المقدمة
1 - دي تريفيل
2 - أسباب الخصام
3 - حراس الملك وشرطة الكردينال
4 - لويس الثالث عشر ملك فرنسا
5 - الحراس في أنفسهم
6 - دسيسة في قصر الملك
7 - امرأة صاحب الفندق السبية
8 - تدبير الحيلة
9 - جورج فيليه دوق دي بيكنهام
10 - بوناسيه صاحب الفندق
11 - الكونت روشفور خصم دارتانيان
12 - رجال القلانس ورجال السيوف
13 - الملك والملكة والكردينال
14 - في تداخل كونستانس بوناسيه
15 - العشيق والقرين
16 - تدبير السفر
17 - الرحيل
18 - الكونتس دي ونتر
19 - ليلة الرقص
20 - الموعد
21 - الشرفة
22 - بورتوس
23 - قصة أراميس وامرأة أتوس
24 - العودة إلى باريز
25 - البراز
26 - الطعام عند عشيقة بورتوس
27 - الوصيفة والسيدة
28 - تجهيز أراميس وبورتوس
29 - ليلة الميعاد
30 - الزيارة
31 - سر ميلادي
32 - لا ييأسن نائم أن يغنما
33 - مرور الخيال
34 - الخيال الهائل
35 - حصار روشل
36 - خمر أنجو
37 - فندق برج الحمام
38 - فائدة الأسطوانة
39 - لقاء الزوجين
40 - حصان سان جرفي
41 - محادثة الحراس
42 - الرسالتان
43 - الكرب الشديد
44 - محادثة الأخ والأخت
45 - عود إلى فرنسا
46 - اليوم الأول من أسر ميلادي
47 - اليوم الثاني من الأسر
48 - اليوم الثالث من الأسر
49 - اليوم الرابع من الأسر
50 - اليوم الخامس من الأسر
51 - تمام الحكاية
52 - الفرار
53 - فيما جرى في بورت سموث في 22 آب سنة 1628
54 - في فرنسا
55 - دير الكرمليين في بيتين
56 - اثنان من الأبالسة
57 - نقطة الماء
58 - الرجل ذو العباءة الحمراء
59 - المحاكمة
60 - الإعدام
الخاتمة
المقدمة
1 - دي تريفيل
2 - أسباب الخصام
3 - حراس الملك وشرطة الكردينال
4 - لويس الثالث عشر ملك فرنسا
5 - الحراس في أنفسهم
6 - دسيسة في قصر الملك
7 - امرأة صاحب الفندق السبية
8 - تدبير الحيلة
9 - جورج فيليه دوق دي بيكنهام
10 - بوناسيه صاحب الفندق
11 - الكونت روشفور خصم دارتانيان
12 - رجال القلانس ورجال السيوف
13 - الملك والملكة والكردينال
14 - في تداخل كونستانس بوناسيه
15 - العشيق والقرين
16 - تدبير السفر
17 - الرحيل
18 - الكونتس دي ونتر
19 - ليلة الرقص
20 - الموعد
21 - الشرفة
22 - بورتوس
23 - قصة أراميس وامرأة أتوس
24 - العودة إلى باريز
25 - البراز
26 - الطعام عند عشيقة بورتوس
27 - الوصيفة والسيدة
28 - تجهيز أراميس وبورتوس
29 - ليلة الميعاد
30 - الزيارة
31 - سر ميلادي
32 - لا ييأسن نائم أن يغنما
33 - مرور الخيال
34 - الخيال الهائل
35 - حصار روشل
36 - خمر أنجو
37 - فندق برج الحمام
38 - فائدة الأسطوانة
39 - لقاء الزوجين
40 - حصان سان جرفي
41 - محادثة الحراس
42 - الرسالتان
43 - الكرب الشديد
44 - محادثة الأخ والأخت
45 - عود إلى فرنسا
46 - اليوم الأول من أسر ميلادي
47 - اليوم الثاني من الأسر
48 - اليوم الثالث من الأسر
49 - اليوم الرابع من الأسر
50 - اليوم الخامس من الأسر
51 - تمام الحكاية
52 - الفرار
53 - فيما جرى في بورت سموث في 22 آب سنة 1628
54 - في فرنسا
55 - دير الكرمليين في بيتين
56 - اثنان من الأبالسة
57 - نقطة الماء
58 - الرجل ذو العباءة الحمراء
59 - المحاكمة
60 - الإعدام
الخاتمة
الفرسان الثلاثة
الفرسان الثلاثة
تأليف
ألكسندر ديماس
ترجمة
نجيب الحداد
بسم الله الفتاح
أما بعد، فإن فن الروايات من أفضل ما شغل به فتيان هذا العصر، وأحسن ما سعوا له وحثوا إليه الهمم وصرفوا عليه الأوقات؛ لاكتفاء اللغة بغيره من كتب الصرف والنحو وعلوم الأدب مما أبرزه علماؤها وأئمتها، فأبدعوا فيه غاية الإبداع وبلغوا حد الإعجاز، حتى لم يتركوا بعده مقالا لغيرهم ولم يقصروا به عن شأو يطمع فيه من بعدهم، إلا إذا كان من قبيل المقامات والشعر والرسائل، وهو ما لا يكاد يبلغه كل من له قدرة على ترجمة رواية أو تعريب قصة. ولقلة مصنفات هذا الفن في لغتنا العربية واقتصار الكثير منها على أحاديث منقطعة ونوادر مقتضبة تورد لشاهد أو مثل أو نكتة أو ما جرى مجراها، بحيث لا يكون منها قصة وافية بالمطلوب جامعة ما يقصد في فن الروايات من تهذيب النفوس وترويض الأخلاق، وهي كتب كثيرة كالعقد الفريد وزهر الآداب والأغاني وغيرهما مما يراد به جمع النكات ويقصد فيه إلى تدوين الغرائب والأمثال وضروب البلاغة ومخارجها، فيرد المثل في عرض الحكاية وتدخل النكتة في خلال القصة، ومنها ما يراد به الإعجاز والإبداع في مدح الشيء وذمه توسعا في الكلام واقتدارا على المعاني، وهو ما لا يؤثر شيئا في الأخلاق كما توهم بعض مترجمي هذا العصر، وإنما يورد تفكهة للخواطر وبيانا لسعة إدراك ناظمه وطول باعه في الاختراع؛ حتى يهجن الحسن ويحسن القبيح ولا دخل له في مقام الروايات والسير التي يقصد بها النفع وتتوخى منها الفائدة للخاصة والعامة؛ ولذلك فقد عنيت بتعريب هذه الرواية عن اللغة الفرنسوية متحريا ما وسعته الطاقة وبلغ إليه الخاطر الكليل من مجاراة اللغة العربية ومراعاة ضروب التعبير فيها ومقام الأحاديث في قصصها، من إسقاط ما يختلف به الإفرنج عنا في استحسانه أو استهجانه، ويباينوننا فيه من حيث الفصاحة والركاكة والحسن والقبح والملائمة والتنافر ونحوها. وأنا أعلم أن ذلك تهجم مني على المؤلف - رحمه الله - في إسقاط بعض كلامه وإيجاز بعضه، ولكني لم أجر هذا المجرى ولم أعتمد هذه الخطة إلا مجاراة للغة واسترسالا مع نسقها بحيث يغتفر لي في جانب مراعاته ما يؤخذ علي في الإخلال بالأصل. ولعل أمري في ذلك يحمل بعضه بعضا وأخلص منه لا علي ولا ليا.
وأنا أرجو من أرباب اللغتين أن يغضوا الطرف عما يرونه من الزلل، ويغتفروا ما يعثرون عليه من الخلل، والله المستعان على ما به الهداية وقصد السبيل، وإياه نستوهب العصمة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المقدمة
في اليوم الأول من شهر نيسان سنة 1635 كانت قصبة مقاطعة مينك في هياج واضطراب كأنها في فتنة، ورجالها تتسابق إلى فندق فيها كأنها تسعى إلى أمر ذي بال، والنساء بين ذلك يركضن والولدان يبكون والهياج عام في البلد. وكانت فرنسا في ذلك العهد مقر الفتن وميدان الحروب، يهاجم أمراؤها بعضهم بعضا، ويحارب ملكها الأندلسيين، وتعدو اللصوص على السابلة فتسلبهم بحيث كان الرجل لا يفارق سيفه ولا ينزع لأمته.
وكان من أمر ذلك أن فتى يدعى الكونت دارتانيان دعا به أبوه في ذلك اليوم فسلمه فرسا له وقال له: يا بني، هذا فرسي وضعته أمه في فنائي، فاحتفظ به ولا تهمل أمره، فإنها الجياد، في ظهورها العز وعلى صهواتها المجد، وفيها لحاق للطالب ومنجاة للهارب، والخيل معقود بنواصيها الخير. ثم إذا أتيت دار الملك - وأنت ذو حق في إتيانه؛ لسمو منزلتك من الشرف ومكانك من الفخر وعراقة أجدادك في النبل من نيف وخمسمائة سنة - فلا تخفض جناحك إلا للكردينال والملك، ولا ترهب غيرهما، فإن الرجل اليوم لا يأمن طريقه إلا بالشجاعة والإقدام والصبر على المكاره، وأنت حري بذلك؛ لتقدم أصلك في بلاد الغسقون، وهم شجعان الناس وأحلاس الخيل، ولتسلسلك من آباء كرام آخرهم أنا. وإني قد ألقيت حبلك على غاربك ووكلتك إلى نفسك، فاذهب لا ترهبك النوائب ولا يقعد بك العجز عن استفراص الفرص؛ فلقد أصبحت بريء الذمة منك، واضح وجه العذر فيك؛ إذ قد علمتك أنواع الحروب وركوب الخيل، وتركت لك لأمة جلاد لا ينقصها شيء من العدة. وهذا القدر اليسير من المال وهذه الرسالة تعطيها إلى صديق لي في قصر اللوفر يدعى دي تريفيل، وهو سيد رفيع المنزلة وافر الثروة مسموع الكلمة، يتحامى جانبه الكردينال نفسه الذي لا يرهب أحدا، فسر على بركات الله واحتفظ بوصاتي لك، والله يكلأك ويرعاك.
ثم قبله وصرفه، فخرج فأصاب أمه في فناء الدار، فانعطفت عليه تقبله وتبكي لفراقه، ثم أعطته مرهما يسرع في برء الجراح. فخرج من عندها فركب فرسه وسار، تستحثة العزة وتحدوه النخوة والشباب حتى انتهى إلى المدينة التي ذكرناها، فترجل عن جواده لدى أحد الفنادق، وتقدم فرأى نافذة فيها رجل طويل القامة حسن الملبس يخاطب رجلين كانا معه وينظر إليه، فظن أنهم يعنونه في كلامهم، فدنا منهم وأنصت إليهم فسمعهم يذكرون فرسه ويضحكون منه، فهاجه ذلك، وجعل ينظر في الرجل نظرة المغيظ المحنق، والرجل يستغرق في الضحك حتى لم يعد في الشاب مجال للسكوت والصبر، فاقترب من النافذة وقد رانت عليه الحدة وقبض على سيفه وقال للرجل: ما بالك تضحك؟ وما الذي دعاك إلى الضحك؟ فعجب الرجل من بديهة خطابه، فأغلظ له وزاد بينهما اللجاج حتى خرج الرجل إليه من الباب وتبعه صاحباه، فسل دارتانيان سيفه وهم بالهجوم على خصمه، فبادره الرجلان بالعصي حتى برحا به، فقال لهما صاحبهما: احملاه على فرسه وليرجع من حيث أتى. قال: والله لا أرجع أو أقتلك، ثم التقيا واشتد بينهما القتال حتى تعب دارتانيان، فضربه خصمه على سيفه فكسره وأصاب جبهته، فانجرح وسقط لا يعي على شيء وهو ما دعا إلى تجمع الناس لأنهم خافوا من حدوث فتنة في المدينة.
أما الجريح فنقلوه إلى مكان في الفندق، ودخل الرجل إلى غرفته وصار إلى النافذة، فدخل عليه صاحب الفندق، فلما رآه الرجل سأله عن حالة الجريح، قال: هو مغمى عليه، فكيف أنت يا مولاي؟ قال: سليم بحمد الله، فماذا صنعتم بالفتى؟ قال: بحثنا في ثيابه فلم نجد معه إلا بعض الدراهم، ولقد قال لنا قبل أن يغشى عليه إنه لو جرت معه هذه الحادثة في باريز لكان يريك فعل الرجال، ولكنك هنا في مكان أنت فيه الأمير المطلق. قال: يلوح لي أنه من أصل شريف، فهل لم يذكر اسم أحد؟ قال: نعم، كان يضرب بيده على جيبه ويقول: سنرى ما سيكون من دي تريفيل إذا علم بما جرى لصديقه. قال: ألم تر ما في جيبه؟ قال: رأيت كتابا باسم دي تريفيل قائد الحرس. فارتاع الرجل لذلك وقال له: أين وضعتموه؟ قال: في غرفة امرأتي. قال: وأين ثيابه؟ قال: في المطبخ حيث رششنا عليه الماء. قال: إذن فنبه خادمي للسفر فإني راحل. قال: نعم. وخرج والرجل يقول: لا ينبغي أن تعرف ميلادي ما جرى ولا أن ترى الرجل؛ ولذلك فأنا ألاقيها، ثم نزل إلى المطبخ حيث ثياب الجريح.
وكان صاحب الفندق قد صعد إلى غرفة دارتانيان فوجده قد أفاق، فقال له إنه يخشى من الشرطة أن تأخذه لاعتدائه على سيد شريف، ثم نصح له بالذهاب من الفندق، فقام الفتى واقفا وخرج إلى المطبخ، وحانت منه التفاتة فرأى خصمه واقفا لدى عربة كبيرة يخاطب امرأة فيها، صبوحة الوجه بارعة في الجمال وهي تخاطبه بحدة كأن بينهما أمرا خطيرا، حتى قالت: أكذا يأمرني الكردينال؟ قال: نعم، بأن ترجعي إلى إنكلترا وتعلميه إذا رحل الدوق عن لندرة. قالت: نعم، ثم ماذا؟ قال: أما ما بقي من الأوامر فتجدينه في هذه العلبة، ولا تفتحيها إلا متى صرت في لندرة. قالت: وأنت ما تفعل؟ قال: أرجع إلى باريز. قالت: أفلا تعاقب هذا الغلام الذي اجترأ عليك؟ وكان دارتانيان قد سمع ما دار بينهما وهو واقف على عتبة الباب، فقال: أنا أعاقب الناس، فمن يعاقبني؟ فوالله لا تفلت مني في هذه المرة أبدا. فعبس الرجل وجهه، وأهوى بيده على قبضة سيفه ، فصاحت به الامرأة: على رسلك يا مولاي، فإن أقل تأخر يهدم ما بنيناه. قال: صدقت، فاذهبي في طريقك وأنا ماض في طريقي، ثم ركب جواده وسار، فتبعه دارتانيان وهو يصيح به ويستوقفه حتى أعيا وثار عليه جرحه فسقط مغشيا عليه، فاحتمله صاحب الفندق إلى غرفته وعالجه حتى أفاق.
ولما كان اليوم الثاني وقد شفي جرحه من المرهم الذي معه نزل إلى ثيابه، فنظر فيها فلم يجد الكتاب، فاغتم لذلك غما شديدا، فقال له صاحب الخان: ما أظن الكتاب إلا مسروقا. قال: ومن سارقه؟ قال: خصمك؛ فقد نزل وبحث في ثيابك. قال: إذا رأيته أره عاقبة أمره، ثم ركب جواده وسار حتى بلغ باريز، وكان ماله قد نفد في الخان فاضطر إلى بيع الفرس، ودخل باريز راجلا. وانطلق يلتمس مسكنا في أحد الفنادق، فوجد غرفة في شارع فوسوايير على مقربة من ليكسمبرج، فأقام فيها يصلح من شأن ثيابه، ثم نزل إلى السوق فجدد نصل سيفه، ثم عمد إلى اللوفر فسأل عن منزل دي تريفيل، فقيل له في شارع برج الحمام، وهو شارع على مقربة من غرفته، فعاد إلى منزله وبات، ثم قام في وجه الصبح قاصدا دي تريفيل ثالث رجل في فرنسا بعد الملك والكردينال.
الفصل الأول
دي تريفيل
هو رجل غسقوني المحتد، كانت بداءة أمره في الدولة كبداءة دارتانيان، فرقي بشجاعته وحذقه وتبصره بالعواقب، درجة رفيعة في الدولة بين مشاغب ذلك القرن وفتنه حتى صار صديق الملك، ونال أعظم وسامات الشرف لصدق خدمته وعظم أمانته؛ فكان يلقي إليه الملك مقاليد أموره ويكل إليه عظائم مهماته، فكان مقربا لديه محببا إليه؛ لعظم ثقته به واسترساله له؛ حتى جعله قائد حرسه.
وكان الكردينال ريشيليه في ذلك العهد مالك زمام الدولة، يصرف أمورها كيف شاء، بحيث كان هو الملك المطلق صاحب الكلمة النافذة، فاستخدم لنفسه حرسا مثل حرس الملك يرسلهم في مهماته ويتكل عليهم في أموره، وينافس بهم الملك في رجاله حتى كثرت بين الفريقين الضغائن واستمكن الحقد وتواترت وقائعهم في البراز، وطالت المنافسة بين الملك والكردينال في انتصارهم وشجاعتهم.
وكان حراس الملك وقائدهم دي تريفيل يطوفون المدينة شامخة أنوفهم مفتولة سبالهم، يجرون سيوفهم عزة وازدهاء، حتى إذا قابلوا حراس الكردينال سخروا بهم وضحكوا منهم حتى يبلغ بهم الأمر أحيانا إلى القتل وسفك الدماء، إلا أنهم مع ذلك كانوا شديدي الغيرة على قائدهم سريعي الامتثال له يفادونه بأرواحهم ويبذلون في خدمته دماءهم، حتى أصبح منهم في حصن حصين ومقام رفيع، ترهبه رجال فرنسا قاطبة. وكانت داره في شارع برج الحمام دارا واسعة الجوانب رحبة العراص، يجتمع فيها كل يوم أكثر من ستين حرسيا يتبارزون بالسيوف ويتدربون على القتال بينا يكون قائدهم في مجلسه يسمع للناس ويحل المشاكل، بحيث كان مضطلعا بأمور المملكة بما كفى معه الملك مئونة الأحكام.
