحلم. - وماذا كانت تلك الأحلام؟ - اعذرني فلا أقدر أن أجيبك الآن؛ فإني كنت مريضة ... من مدة طويلة ... وقد نسيت أكثرها، ولكني سوف أذكر كل ما مضى شيئا فشيئا. - أتسمحين لي أن أذكرك بها؟ - لا، أرجوك أن تمهلني إلى الغد، فإني تعبة جدا.
وقبل أن تسير إلى المنزل عثرت برقعة كانت قد تطايرت من الكتاب الذي بيدها، فتأملتها مليا، وإذا بها رسمي، فتعجبت لذلك، وسألتها كيف تم لها أن تصنع ذلك وهي لم ترني إلا بالحلم؟!
قالت: لا أعلم سببا لذلك فإن هذه الهيئة لم تبارح مخيلتي قط، وكنت أراك دائما مشتغلا بأمور ذات أهمية، فأخبرني هل فزت بأمنيتك؟ - نعم، لقد فزت بالمرام واطلعت على كل شيء. - أخبرني إذن أين وضعوه؟ - من تعنين بهذا القول؟ - أخي أنطونيوس الذي قتلوه. - لقد دفن بجانب والدته في إيطاليا. - الحمد لله، فسوف أصلي على قبره يوما ما. - وهلا تريدي الانتقام من القتلة؟ - وماذا يفيد الانتقام، هل يعيده إلى الحياة، فضلا عن أنه قد مضى على تلك الحادثة زمن طويل بينما كنت مريضة، فسينتقم له الله منهم. - لقد نال كل منهم جزاءه، فأحدهم مات، والثاني دهمه الجنون، والثالث يرفل الآن بسجن سبيريا، غير أن الرابع لم يزل حرا. - سوف يتجرع نفس الكأس التي تجرعها رفقاؤه، فأيهم هذا؟ - ماكيري.
فقطبت حاجبيها، ولم تعد تفوه بكلمة.
وبوصولنا إلى المنزل، قالت بتذلل وحزن: هل تذهب بي إلى إيطاليا، فأبكي على قبره؟ فوعدتها بذلك، فضغطت على يدي إظهارا لممنونيتها وشكرها، ثم قالت: بعد أن أذهب وأرى المكان الذي ضم عظامه لا أعود من ثم أذكر الماضي.
الفصل الخامس عشر
الخاتمة
ومضى علينا بعد ذلك عدة أيام دون أن يتفوه أحدنا بهذا الموضوع، وكنت حائرا في أمري لا أدري كيف يجب أن أظهر نفسي لبولينا وأفهمها الحقيقة. أما هي فلم تفاتحني بأمر أو تتعجب لوجودي دائما بقربها، وكنا نصرف أوقاتنا بالقراءة تارة وطورا بإنشاء الأغاني على البيانو وأحيانا نسير للنزهة، فتتأبط ذراعي كأنها عالمة أن تلك اليد تخصها.
فيوما ما بينما كنا جالسين وقت الغروب على صخر مرتفع يشرف على البحر، وقد أخذت أشعة الشمس بالاصفرار، التفت يمنة ويسرة إلى تلك السهول الواسعة الأطراف التي كنت أملكها، وإذا بها قد زينتها الطبيعة بانعكاس نور الشمس على أشجارها، فتأثرت لهذه المناظر اللطيفة وجعلت أتفكر بعظمة الخالق وكرمه، فوجدت بأنه قد متعني بالسعادة بعد الشدة ومنحني مالا وافرا ومقتنيات كثيرة، وهي أشياء يستحيل على كثيرين الحصول عليها، ولكن ماذا يفيدني كل ذلك وبولينا لم تزل على حالها ضعيفة الإدراك لا تهتم بي، فإني أفضل أن أكون فقيرا لا أملك شروى نقير وتكون بولينا كما أريد. وعند ذلك فاضت مدامعي وشعرت بأني ما زلت أتعس البشر، فالتفت إليها وكانت شاخصة بي تتأملني بنظر حاد، فكدت أبوح لها بكل ما يجول في خاطري لو لم تبادرني بقولها: أخبرني من أنت؟ ومتى وكيف عرفتني؟ ولماذا كنت أحلم بك وأنا مريضة؟ وكيف اتفق وجودي في منزلك؟ - لقد طلب إلي الطبيب أن أعتني بك مدة غيابه، فوعدته بذلك، ولكنه لا يعود لأنه كما أخبرتك سابقا قد قبضت عليه العدالة وأودعته السجن لأنه كان شريكا للقتلة.
