ولما دخلوا الحصن لم يجدوا فيه سوى بضعة عشر قتيلا من الفرنسويين والروشليين، فأخذ الغلام يهيئ المائدة، وقال أتوس لأصحابه: اجمعوا بنادق القتلى وذخائرهم وأنا أحدثكم، فليس للموتى آذان تسمعنا. فجمعوا ما تيسر لهم جمعه ثم جلسوا على الخوان، فقال دارتانيان لأتوس: ألا تخبرنا الآن بسرك؟ قال: بلى، فقد رأيت ميلادي أمس. وكان دارتانيان قد أدنى الكأس إلى فيه، فأمسكه وقال: رأيت امرأة ... فقال له: صه، فلا يعرف ذلك أحد غيرك. قال: وأين رأيتها؟ قال: على مقربة من هنا في فندق برج الحمام. فقال دارتانيان: إني إذن هالك. قال: لا يكبرن عليك الوهم، فإني أظنها رحلت عن فرنسا الآن. فقال بورتوس: وما عساها تكون هذه؟ قال: امرأة جميلة غاظها دارتانيان فعزمت على قتله وطلبت رأسه من الكردينال. فقال دارتانيان: وكيف ذلك؟ قال: نعم، سمعتها أنا وأراميس. فقال دارتانيان: لم يعد في القتال والجهاد فائدة، ولم يبق لي إلا أن أقتل نفسي بيدي، فما أرى لي مطمعا في الإفلات من أعداء مثل الكونت دي ويرد وميلادي والكردينال، وهو ضغث على إبالة، والرجل الذي خاصمته في مينك. قال: خفض عليك أيها الصديق فإنهم أربعة ونحن أربعة، كل واحد لواحد. ثم التفت إلى كريمود فرآه يرتعد خوفا، فقال له: ما بالك لا أم لك؟ قال: داهمتنا سرية يا مولاي. قال: وكم عددها؟ قال: ستة عشر فاعلا وأربعة عساكر على بعد غلوة منا. قال: فاستعدوا يا قوم. فهب الحراس إلى السور فرأوا الجيش مقبلا، فاصطفوا ووضعوا كريمود وراءهم ليحشو لهم البنادق، وصعد أتوس على ثلمة السور وبندقيته في يده الواحدة وقلنسوته في الأخرى وقال للسرية: يا قوم، نحن جماعة جئنا إلى هنا لنأكل، فإذا كان لكم عمل فأنظرونا حتى نفرغ فنذهب وتدخلون، فقال له دارتانيان: حذار يا أتوس، فإني أراهم يسددون بنادقهم إليك. قال: لا بأس، فإنهم نبط لا يحكمون الرمي ... وما أتم كلامه حتى دوى الرصاص عن جانبيه، فأطلق وأصحابه بنادقهم فأصابوا أربعة، فسقطوا ثم ثنوا عليهم فأصابوا منهم مثل ذلك وفر الباقون عائدين على أعقابهم. فعمد الحراس إلى أسلابهم فأخذوها وعادوا إلى طعامهم، وأخذ الخادم يحشو البنادق. واستأنف أتوس كلامه فقال: وكان ذهاب ميلادي إلى إنكلترا بنية قتل بيكنهام إما بيدها أو بأن تغري به أحدا، فقال دارتانيان: تلك إذن خيانة وغدر. قال: أنا قليل الاكتراث في مثل ذلك، وسيان عندي قتلته أم لم تقتله. ثم التفت إلى الخادم وقال له: خذ عصا واربط بها منديلا وانصبها لنا علما ليعلم رجال روشل بأنهم يحاربون أبطال فرنسا. ففعل، وأخذ العلم يخفق فوق رءوسهم، فقال دارتانيان: كيف يقل اكتراثك بقتل الدوق بيكنهام وهو لنا صديق؟ قال : لا، بل هو عدو، أما تراه يحاربنا؟ قال: أولا تذكر الأفراس التي هادانا بها، فإني والله لست بجاحد حبه؟ قال: سنرى في ذلك، ثم إن ميلادي أخذت من الكردينال صكا تأمن به عاقبة ما تفعل. قال دارتانيان: وهل لم يزل في يدها؟ قال: لا، فهو عندي فدونكه. وأخرجه من جيبه، فأخذه دارتانيان وقرأه حتى انتهى ثم قال: أرى أن نشقها؟ قال: لا والله ولو ملئت لي ذهبا ما شققتها. قال: وما ترى تصنع ميلادي؟ قال: تكتب إلى الكردينال أن أتوس أحد الحراس قد سلبها الصك، فيقبض الكردينال على دارتانيان أولا ثم يقبض علي ويودعني سجن الباستيل. قال دارتانيان: أراك تمزح؟ قال: والله بل هي الحقيقة، فما نصنع؟ قال: قد عن لي رأي ... وما أتم كلامه حتى صاح بهم كريمود: سلاحكم فاستعدوا. فهبوا إلى بنادقهم ونظروا فإذا فرقة من الجند مقبلة عليهم، فقال أراميس: أرى أن نرجع، فقال أتوس: إن ذلك لا يكون أبدا لأسباب ثلاثة، أولها أنا لم نفرغ بعد من الطعام، والثاني لا يزال في صدرنا كلام نحب أن ننفثه، والثالث أن الساعة لم تنقض بعد. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: نطلق عليهم الرصاص حتى ينفد، وإذا بقيت منهم بقية واستمرت نحونا نمهلها حتى تصير تحت الحائط ندفع الجدار عليها وهو مهدم لا يلبث أن يهوي فنقتلهم عن آخرهم. قالوا: أصبت، ثم صوبوا بنادقهم وأطلقوها فقتلوا أربعة، ثم أتبعوها بمثلها فقتلوا أربعة آخرين، ولم يزل من بقي منهم يتقدم حتى بلغوا خندق الحصن وهم اثنا عشر رجلا، فقال أتوس: ادفعوا عليهم الجدار. فدفعوه، فسقط عليهم يهوي عليهم، ثم علا صراخهم وارتفع غبار الحائط، فقال أتوس: أظنهم ماتوا جميعا. ثم تطلع وقال: أرى ثلاثة منهم يركضون مخضبين بالدماء. قالوا: دعهم، فقد انقضت الساعة. ثم التفتوا إلى دارتانيان وقالوا: ما الرأي الذي عن لك؟ قال: أن أذهب إلى إنكلترا وأقابل بيكنهام. فقال أتوس: ليس ذلك بصواب. قال: لماذا؟ قال: لأنك عندما ذهبت أول مرة لم يكن بيننا وبين إنكلترا حرب، أما الآن فيحسب ذهابك خيانة. فقال بورتوس: وأنا قد لاح لي خاطرة. قالوا: ما ذاك؟ قال: أستأذن دي تريفيل وأتبع ميلادي حتى أدركها وهي لا تعرفني فأقتلها وأعود إليكم. فقال أراميس: عيب على الرجال أن تقتل النساء، وإنما نحن أبطال.
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
ولكن بدا لي رأي وعساني مصيب فيه، وهو أن نخبر الملكة بالأمر. قال أتوس: ذلك مستحيل الآن؛ إذ لا يمكن أن تصل رسالة إلى باريز على بعدها منا من غير أن يدري بها المعسكر. قال: إذا كان المحظور من هذا القبيل فلا بأس، وعلي قضاء الأمر، فإني أعرف شخصا في تور ... ثم احتبس لسانه حياء، فقال دارتانيان لأتوس: ما رأيك في ذلك؟ قال: لا أنكره، ولكني لا أراه يتم حتى يعرف به الكردينال. قال: سنرى في ذلك، ولكني أسمع صوت البوق، فما ذاك؟ قال: قد وجه إلينا القائد فرقة تحاربنا، وأنا أسمع صوت البوق يدنو فما رأيكم؟ قال: دعوهم. ثم أشار إلى كريمود أن يصف القتلى على الحائط بقبعهم وعليهم سلاحهم، ففعل واستحسنوا رأيه، فقال: فلنرجع الآن إلى رأيي. قالوا: ما ذاك؟ قال: أظن أن لهذه الامرأة الفاجرة سلفا؟ قال: نعم، وهو يدعى اللورد ونتر، مقيم في لندرة الآن، وهو لي صديق. قال: فإن كنا لا بد مرسلين فإلى هذا نخبره بالعزم الذي عزمت عليه ميلادي ليترقبها ويودعها السجن. فقال دارتانيان: بالصواب أشرت، ولكني أرى أن نخبر الملكة أيضا. قال: وأنى لنا من يذهب إلى تور ولندرة. قال أراميس: خادمي بازين. فقال دارتانيان: وخادمي بلانشت. فقال أراميس: ذلك الرأي السديد لأنا لا نقدر أن نفارق الجيش، وأما الغلمان فليس ذلك بمحظور عليهم، فنكتب رسالتين اليوم ونرسلهما. ثم التفت دارتانيان وقال: أرى البيارق تخفق على مقربة منا، فقد داهمتنا السرية من غير شك، فقال بورتوس: وما الفائدة من وضع القتلى بسلاحهم؟ قال أتوس: نوهم الأعداء أنهم أحياء، فيلهون برميهم حتى ننجو. ثم أخذ الراية التي نشرها وانطلقوا وهم يسمعون طلقات البنادق على القتلى ويضحكون، حتى دنوا من أصحابهم الفرنسويين، فقابلوهم بالتهليل والتكبير، وكانوا يتشاورون في بيع خاتم دارتانيان وإرسال الرسالتين بثمنه، فوعدهم دارتانيان ببيعه، ثم قابلوا الجند فهنأوهم بالسلامة وأثنوا على شجاعتهم، وبلغ الخبر الكردينال فسر منه وقال: لا بد من أن أضمهم إلى حرسي، ثم لقي دي تريفيل فأخبره بالأمر وهنأه بشجاعة رجاله، فقال: ليس كلهم رجالي يا مولاي، فإن دارتانيان من حرس دي زيسار. قال: يجب أن يكون منهم مذ الآن، فلا يجمل بنا أن نفرق بينهم وهم أصدقاء. فشكره دي تريفيل على ذلك وأخبر دارتانيان، فسر سرورا عظيما وذهب إلى دي زيسار يشكره ويستأذنه بالانضمام إلى أصحابه، فهنأه القائد بالرتبة الجديدة، وابتاع منه الخاتم الذي أخذه من الملكة بسبعة آلاف دينار.
الفصل الثاني والأربعون
الرسالتان
ولما كان المساء اجتمع الحراس الأربعة في مضرب أتوس ليتداولوا في إنشاء الرسالتين لسلف ميلادي، وللشخص الذي في تور، وفي إرسال الغلمان في إيصالهما، فأقاموا يتجادلون في من يرسلون وكل منهم يمدح من خادمه ويطلب إرساله ويطنب فيه بالشجاعة والأمانة، فقال أراميس: لقد وهمتم يا قوم، فليس القصد في الخادم أن يكون أمينا شجاعا، بل أن يكون محبا للمال حريصا عليه، بحيث يمكن أن يغرى به فيجتهد في أداء الرسالة. قالوا: صدقت، فمن لنا برجل يقطع فرنسا وهي مكتظة بالجواسيس ثم يذهب إلى إنكلترا فيكلم أهلها بلسانهم؟ فقال دارتانيان: نكتب له كتابا لا يرتاب فيه أحد أنه من صديق إلى صديقه ولا دخل للسياسة فيه، فقال أراميس: أنا أكتبه، ثم استمد القلم وكتب:
أيها اللورد
إن كاتب هذه الرسالة قد أسعده الدهر بأن بارزك في شارع لانفير، ولما كنت لي صديقا رأيت أن أحذرك من إحدى ذوي قرباك تحاول قتلك باعتقاد أنها وريثتك، وهي امرأة قد تزوجت في فرنسا ثم تزوجت في إنكلترا، وهي سائرة إليك الآن فترصدها فإن مقاصدهما عظيمة سيئة، وإذا شئت دليلا على صدق كلامي فاقرأ ما هو منقوش على كتفها الأيسر.
فقال أتوس: لقد أحسنت في البيان، ولكن من أين لنا المال لإرسال الخدم؟ وأين خاتمك يا دارتانيان؟ قال: عندي خير منه. ثم أخرج الكيس ودفعه إليهم، فقالوا: كم فيه؟ قال: سبعة آلاف دينار. قالوا: تكفي. فاكتب الآن يا أراميس إلى الملكة وحذرها على بيكنهام، فإن لك صديقة في تور على ما تقول، فكتب:
Page inconnue