فلما وصل دارتانيان إلى تلك الدار رأى الناس مزدحمة والحراس في ساحة مجتمعين يبارز بعضهم بعضا، فاستأذن وأقام ينتظر الإذن ويتفرج على المتبارزين ويسمع أحاديثهم ويحادث من كان إلى جانبه منهم حتى جاءه الحاجب بالإذن، فدخل، فتلقاه دي تريفيل بوجه باش وأنس زائد، ثم أشار إليه بالجلوس فجلس، ثم دعا بصوت عال أتوس وبرثوس وأراميس، فدخل عليه رجلان طويلا القامة حسنا اللباس، عليهما علائم الشجاعة، فوقفا بين يديه فجعل يصوب نظره فيهما ويصعده، وقد عبس وجهه وقطب حاجبيه، ثم قال: أتعلمان ما قال لي الملك أمس؟ قالا: لا. قال: إن الملك قد قال لي إنه يريد أن يستبدلكم معاشر الحراس برجال الكردينال، أفتعلمان لماذا؟ قالا: لا. قال: إن الكردينال قد قال إنكم فرقة الحراس تثيرون الشغب في المدينة وتنافرون الناس على عجزكم وقصر باعكم، ثم مالي لا أرى أتوس بينكما؟ قالا: هو مريض يا مولاي. قال: وما به؟ قالا: مصاب بالجدري حتى خشينا أن تشوه وجهه بندوبها. قال: تكذبان والله، فما تصيب الجدري من كان في سنه، أم ترهبان أن تقولا إنه جريح أو قتيل، بل هي حال لا أريدها لكم ولا أريدكم لها من منازعة الناس ولعب السيف في الساحات. فلم لا تكونوا كرجال الكردينال في شدة تعقلهم وتأنيهم على غلظ أكبادهم وجفاء مرتهم، حتى إن الرجل منهم ليقتل في مكانه ولا يرجع، ولسان حاله ينشد:
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا
صدود الخدود وازورار المناكب
أفما تخجل حراس الملك من أن تقبض شرطة الكردينال على ستة منهم؟ فبأي وجه أقابل الملك بعد ذلك إلا إذا استقلت واعتزلت منصبي؟ فأجاب برتوس وقد أخذ منه الغضب: خفض عليك يا مولاي، فقد كنا ستة ننازل ستة، إلا أن حراس الكردينال داهمونا قبل أن تخرج سيوفنا من أغمادها فقتلوا منا اثنين وجرحوا أتوس حتى سقط. أما قولك بأنهم أسرونا فإن ذلك لم يكن إلا على رغمنا؛ إذ قيدونا قسرا، ولكن تخلصنا منهم في الطريق. أما أتوس فقد حسبوه ميتا فتركوه، ولكن لا بأس، فكم لنا عندهم من مثل ذلك والنصر دولة تدول. فقال دي تريفيل وقد برقت أساريره: ما أنا وأنتم، فقد قيل ما قيل إن صدقا وإن كذبا. فقال أراميس: عفوا يا مولاي، فلا تشع أن أتوس جريحا، فإن ذلك مما يقطع آمالنا لدى الملك. وفيما هو يتكلم دخل رجل أصفر الوجه عليه آثار السقم، فالتفت إليه الرجلان فإذا به أتوس، فتقدم إلى دي تريفيل وقال: لقد دعوتني يا مولاي فلم أجد بدا من الطاعة، فتحاملت إليك وأنا لما بي، فعسى في الأمر خير. قال: كنت أحذر رفيقيك من التغرير بنفسيهما فيما لا طائل تحته ولا جدوى منه على شدة حاجة الملك إلى الشجعان ولا سيما من الحراس؛ لاعتقاده أنهم من أشد رجال الأرض بطشا وإقداما، ثم مد يده إلى أتوس ليصافحه وإذا به يرتجف حتى سقط صريعا، فصاح دي تريفيل بالناس: علي بجراح ماهر. فتبادر القوم إلى جراح، فجاءوا به، فأمر بنقل الجريح إلى غرفة أخرى فنقلوه، فقال له القائد: هل في الجرح خطر؟ قال: لا، فإن ضعفه هذا من نزيف دمه. فخرج القائد إلى دارتانيان فسأله عن اسمه، فانتسب. فسر به القائد واعتذر إليه من نسيانه إياه، ثم قال له: سل حاجتك، فإن لأبيك علي حقا يلزمني قضاؤه لك. قال: قدمت من بلادي متذرعا إليك بما بينك وبين أبي من قديم الوداد وعريق الولاء ألتمس منك وظيفة بين حراسك، حتى رأيت شجاعتهم فصغرت عندي نفسي. قال: لا، وأصلحك الله بل أنت أهل لها، ولكن الملك لا يقبل في حراسه إلا من كان له شهرة في الحرب وبلاء حسن في القتال أو خدمة صادقة في فرقة دون فرقة الحراس، فأنا أسعى لك بما يكون لك فيه صلاح وخير من المال، فإني أراك في حاجة إلى النفقة، ولكن لا تقنط من نفسك، فقد أتيت باريز مثلك بقليل من المال، وأنا كاتب لك الآن وصاة إلى صديق لي يسعى لك في منصب عنده فلا تنقطع عن زيارتنا. قال: لقد ذكرتني يا مولاي بوصاة أبي لك. قال: وأين هي؟ قال: لقيني رجل في الطريق فسرقها مني، ثم قص عليه قصته، فقال له: أليس لذلك الرجل ندبة في وجهه؟ قال: نعم، كندبة الجرح، وهو جميل الوجه طويل القامة أسود الشعر. قال: عرفته. قال: والله لئن لقيته لأقيمن أخدعيه. قال: أولم يكن في انتظاره امرأة؟ قال: نعم، وقد فارقها بعد أن حادثها شيئا. قال: أما سمعت ما دار بينهما؟ قال: بلى، أعطاها علبة زعم أن فيها أوامر لها وأوصاها بأن لا تفتحها إلا في لندرة. قال: وهل هي إنكليزية؟ قال: نعم، وتدعى ميلادي، فإن كنت تعرفه يا مولاي فدلني عليه. قال: إياك وإياه، فلا تتعرض له لئلا تكون:
كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
ثم أوصاه بحفظ ما جرى وأن لا يتعرض للقدح بالكردينال؛ إذ كان بينه وبين عشيرته شيء من الضغينة والحقد. قال: أصبت يا مولاي، فقد أوصاني أبي بأن لا أتحامى جانب أحد إلا الملك والكردينال وأنت، وأنا لا أنوي الشر للكردينال ولا حقد بيني وبينه بحمد الله. قال: أحسنت، واعلم أن بيتي لا يقفل عنك متى شئت، وأنا لك عون إذا مسك أمر لا سمح الله. قال: أبلغت يا مولاي وتفضلت، وعسى أن لا تطول مدة افتراقي عن حراسك إن شاء الله، ثم احتفز للذهاب فأوقفه القائد وقال: رويدك حتى تأخذ الوصاة، ثم ذهب يكتبها ووقف دارتانيان في النافذة ينظر إلى المارة حتى انتهى القائد من الكتابة وأعطاه الورقة، فأخذها وتملص منه بسرعة وهجم إلى الباب وهو يقول: وجدته، فلا خلاص له في هذه المرة، فقال له القائد: وما ذاك؟ قال: خصمي في مينك، ثم نزل في السلم مسرعا.
الفصل الثاني
أسباب الخصام
وبينا دارتانيان ينزل السلم على عجل لا يلوي على شيء صدم كتف أحد الحراس فصاح صيحة الألم، فالتفت إليه دارتانيان واعتذر واستمر في النزول، فلم يشعر إلا والرجل قد قبض على طوقه من خلف فأوقفه وقال: لا تظن أن اعتذارك يغني عنك شيئا، فأنا ممن لا يؤخذون بالاعتذار، بل أظنك سمعت دي تريفيل يزجرنا فظننت أننا سواء لدى الجميع، لا والله فقد كذبك فألك، فما أنت بالقائد. فنظر إليه الشاب وإذا به أتوس الجريح وكان قد خرج من لدن الطبيب، فقال له: اغتفرها أيها الرفيق، فإنها زلة عن غير عمد دعتني إلى الاعتذار، ولعله يقوم بخطائي لديك، فدعني يرحمك الله فأنا أسعى إلى أمر. فتركه وقال: يظهر لي أنك فتى غر لا تعرف من الأدب شيئا وهو ما يقوم لك مقام العذر. فقال دارتانيان - وقد بلغ غاية السلم: لم آت والله من بلادي تخفضني أرض وترفعني أخرى لأتعلم الأدب من أمثالك، ولو لم أكن مستعجلا ما رأيتني مدبرا عنك. قال: وأين ألقاك غير مدبر؟ قال: على مقربة من كارم ريشو عند الظهر. قال: أنصفت، فلا تخلف الموعد. قال: نعم. ومضى يعدو حتى بلغ الباب، وكان بورتوس واقفا في الباب يخاطب رجلا، فمرق دارتانيان من بينهما مروق السهم، وكان الهواء قد نشر عباءة بورتوس فجاءت في وجه دارتانيان فحالت دونه ومنعته من الذهاب، فجذبها بورتوس، فالتفت على الفتى فعلق فيها وجعل يناوصها وقد غطت على بصره، فصاح به بورتوس: ويحك ما هذا؟ أتلقي بنفسك على الناس؟ قال: العفو يا سيدي، فإني أطلب أمرا خطيرا يقضي علي بالعجلة. قال: ليس ذلك بعذر، أفتعمى عن الناس إذا عدوت؟ قال: لا، بل أرى ما لا يراه غيري. قال: إنك لوقح أيها الشاب. قال: أقصر، فمتى ألقاك بغير عباءة. قال عند الساعة الواحدة بعد الظهر وراء ليكسمبرج. قال: نعم. ومضى يفتش في الشارع فلم يجد أحدا، فطاف كل ما حوله من الطرق والأزقة فلم يقف لخصمه على أثر، فعاد وهو يفكر في أمره كيف أنه وقع برجلين من الحرس يهزم الواحد منهما جيشا، ثم أخذ يلوم نفسه على خفته وطيشه، ثم وطن نفسه على البراز، وأقبل وهو يقول: صدق من قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
ولم يزل سائرا حتى وصل إلى فندق أكويلين، فرأى عنده أراميس يحادث ثلاثة من النبلاء من حراس الملك، فعرفه وتقدم مسلما عليه، فأجابه وأمسك عن المحادثة، فوقف الفتى حائرا لا يدري فيما يأخذ من الكلام مع قوم لا يعرف إلا واحدا منهم بالنظر، وفيما هو كذلك سقط من أراميس منديل ثم داس عليه على غير عمد، فتناوله دارتانيان من الأرض وأعطاه للحارس، وكان المنديل موشى بالذهب، فقال له أحد أصحابه: أتقول إن عشيقتك بواتراسي غاضبة عليك وأنا أرى مناديلها بين يديك؟ فنظر أراميس إلى دارتانيان نظرة الغضب وقال للرجل: غلطت يا سيدي، فإنه ليس لي ولا أدري كيف اختصني به هذا الشاب من بينكم، فإن منديلي معي. ثم أخرج منديلا آخر من جيبه، فقال له أحدهم: إذا صح زعمك فإن لي حقا في أخذه منك لأن صاحبته من ذوي قرباي. قال: إنك غير مصيب في طلبك ولا يحكم لك به شرع. فقال له دارتانيان: إني - والحق يقال - لم أر المنديل قد سقط من جيبه، سوى أني رأيته تحت رجله فحسبته له. فقال أراميس للرجل: إذا كانت الامرأة من ذوي قرباك فأولى للمنديل أن يكون قد سقط منك. قال: لا وأقسم بالله. قال: إن حلفك لا يغني، فلنجر في الأمر على حكم سليمان - عليه السلام - ونقسم المنديل إلى شطرين. فضحك القوم منه ثم ودعوه وانصرفوا، وانصرف هو من جهة أخرى، فتبعه دارتانيان وقال: اغتفرها يا مولاي، فالمرء موطن الزلل. قال: صدقت، ولكنك لم تجر في فعلك على سنة الأشراف والنبلاء لأنك لا تجهل أن الرجل لا يدوس منديلا بغير قصد، فليست باريز مفروشة الأرض بالنسيج. قال: أما والله لقد عدوت الصواب على إغلاظك في الجواب، وأنا لا أطيق ذلك ولا صبر لي عليه. قال: إني لست ممن يحبون المشاكل إلا إذا مست الحاجة، وأرى الحاجة تدعوني إليها الآن، فما الذي دعاك إلى أن تعطيني المنديل؟ قال: وأنت فماذا دعاك إلى أن تسقطه؟ قال: قلت لك إنه ليس لي. قال: تكذب، فإني رأيته ساقطا منك. قال: لقد تجاوزت حد الوقاحة، فلم يعد يردك غير السيف وهو أعدل حاكم. قال: فهيا بنا. قال: ليس هنا مكان البراز، أفما ترى الناس تختلف إلى الفندق وهو مكتظ برجال الكردينال، ولكنا نذهب إلى مكان لا ينفع فيه الاستصراخ، وسأراك لذلك في منزل دي تريفيل، وأنا ذاهب الآن إلى موعد ضربته. ثم انصرف وسار دارتانيان إلى كارم ريشو حيث واعد الحارسين.
الفصل الثالث
حراس الملك وشرطة الكردينال
ولم يكن دارتانيان يعرف أحدا في باريز لقرب عهده فيها، فلم يصحب معه شاهدا للبراز، فلما بلغ ساحة الدير وجد أتوس قائما بانتظاره، فقال له: لقد قلت لاثنين من رفاقي أني سأبارزك ودعوتهما للشهادة ولم يأتيا بعد، وليست تلك عادتهما. قال دارتانيان: أما أنا فلا شاهد لي ولا أعرف سوى دي تريفيل، فقال له أتوس: إني أخشى إذا قتلتك أن يقال عني أني أبارز الصبيان. قال: لا والله، فما تبارز إلا كفؤا كريما يبوء بالملوك. قال: ذلك لأن كتفي الأيمن مصاب يضطرني إلى حمل السيف باليسرى بحيث أصير نصف رجل، ولكن لا بأس، فقد تعودت على مثل ذلك، فهلم نتحدث إلى أن يأتي الشاهدان، ولكن جازاك الله فقد آلمتني بصدمتك. قال: ألا تأذن لي بشفائك؟ قال: بلى، فما ذاك؟ قال: إن عندي مرهما عجيبا يسرع في برء الجرح، فلا يمضي عليك ثلاثة أيام حتى تتعافى بإذن الله. قال: جزاك الله خيرا، والله إنها لأخلاق الأشراف تظهر من فعالك، ولكن قد طالت غيبة الشاهدين، فما ترى؟ قال: لا أرى لك إلا أن تذهب لشأنك إذا كان لك ما يدعوك؟ قال: لا، فهذا أحد الشاهدين. فالتفت دارتانيان فرأى بورتوس مقبلا، فقال: إني أرى بورتوس. قال: وما عليك منه؟ ثم التفت فرأى أراميس فقال: وهذا أراميس، فقال: وهو شاهدك أيضا؟ قال: نعم، فنحن ثلاثة في واحد حتى نكاد نكون كندماني جذيمة لو لم نكن ثلاثة. وكان بورتوس قد وصل فسلم على أتوس ثم نظر إلى دارتانيان ووقف منذهلا، ثم قال: ما هذا؟ قال: إني أبارزه. قال: عجبا، وأنا دعوته للبراز، ثم وصل أراميس وقال: وأنا أبارزه أيضا، فما سبب برازك له يا أتوس؟ قال: لأنه صدمني في كتفي فأوجعني، وأنت يا بورتوس، فلم برازك؟ فخجل وتلجلج لسانه، فسأل أراميس، فأشار إلى دارتانيان أن اكتم أمر المنديل وقال: إني أبارزه لأمر جرى لي معه يتعلق بالدين. فتقدم دارتانيان وقال: أسألكم عفوا يا قوم، فإني واعدت أتوس أولا وقد يقتلني فأكون قد أخلفت وعدي لكما في عدم البراز، ثم شهر سيفه ووقف، فاستل أتوس سيفه وتقدم إليه، وإذا بفريق من شرطة الكردينال قد طلع عليهم يتقدمهم رئيس لهم يقال له دي جيساك، فصاح بورتوس وأراميس بالمتبارزين: أغمدا سيفيكما؛ فقد طلعت علينا شرطة الكردينال. وكانت رجال الكردينال قد دهمتهم فلم يعد لهم سبيل للتستر، فصاح دي جيساك برجاله وتقدم وقال: أفي مثل هذا المكان يكون البراز أيها الحراس؟ فقال له أتوس: دعنا في شأننا وامض لشأنك، فإنا لو رأيناك في مثل حالنا هذه ما منعناك. قال: إن ذلك لا يكون، وأنا مسئول في أمركم، فاتبعوني إذا شئتم، فقال أراميس: لقد كنا نود أن نتبعك لولا يد فوق يدنا تمنعنا، فاذهب فهو خير لك. قال: إني لا أبخل عليكم بالقوة إذا جدتم بالمعصية. فهمس أتوس في أذن أصحابه: إننا ثلاثة وهم خمسة، وقد آليت أن لا أرجع أو أقتل فهو خير لي من أن ألقى القائد مخذولا، فاحملوا، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء. فلبث دارتانيان حائرا لا يدري على أي جانبيه ينقلب، بين حرس الملك وشرطة الكردينال، ثم تقدم إلى الحراس فقال لهم: سمعتكم تقولون إنكم ثلاثة وأنتم أربعة، فقال بورتوس: أنت لست منا. قال: لئن لم يكن لي لباسكم فإن بين جنبي قلبا حرسي الأصل. فزجره دي جيساك وقال له: اعدل عن رأيك، فما لك وللتغرير بنفسك فيما لست من سيله ولا مطره. فلم يلتفت دارتانيان إليه، بل تقدم إلى أصحابه وقال: تقدموا يا قوم، فما في التأخر من فائدة، فقال له أتوس: إني أخشى عليك يا فتى أن تذهب نفسك ونحمل العار بسببك؛ إذ يقال عنا أنا كنا أربعة على حين نحن ثلاثة، وما نرى لنا فيك غناء. قال: إنك لم تعرفني بعد ولم تبلني، وسترى مني ما يسرك إن شاء الله، وأنا فلان. ثم أطبقت الفرقتان ولمعت السيوف وهجم أتوس على رجل منهم يقال له كاهيساك، وبورتوس على رجل يقال له بيكارات، والتقى أراميس باثنين، وهاجم دارتانيان دي جيساك، واشتد بينهما الصدام وكثر الضرب حتى كل دي جيساك وقد بهره دارتانيان بخفته، ثم ضربه فسقط جريحا يتشحط في دمه، ثم التفت فرأى أراميس قد قتل أحد خصميه وهو يعالج الآخر وفيه بقية جلد، وبورتوس وخصمه قد جرحا ولا يزالان يتجاولان، وأتوس قد جرح جرحا آخر ونقل سيفه إلى الشمال، فخشي عليه الغلبة فحال بينه وبين خصمه وقال: أنا لك. وضربه فقتله، فقال له أتوس: لو أبقيته، فإن لي معه شأنا. قال: سبق السيف العذل. وكان دي جيساك قد أفاق من جرحه فقال لبيكارات: سلم سيفك. فسلمه، فساقوه أسيرا إلى منزل دي تريفيل وهم لا تكاد تسعهم الدنيا لشدة سرورهم ودارتانيان بينهم والناس تجتمع عليهم في الطريق حتى صار حولهم جم غفير وكان لهم احتفال مشهود إلى أن بلغوا منزل دي تريفيل.