فسترت وجهها بيدها كأنها تقصد إخفاء ذاك المنظر الهائل عن عينيها، فأردت أن أغير مجرى أفكارها فقلت لها: أخبريني الآن يا بولينا كيف رأيتني بالحلم؟ - لقد أبصرتك واقفا بجانبي في نفس الغرفة التي جرت فيها تلك الفاجعة، ولكني أعلم جيدا أن تلك أوهام لا صحة لها، وبعد ذلك عدت فأبصرت من خلال غيوم الأحزان وجهك، فكانت تلوح عليه لوائح الجد والتعب، وكأني بك تقول: «إنني ذاهب لأبحث عن الحق.» وهكذا كنت منتظرة رجوعك بفروغ الصبر. - ألم تريني قبل ذلك؟
فأجابت بصوت مرتجف: لا أعلم، لا تسألني. ثم تحفزت للقيام وهي تقول: لقد خيم الظلام فهيا بنا إلى المنزل. فتبعتها وبوصولنا إلى البيت ذهبت توا إلى غرفتها معتذرة عن عدم مقدرتها على مجالستي في السهرة كعادتنا، وقبل أن تلج الباب كلمتني بالإيتاليانية - حيث إن بريسلا كانت حاضرة - قائلة: جلبرت، هل يجب علي أن أنسى الماضي أو أحاول تذكاره؟ وانسحبت إلى الداخل. أما أنا فلم أكن باحتياج إلى الرقاد، فخرجت أنزه الطرف بالحديقة، وكان النسيم باردا منعشا والقمر يسطع بنوره الفضي، فجلست على مقعد خشبي وإذا ببريسلا مقبلة نحوي وهيئتها تنبئ بكتمانها أمرا تود التصريح به، فقلت لها: اذهبي الآن إلى بولينا فربما تحتاجك. - نعم، سوف تحتاجني، ولكن ليس الآن ففي الغد سأخلو بها وأفهمها كم أنت معذب بسببها. - لا يا بريسلا، لم يحن الوقت بعد. - ولكني متى أخبرتها كم تجشمت لأجلها من الأخطار وكم سهرت على راحتها واعتنيت بها، فلا بد من أن تتذكر ذلك حالا، وحينئذ ترى نفسها مديونة لك بأمور كثيرة، وقد تعلو منزلتك لديها فلا يمضي زمن قليل حتى تبادلك عواطف الحب الأكيد. - لا، لا أريد أن أغتصب قلبها، فآمرك ألا تفعلي ذلك. - طالما حفظت أوامرك يا سيدي، فدعني غدا أعصي واحدة منها لأجل راحتك. - لا يا بريسلا، لا يا صديقتي القديمة؛ فإنك بذلك تسببين لي كدرا عظيما.
ثم تركتها وجعلت أخطر في وسط الحديقة وأنا مضطرب الأفكار، وكنت أردد في ذهني كلماتها الأخيرة، وهي هل أنسى الماضي أو أحاول تذكاره؟ فماذا تقصد يا ترى بهذه الكلمات، ألم يفدها ذلك الخاتم أنها ذات بعل، فمن يكون سواي وهي ترى نفسها في منزلي؟ وقد تأكدت أنني مطلع على كل أسرارها، فهل علمت ذلك يا ترى وتجاهلت عنه إذ لا ترى من نفسها ميلا إلي؟ نعم يمكنها أن تتخذ ذلك حجة لقلبها؛ فإني قد اقترنت بها بينا هي فاقدة قوة يمكنها أن تقبل أو ترفض طلبي. وجملة القول إنني من تلك الساعة بدأت أفكر أن أتعابي أخذت بالابتداء. وأخيرا عولت على أن أطلعها في الغد على كيفية ارتباطنا القريب ووقوعي في شراك سنيري، وإني برئ من اللوم لأني لم أكن أعلم عن حقيقة حالها أمرا، وبعد ذلك أصغي لاستماع الحكم من بين شفتيها، فإما أن أحيا سعيدا أو أنفصل عنها إلى الأبد؛ لأن ما من قوة تجذبها للبقاء معي سوى الحب، فإذا لم يكن لديها قلب استحق الحصول عليه أكون إذ ذاك كالحمل الثقيل على عاتقها، فالأوفق أن أبتعد عنها وأهبها قصري وما فيه وأوكل عنايتها إلى خادمتي، وهذه أحسن وسيلة لتوطيد راحتها.