الفصل الرابع
لويس الثالث عشر ملك فرنسا
وشاع ذكر هذه الحادثة في باريز واشتهر أمرها وكثر تحدث الناس بها، فلما دخل الحراس منزل دي تريفيل أخذ يزجرهم على فعلهم جهرا ويهنئهم بالنصر سرا. ولما كانت أشغاله تقضي عليه بالذهاب إلى الملك ليخبره بالأمر تركهم وسار إلى اللوفر، فقيل له إن الملك في خلوة مع الكردينال فلا يدخل عليه أحد، فانثنى راجعا. ثم عاد عند المساء إلى ألعاب الملك، وكانت الملوك تقامر في ذلك العهد، فوجد الملك رابحا مسرورا، فلما رآه دعاه إليه وقال له: لقد كثرت الشكاية عليك من الكردينال، وقد شكا كثيرا من حراسك وكان غيظه شديدا حتى أثر في جسمه فمرض، وحتى قيل لي إن رجالك من شياطين الإنس. قال: لا يا مولاي، فما هم إلا نعاج في السلم أرق أخلاقا من النسيم وألين قلوبا من الماء، فلا تفارق سيوفهم أغمادهم إلا في سبيل خدمة الملك أيده الله، ولكن كيف يصنعون ورجال الكردينال يسعون في خصامهم وقتالهم، حتى أن نزالهم لم يكن إلا دفاعا، فقال الملك: إني لست ممن يأخذون الكلام على علاته، ولا أنا بقاضي جبل، ولم ألقب بالعادل عبثا، فرويدا ينكشف لنا الأمر. ثم وضع مكانه أحد النبلاء وأخذ دي تريفيل إلى نافذة هناك، فقال له: قلت إن رجال الكردينال هم البادئون بالعدوان، فكيف كان ذلك؟
قال دي تريفيل: هو أن ثلاثة من أشجع رجالي لا يجهل الملك أسماءهم وشدة غيرتهم على خدمته، وهم أتوس وبورتوس وأراميس جرى لهم حادث مزاح مع فتى غسقوني الأصل أوصيتهم به في الصباح، فانطلقوا به يعلمونه القتال في سان جرمن، ثم ذهبوا إلى ساحة كارم ريشو فكدر عليهم أمرهم دي جيساك وكاهيساك وبيكارات واثنان من شرطة الكردينال، وما أراهم على كثرة عددهم إلا قصدوا الشر والعداء، ولست أنسب لهم في ذلك ذنبا سوى أني أعرض على الملك أمرهم فيحكم بثاقب عقله ووافر عدله. قال: نعم، ثم ماذا؟ قال: فلما رأوا رجالي أخذتهم حدة الغضب ورانت عليهم سورة الحقد؛ إذ لا يجهل الملك أعزه الله أن رجاله ورجال الكردينال أعداء بالطبع. قال: نعم، وهو ما يسوءني جدا إذ أرى في البلاد حزبين متنافرين، ولكن لا بد من أن نضع لذلك حدا، ثم قلت إن رجال الكردينال هم الذين تصدوا لرجالك، أفحق ذلك؟ قال: هو ما أراه يا مولاي، ولست بجازم في الأمر. قال: علمت أنه قد كان مع رجالك فتى ليس منهم. قال: نعم، أيد الله الملك، فقد كانوا أربعة وفيهم جريح وفتى نازلوا خمسة فصرعوا أربعة منهم. قال: بخ بخ، فقد انتصروا إذن، ومن هذا الغلام الذي كان معهم؟ قال: هو فتى لا يبلغ العشرين من العمر يدعى الكونت دارتانيان، وأبوه من أقرب أصدقائي وأحسنهم بلاء مع الملك والدك رحمه الله ومتعنا بك بعده، فلما رآه رئيس حرس الكردينال أشفق عليه وأمره بالاعتزال. قال: صدقت، وهو ما يؤيد أنهم البادئون. قال: نعم أعز الله الملك، أما الفتى فلم يعتزل وقال إنه حرسي القلب مخلص للملك ورجاله، ثم حمل على دي جيساك فجرحه ذلك الجرح الذي أثار غيظ الكردينال، فقال الملك - وقد أخذه العجب: أهو الذي جرح دي جيساك، وهو أول بطل في الدولة وسنه على ما ذكرت؟! إن ذلك لا يخال. قال: نعم، ولا رد عليك يا مولاي، فقد صادف در السيل درا يصدعه، وقد قيل:
هيهات ما قلب الفتى في سنه
أبدا ولكن قلبه في صدره
قال: إني أحب أن أراه، فأتني به غدا عند الظهر ومعه أصحابه الثلاثة، فقد وجب لهم علي في ذلك شكر أفيه لهم، ثم إذا أتيت بهم فاصعد من السلم الصغير فإني لا أحب أن يعلم الكردينال بهم. قال: نعم وطاعة يا مولاي، ثم خرج فأعلم رجاله وأمرهم بالاستعداد لمقابلة الملك.
ولما كان الصباح لبسوا أحسن ما عندهم وانطلقوا بدارتانيان إلى مكان تجري فيه ألعاب السيف وفنون البراز، فأقاموا يتبارزون ووقف دارتانيان مع المتفرجين وكان في جملتهم رجل من حراس الكردينال، فلما رأى الحراس جعل الغيظ يقيمه ويقعده حنقا على حراس الملك وغيرة على أصحابه وفشلهم بالأمس، حتى رأى دارتانيان فهاج به حب الانتقام، فرفع صوته بحيث يسمعه الفتى وقال: ما أرى هذا الغلام إلا خائفا من البراز، وأظنه حرس الملك، فالتفت إليه دارتانيان وجعل يصوب نظره فيه ويصعده، فقال له: انظر إلي ما شئت، فقد قلت ما قلت. فهمس دارتانيان في أذنه أن اتبعني إذا كان في نفسك شيء، فقال له: والله لو عرفتني ما أقدمت علي. قال: ومن عساك تكون؟ قال: أنا برناجو. قال: نعم الاسم يهابه الجبان الوكل، فاتبعني فأنا في انتظارك لدى الباب ولا تعجل في لحاقي لئلا يفطن لنا الناس فيحظرونا. قال: أنصفت والله، وأنا على أثرك. فانصرف دارتانيان والرجل يعجب من شدة بأسه وسكون جأشه كيف أنه لم يهبه وقد عرف اسمه، وكان أتوس في خلال ذلك ينظر إليهما فعرف ما نويا عليه، وكان دارتانيان قد بلغ الباب فلم يلبث إلا قليلا حتى وافاه خصمه، فنظر فرأى الطريق خالية فقال له - وهو يحب التعجيل لئلا يفوته موعد الملك: لقد خلا لنا الجو فانزل. قال: أخشى أن يرانا أحد يمنعنا، فلو ذهبنا إلى ما وراء دير سان جرمن أو غيره. قال: لقد كنت أرغب في ذلك لولا أن لي موعدا يجب علي قضاؤه، ثم استل سيفه والتقاه خصمه وجرى بينهما قتال شديد جرح فيه برناجو جرحين بليغين. وكانا قد بلغا منزل دي ترمويل، فهجم عليه دارتانيان وضربه فسقط على الأرض يختبط بدماه، وإذا به يسمع صراخا في الشارع وجلبة تتزايد، وكان اثنان من أصحاب برناجو سمعا ما دار بينهما فتبعاهما، فلم يدركا صاحبهما إلا وهو صريع، فأطبقا على دارتانيان يضاربانه وإذا برفاق دارتانيان الثلاثة قد طلعوا عليهم وصاحوا بالرجلين، فخشي الرجلان الغلبة فاستنجدا بأهل المنزل فخرجوا إليهما، وكثر الجمع على حراس الملك، فاستنجدوا بأصحابهم، وتناقل الصوت حتى بلغ منزل دي تريفيل، فخرجت رجاله تصل سيوفها. وكان حرس الكردينال قد تجمعوا على الصراخ فدارت رحى الضرب، وكانت الدائرة على رجال الكردينال فانقلبوا إلى المنزل وأوصدوا أبوابه بعد أن أدخلوا الجريح في حالة الخطر، فأحاط حراس الملك بالمنزل وجعلوا يتوعدونه بالحريق إذا لم يعاقب صاحب المنزل خدمه على خروجهم عليهم، فأجاب دي ترمويل طلبهم. وكانت الساعة الحادية عشرة قد حانت، فذهب الأربعة إلى الموعد ودخلوا منزل دي تريفيل، فتلقاهم وهو يقول: هلموا إلى اللوفر على عجل لنرى الملك ونخبره بالأمر قبل وصول الكردينال. فلما وصلوا إلى القصر استأذن القائد على الملك فقيل له إنه في الصيد في غابة سان جرمن، قال: هل كان ذلك في عزمه من أمس؟ فقيل: لا، بل أتاه رجل اليوم يخبره بأنهم قد حبسوا له غزالا في الغابة ليصيده، وقد ذهب قبل الظهر بقيل، فقال لرجاله: إني أراه في المساء، فارجعوا بنا. فرجعوا.
ودخل دي تريفيل غرفته وهو يفكر في كيف يبدأ بالشكوى على حرس الكردينال، ثم أرسل إلى دي ترمويل يلتمس منه إخراج رجال الكردينال من منزله ومعاقبة خدمه بخروجهم على رجاله، ثم ذهب بنفسه بعد ذلك إلى منزل دي ترمويل فقال له: أرى أن كلا منا يود أن يشكو صاحبه، وقد أتيتك الآن لننظر على من تجب الشكوى. قال: نعم، ولكني على يقين من أن الذنب على أتباعك. قال: كيف حال الجريح؟ قال: في خطر شديد، فإنه مصاب بذات جنبه، وقد يئس منه الطبيب. قال: وهل هو مفيق؟ قال: نعم، ولكنه يستصعب الكلام. قال: فلو نزلنا إليه نقصه الأمر ونعزم عليه بالتزام الصدق في الحكاية؟ قال: نعم. ونزلا إلى غرفة الجريح، فاحتفز للقيام فلم يقدر، فدنا منه دي ترمويل وسأله عن القصة فسردها لا يخل بحرف منها حتى أتى على آخرها، فاستأذن دي تريفيل ودعا للجريح بالشفاء وذهب إلى منزله، فدعا رجاله الأربعة وجلس معهم على الطعام يؤاكلهم ويثني على شجاعتهم ولا سيما دارتانيان حتى كانت الساعة السادسة، فذهب بهم إلى اللوفر، ودخل معهم من الباب الكبير لأن ميعاد الملك كان قد فات، ووقف وإياهم في ساحة القصر وإذا بالناس يقولون: جاء الملك، ثم دخل الملك لابسا ثياب الصيد وفي يده مخصرة، فمر بالحراس ودخل إلى مجلسه، فقال لهم دي تريفيل: أنظروني عشر دقائق، فإن خرجت إليكم وإلا فارجعوا إذ لا تعود فائدة من الانتظار. ودخل فأقام الحراس ينتظرونه حتى فات الميعاد ولم يخرج فانصرفوا راجعين.
وكان دي تريفيل قد دخل على الملك فوجده يشكو من الصيد ومتابعة الكردينال له في الكلام عن إسبانيا والنمسا وإنكلترا حتى قال له: إني غير راض عنك يا دي تريفيل. قال: لماذا، وأطال الله بقاء الملك؟ قال: لشدة وقاحة رجالك واستبدادهم حتى كادوا يحرقون باريز اليوم وأنت ساكت لا تردهم، وحتى هجم الأربعة الذين ذكرت لي على برناجو فجرحوه إلى الموت، ثم حاصروا منزل دي ترمويل وكادوا يحرقونه حتى خلت والله أن الحرب قد نشبت في فرنسا، ولعلك تنكر ذلك. قال: وممن سمعت هذا يا مولاي؟ قال: ومن عساه يكون سوى الكردينال القائم بأمر الملك حتى كفاني مئونة سياسته. قال: لعله غير مصيب في الرواية يا مولاي، وجل من لا يخطئ. قال: صدقت، أما الذي أخبرني بهذا الأمر فهو دي ترمويل. قال: لو أمر مولاي بإحضاره الآن وسؤاله. فدعا الملك بالحاجب فقال: علي بدي ترمويل في الحال، فقال دي تريفيل: ولكن تعدني يا مولاي بأنك لا تقابل أحدا بين مقابلتي ومقابلته. قال: لا، وموعدنا غدا إن شاء الله في أي ساعة جئت، ولكن حذار من أن يكون رجالك هم المخطئون. قال: إذا كانوا مخطئين فهم بين يدي الملك يجري عليهم عدله. قال: نعم، إلى غد. فدعا له دي تريفيل وخرج. فأوعز إلى رجاله بالمجيء إليه عند الساعة السادسة صباحا ففعلوا، وذهب بهم إلى السلم الصغير وقال لهم: إذا وجدت الملك راضيا عنكم دعوتكم وإلا أشرت لكم بالانصراف، ثم دخل، فلما بلغ ساحة القصر أخبره الحاجب أنه ذهب أمس إلى دي ترمويل فلم يجده وأنه الآن عند الملك، ولم يمض غير قليل حتى خرج دي ترمويل من قاعة الملك، وقال لدي تريفيل: لقد دعاني الملك ليعلم مني تفاصيل حادثة أمس، وقد أخبرته أن الذنب على خدمي وأنه يجب علي أن أعتذر إليك. قال: حياك الله، فهكذا كنت أرجو منكم، ومثلك من قضى الحق وحكى بالحق. وكان الملك واقفا على عتبة الباب يسمع ما دار بينهما فقال: أحسنتما وأبي، وأنا أرجو من الدوق دي ترمويل أن لا ينقطع عني لأنه صادق أمين، فلينصرف الآن، وأنت أين رجالك؟ قال: في انتظار أمرك يا مولاي. قال: علي بهم. فذهب الحاجب وعاد بهم حتى أوقفهم بالباب، فأشار إليهم الملك بالدخول وقال: لقد زاد أمركم وعظمت شجاعتكم يا قوم، أتقتلون سبعة من رجال الكردينال في يومين؟ إنه لأمر لو تعلمون عظيم، ثم نظر إلى دارتانيان وقال له: تقدم يا بني، فقد بلغني عنك أنك فتى وأنا أراك غلاما مراهقا، ثم التفت إلى دي تريفيل فقال: هذا الذي جرح دي جيساك؟ قال: نعم بسيفك يا مولاي، وجرح برناجو أيضا. فقال أتوس: ولو لم يخلصني من يد بيكارت لما أسعدني الحظ بالمثول في جنابك يا مولاي. قال: ولكني أرى أهل غسقونية على جانب من غثاثة العيش وقلة ذات اليد، وما ذاك إلا لقلة معادن بلادهم. ثم دعا بالحاجب فقال له: انظر في جيبي لعلك تجد شيئا من الدنانير فأتني به. ثم قال لدراتانيان: قص علي الحادثة ولا تفت منها حرفا. فمضى الفتى يقصها مضي الجواد في سنن ميدانه حتى أتى على آخرها، فقال له الملك: صدقت، فهكذا سمعتها، عزى الله الكردينال، فقد فقد سبعة من أعز رجاله عليه، وفي ظني أن ذلك يكفيكم في نظير أخذ الثأر، ثم أخذ من يد الحاجب قبضة من الدنانير فوضعها في يد دارتانيان، فأخذها وشكر، فقال لهم الملك: انصرفوا الآن، فإن علي موعدا. فخرجوا وهم يضجون له بالدعاء، ثم قال لدي تريفيل: كنت أود أن يكون هذا الفتى في جملة الحراس لولا ضيق المقام عنه، ولكن ضعه في جملة حرس ابن أختك دي زيسار، ودع الكردينال يرغي ويزبد، فما علي إذا كان العمل عدلا. ثم خرج. أما الكردينال فأقام ثمانية أيام لا يحضر ألعاب الملك.
الفصل الخامس
الحراس في أنفسهم
ولما فصل دارتانيان وأصحابه عن قصر اللوفر اقترحوا عليه طعاما فأجابهم وأكلوا جميعا، وكان يخدمهم على الطعام خادم بورتوس ويدعى موسكتون، وكان شديد الإخلاص لسيده، وهو بيكاردي الأصل. أما أتوس فكان له خادم يدعى كريمود، وكان أتوس كثير السكوت قليل الهذر قلما يتكلم أو يضحك ملء فيه، وإذا تكلم كان كلامه على غاية الاختصار والإيجاز، ولم يكن يعشق امرأة قط وإن يكن بلغ الثلاثين من العمر على جماله وحسن قوامه وتوقد ذهنه حتى لم يسمعه أحد يذكر النساء. وكان قد أدب خادمه على أن يفهم منه لأول إشارة وأقل رمز، فلم يكن يكلمه إلا عند الضرورة. أما بورتوس فكان مغايرا بالجملة لأتوس بكثرة كلامه وعلو صوته وحبه للملاهي والضحك، وكان يتعشق أميرة غريبة البلاد. أما خادمه موسكتون فكان مثله وهو نورماندي الأصل. وأما أراميس فكان له خادم يدعى بازين قليل الكلام والتعرض، مطيع لكل ما يؤمر به. وأما خادم دارتانيان فكان يدعى بلانشت.
وإذ قد عرفنا خدم الثلاثة نلمع قليلا إلى مسكن كل واحد منهم، فقد كان أتوس ساكنا في شارع فيرو على مقربة من ليكسمبرج في بيت صغير تخدمه فيه فتاة. وكان بورتوس نازلا في شارع برج الحمام القديم في منزل واسع إلا أنه كان قلما يأتيه بحيث لا يكاد يوجد فيه إلا خادمه موسكتون. وكان منزل أراميس في مكان حسن تحيطه حديقة مزهرة يرتاح النظر إليها. وأما دارتانيان فقد عرفنا منزله وخادمه، وكان لا يعرف من أصحابه الثلاثة إلا أسماءهم الغريبة يخفون تحتها أسماءهم العريقة في المجد والشرف، فكان يستخبر من كل منهم عن صاحبه فلا يخبره إلا عن ظاهره، فاجتمع ذات يوم بأراميس وأراد أن يعلم منه صحة ما هو شائع عن عشق بورتوس لامرأة شريفة غنية فقال له: إني أراك تردد كثيرا أسماء الأميرات وعقائل النساء، فما سبب ذلك؟ قال: إني لا أتكلم إلا نقلا عن صديقي بورتوس، وأنا قليل الرغبة في مثل ذلك. قال: إذا كنت كما تزعم فأنى لك ذلك المنديل الذي كان وصلة للتعارف بيننا؟ قال: هو منديل نسيه عندي أحد أصحابي، ولعله من صديقة له. قال: إني أعجب منك كيف أنك في مقام الحراس ولا رغبة لك في النساء. قال: ذلك لأني ناسك في ثياب حارس. قال: ألا تحدثني ببعض الشيء عن أصحابك؟ قال: أما الآن فلا سبيل إلى ذلك، فإن لي شأنا يدعوني، فأستودعك الله. ثم حياه وذهب. فلبث دارتانيان حائرا في أمر هؤلاء الثلاثة لا يهتدي منهم إلى وجه، ثم ترك الأمر للتقادير وتمثل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وكان اثنان من الحراس يحبان المقامرة إلا أراميس فلم يكن يتعاطاها قط. وكان الأربعة عائشين عيشة راضية، يتلقون أوامرهم كل صباح فيعاونهم فيها دارتانيان وإن لم يكن منهم، فكانوا يحبونه حبا شديدا. ولم يمض عليه قليل حتى أمر الملك دي زيسار أن يستنيبه في أمره ويجعله ثانيه في المرتبة، فسر دراتانيان من ذلك لأمله بنوال رتبة بين الحراس، وقد زاد أمله وعد دي تريفيل له أنه إذا مضى عليه سنتان في الخدمة، وهو قائم بما يرضي الملك، يرقيه إلى رتبة الحراس، وكان يعاونه في أعماله ومهماته رفاقه الثلاثة.
الفصل السادس
دسيسة في قصر الملك
ولما نفدت دراهم الملك مست الحراس العازة وأحوجهم الأمر إلى القوت، فجعلوا يتداعون وغلمانهم إلى أصحابهم ويتطفلون على معارفهم، ولم يكن لدارتانيان صاحب سوى قسيس من بلاده كان يدعو إليه رفاقه فيتركون بيته كبيت العنكبوت. وحدث أنه بينما دارتانيان في منزله دخل عليه خادمه يستأذنه لرجل يريد مقابلته، فأذن له، فدخل الرجل وقال لدارتانيان: قد سمعت بشهرتك وبعد صيتك في الشجاعة وكرم الأخلاق، فأتيتك أستودعك سرا. قال: إني إذن أرعاه. قال: إن لي امرأة صبوحة الوجه صناع اليدين تغسل ثياب الملكة في القصر، وقريبها دي لابورت وصيف الملكة، وهو الذي سعى لها بهذه الخدمة، فبينما هي خارجة أمس من القصر خطفها رجل ومضى بها ولا سبيل لي إليه، فأغثني أغاثك الله. قال: ومن هو الرجل؟ قال: لا أعرفه، سوى أني ألقيت الشبهة على رجل كان لا يفتر عن تتبعها، وأنا أرى أن لاختطافها سببا سياسيا لا دخل للعشق فيه، ولا أظن ذلك السبب إلا امرأة أعظم منها كثيرا. قال: ومن تراها تكون؟ هل هي بواتراسي؟ قال: هي أعظم من ذلك. قال: فأكويليون؟ قال: أعظم. قال: فشفريز؟ قال: بل هي أعظم جدا يا مولاي. قال: لم يبق إلا ... (يريد الملكة). قال: هي بعينها. قال: ومن أيضا؟ قال: لا أظنه إلا الدوق دي ... (يريد بيكنهام). قال: ومن أدراك بكل هذا؟ قال: أخبرتني به امرأتي. قال: وأنى لامرأتك ذلك؟ قال: من دي لابورت وصيف الملكة، وهو الذي جعلها عندها تكل إليها أمورها في انقطاع الملك عنها من بغضه وخداع الكردينال إياها واطراحها من الجميع، وما أرى هذا الأمر إلا انتقاما من الملكة، فإنهم زوروا عنها كتابا إلى الدوق دي بيكنهام يغرونه بالمجيء إلى باريز ليوقعوا به وهو عشيقها. قال: وما دخل امرأتك في مثل هذه الأمور؟ قال: إنهم يعرفون إخلاصها للملكة ومفاداتها لها؛ ولذلك فقد رأوا إبعادها عنها لتكون في يدهم آلة يستعينون بها على الملكة. قال: أما تعرف الذي خطفها؟ قال: لا، وما أظنه إلا من أتباع الكردينال، ولا أعرفه إلا إذا رأيت وجهه؛ لأن امرأتي أشارت لي إليه، وهو رجل طويل القامة أسود الشعر في خده ندبة، فقال دارتانيان: خصمي والله الذي سرقني في مينك، فإذا انتقمت منه يكون انتقامي مزدوجا، فأين أقدر أن أراه؟ قال: لا أعلم يا مولاي سوى أني رأيته مرة واحدة كما قلت لك. قال: فما اسمك؟ قال: بوناسيه صاحب هذا البيت الذي أنت تسكنه. قال: أما عندك غير شيء على امرأتك؟ قال: نعم، رسالة وصلتني وهي هذه. فأخذها دارتانيان وقرأ: «لا تتعب في السعي وراء امرأتك، فإنها ترد إليك عند عدم الحاجة إليها، وإذا سعيت فأنت هالك.»
فقال الرجل: كيف أصنع يا مولاي ولست من رجال الحرب ولا طاقة لي على سجن الباستيل؟ فأسعفني في أمري يكن لك فضل علي وعلى الملكة، وتكون قد رغمت أنف الكردينال عدوكم وعدوها، وأنا أقدم لك هذه الخمسين دينارا تستعين بها على أمرك. ثم حانت منه التفاتة إلى النافذة فقال: هذا هو يا مولاي. فنظر الفتى فعرف خصمه، فقال: إذن والله لا يفلت مني في هذه المرة أبدا. ثم شهر سيفه وانحدر من السلم فصادف أتوس وبرتوس آتيين إليه، فمالا من طريقه وصعدا، وذهب وهو يقول: وجدته وجدته. ثم طاف كل تلك السكك والأزقة فلم يقف له على أثر.
وكان أراميس في خلال ذلك قد صعد وراء صاحبيه، فعاد دارتانيان فوجد الثلاثة مجتمعين، فقالوا له: مهيم؟ قال: طلبته فما وجدته، فوالله لكأنه ذهب بين سمع الأرض وبصرها، ومهما يكن فإنه قد أضاع علينا عملا لنا فيه أكثر من مئة دينار. قالوا: وكيف ذلك؟ فقص عليهم القصة، فقالوا: ما لنا ولها؟ قال: إن الأمر لا يتعلق بها وحدها، فإن للملكة فيها أجل نصيب. قالوا: وما لنا وللملكة وهي تحب الإنكليز والإسبان أعداءنا الألداء؟ قال: أما الإسبان فلأنهم قومها، وأما الإنكليز فلا تحب منهم إلا رجلا. فقال أتوس: لعمري أنه جدير بأن يحب، فإني لم أر مثله في الجمال والكرم، أتذكرون يا قوم يوم نثر اللؤلؤ في قصر اللوفر، فكنا نلتقط منه كما نلتقط البرد؟ قالوا: نعم نذكره ولا ننساه، فقال دارتانيان: إني لا أحب بيكنهام وإيصاله إلى الملكة، إلا كيدا للكردينال، وما أظن اختطاف هذه الامرأة إلا لهذا الشأن وأن بيكنهام في باريز. قال أراميس: اسمعوا أقص عليكم أمرا، إني كنت أمس عند أحد أصحابي وله ابنة أخ جاءت إليه ثم همت بالانصراف فرافقتها إلى العربة وأنا مشتمل بعباءتي، وإذا أنا برجل دنا مني ووراءه ستة رجال، فقال لي: اصعدا إلى هذه العربة يا دوق ولا تحاول خلاصا، فكشفت عباءتي فلما رآني ورأى ثيابي تركني وانصرف، وما أراه إلا حسبني بيكنهام وحسب الفتاة الملكة، وهو دليل على أن بيكنهام في باريز وأنهم يسعون في القبض عليه. فقال دارتانيان: ألا نبحث عن هذه المرأة؟ قالوا: إن ذلك لا يكون أبدا، فإنها وضيعة النسب لا تستحق العناء في البحث عنها، ومهما تكن فساوم زوجها بثمن غال في تفتيشك. قال: لا بد لي من البحث عليها، ولو لم آخذ من زوجها شيئا، فإن لي جزاء من غيره، ولعلكم لا تجهلون. وما أتم كلامه حتى دخل عليهم صاحب الفندق وهو يستغيث ويقول: أغيثوني، فإن أربعة من الجند يطلبوني. فقام برتوس وأراميس ووضع كل يده على قائم سيفه، فمنعهما دارتانيان وقال: إنه موقف لا تغني فيه السيوف، فالرأي قبل شجاعة الشجعان. فقال أتوس: صدق دارتانيان، فلنكل إليه أمرنا. وإذا بأربعة من الجند قد هجموا على القاعة حتى رأوا الحراس، فوقفوا هيبة منهم، فقال لهم دارتانيان: ادخلوا يا قوم فإنكم في منزل رجل مثلكم يخدم الملك والكردينال، فقال له زعيمهم: إذا كنت كذلك فما نراك مانعا عن إتمام ما أمرنا به. قال: لا، بل نساعدكم إذا قضت الحاجة. فقال بوناسيه صاحب الفندق: لقد أجرتموني، فكيف تخفرون الذمة؟ فقال له دارتانيان بصوت خفي: إنا نسعى في خلاصك بالحيلة، فلو منعناك لاتهمونا بك وأخذونا معك. ثم قال للجند: إنه رجل لا أعرفه إلا في هذه الساعة، فشأنكم به؟ ثم همس في أذنه أن اسكت ولا تنطق علينا بشيء فإنك تضرنا وتضر بالملكة. ثم دفعوه إليهم فأخذوا وانصرفوا، وعرف دارتانيان أن اسم زعيمهم بوازرنار، فلما خلا البيت قال لهم بورتوس: أف لكم، أتخفرون الذمة وتسلمون رجلا لجأ إليكم واستغاث بكم؟ قالوا: بل هو الصواب، فلنتعاقد الآن على أن نكون جميعا فدى عن واحد منا ويكون كل منا فدى عن الجميع. فتعاقدوا وانصرفوا كل منهم إلى مكانه.
الفصل السابع
امرأة صاحب الفندق السبية
وبعد أن ذهب الجند بالرجل أقام الرفاق الأربعة يبحثون عليه فلا يقفون له على خبر، وكان بيته تحت بيت دارتانيان، فاقتلع الفتى عدة أخشاب من أرض البيت بحيث صار يسمع ويرى ما يجري في بيت الرجل، فبينا هو جالس ذات يوم إذ سمع صراخ امرأة تستغيث في بيت صاحب الفندق وسمع قوما يسألونها الإقرار وهي تأبى وتصر على الكتمان ، حتى قالت لهم: أنا بوناسيه صاحبة البيت، إحدى تابعات الملكة، فقالوا لها: أنت بغيتنا. وأخذوا يجرونها وهي تدافع وتستغيث، فثارت الحمية في رأس دارتانيان فتقلد سيفه، ودعا بغلامه فقال له: اذهب وادع لي أتوس وبرتوس وأراميس من منازلهم، وقل لهم أن يسرعوا. قال: وإلى أين تمضي يا مولاي؟ قال: أتدلى من النافذة، فاصدع بما أمرتك به. قال: نعم. وذهب ونزل دارتانيان فقرع الباب، فسكنت الجلبة وهدأ الصراخ، ثم فتح له الباب، فدخل بسيفه شاهره وأغلق الباب وراءه، فرأى أربعة رجال سود الملابس بغير سلاح، فهاجمهم بسيفه، فتلقوه يدافعون عن أنفسهم بأمتعة البيت فلم يقدروا عليه، فتركوا الامرأة وفروا هاربين، فلما خلا البيت نظر الفتى إلى الامرأة فوجدها على غاية من الجمال والصباحة، تكاد تأخذها العين لحسنها، ثم حانت منه التفاتة فرأى في الأرض منديلا كالذي رآه مع أراميس، فأخذه ووضعه في جيبها وكانت على وشك الإغماء مما حل بها، فلما أحست بيد الفتى انتبهت وقامت إليه تشكره وتدعو له، فألطف لها في الجواب وقال لها: إن القوم الذين هجموا عليها ليسوا لصوصا، ولكنهم من رجال الكردينال الذين أخذوا زوجها أمس إلى سجن الباستيل. فقالت: ويلاه، وما ذنبه حتى يقاد إلى السجن؟ قال: لأنه زوجك فيما أظن، وأنت سبية الكردينال. قالت: أوتدري من سباني؟ قال: نعم، رجل صفاته كيت وكيت. وشرح لها صفات خصمه. قالت: نعم هو، أوتعرف اسمه؟ قال: لا. قالت: ومن أين درى زوجي أني اختطفت؟ قال: من رسالة وصلته، وهو يرى لاختطافك أمرا سياسيا يتعلق بالدولة، فكيف خلصت من حبسك؟ قالت: غفلوا عني فتدليت من النافذة وخلصت إلى بيتي لعلي أرى زوجي. قال: وما عساه أن يمنعك وهو لا يمنع نفسه؟ قال: ليس ذلك من قصدي، ولكن لي معه شأنا. قال: وما ذاك؟ قالت: سر لا يد لي في إفشائه. قال: أفلا نخرج من هنا، فإن أصحابك لا يبرحون أن يرجعوا بالسلاح فيفوت الخلاص. قالت: وإلى أين نمضي؟ قال: متى خرجنا نرى رأينا. ثم أخذ بيدها وخرج بها حتى أبعد عن البيت، فقالت له: وإلى أين نذهب الآن؟ قال: لا أعلم والله، إلى أين تريدين؟ قالت: أريد أن أخبر دي لابورت بما جرى، ثم أعلم منه ماذا كان في اللوفر من ثلاثة أيام، وهل أنا آمنة إن عدت إليه. قال: أنا أمضي في ذلك. قالت: لا تقدر، فإنهم لا يعرفونك بل يعرفون زوجي. قال: أما لك من يعرفك هناك فأمضي إليه بعلامة منك؟ قالت: نعم، على أن تعاهدني أنك لا تستعمل علامتي التي أعطيك في غير هذا الشأن، ولا تستخدما لمأرب في نفسك إن كان لك مأرب. قال: لا والله، فهل من يعرفك فآخذك إليه؟ قالت: لا أسترسل إلى أحد. قال: لا تخافي، فنحن على مقربة من بيت صديق لي يدعى أتوس فأضعك فيه فلا يراك أحدا. قالت: أحسنت، فهيا بنا إليه. فسار بها حتى بلغ منزل أتوس فأودعها فيه، وقال لها: أقفلي عليك الباب ولا تفتحي إلا إذا سمعت ثلاث طرقات متتابعة. قالت: نعم، فاسمع العلامة التي طلبت، تذهب إلى قصر اللوفر من جهة شارع أشيل وتسأل عن رجل يدعى جرمان، فتقول له «توروبروكسل» فيمضي في كل ما ترسمه له، فتطلب منه أن يدعو لك دي لابورت وصيف الملكة فتبعث به إلي، وكن على يقين من أني أراك لأفيك بعض حقك. قال: نعم. ومضى ففعل كما قالت له غير مخل بحرف. ثم ذهب إلى دي تريفيل فاستأذن عليه فأذن له، فدخل إلى البهو وأقام ينتظر، واغتنم فرصة غيابه فأخر عقرب الساعة خمسا وأربعين دقيقة، ثم جاء دي تريفيل فقال: ما بدا لك لزيارتنا، فإني أظن الوقت قد فات، ثم نظر إلى الساعة فقال: لا والله، بل هي الساعة التاسعة ونصف وقد كنت أظنها أكثر. فأخذ دارتانيان يقص عليه قصة طويلة بشأن الملكة وبيكنهام وغيرهما حتى صارت الساعة العاشرة وخرج، فلما قفل دي تريفيل إلى غرفته عاد دارتانيان فرد عقرب الساعة إلى ما كان عليه وذهب.