وبينا أنا بالافتكار إذ وقعت عيني على وردة زاهية اللون، فتأملتها مليا، وإذا بها تشبه وجنتي حبيبتي، فأسرعت لاجتنائها وأتيت من جهة الغرفة التي كانت بولينا نائمة فيها، ورميت بها من النافذة وربما صادف وقوعها على السرير.
وعند الصباح اتجهت نحو غرفتها متهللا وقد نبذت مخاوف الليل ظهريا، فالتقتني الخادمة عند الباب وأعلمتني بخروجها إلى الحديقة باكرا. فانطلقت إلى هناك وإذا بها سائرة بتمهل ورأسها منخفض، وقد ظهر على محياها الصبوح إشارة الذبول، فكان وجهها مصفرا وعيناها غارقتين، مما دل على أنها لم تذق الرقاد كل ذلك الليل.
فاقتربت منها وحييتها كالعادة، فردت تحيتي وهي تبتسم عن ثغر كالدر، ثم سرنا سوية، وأول ما حاولت البحث على وردتي في يدها، فألفيتها مجردة منها، ومن ذلك الخاتم الذي كان يسطع في عيني كنجم الأمل. وعند ذلك لم يعد بوسعي الشك بأنها تذكرت كونها زوجتي وأنها ترفض ذلك، ولقد وضح لي جليا بهذه الإشارة عن أفكارها بأنها ترغب في حل العقد، فما لي ما أقوله بعد، لقد أفحمتني بالجواب قبل أن أبدي الخطاب، فويلا وتعسا لقلبي، إنها لا تحبني، وقد لاحظت هي أني أنظر إلى يديها باستغراب وحزن عظيم، ولكنها لم تكترث بذلك.
وهكذا مضى بنا النهار دون أن نتحدث بهذا الموضوع، غير أني استوضحت منها تغييرا عظيما، فإنها كانت حزينة جدا وتميل إلى الانفراد لا تتكلم إلا فيما ندر، ولم تعد تعتبرني كصديق بل كرجل غريب مستعملة الألقاب السامية، وهذا مما قوى أحزاني وسحق قلبي أكثر فأكثر.
ومرت بنا بعد ذلك أيام كثيرة، وفي كل يوم كانت تزداد فيها تلك الحالة تملكا، وأخيرا لم يعد بوسعي الصبر وتحققت أنها تود التخلص مني، فطلبت الفرار ... وبالحال أعددت أمتعتي للسفر حيث لا أعود بعده، ولم يبق علي سوى أن أودع زوجتي الوداع الأخير بعد أن أطلعها على العلاقة التي بيننا، فذهبت إلى غرفتها بقلب واجف ووقفت على الباب كذليل وقد تلعثم لساني وتحلب العرق من جبيني، فلم أعد أدري بأي عبارة أفهمها مقاصدي.
وأخيرا تقدمت نحوها بقدم الجبان وأخذت يدها بين يدي ولفظت هذه الكلمات بصوت متهدج: أستودعك الله يا بولينا، فإنك لن تريني بعد ... وسأبارح إنكلترا ... ثم خنقتني الدموع فتوقفت عن الكلام. أما هي فلم تجب بكلمة، ولكني شعرت بيدها ترتعش، وأردفت قائلا: إن أمورا مهمة تقضي علي بسرعة الذهاب. فعندما رأت أنني منتظر جوابها، قالت بصوت ضعيف: متى أنت عازم على السفر؟
هذا كل ما فاهت به. فأجبتها وكادت تشق مرارتي: الآن، وما لي سوى سويعات قليلة أريد أن أصرفها بالتحدث معك، فهل لك رغبة في مرافقتي إلى الحديقة؟ - إذا كنت تريد ذلك. - بل إذا لم يكن لديك ثمة مانع، واعلمي أن ما سأحدثك به يختص بك وبمستقبل حياتك. - سأذهب.
ثم نهضت لترتدي أثوابها، وأنا خرجت متثاقلا وقد أنهكتني الأحزان، فأتيت إلى تلك الصخرة التي رأيت بولينا جالسة قربها أول مرة بعد رجوعي من سفري الطويل، ووضعت أمتعة السفر جانبا واضطجعت على الأعشاب النابتة، بينما كان النسيم يهب بين الأشجار فيسمع لها حفيف يمازجه صوت المياه المنسابة قربي، ثم أطبقت جفني واستغرقت في بحار الأفكار ولم أنتبه حتى شعرت بيد لطيفة قد وضعت على كتفي، فالتفت وأول ما وقعت عيناي عليه هو وجه بولينا القرمزي، فإذا بها شاخصة نحوي وعيناها الجميلتان تنثر الدمع كلؤلوء فوق ورد وجنتيها.