الفصل الثامن
تدبير الحيلة
ولما نزل دارتانيان من منزل دي تريفيل أخذ يفكر في محبوبته بوناسيه التي سلبت لبه ووقعت في قلبه موقعا لا يقوى على إيضاحه لسانه، وحاله تنشد:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكنا
فكان ينظر إلى نجوم السماء تارة ثم يعود إلى أفكاره تارة أخرى وهو سائر يستحثه الشوق وتحدوه الصبابة، غير ناظر إلى ما تستلزمه النساء من النفقات على قلة ماله وضيق ذات يده، بل عزم على أن يكون عشيقا رفيقا وصديقا صدوقا، غير ملتفت إلى زوجها وخلاصه. ولم يزل سائرا على حاله تلك حتى بلغ الشارع الذي يسكن فيه أراميس، فخطر له أن يصعد إليه ويخبره عن سبب إرسال خادمه له في طلبه، وكانت الساعة الحادية عشرة مساء وقد أقفرت الطرق وهدأ الليل، فلما صار تجاه بيت صاحبه إذا به يرى شبحا يمشي في الطريق ملتفا بعباءة فظنه رجلا لأول وهلة إلا أنه لما تأمله ورأى صغر قامته علم أنه امرأة، وكانت تسير وهي شاخصة إلى النوافذ في ذلك الشارع كأنها في ريب من وجهتها، فتلتفت وراءها ثم تعود فتمشي، فخطر للفتى أن يلحقها فيرافقها إلى حيث تقصد، ثم رجع عن قصده لعلمه أنها ذاهبة لموعد عشق، فجعل ينظر إليها وهي تسير حتى بلغت منزل أراميس فظن أنها عشيقته وتوارى في زاوية الشارع، فوقفت الامرأة لدى الباب فسعلت ثم طرقت الباب ثلاث طرقات، ففتح لها ودخلت، ثم أقفل وراءها، فأقام دارتانيان يحدق ببصره في نوافذ البيت حتى لاح له نور في إحدى غرفه ورأى المرأة قد أخرجت من جيبها منديلا فأعطته لشخص معها وهو كالمنديل الذي رآه تحت رجل أراميس، فأخذ يفكر فيما عساه أن يكون هذا المنديل، ثم تحول إلى الجهة الأخرى بحيث قابل النافذة، فرأى أن الذي مع المرأة امرأة مثلها تعطيها منديلا آخر كالذي كان معها، ثم خرجت ونزلت في الشارع وسارت من حيث أتت فمرت بقرب دارتانيان ولم تره، فنظر إليها وإذا بها بوناسيه، فأخذ يفكر في أمرها وسبب مجيئها وهو يظن أن لها صديقا حتى خطر له أن يتبعها، فسايرها حتى أدركها وهي مبهورة تلهث من التعب والخوف، فألقى بيده على كتفها فوقعت إلى الأرض وقالت له وهي لا تعرفه: اقتلني فلا أخبرك بشيء. فأنهضها ونظرت إليه فعرفته فصاحت: هذا أنت؟ قال: نعم، فقد بعثني الله لحراستك. قالت: أفي مثل هذه الحال تتبعني؟ قال: لا والله لم يكن ذلك من عزمي سوى أن الاتفاق قيض لي أن أراك تطرقين باب أحد أصحابي. قالت: وأي أصحابك تعني؟ قال: أراميس. قالت: إني لم أسمع قط بهذا الاسم. قال: لا تحاولي الإنكار. قالت: والله لا أعرفه ولم آت هذا البيت إلا الآن وأنا لا أدري أنه لأحد أصحابك الحراس، وفوق ذلك فإني لم أكن لآتية إلا في طلب امرأة. قال: أليست من ذوي قربى أراميس، فإني أراه يسكن عندها. قالت: لا أعلم، فإن ذلك سر لا قدرة لي على إفشائه، فإن شئت فرافقني إلى حيث أمضي. قال: وإلى أين تمضين؟ قالت: ستعلم متى وصلنا. قال: وهل أنتظرك إلى أن تخرجي؟ قالت: لا. قال: أتخرجين وحدك؟ قالت: لا أدري. قال: أنا إذن أنتظر خروجك. قالت: إذا كان ذلك من عزمك فأنا أذهب لشأني وحدي. قال: وعلام دعوتني إذن؟ قالت: دعوتك رفيقا لي لا محافظا علي. قال: انطلقي بنا، فأنا على ما ترومين. قالت: أتتركني عند الباب كما قلت لي؟ قال: نعم. فاستحلفته، فأقسم لها وسار بها حتى بلغ شارع لاهارب، فتقدمت إلى باب هناك وشكرت دارتانيان وقالت له: اذهب، فقد وصلت. قال: وكيف ترجعين؟ أما تخشين أحدا؟ قالت: لا أخشى سوى اللصوص، وأنا لا مال معي، فلا خوف علي منهم. قالت: أراك قد نسيت المنديل المذهب الذي رأيته تحت رجلك فرددته إليك وأنت مغشي عليك. قالت: صه وإلا هلكت. قال: أرأيت كيف أنك في خطر؟ أفلا تسمحين لي بالبقاء في انتظارك وأنا أعدك بكتمان سرك.
قالت: لو كان سري لاستودعتك إياه، ولكنه سر غيري، فلا قبل لي بالإباحة به، فإياك والتداخل فيه، وهذه نصيحتي لك. قال: أفأراميس أحق به مني؟ قالت: ألم أقل لك أني لا أعرفه وأنت تردده، وما أظن هذا الاسم إلا حيلة استنبطتها لتقف على ما أكتم من أمري. قال: لله أنت، أما والله لو فتشت قلبي لسرك ما يجول فيه من غرامك، فبثيني دخيلة سرك. قالت: سرعان ما بدأت بالعشق. قال: لسرعة ما داخلني وأنا حدث لم أبلغ العشرين، ثم اعلمي أن هذا المنديل قد كان سبب براز جرى لي مع أراميس، أفلا تخشين العقاب إذا أخذت وظهر معك؟ قال: ماذا علي وعليه من اسمي ولقبي أولهما وهما الكاف والباء إشارة إلى كونستانس بوناسيه. قال: لا، بل إشارة إلى كاميل دي بواتراسي. قالت: بالله ألا ما سكت، فإن كنت لا تخشى على نفسي فخف على نفسك. قال: وما يخيفني؟ قالت: أخشى عليك عذاب السجن ووقفة الموت إذا عرفوا أنك تعرفني. قال: إذن لا أدعك. قالت: نشدتك الله أن تتركني، فهذا نصف الليل وأصحابي في انتظاري، ثم مدت له يدها قبلها وقال: يا ليتني لم أرك. قالت: لا تيأس من رحمة الله، فعسى أن يهدأ بالي فينالك مني نصيب وأنا لك على العهد، فدعني الآن وامض لشأنك. فودعها وانصرف وفتح لها الباب فدخلت.
فلما بلغ دارتانيان بيته قال له الخادم إن أتوس قد أتى إليك وأقام ينتظرك، وإذا برجال الكردينال الذين هربوا منك قد هجموا عليه وأخذوه وهم يحسبونه أنت، فلم يدفعهم بل همس في أذني أن سيدك أحوج إلى الإطلاق مني، أما أنا فلا يلبثون أن يخلوا سبيلي، ثم أخذه اثنان منهم ولا أدري إلى أي سجن، الباستيل أم غيره، وأقام الاثنان الآخران يبحثان في متاع البيت وصناديقه حتى لم يدعا شيئا مكنونا. قال: وأين برتوس وأراميس؟ قال: لم أجدهما. قال: إذا حضرا فقل لهما ينتظراني في فندق كذا، فإن بيتي هذا قد أصبح مظنة بحث، وإياك أن تنتقل من مكانك ولو مت. ثم انطلق دارتانيان يعدو إلى منزل دي تريفيل فقيل له إنه في اللوفر، فقال في نفسه: لا بد من إخباره. ثم انطلق إلى اللوفر مسرعا ، وإذا هو برجل وامرأة يمشيان أمامه، وكانت المرأة كونستانس بوناسيه والرجل يشبه أراميس وهو في لباس الحراس مقنعا وجهه كأنه يريد أن لا يعرفه أحد، فثارت الغيرة في قلب دارتانيان وأسرع حتى سبقهما، ثم كر راجعا عليهما ووقف في وجه الرجل يحدق به، فتأخر الرجل منه عن إجفال ورهبة، فقال له دارتانيان: ظننتك أراميس. فقال: أخطأ ظنك، وأنا أعذرك. فقال: وعلام تعذرني؟ قال: لأنك عارضتني ولست بصاحبك ولا شأن لك معي. قال: ولكن لي شأن مع رفيقتك هذه. قال: ومن أين تعرفها؟ فقالت كونستانس: أما استحلفتك يا دارتانيان؟ فاذكر اليمين لا تغدو غموسا. فقال لها رفيقها: انطلقي بنا فقد ضاع علينا الزمان. فاعترضه دارتانيان ومنعه من المسير، فدفعه الرجل بيده ومر، فشهر الشاب سيفه وقابله الرجل بسيفه وهما بالقتال، فحالت المرأة بينهما وقالت: لا تفعل بالله يا ميلورد. فأجفل الفتى لهذا الاسم وقال: وأي ميلورد؟ فهمست في أذنه: اللورد بيكنهام. فقال دارتانيان - وقد نكس سيفه: عفوا يا ميلورد، فقد ظننتك عشيقها، وأنا أحبها وأغار عليها، فهل من خدمة أبذلها لك؟ فشكره اللورد وصافحه وقال له: اتبعني عن بعد، فإذا عارضني أحد فلا تبخل عليه بالسيف. قال: نعم وكرامة يا مولاي. وتبعه حتى دخل اللوفر هو والامرأة من باب آخر، فتركهما وعاد إلى صاحبيه، فقال لهما إنه قضى الأمر وحده، ووجد الامرأة ثم انصرف كل منهم إلى منزله.
الفصل التاسع
جورج فيليه دوق دي بيكنهام
فدخلت كونستانس باللورد إلى قصر اللوفر بدون معارض، وسارت به في دهليز طويل حتى انتهت إلى باب فدفعته فانفتح فدخلت به تقوده في ظلام حالك وهي كأنها على نور؛ لمعرفتها بمخارج القصر وطرقه؛ حتى انتهت إلى سلم فصعدتها، ثم مالت إلى يمينها وسارت في نفق، ثم نزلت إلى دار ففتحت فيها بابا وأدخلت اللورد إلى غرفة منارة، وقالت له: أنظرني حتى أرجع إليك، ثم خرجت وأوصدت الباب عليه، فأقام في تلك الغرفة بقلب يخفق لقرب اللقاء، ولا أثر فيه للخوف لما تعوده من اقتحام الأخطار وخوض المهالك، ثم دنا من مرآة في الحائط وأخذ يصلح من شأن ثيابه، وكان أجمل رجال عصره وأشجعهم في فرنسا وإنكلترا، وأوفرهم ثروة وأوسعهم كرما وأكثرهم تقدما في الدولة؛ حتى عشقته حنة دوتريش ملكة فرنسا. وفيما هو كذلك وإذا بباب ضيق قد فتح في الجدار ودخلت منه الملكة بوجه كالبدر جمالا وقد كالغصن اعتدالا، يقطر من وجهها ماء الملاحة والظرف، بعينين قال الله كونا فكانتا، فعولين بالألباب ما تفعل الخمر. فدهش اللورد لجمالها ولاحت له بثوب التفضل أجمل وأبهى مما كان يراها عليه في مراسح اللهو والطرب، ترفل بالدمقس وبالحرير، وتخطر في الحلي والجواهر. وكان عمرها يومئذ خمسا وعشرين سنة، وهي في ريع الشباب ومقتبل العمر ودولة الجمال، فجثا اللورد أمامها وقبل طرف ثوبها، فأنهضته وقالت له: إنك تعلم يا لورد بأني لم أكتب لك بالمجيء. قال: لا وحياتك ما دعاني إلا شدة العشق وحر الصبابة ونار الشوق، وأهون بما أقاسيه في طريقي إليك عند مرآك. قالت: نعم، إني لم أفسح لك في زيارتي إلا لأقول لك أن مقامك في هذه البلاد على خطر الموت لك والفضيحة لي، ولست تجهل كم يحول دوننا من موانع اللقاء بين لجة البحر وتنافر الملوك وبعد النزعة وكثرة الرقباء، وهو ما دعوتك لأظهره لك وأعلمك أن لا لقاء ولا اجتماع، فقال: تكلمي أيتها الملكة ما شئت، فإن لين لفظك يمحو قساوة معناه، فهو كالسيف في لين صفحته ومضاء حده. قالت: كأني بك قد نسيت أني لم أقل لك قط أني أحبك. قال: نعم، وهو كلام يحط من وفائك في جانب عشق أنا منه بين الجنون والمنون، لم تصدني عنه رهبة ولم يرهبني صد، حتى كان واحدا من يوم رأيتك أول مرة من نيف وثلاث سنين، حتى إني لأقدر الآن أن أصف لك هيئة ثيابك؛ لشدة رسوخ صورتك في ذهني وانطباعها على قلبي، فكأني بك وأنت لابسة ثوبا من الحرير الأخضر مطرزا بالذهب، وعلى كتفيك جوهرتان وعلى رأسك قبعة موشاة، وأنا أراك الآن في ثوبك هذا أحسن وأجمل من قبل. فقالت الملكة: لله ما هذا الجنون في عشق لا فائدة منه إلا ذكراه؟! قال: نعم، وإنما هي ذكرى تغلو بها الأرواح إذا رخصت ويخضر منها عود الشباب إذا ذوى، بل إنما هي ذكرى ألذ من ألف بشرى، وما هي إلا أثر نظرات ثلاث، أولاها ما ذكرت لك والثانية عند الكونتس دي شفريز والثالثة في حديقة أميان. فقالت الملكة وقد صبغ الحياء خديها: بالله يا لورد لا تذكر تلك الليلة. قال: كيف لا أذكرها وهي زهرة حياتي ونضارة عمري.
رغمت بها أنف الزمان بوقفة
وإياك لا واش ولا مترقب
حيث بثثتني سرك وشكوت إلي همك ويدك في يدي وغدائرك ينشرها النسيم على وجهي، فهي والله وقفة ما أظن جنة الخلد بأحسن منها، وقد تركتني وأنا أنشد:
يا ليلة سمح الزمان ببعضها
بعض السماح وليته لم يندم
وأنى لي بها ورد الفائت أيسر منها! بل نوال النجم أقرب من نوال أمثالها! فما أشك والله أنك فيها كنت تحبينني. قالت: نعم، لقد كان ذلك إذ كان النسيم باردا والجو صافيا والأرض بارزة في أثوابها القشب، وأنت توحي إلي من الحب آيات بينات ومن العشق سورا مفصلات، ولحظك يغازلني وكفك تغمزني، وما أظن أنثى يصيبها ما أصابني ولا تصبو. إلا إني لما عرفت من كلامك أنك خضعت لبعض الشيء وسولت لك نفسا أمرا غلبت عزة الملك على سكرة الهوى، فاستصرخت جواري وكان ما كان. قال: نعم، وهو ما زاد لي غراما فأنقصني صبرا ورفعني هياما فخفضني قدرا. وأنت تحسبين أنك تفلتين مني أو تقعد بي عنك وزارة الملك وعبء الأعمال ومعاناة الحكم، وأهون بها وبملوك الأرض جميعا في سبيل نظرة من جمالك، فإني لم أغب عنك ثمانية أيام حتى رأيتني عائدا إليك لا أقدر على الدنو منك، ولسان حالي ينشد:
لئن منعوا عني الزيارة طارقا
إليك فإني من بعيد أسلم
ولعل ذلك يحملك على بعض الرضى عني. قالت: أولا تعلم أن السعاية خالطت أمرنا وأبعدت ذات بيننا فجف ثرانا ووهت عرانا وثار الكردينال بالملك فصنع بي ما صنع من طرد الخاتون فرني ونفي يوتانج وفضيحة دي شفريز؟ ثم لما عزمت على الرجوع إلينا في سفارة، قام الملك بنفسه يعارض في الأمر، وإنه لشأن لو تعلم عظيم. قال: نعم، وهو ما ستثور به الحرب في فرنسا على قدم وساق، تطحن الهام برحاها، وتعجن بالدماء ثراها. وقد رأيت أن أسمعك بذكري إذا لم أقدر على مرآك، وما ظنك بدواعي بعثة جزيرة ري وحصار روشل وثورة البروتستان إن لم تكن.
لأجلك يا التي تيمت قلبي
وأنت بخيلة بالوصل عني
ولا أكذب الله أني لا أمل لي بالدخول إلى باريز دخلة فاتح شاهر سيفه، سوى أني أعلم أن لا بد من أن تكون هدنة على أثر تلك الحرب، فأرسل أنا في سفارة الصلح فأنظر إليك نظرة يرخص لدي في جنبها دماء رجال وأرواح أبطال تسيل على ظبى المرهفات وشبا الأسنة، ولا إخال الملك عند ذلك يرفض سفارتي لأني:
أرى أن صرح المجد ليس بسالم
إذا لم يسوره بأسواره الدم
قالت: أفما تعلم أنها أفعال تعود علي بالوبال إذا عادت عليك بالهناء والسعادة؟ قال: ذلك لأنك لا تحبينني، ولو فعلت لكان لي منصرف عن هذا الأمر إلى ما يكون أسلم عاقبة وأهون مراسا، فوالله إن دي شفريز لأرق منك وأرحم، وقد عشقها هولاند فأجابته إلى هواه، وكان بها منه مثل ما كان به منها. قالت: أتذكر أن دي شفريز لم تكن ملكة يا ميلورد؟ قال: إذن ما يمنعك عني إلا رفعة مقامك حتى لو كنت دي شفريز لأجبتني، فلله درك ما أحلى كلامك وأعذب معانيك، وهل في العشق ملوك أيتها الملكة؟ قالت: وا سوءتاه، لقد أسأت الفهم وما هذا قصدت. قال:
قد قلت ما قلت إن صدقا وإن كذبا
فما اعتذارك من قول إذا قيلا
ولقد عذرتك غير معتذرة، وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟ فإني أرى حياتي ستصير في سبيل غرامك إلى مصير لا ترجع أولاه على أخراه، ولا يلحق أقصاه أدناه، وإني لتنذرني نفسي بأني ملاق منيتي، وعلى الدنيا بعد ذلك السلام. فقالت الملكة وقد داخلها الروع: ويلاه يا لورد، ما هذا الكلام؟ قال: ليفرخ روعك، فما قصدت إرهابك، وما أنا ممن يعتقدون بالأوهام والأحلام، وما ألذ الموت بعد إذ أسمعتني ما أسمعتني، فقالت: ويلاه يا دوق، فقد رأيتك في منامي طريحا مخضبا بدمائك. قال: أوليس في خاصرتي اليسرى؟ قالت: نعم مجروح بمدية، فمن أنبأك بحلمي، فإني لم أناج به إلا الله في صلاتي؟ قال: إنك تحبينني إذن؟ قالت: أنا أحبك؟ قال: نعم أنت، ولولا ذلك ما توافق حلمانا؛ وهو دليل على اتصال القلوب وامتزاج الأرواح، وما أراك إلا نادبة علي إذا صحت أحلامنا، إن كان جفنك بالدموع يجود. فقالت الملكة: وا كرباه، لم أعد أطيق، فبالله ألا ما ذهبت فإني ما أعلم هل أحبك أم لا، فأنشدك الله أن تذهب، فوالله لئن نفذ فيك مكروه في فرنسا بسببي ما وجدت عزاء عنك ولو سلوت إلا بالجنون أو بالمنون، فارحل بحياتك عني. قال: لله أنت ما أحلاك، وما ألذ عذابي فيك. فقالت: ارحل يا لورد بالله، ثم عد سفيرا أو وزيرا تحفك جنودك تمنعك من أعدائك حتى لا أخشى عليك، فأراك فرحة مسرورة. قال: أحق ما تقولين؟ قالت: نعم وأبيك. قال: فهل من شاهد على ذلك يحقق وقفتي معك حتى لا أعود أظن أني كنت في حلم، فهل من خاتم أو سلسلة أو عقد أحمله؟ قالت: أتسافر في الحال إذا أعطيتك ما تطلب؟ قال: أفعل والله. قالت: إذن فانتظرني إلى أن أعود. وذهبت ثم عادت وفي يدها علبة، فأعطته إياها وقالت: خذ هذا واذكرني به. فأخذها من يدها ووقع على قدميها، فقالت: لقد وعدتني بالرحيل يا لورد. قال: نعم، وأنا على وعدي، فهاتي يدك. فأعطته يدها، فقبلها وهو يلتهب شوقا، فاتكأت الملكة على جاريتها أصطفانة خوفا من أن تسقط لانحلال قواها، فقال لها اللورد: أراك بعد ستة أشهر إذا فسح الله في أجلي، ولو آل ذلك إلى خراب الأرض. ثم خرج من حيث دخل فصادف كونستانس في الدار، فأخذته إلى خارج اللوفر.
الفصل العاشر
بوناسيه صاحب الفندق
أما صاحب الفندق فأخذته الشرطة إلى سجن الباستيل وأدخلوه إلى مكان تحت الأرض وهم يعاملونه بالقسوة والغلظة لأنه لم يكن من النبلاء، وما لبث قليلا في محبسه حتى جاءه ضابط وأمر بنقله إلى غرفة الاستنطاق، فأخذه جنديان وسارا به في نفق طويل حتى أدخلاه إلى غرفة واطئة فيها رجل هو المستنطق وكرسي ومائدة، فوضعاه بين يديه وخرجا، فقال له المستنطق: ما اسمك؟ قال: ميشل جاك بوناسيه. قال: كم عمرك؟ قال: واحد وخمسون سنة. قال: وأين بيتك؟ قال: في سكة فولوايه في العدد 1. فأخذ المستنطق يكبر عليه الأمر ويخوفه باسم الكردينال ورهبة القصاص ويتوعده بالعذاب، إلى غير ذلك من أنواع التهويل والتهديد حتى داخله لذلك أشد الرعب والخوف، فصار يذم في نفسه دي لابورت والساعة التي رأى فيها امرأته، ثم قال: وحقك يا مولاي لست بمذنب ولا مقترف أدنى جريمة على الكردينال أو غيره. فقال له المستنطق: والله لئن لم تصدقني لأفعلن بك ولأصنعن. قال: وبم أكذب يا مولاي؟ وكيف أنكر ما لم أجنه ولا علم لي بأوله ولا آخره؟! قال: لم يكن من العبث سجنك، فإنك مجرم متهم بخيانة عظيمة. قال: أنى أكون ذا جريمة عظيمة أو يكون لي دخل في خيانة وأنا رجل بائع لا ناقة لي في الدولة ولا جمل؟ فانظر يا مولاي على من تلقي التهمة وتدبر في بغيتك. فنظر إليه المستنطق طويلا ثم قال: هل لك امرأة؟ قال: نعم، وقد خطفت مني. قال: ومن خطفها؟ قال: لا أدري سوى أني أظن. قال: وبم تظن؟ فارتبك الرجل بين الإقرار والإنكار، ثم صمم على الإقرار، فقال: رجل طويل القامة صفاته كيت وكيت، فقال المستنطق: وهل تعرف اسمه؟ قال: لا أعرفه إلا إذا رأيت وجهه ولو كان بين ألف رجل. قال: أتعرفه ولو كان بين ألف رجل؟ فتلجلج لسان الرجل وعلم أنه قد سقط، فقال له المستنطق: نقف الآن عند هذا الحد حتى تعرف خاطف امرأتك . قال: أنا لم أقل إني أعرفه بل بالعكس ... فلم يدعه الرجل يتم كلامه حتى دعا بالجنديين وقال لهما: خذاه إلى السجن حيث كان واحرصا عليه لا يفر. فخرجا به وهو يناجي ربه ويذم زمانه ويطلب الغفران عن زلته.
فأخذه الجنديان إلى السجن، وأقام المستنطق يكتب رسالة على عجل يريد أن يرسلها مع رسول ينتظره. أما بوناسيه فأقام ليله ذلك لا يغمض له جفن ولا يأخذه هجوع لشدة قلقه واضطرابه حتى طلع الصباح، وإذا بالمفتاح يقلقل في باب سجنه، فخفق قلبه وظن أنهم يأخذونه لضرب عنقه، ثم فتح الباب وظهر المستنطق، فقال له: أنصح لك أن تقر بالحقيقة وإلا فأنت هالك. قال: أقول لك كل ما أعرف بشرط أن لا تعدو إلى ما لا علم لي به. قال: أين امرأتك؟ قال: قلت لك إنها خطفت. قال: نعم، ولكنها فرت من خاطفها. قال: هربت الشقية المجرمة، ولم تركتموها تهرب؟ قال: وما كنت تصنع عند دارتانيان يوم خطفت؟ قال: كنت ألتمس منه أن يساعدني بالبحث عليها لاعتقادي بها الخير، فأما وقد تبينت جرمها فلا ردها الله. قال: وما قال لك دارتانيان؟ قال: وعدني بالمساعدة، ثم لم يلبث أن أخلف وعده وخفر ذمته. قال: إنكما مذنبان أنت وإياه لأنه نفر رجال الكردينال عن امرأتك وذهب بها، وهو الآن في يدنا وسأريك إياه. ثم أشار إلى الحارس بإدخال دارتانيان، فخرج ثم دخل بأتوس يقوده حتى أوقفه بحضرة المستنطق، فقال له: قل يا كونت ما جرى بينك وبين هذا الرجل؟ فصاح صاحب الفندق: ليس هذا دارتانيان يا مولاي. قال: ومن هو إذن؟ قال: لا أدري سوى أني رأيته مرة. فسأله المستنطق عن اسمه، فقال: اسمي أتوس. قال: عجبا كيف يكون ذلك؟ فإن هذا اسم جبل. قال: هو اسمي الذي أعرف به بين الناس. قال: وكيف تقول إنك تدعى دارتانيان؟ قال: إني لم أقل شيئا، فإنهم قالوا لي: أنت دارتانيان؟ فقلت لهم: أتظنون ذلك؟ فلم يلتفتوا إلى قولي، بل قادوني فسرت معهم. قال: ما أراك إلا تحاول الإنكار، وما اسمك إلا دارتانيان. قال: إذن لا لوم على الشرطة ما دمت أنت تقول ذلك. فقال بوناسيه: إنه ليس دارتانيان يا مولاي، فإن دارتانيان نازل في داري، وهو فتى لا يبلغ العشرين من العمر، وفوق ذلك فإن دارتانيان في حرس دي زيسار وهذا من حراس الملك، أفما ترى ثيابه؟ قال: صدقت، وما أنا إلا مغرور. ثم فتح الباب ودخل رسول فأعطى المستنطق رسالة فقرأها، ثم قال: تعسا لها. فقال صاحب الفندق: لعلها غير امرأتي؟ قال: بل هي بعينها فأبشر بالعذاب. قال: كيف ذلك يا مولاي؟ وكيف أكون معلقا بامرأتي تلحقني جرائمها وأنا بعيد عنها في السجن؟ قال: ذلك لأنك أنت مرشدها وآمرها بكل ما تفعل. قال: لا والذي أسأله صلاحك يا مولاي لا علم لي بشيء مما تقول ولا بما تفعل امرأتي، وتبا لها إن كانت مذنبة. فقال له أتوس - وقد أخذه الملل: لقد طال بنا الأمر وسئمت من هذا الجدال، فابعثني من هنا فما لك قبلي حاجة. فنادى المستنطق بالحراس وأمرهم أن يأخذوا الأسيرين ويضيقوا عليهما ما أمكن. فأخذوا كلا إلى سجنه، وأقام صاحب الفندق سحابة يومه يندب نفسه ندب الثكلى حتى هبط الليل وأخذه النعاس، وإذا بخفق نعال يدنو منه، ثم فتح الباب ودخل عليه عدة حراس، وقال له أحدهم: اتبعني. فقال: إلى أين أتبعك في مثل هذه الساعة؟ قال: إلى حيث أمرنا بأخذك. فقال: هلكت والله لا خلاص لي بعدها. ثم تبع الحراس في النفق الذي دخلوا منه حتى انتهى إلى الباب، فوجد عربة حولها أربعة من الفرسان، فأصعده الحراس إليها وجلس معه الذي كلمه، وأقفل بابها بالمفتاح، وسارت العربة بهما على مهل، وبوناسيه ينظر من نافذة فيها إلى الشوارع، وكلما قرب من سجن أو مكان عقاب ارتعدت فرائصه وخفق قلبه واستعد للقاء ربه، حتى بلغت به بون أنفان، فوضع الموت بين عينيه ووقفت العربة، فأخرجوه منها مغشيا عليه.
الفصل الحادي عشر
الكونت روشفور خصم دارتانيان
فلما أدخلوه في الباب أفاق لنفسه قليلا، فصعدوا به سلما ووضعوه في غرفة وهو لا يكاد يعي من شدة الجزع، ثم نظر حوله فلم ير شيئا من دواعي الموت، فارتاح باله وهدأ قلبه؛ إذ رأى الغرفة مفروشة بأحسن الفرش ومزينة بأبهى الأثاث، وفيما هو كذلك إذ دخل عليه ضابط فقال له: أنت المسمى بوناسيه؟ قال: نعم. فأخذه بيده وأدخله إلى غرفة لا تكاد جدرانها تظهر من كثرة ما علق عليها من السلاح، وفي وسطها مائدة عليها كثير من الأوراق والكتب وفي جملتها رسم مدينة روشل، وكان يصطلي على نار فيها رجل طويل القامة مهيب المنظر لا يكاد يتجاوز السادسة والثلاثين، ويظهر من هيئته وهو أعزل أنه من رجال الحرب، وفي رجله حذاء يعلوه الغبار كأن صاحبه آت من سفر بعيد. وكان ذلك الرجل أرماند جاك دي بليسيس كردينال دي ريشيليه بطل فرنسا وسياسيها الفرد، وكان عند ذلك قد ثبت الدوق دي نيفر في ولاية مانتو وأخذ نيم وكاستر وإيزي ويعمل على طرد الإنكليز من جزيرة ري ويحاصر روشل.
وكان الكردينال في لباسه ذلك بعيدا عن أن يعرفه من لم يكن قد رآه، فجعل ينظر إلى بوناسيه نظرة المتأمل، ثم قال للضابط: أهذا بوناسيه؟ قال: نعم يا مولاي. قال: فأعطني هذه الأوراق واخرج. ففعل الضابط وخرج، ونظر بوناسيه إلى الأوراق فعرف أنها تحتوي على استنطاقه في سجن الباستيل، وكان الكردينال بين ذلك يصعد نظره فيه ويصوبه حتى قال له: أنت متهم بجناية عظيمة. قال: ذلك ما قيل لي يا مولاي، وأنا والله لا علم لي بشيء. قال: إنك مواطئ لامرأتك وللخاتون دي شفريز وللورد بيكنهام. قال: لا والله يا مولاي لا أعرف من هؤلاء الأشخاص إلا أسماءهم؛ إذ قد سمعت بهم كثيرا. قال: ممن سمعت؟ قال: من امرأتي، فإنها كانت تقول أن الكردينال قد احتال في مجيء بيكنهام إلى باريز ليقتله ويلحق الملكة به، أما أنا فكنت أزجرها وأقول لها أن الكردينال أبعد من أن يتهم بمثل ذلك. قال: أوتعلم من خطف امرأتك؟ قال: كنت اتهمت رجلا، ثم لم رأيت المستنطق يستاء لتهمتي عدلت عنها. فتبسم الكردينال وقال: أما علمت أن امرأتك قد فرت؟ قال: نعم علمت ذلك وأنا في السجن. قال: وهل تعلم ما جرى لامرأتك بعد فرارها؟ قال: لا، ولكني أظن أنها عادت إلى اللوفر جريا على عادتها. قال: لا، فقد ساء ظنك. قال: ويلاه، وما صنعت؟ قال: ستعلم ذلك من الكردينال، فإنه لا تكاد تخفى عليه خافية. قال: وهل ترى الكردينال يتفضل علي بذلك؟ قال: قد يكون على شرط أن تقر بكل ما تعلمه من العلائق بين دي شفريز وامرأتك. قال: إني لا أعرفها ولا علم لي بشيء من ذلك. قال: لما كنت تذهب فتأتي بامرأتك من اللوفر، هل كانت تأتي معك إلى البيت توا أم تتخلف في الطريق؟ قال: لا، بل كانت تطلب مني أن أذهب بها إلى بعض البزازين لتشتري ثيابا، وكان ذلك دأبها. قال: إلى كم بزاز كانت تذهب؟ قال: إلى اثنين. قال: وأين يسكنان: قال: أحدهما في شارع فوجيرار عدد 25، والآخر في شارع لاهارب عدد 75.
قال: وهل كنت تدخل معها؟ قال: لا، بل كنت أنتظرها لدى الباب على حسب ما تقول لي، فقال: لله درك من رجل أطوع من ثواب. ثم أخذ ناقوسا من الفضة فقرعه فدخل الضابط، فقال له: علي بروشفور في الحال. قال: هو في الباب يا مولاي يستأذنك بالدخول. ثم خرج ودخل روشفور، فلما رآه بوناسيه صاح: هو هذا يا مولاي. قال: ومن تعني؟ قال: الذي خطف مني امرأتي. قال: صه يا رجل. ثم قال: خذوه واحفظوه حتى أدعوه. فأخذوه وهو يصيح: لا يا مولاي فقد غلطت، فليس هذا، فإنه رجل شريف. قال: خذوه. فأخذوه وأقفلوا الباب، فدنا روشفور من الكردينال وقال: لقد تقابلا. قال: من؟ قال: هو وهي. قال: الملكة واللورد تعني؟ قال: نعم. قال: وأين؟ قال: في اللوفر. قال: هل أنت واثق مما تقول؟ قال: نعم، وقد أخبرتني الخاتون دي لانوي المخلصة لك يا مولاي. قال: ولم لم تسبق في الإخبار؟ قال: لأن الملكة قد أمسكتها عندها كل ذلك النهار. قال: كيف كانت القصة؟ ومتى؟ قال: بعد منتصف الليل بينا كانت الملكة جالسة بين نسائها ورد عليها منديل من خادمتها فأخذته وهي تحمر وتصفر، ثم نهضت وقالت: أنظرنني قليلا. وخرجت من باب غرفتها. قال: ولم لم تخبرك دي لانوي على أثر ذلك؟ قال: لأنها لم تكن عالمة بالأمر، واضطرت إلى أن تطيع أمر الملكة بالانتظار. قال: وكم غابت الملكة؟ قال: ثلاثة أرباع ساعة، ولم يكن معها إلا الدونة أصطفانة، ثم عادت فأخذت علبة حمراء وخرجت ثم رجعت بدونها. قال: أولم تعلم ما كان في العلبة؟ قال: العقد الماس الذي هاداها به الملك، وقد تأكدت ذلك دي لانوي إذ سألتها عنه بعد برهة فاحمر وجهها وزعمت أنه انكسر منه فص فأرسلته إلى صائغها ليصلحه، ثم سألت الصائغ عنه فأنكره. قال: أفلا تعلم مقر دي شفريز واللورد بيكنهام؟ قال: لا يا مولاي، فقد بحثت عنهما كثيرا فلم أجد لهما أثرا. قال: أنا أعلم أين هما، أحدهما في شارع فوجيرار عدد 25، والآخر في شارع لاهارب عدد 75. قال: ألا يأمر مولاي بالقبض عليهما؟ قال: ما إخالهما باقيين هنا، وما أظنهما إلا رحلا، ومع ذلك فخذ عشرة من رجالك وابحث في المنزلين. قال: سمعا وطاعة. ثم سلم وخرج.
فلما خلا الكردينال قرع الجرس فدخل عليه الضابط، فأمره بإدخال بوناسيه فأدخله، فقال له الكردينال: لقد خدعتني يا رجل. قال: حاشا أن أخدع مولاي. قال: كنت تقول لي أن امرأتك تذهب إلى البزازين وهي تذهب إلى بيكنهام ودي شفريز. قال: صدقت يا مولاي، فقد تذكرت، ولقد كنت أعجب منها كيف تدخل إلى بيوت لا علامة فيها للثياب وهي تضحك مني، فلله درك يا مولاي من حاذق خبير.