فخفق قلبي بشدة ولم أتمالك أن صرخت من فؤاد مقروح: بولينا، بولينا، هل تحبينني؟ - هل أحبك؟
ثم رمت بنفسها بين ذراعي وهي تقول: نعم أحبك يا زوجي العزيز. - متى علمت ذلك يا حبيبتي؟
أجابت وقد صدح صوتها كالموسيقى في أذني: من حين كنا جالسين على الصخر عند الشاطئ، وكنت حتى تلك الساعة جاهلة نسبتي إليك، ولم أدر إلا وقد عاودني تذكار الماضي فجأة واتضح لدي كل ما كان مخفيا. - ولماذا نزعت خاتم العقد من يدك؟ - لقد مرت بنا أيام طوال دون أن تخاطبني بهذا الشأن، فظننت أنك ندمت على هذا الارتباط؛ إذ رأيتني غير أهلة له، فوددت أن يكون حسب مشتهاك، ولكني وإن نزعته من يدي فقد حفظته قريبا من قلبي.
قالت ذلك ونزعت من عنقها سلسلة ذهبية قد علق بها الخاتم، ثم أردفت قولها: وعندما رأيتك لم تطالبني به تفاقمت أحزاني وتأكدت ما كنت أرتاب منه، وأما الآن فإذا كنت تراني أهلا له فأنت وما تشاء.
فتناولته منها وأعدته ليدها الجميلة بعد أن كسيتها بالدموع، ومن تلك الدقيقة أيقنت أن أتعابي قد انتهت وشمس سعادتي أشرقت.
وفي اليوم الثاني قلت لها: هل لك أن نبارح إنكلتره؟ - وإلي أين نذهب؟ - أتسأليني، بدون ريب إلى إيطاليا.
فتنهدت وشكرتني، وبعد أسبوع كنا في باريس، فقدر أني تركت بولينا في الفندق الذي كنا نازلين به، وذهبت إلى السوق في بعض المهام، وإذا بجمهور من الناس قد علت بينهم الضوضاء، فتقدمت لأستوضح الخبر، فطرق أذني رنة سلاسل استلفتت أنظاري، فشاهدت ثلاثة أشخاص حفاة مقيدين تحيط بهم الجنود من كل الجهات، فسألت شابا إفرنسيا كان واقفا على مقربة مني: من هم هؤلاء؟ - قوم رعاع مفسدون. - إلى أين ذاهبون بهم؟
أجاب هازا كتفيه باستخفاف: وهل غير السجن نصيبهم؟ وعندما اقتربوا مني رفع أحدهم رأسه فتبينته جيدا، وإذا به ماكيري بعينه. أما هو فحينما رآني توقف عن المسير وجعل يتفرس بي وليس للخجل أثر ظاهر على وجهه، ثم ابتدره أحد الجنود بضربة من كفه فانقاد صاغرا وهو يحرق الأرم ويرفل بقيوده. أما أنا فلم يدرك قلبي شفقة عليه البتة، وأيقنت أن دم أنطونيوس مارك كان يصرخ إلى السماء بطلب الانتقام، وقد أجاب الله سؤله.
ولم يمض عشر دقائق حتى علا صفير العربة المختصة بنقل المسجونين إشارة للمسير، وهكذا غاب عني دون أن أعلم سبب سجنه، أو نوع الحكم عليه، ولكني لم أغفل عن وعدي لسنيري، وحالما رجعت إلى المنزل حررت كتابا إلى القائد فارلاموف ومنه إلى سنيري بعد أن قصصت على بولينا ما رأيت.
وفي اليوم الثاني زايلنا باريس ولم يمض أيام قليلة حتى كانت بولينا راكعة بجانب قبر أخيها تسكب عليه الدموع، وعندما انتهت من ذلك طلبت إلي أن أذهب بها من ذلك المكان، وكان وجهها حينئذ مصفرا بما لا يقدر وبعد أن صرنا على الطريق قالت: لقد بكيت كثيرا فيما مضى ولكني أبتسم فيما بقي، ولندع جانبا ظلام الماضي وننظر إلى مستقبلنا المنير بأشعة الحب المقدس.
وهكذا عدنا إلى العالم الباسم الذي كان يؤملنا بحياة جديدة وسعادة أكيدة.
Page inconnue