فطن يكاد يقول عما في غد
ببديهة أغنته أن يتفكرا
ثم أكب على رجلي الكردينال يقبلهما، فأنهضه الكردينال وقال: قم يا بني ولا تخف. فأكبر بوناسيه ذلك كيف أن الكردينال يقول له يا بني وينهضه بيده، فأخذ يردد عبارات الشكر والمسرة، فقال له الكردينال: أظنك مملق لا مال لك ، فخذ هذه الصرة واستعن بها على أمر نفسك، ولا تؤاخذنا بما عاملناك. قال: كيف أؤاخذك يا مولاي وأنت الحاكم المطلق بين الروح والجسد.
فقال: خفض عليك، فإن لك حقا علينا، فخذ هذه الصرة وامض لشأنك، وأنا سأدعوك بعد ذلك إن شاء الله. فانحنى بوناسيه لدى الكردينال وخرج يهلل ويكبر ويدعو للكردينال بالعز وطول البقاء، وجعل الكردينال يقول: قد ملكناه والله ببعض الدراهم، ثم أخذ ينظر في رسم مدينة روشل ويخطط حصارها حتى فتح الباب ودخل روشفور، فقال له الكردينال: مهيم يا بني. قال: بحثت عنهما فعلمت أنهما قد سافرا، المرأة مساء أمس، والرجل صباح اليوم، بعد إذ مكث كل منهما أربعة أيام في باريز. قال: هما هما والله، وقد فات الأمر وتعذر لحاقهما، فإن الدوقة دي شفريز قد أصبحت في تور واللورد في بولونيا، فصار من الواجب أن نلاقيه في لندرة، ولكن إياك وإفشاء الأمر أو أن تعلم الملكة بما جرى، وإنا عارفون بدخيلة أمرها حتى تظن أننا نبحث عن أمر لا علاقة له بها، وإلا فابعث لي بحراس سيكوسيه. قال: وما صنعت بالرجل يا مولاي؟ قال: صرفته بعد إذ رميت العداوة بينه وبين امرأته. فخرج الكونت روشفور وجلس الكردينال فكتب رسالة، ثم دعا بالحاجب فدخل، فقال له: قل لخادمي فيتراي أن يتأهب للسفر. فخرج ثم دخل الخادم وهو في ثياب الرحيل، فقال له الكردينال: اذهب على جناح السرعة لا تلوي على شيء حتى تصل إلى لندرة، فتضع هذه الرسالة في يد ميلادي، وخذ هذه البدرة نفقة الرحيل. فأخذها وخرج. أما الرسالة فهذا نصها:
إلى ميلادي
اذهبي إلى أول رقص يحضره بيكنهام، وتلطفي في الدنو منه، وخذي من العقد الماس الذي في صدره فصين بدون أن يشعر، ثم أخبريني في الحال.
الفصل الثاني عشر
رجال القلانس ورجال السيوف
وفي اليوم الثاني من هذه الحادثة افتقد دي تريفيل أتوس فلم يجده، فسأل عنه فأخبره أصحابه بما جرى له في السجن. وكان أراميس قد طلب إذنا وسافر إلى روين لأعمال تختص بعائلته ، وذهب دي تريفيل يبحث عن أتوس فعلم أنه مسجون في سجن فورسيفيك وأنه لم يقر بشيء يمس دارتانيان سوى أنه قال إنه لا يعرف بوناسيه ولا امرأته، بل إنه أتى صاحبه يزوره عند الساعة العاشرة فلم يجده، فأقام ينتظره فأتاه الجند وأخذوه وأقر بما ذكرنا حتى يئسوا منه في السجن فأرسلوه إلى الكردينال فلم يصبه في منزله لأنه كان قد ذهب إلى اللوفر. أما دي تريفيل، فبعد أن علم عن أتوس ما علم ذهب إلى مقابلة الملك.
وكان الملك شديد الغيرة والحقد على الملكة في عشقها لبيكنهام، وكان الكردينال يحثه على ذلك ويشير عليه بما يفعل، وكان أكبر همه مؤاخاة الملكة لدي شفريز حتى كان ذلك يشغله عن أعدائه الإسبان والإنكليز ويلهيه عن ضيق الحال وقلة المال في الخزينة. وكان أول ما قاله له الكردينال أن دي شفريز قد قدمت من منفاها وأقامت في باريز عدة أيام حتى توصلت إلى الملكة ببعض خادماتها، وغير ذلك من هذا النحو متحاشيا له في كل حديثه ذكر بيكنهام، فثار غيظ الملك لذلك وتقدم إلى باب الملكة وأهوى بيده عليه يريد فتحه، فدخل عليه دي تريفيل فارتد الملك عن عزمه وعاد إليه، فقال له: لقد كثرت الشكوى على رجالك يا دي تريفيل. قال: وأنا لي شكوى على رجال القلانس يا مولاي. فقطب الملك حاجبيه وقال: كيف قلت؟ قال: قلت يا مولاي إن بعض رجال الشرطة الذين هم نظام الملك وعليهم مدار الأمن قد تهجموا على أحد رجالي أو رجالك يا مولاي وأخذوه إلى سجن فورسيفيك، وهو رجل لا يجهله الملك أطال الله بقاءه ويدعى أتوس. قال: نعم أعرفه. قال: وهو الذي بلغك عنه أنه جرح دي كاهيساك في البراز، ثم التفت إلى الكردينال فقال: وعساه شفي من جرحه؟ فأجاب الكردينال وهو يعض شفته من الغيظ: نعم والحمد لله. فعاد دي تريفيل إلى مخاطبة الملك فقال: وقد ذهب أتوس لزيارة صديق له من حرس دي زيسار فلم يجده، وفيما هو قائم في انتظاره هجمت عليه الشرطة وقادته إلى السجن. فأشار الكردينال إلى الملك إشارة معناها: كان ذلك لما أخبرته به، فقال الملك: قد عرفنا كل ذلك، وإنما كان في سبيل خدمتنا. قال: ما أظن خدمتك يا مولاي تقضي بالقبض على رجل طاهر الذيل وقوده مكبلا بين جم غفير من الناس إلى السجن، وهو الذي طالما بذل دمه في سبيل رضاك. فقال الملك: أوكذلك جرى؟ فقال الكردينال: أرى دي تريفيل يكتم ما صنعه هذا الرجل من هجومه على أربعة من رجالي وهم في مهمة بعثتهم لها. فقال دي تريفيل: أحاشيك يا مولاي من الخطأ في القول والزلة في الحكاية، فإن أتوس من أحسن رجالي أدبا وكرم أخلاق، وقد تغدى عندي وأقام زمانا يحادث الكونت شاليس والدوق دي ترمويل وهما في منزلي. فنظر الملك إلى الكردينال نظرة المستفهم، فأجاب الكردينال: لقد أصبحنا في مشكل يا مولاي لا يفض إلا بالأيمان، فقال دي تريفيل: وهل يستحق رجال القلانس حلف رجال السيوف؟ فقال الملك: صه يا دي تريفيل، فقال: إذا كان سيدي الكردينال يتهم أحدا من رجالي فأنا راض بمحاكمته لديه، فقال له الكردينال: إن البيت الذي جرت فيه الحادثة يسكنه أحد أصحاب رجالك. قال الملك: تعني دارتانيان؟ قال: هو الذي أردت. ثم قال لدي تريفيل: أفلا تظن أنه أغرى أتوس؟ قال: لا، فذلك بعيد عن الإمكان؛ إذ كيف يغري رجلا أكبر منه سنا وأوفر عقلا وحزما، وفوق ذلك فإن دارتانيان قد سمر عندي. قال: عجبا، أتسمر عندك جميع الناس؟ قال: أوترتاب في كلامي؟ قال: معاذ الله، ولكن في أية ساعة كان عندك؟ قال: ذلك أقدر أن أقوله لأني عندما قابلته نظرت في الساعة فكانت تسعا ونصفا على حين كنت أظنها أكثر من ذلك. قال: وفي أية ساعة خرج؟ قال: في الساعة العاشرة والنصف. قال: ذلك بعد الحادثة بساعة، ولكن أعلم أن أتوس قد أخذ في ذلك البيت في شارع فوسوايه. قال: وهل يحظر على صديق أن يزور صديقه؟ قال: نعم إذا كان بيته مشبوها، فقال الملك: أوما تعلم أنه مشبوه يا دي تريفيل؟ قال: لا وحياة رأسك يا مولاي، ومع ذلك فقد يمكن أن يكون كما قال، ولكن بيت دارتانيان لا أراه مشبوها وهو أخلص الخدم للملك والكردينال وأسرع الناس في خدمة المملكة. فالتفت الملك إلى الكردينال فقال: أوليس هو الذي جرح جيساك؟ فاحمر الكردينال غيظا وحنقا وقال: نعم يا مولاي، ثم جرح برناجو، فقال الملك: فما تصنع الآن؟ قال: ذلك يتعلق بك يا مولاي إلا أني أرى الحراس مخطئين، فقال دي تريفيل: وأنا لا أراهم إلا أبرياء، وفوق ذلك فإن عندنا قضاة يحكمون في الأمر. قال الملك: صدقت، فلنعرض القضية على القضاة، فقال دي تريفيل: إنه يسوءني يا مولاي أن يقف الرجال الخلصاء الأمناء لدى المحاكم، فإن ذلك مما يجرئ رجال الشرطة عليهم. فقال الملك وقد أخذته سورة الغضب: وما أنت والشرطة يا دي تريفيل؟ انظر إلى رجالك ودع غيرك في قومه، أم تظن أن إمساك أحد الحراس يثير الحرب في فرنسا؟ لا والله، بل لو أمسك منها عشرة أو مائة أو أمسكوا جميعا ما تجرأ أحد على أن ينبس بكلمة. قال: إذا كان ذلك حكمك يا مولاي وإلى هذا الحد غيظك على الحراس فأنا أسلمك سيفي وأعتفي من منصبي، فهو خير من أن يشكو علي الكردينال غدا فأسجن كما سجن أتوس، فقال الملك: أقصر الآن. قال: لا والله، أو أن ترد لي الرجل أو تأمر بمحاكمته. فقال الكردينال: صدقت فليحاكم. فقال دي تريفيل: أحسنت، وعند ذلك أستميح الملك أعزه الله في الاحتجاج عنه. قال الملك: أنا أطلقه لك بشرط أن لا يكون للكردينال شكاية أخرى عليه، وأن تقسم لي بأبي أن أتوس كان عندك في حين الحادثة. قال: ورحمة أبيك يا مولاي وحياتك بعده، فقال الكردينال للملك: اذكر يا مولاي أنا إذا أطلقناه تخفى علينا القصة. فقال دي تريفيل: إنه لا يبرح من عندي فيجيبك عن كل ما تسأله عنه، فكن في راحة من هذا القبيل. قال الكردينال: أنعم عليه بالإطلاق يا مولاي فأنت رب الإنعام .
فقال دي تريفيل: لا والله، ما هذا بإنعام، وإنما هو الحق إذا سطع نوره لا يحجب بالأكف ولا يطفأ بالأفواه، وإنما الإنعام والصفح لمن كان مجرما وليس أتوس في شيء من الجرم. فقال الملك: وهل هو في فورسيفيك؟ فقال دي تريفيل: نعم يا مولاي، وفي مكان لا يوضع فيه إلا المجرمون. فقال: وما يجب أن نصنع؟ قال الكردينال: أن تأمر بإطلاقه، وإذا احتجنا إليه فإن دي تريفيل كفيله ونعم الكفيل هو. فأخذ الملك الأمر ووقع عليه، فأخذه دي تريفيل وهم بالخروج، فقال الكردينال للملك: إنه ليسرني ما أرى من الغيرة في رؤساء رجالك على رجالهم ونعم ذلك فعلا. قال دي تريفيل: نعم يا مولاي بحسن طالع الملك ورفعة جده ودوام ملكه. ثم خرج فذهب إلى فورسيفيك فأخرج أتوس وقال له: هذا ثأر جيساك فاحذر من ثأر برناجو.
ولما خلا الكردينال بالملك قال له: وجب علي الآن أن أكلمك في أمر مهم يا مولاي، فإن بيكنهام قد أقام هنا خمسة أيام ولم يرحل إلا في هذا الصباح.
الفصل الثالث عشر
الملك والملكة والكردينال
فوقع هذا الكلام في أذن الملك وقوع الصاعقة، فأخذته حدة الغيظ وسورة الغيرة فقال: وما يقصد بيكنهام في مجيئه إلى هنا؟ فقال الكردينال: لا أشك في أنه آت ليواطئ أعداءك الإسبان عليك يا مولاي. قال: لا، بل ليواطئ دي شفريز ودي لونكفيل ودي كونده على خرق حرمتي. قال: لا يا مولاي، فإن الملكة أعف من أن ينسب إليها مثل ذلك على شدة حبها لك. قال: لا وأبي، فالنساء ضعيفات يملن مع الهواء، أما حبها لي فسأنظر فيه. قال: أما أنا فلا أظن مجيء بيكنهام إلا لأسباب سياسية. فقال الملك: وأنا لا أراه إلا لما ذكرت لك، وإذا كانت الملكة مخطئة فويل لها. قال: ليعدل الملك حفظه الله عن هذا الرأي، فإني قد سألت دي لانوي عن الملكة فقالت إنها لم تفارقها دقيقة قط، وقد رأتها تبكي ليلها أجمع وصرفت نهارها في الكتابة. قال: نعم، وإنها تكتب له، فلا بد لي من أن أرى أوراقها. قال: ذلك صعب المنال يا مولاي، وما أرانا نصل إليه أنا أو أنت. قال: كيف لا وقد فعلنا مثل ذلك بالماريشالة دانكر، ففتشنا خزائنها ثم فتشناها نفسها؟ قال: شتان دانكر والملكة، فإن تلك امرأة من بعض الخاصة وهذه حرمك يا مولاي ملكة فرنسا وسيدة الدنيا. قال: لقد أنزلتها هذه المنزلة فعافتها وعقتها، فسأنزل بها عن مكانها درجات يفتضح عندها عوارها، فقد ضاق صدري من أفعالها بين السياسة والعشق. قال: ذلك لا أسلم لك به، وإنما أقر لها أنها تنوي حطة ملكك، ومعاذ الله أن يكون في نيتها خرق حرمتك. قال: وأنا أقول لك إنها عازمة على الأمرين جميعا، فإنها لا تحبني بل تحب غيري وهو اللئيم بيكنهام، فلماذا لم تقبض عليه وهو في باريز؟ قال: إن ذلك يا مولاي مما لا يقال ولا يخال، فكيف تقبض على وزير إنكلترا الأولى وتكون في مأمن من حرب تتدمر بها البلاد، ولا سيما إذا حملك الغيظ على إنفاذ المكروه فيه، فيصبح لسان الإنكليز حينئذ وهو ينشدنا:
قتلوا كليبا ثم قالوا ارتعوا
كذبوا لقد منعوا الجياد رتوعا
قال: ليس علينا في ذلك عاقبة ولا تبعة لأنه قدم بلادنا في زي جاسوس؛ فقد كان يجب ... ثم أمسك عن الكلام إذ علم فظاعة الجملة، فقال له الكردينال: قد يجب ماذا؟ قال: لا شيء، فهل راقبت اللورد أيام كان في باريز؟ قال: نعم، وقد كان ساكنا في شارع لاهارب عدد 75، وما أظن أنه جرت بينه وبين الملكة محادثة. قال: إن لم تكن فمكاتبة، وهي التي شغلت الملكة سحابة يومها، فلا بد لي من أن أرى رسائلها طوعا أو كرها، وإلا فأنت ذو يد في الأمر علي. قال: لقد كنت أظن نفسي يا مولاي في معزل عن مثل هذه التهمة لما أني موضع ثقتك ومؤتمن سرك، أما مرامك فلا ينال إلا بطريقة. قال: وما هي؟ قال: أن تنيط هذا الأمر بحارس سيكوسيه، فإن ذلك من أعماله. قال: نعم، علي به. قال: لكن أخشى أن لا تطيعه الملكة لجهلها أنه آت بأمرك. قال: اذهب أنت إليه وأنا أدخل على الملكة. ثم دخل، فوجدها قاعدة حزينة بين نسائها، فوقفن له جميعا، فتقدم إليها وقال: يأتيك بعد قليل وزيري ريشيليه فيجري ما أمرته به. فارتاعت الملكة لذلك لأنها كانت تتوقع النفي والقتل، فقالت: وما هذه الزيارة يا مولاي؟ وهل من شيء يقوله الكردينال وأنت معقول عنه؟ فخرج الملك لا يرد عليها، ثم دخل الحارس فاستأذن للكردينال، ثم دخل الكردينال وهو يتلون كتلون الحرباء، وكانت الملكة لم تزل واقفة، فلما رأته داخلا جلست وأشارت إلى نسائها بالجلوس، ثم قالت له: ماذا تريد؟ وما أتى بك إلى هنا؟ قال: أتيت بأمر الملك لأبحث في أوراقك، ولا يسوءك ذلك مني فإني مأمور. قالت: إن ذلك لا يكون أبدا، فهي إهانة لي. قال: ألم يخبرك الملك قبل أن يخرج؟ قالت: فأعطه يا أصطفانة مفاتيح خزائني، فأخذها وجعل يبحث في الأوراق ساعة فلم يجد شيئا، فتقدم إليها وقال: بقي علي أمر وهو الأهم. قالت: وما ذاك؟ قال: تأذنين بتفتيش ثيابك، فقد بلغ الملك أنك كتبت رسالة ولم ترسليها بعد، ولعلها معك. قالت: أجرأة على الدنو مني يا كردينال؟ قال: العفو يا سيدتي، فما أنا إلا خادم مطيع ورسول أمين أصدع بما أؤمر، وقد أمرني الملك بتفتيش ثيابك ولا يكبر عليك ذلك فإنه أمر لا بد منه. فأجفلت الملكة مرتاعة ثم مدت يدها إلى صدرها فأخرجت رسالة وسلمته إياها وقالت: خذها واخرج وأرحني من مرآك. فأخذها الكردينال وخرج، وسقطت الملكة بين نسائها وشيكة الإغماء، وذهب الكردينال بالرسالة فبعثها إلى الملك فقرأها فوجدها موجهة إلى أخي الملكة في إسبانيا تستحثه على حرب فرنسا، وأن يجعل من شروط الصلح بعثة الكردينال منها، ولم يجد فيها أثرا للعشق. فدعا الملك بالكردينال فدخل، فقال له: صدقت أنت وأخطأت أنا، فليس للعشق فيها أثر. فأخذ الكردينال الرسالة فقرأها ثم عاد عليها وقال: أجد أنها تغري أخاها بطلبي إليه، وأنا أشير عليك بذلك أيها الملك فإني قد سئمت من حصار روشل وبرح بي همه، فلو رأى الملك أن يولي مكاني أحد رجال الحرب ممن يصلحون للحصار، فما أنا إلا رجل راهب. قال: عرفت من تريد، فلا بد لي من معاقبة كل من هو مذكور في هذه الرسالة حتى الملكة نفسها. قال: حاشا يا مولاي أن أكون سبيلا لإيصال الأذى إلى الملكة في أمر لا يشينك، ولو كان فيه شيء من الشين لكنت أول مساعد في عقابها، ولكنها أمور لا دخل للعشق فيها، فلا سبيل للقصاص عليها. قال: صدقت، فقد أغلظت لها في هذا الشأن وهو دأبي مع أعدائك وأعدائي يا كردينال. قال: إنها عدوتي ولكنها حليلتك يا مولاي وأحب الناس إليك كما أنك أحب الناس إليها، فأذن لي أن أتوسط في الصلح بينكما. قال: ذلك لا يكون إلا إذا بدأت هي به وأتت إلي. قال: لا يا مولاي، فأنت البادئ بالتهمة فعليك أن تترضاها. قال: ويحك، وأين تذهب عزة الملك؟ قال: أنا ألتمس ذلك منك يا مولاي فلا تخيب طلبي. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قال: إن الملكة تميل إلى الرقص، فلو أعددت لها ليلة راقصة، ولو كنت قليل الرغبة في مثل ذلك، فإنه مما يزيد في إعزازك عندها ويكون لها فرصة لأن تتحلى بالعقد الماس الذي هاديتها به. قال: سنرى في ذلك. وكانت الساعة الحادية عشرة قد حانت فودع الكردينال وخرج.
وكانت الملكة فيما بين ذلك مفكرة مهمومة، وإذا بالملك قد دخل عليها وأعلمها بأن سيحيي لها ليلة راقصة، فعجبت لذلك أشد العجب وعلمت أن في الأمر حيلة من الكردينال، فسألت الملك: متى تكون الليلة؟ فأجابها أنه سيكلم الكردينال في تحديدها. ولم يمض على ذلك ثمانية أيام حتى ورد على الكردينال رسالة من لندرة فيها:
لقد حصلت عليهما، ولكني لا أقدر أن أسافر لقلة المال في يدي، فأرسل لي خمسمائة دينار، وبعد وصولها لي بخمسة أيام أكون في باريز.
وفي ذلك اليوم سأله الملك: متى تكون ليلة الرقص؟ فحسب الكردينال أيام ذهاب المال إليها وأيام مجيئها إلى باريز فوجد أنه لا بد لذلك من عشرة أيام، فقال: نجعلها بعد اثني عشر يوما، ولكن على شرط أن تتحلى الملكة بالعقد الماس.
الفصل الرابع عشر
في تداخل كونستانس بوناسيه
فأوجس الملك في نفسه أمرا من نحو الملكة إذ سمع الكردينال يشدد عليه بأن تلبس الملكة العقد، وقال: إن في الأمر شيئا ستكشفه لنا الأيام. ثم ذهب إلى الملكة فعرض عليها الأمر فلم تجب وأخذت في البكاء، فشدد عليها، فقالت: لماذا تكتمني أمرك يا مولاي؟ فماذا صنعت؟ وأي جرم اجترحت؟ وما أرى غضبك هذا ناتجا عن رسالة كتبتها إلى أخي، فقال لها: إنها ستكون ليلة راقصة بعد قليل، وأنا أحب أن تحتفلي لها وتلبسي العقد الماس الذي أهديتك إياه يوم العيد، أتسمعين ما أقول؟ فارتعدت فرائص الملكة وظنت أن للملك إلماما بأمرها، فاصفر وجهها اصفرارا شديدا وقالت: نعم. قال: أتحضرين الرقص؟ قالت: نعم. قال: وأنت لابسة العقد؟ فزاد اصفرارها واشتد رعبها وقالت: نعم. ومتى يكون ذلك؟ قال: لا أعلم، وسأسأل الكردينال. قالت: أظن أن الكردينال هو الآمر بذلك؟ قال: نعم، وما عليك كان هو أو أنا؟ أتستائين لذلك؟ قالت: لا. قال: فافعلي ما قلت. وخرج، فوقعت الملكة على ركبتيها تبكي وتقول: واكرباه، هلكت والله. وإذا بصوت من ورائها يقول: ألا أقدر أن أفيدك في بعض الشيء يا سيدتي؟ فالتفتت الملكة مذعورة فوجدت في ملتقى البابين امرأة صاحب الفندق بوناسيه، وكانت قد سمعت ما دار بينها وبين الملك، فعقبت المرأة قائلة: لا تخافي أيتها الملكة، فأنا أسعى في سبيل خلاصك، فقالت الملكة: وهل أقدر أن أسترسل إليك؟ قالت: نعم، والله على ما أقول شهيد، ولا بد من أن أرد إليك ذلك العقد. قالت: ومن لي به ودونه خرط القتاد. قالت: نبعث رسولا إلى اللورد. قالت: وإلى من أسلم سري؟ قالت: أنا أسعى لك في رجل يذهب في هذه البعثة. قالت: أرى أن ذلك لا يكون إلا برسالة مني. قالت: ذلك لا بد منه، ولا يزيد عن سطرين توقعين عليهما بخاتمك . قالت: هو ذلك، ولكن ألا تدرين أن هذين السطرين تتوقف عليهما حياتي وشرفي؟ قالت: ذلك إذا رآهما أعداؤك اللئام، وأنا زعيمة لك بإيصال كتابك إلى صاحبه، وثقي بقولي فإن حياتي مبذولة دون وصول أدنى أذى إليك. قالت: ومن عساه يكون الرسول؟ قالت: زوجي، وقد خرج من السجن قريبا ولم أره بعد، وهو رجل بسيط القلب يمضي فيما أرسمه له ولا يعلم ما يحمله. قالت: بارك الله فيك يا بنية، فإنك بذلك تخلصين عرضي من العار وحياتي من الموت. قالت: ليس لي في ذلك فضل خلاص، وإنما هو فضل جزاء للظالمين، فأسرعي في الرسالة. فقامت الملكة مسرعة فكتبت الكتاب وختمته وأعطته للامرأة وقالت: ينقصنا الآن شيء واحد وهو المال؟ قالت: صدقت، فإن زوجي رجل فقير، ولكن ننظر في ذلك. قالت: مكانك فقد فتح علي أمر، ثم قامت إلى خزائنها فأخرجت خاتما ثمينا وقالت: خذي هذا الخاتم فهو ملكي لا يعارضني فيه أحد، بعثه لي أخي ملك إسبانيا، فبيعيه ويسافر زوجك بثمنه، ولا تنسي أن العنوان: «الدوق بيكنهام في لوندرة.» فقبلت الامرأة يد الملكة وخرجت إلى البيت فوجدت زوجها وحده قائما في انتظارها، فجالت وساوسها في تسليمه السر وترددت، ثم خطر لها أنه بخيل يحب المال فطمعته فيه وقالت له: إن لدي أمرا مهما أريد أن أبثك إياه. قال: وما ذاك، وعساه أن لا يفضي إلى عودتي إلى السجن حيث كنت؟ قال: لا، بل هو أمر نثري منه ثروة عظيمة ويكون لك من ورائه ما يبلغ الألف دينار. قال: نعم، فما ذاك؟ قالت: تذهب إلى لندرة في رسالة تؤديها إلى أحد رجالها. قال: إنني لا شأن لي في لندرة، فما يذهب بي إليها. قالت: إن لغيرك فيها شأنا. قال: إذن لا أذهب أو تخبريني باسم المرسل والمرسل إليه، فإني لم أعد ممن يخبطون في أمورهم خبط عشواء بعد إذ أوصاني الكردينال. قالت: وهل رآك الكردينال، ويحك؟ قال: نعم، دعا بي إليه من السجن ودعاني بصاحبه، فأنا الآن صاحب الكردينال. قالت: قد أخطأت في مصاحبتك رجلا توجد يد فوق يده. قال: لا أصاحب سواه، فأنا خادمه الأمين ولا أفسح لك بالقيام في أمر يخالف صالح المملكة. قالت: أنت كردينالي إذن وضد الملكة؟ قال: لا، بل أنا مع من لا غاية له إلا صالح الدولة. قالت: ويلك، وهل تعرف ما هي الدولة وما هو صلاحها؟ فاطرح عنك هذه الأوهام واسع فيما فيه صلاحك. فضرب بيده على صرة المال وقال: ويحك، ما هذا؟ أليس هذا الصلاح؟ قالت: وأنى لك ذلك؟ قال: من الكردينال والكونت دي روشفور. قالت: تصاحب روشفور وهو الذي خطفني؟ قالت: أولم تقولي لي إن لاختطافك أمرا سياسيا؟ قالت: نعم، ولقد كان القصد منه أن أخون الملكة وأعبث بشرفها، فاذهب لعنة الله عليك من خائن يتبع الشيطان حبا للمال. قال: ليس ذلك الشيطان، وإنما هو الكردينال. قالت: هما واحد عليهما لعنة الله. قال: وماذا تريدين مني الآن؟ قال: تذهب فيما رسمت لك. قال: أرى أن لندرة تبعد كثيرا عن باريز، وما أنا كفوء لهذا الأمر على شدة الخطر فيه، ولقد أدبني السجن عن كل دخيلة، وقد ذقت فيه الموت ألوانا، وهل يشتهي الموت من ذاقه؟ فإليك عني يرحمك الله، فما أنا بصاحبها. قالت: أولا تعلم أنكم إذا عصيت أعيدك إلى ما تخشى منه بأمر الملكة؟ قال: إذا فعلت ذلك فأنا أشكو أمري إلى الكردينال.
ثم خطر بباله قول روشفور له أن استطلع سر امرأتك، فقال لها: ألا تقولين لي ماذا أصنع في لندرة وما الغرض من ذهابي إليها؟ قالت: إن لذلك سرا لا ينبغي أن تعرفه سوى أني قلت لك أن لك منه فائدة. فجال عند ذلك في خاطره أن يذهب إلى الكونت روشفور فيقص عليه أمر الرسالة إلى لندرة وأنها من الملكة، فيكون له من ذلك جزاء، فقال لها: أنا خارج الآن لموعد ضربته وسأعود بعد قليل. ثم خرج، وأقامت تندب نفسها وإخفاق مسعاها وخجلها من الملكة، وإذا بصوت يقول لها: من السقف: افتحي لي لأنزل إليك، فالتفتت الامرأة فرأت دارتانيان.
الفصل الخامس عشر
العشيق والقرين
ففتحت له كونستانس الباب، فدخل وهو يقول: لله ما أبلد زوجك. قالت: وهل سمعت ما دار بيننا؟ قال: لم تفتني منه كلمة. قالت: وكيف تسنى لك ذلك؟ قال: من شق في السقف أسمع منه وأرى، وبه سمعت ما جرى لك مع شرطة الكردينال. قالت: وعلام وقفت من أمرنا؟ قال: على شيء كثير، منه أن زوجك رجل بليد بارد وهو ما أسر له، وأنك حائرة في أمر وهو ما كنت أتمناه ذريعة لبعض الخدمة لك ولو كان دونها ذهاب نفسي، وأن الملكة في حاجة إلى رجل شجاع يذهب في رسالة لها إلى لندرة، وإني ذلك الرجل. قالت: وهل تصدقني الخدمة إذا سلمتك سري؟ قال: إي وحياتك، وحياة أشواقي إليك وتربة صبري الجميل فيك. فقالت وقد تنهدت: ويلاه، وكيف أبوح لك بالسر وأنت غلام حدث؟ قال: أفتريدين من يشهد لك بي؟ قالت: نعم وهو أقرب للثقة فيك. قال: أتعرفين أتوس وبرتوس وأراميس؟ قالت: لا، فممن هم؟ قال: من حراس الملك، وقائدهم دي تريفيل، أفما تعرفينه؟ قالت: بلى سمعت به. قال: فاستوصي إليه بسرك فإنه رجل قوي أمين. قالت: إن سري ليس لي فأبوح به. قال: وكيف بحت به لزوجك؟ قالت: إنه مغفل لا يدري ما يسمع. قال: أفما ترين بي الثقة لسرك في الذي تطلبينه مني؟ قالت: نعم، فإني أراك شجاعا أمينا كريم النبعتين نبيل الحسب. قال: وأزيدك على ذلك أني عاشق لك، وأنت أدرى بفعل من طب لمن حب. قالت: أقسم لك بالله أنك إذا خنتني وأفشيت سري أقتل نفسي وأتهمك بقتلي. قال: وأنا أقسم لك أن موتي أدنى إلي من أن أبوح بكلمة من سرك، وإني ممن يقول وأكتم السر فيه ضربة العنق. قالت: أبلغت، فاسمع. وقصت عليه القصة من أولها إلى آخرها، فازدهى الفتى كبرا وتيها وقال: أنا لها والله، وأسافر الآن. قالت: ألا تذكر أن لك قائدا تطيعه؟ قال: نعم، فقد أنسيتني ذلك، فأنا أستأذنه ويكون وسيطي في ذلك دي تريفيل فهو صهر قائدي دي زيسار. قالت: وهل في يدك مال؟ قال: لا. فقامت إلى الخزانة وأخذت الصرة التي جاء بها زوجها وقالت له: خذ هذه واستعن بها على نفقة الرحيل. قال: تبارك الله، قد استعنا على الكردينال بماله. قالت: نعم، وذلك دأب العادل في الظالم. ثم أنصتت وقالت - وقد أخذتها الرعدة: إني أسمع كلاما في الطريق وهو صوت زوجي. فوثب الفتى إلى بابه السري وقال: لا تفتحي حتى أصعد. قالت: وأنا فما أصنع إذا وجدني هنا ولم يجد الصرة؟ قال: فاخرجي من البيت. قالت: إذا خرجت يراني. قال: فتعالي إلى بيتي ولا تتماهلي. ثم أخذ بيدها وصعد بها إلى منزله وأوصد الباب ووقف وإياها في النافذة ينظر من خصاصها، فرأى زوجها مقبلا ومعه رجل متدثر برداء، فما هو إلا أن رآه حتى شهر سيفه ووثب إلى الباب، فقالت: ما بالك؟ قال: هذا خصمي وقد حلفت أن أقتله. قالت: بحياتي عليك لا تفعل، فليس الآن وقت القتال. قال: صدقت. وعاد إلى النافذة فوجد الرجل قد دخل البيت والتفت إلى صاحبه وقال: لقد ذهبت امرأتي إلى اللوفر. قال: وهل أنت في ثقة من أنها جاهلة سبب خروجك؟ قال: لا أعلم. قال: وهل ضيفك في بيته؟ قال: لا، فإن الباب مقفل وخادمه غائب. قال: لا بأس من أن تطرق الباب لنكون في مأمن من وجوده. قال: نعم. وصعد السلم فطرق الباب، فلبث الفتى والامرأة لا يتحركان، فقال زوجها للرجل: إنه غائب عن بيته. قال: حسن، فلندخل إلى دارك. فقالت كونستانس لدارتانيان: إذن يخفى علينا كلامهما فلا نسمع. قال: لا بل نسمع كما لو كنا بينهما. ثم قادها بيدها إلى ثقب وأكبا عليه يسمعان، فقال صاحب الرداء لزوجها: هل أنت في مأمن من أن يسمعنا أحد؟ قال: نعم. قال: وهل أنت في ثقة من أنها ذهبت إلى اللوفر؟ قال: نعم. قال: إن لذلك عندي أهمية كبرى. قال: كما أن للخبر الذي أخبرتك به جائزة عظمى. قال: اتكل علي في ذلك، ولكن ألا تذكر أنك سمعت من امرأتك بعض الأسماء مثل دي شفريز وبيكنهام وغيرهما؟ قال: لا، لم تقل لي إلا أن أذهب إلى لندرة برسالة مهمة. فاغتاظت لذلك امرأته وجعلت تحرق الأرم، ثم همت بالكلام فمنعها دارتانيان وقال: اسمعي. فقال له الرجل: لو استرسلت معها إلى النهاية فأخذت الرسالة لكانت لك صلة حسنة. قال: ذلك لم يفت، وسأحصل عليه. قال: كيف تصنع؟ قال: أذهب إلى اللوفر فأخدعها وآخذها منها وأعود بها إلى الكردينال. قال: أنت وذاك، ونعم ما تفعل. ثم خرج وعمد الرجل إلى الخزانة يطلب الصرة فلم يجدها، فطار عقله وأخذ يندب ويصيح، ثم خرج إلى الطريق وهو يستغيث ويسأل المارة عن السارق، فقالت كونستانس لدارتانيان: الآن فاصنع ما قلت لك وابذل فيه غاية الجهد؛ فإن ذلك خدمة للملكة. قال: وخدمة لحبك أيضا. ثم التف بعباءة له وتقلد سيفه وخرج، وأتبعته كونستانس نظرها إلى أن غاب، فجثت على ركبتيها وهي تقول: اللهم احفظ الملكة واحفظني بقدرتك يا أرحم الراحمين.
الفصل السادس عشر
تدبير السفر
فذهب دارتانيان توا إلى دي تريفيل ودخل عليه وهو يساور نفسه بين أن يبوح بالسر أو يكتمه، حتى عزم على الإقرار لعلمه أنه من حزب الملكة وأعداء الكردينال، فلما رآه دي تريفيل قال: ما وراءك يا بني؟ قال: أمر مهم يتعلق بمقام الملكة وعليه تتوقف حياتها وشرفها، وهو سر أسعدني الحظ بالوقوف عليه. قال: ألك هو أم لغيرك؟ قال: لا، بل للملكة، وقد شدد علي بكتمانه، إلا أني لما رأيت أن لا فائدة لي منه بدونك رأيت أن أطلعك عليه وأنا في ثقة من كتمانك له. قال: إياك والإفشاء لي أو لغيري، بل قل ما تريد. قال: رخصة من دي زيسار إلي خمسة عشر يوما تكون بداءتها من هذه الليلة في سفر إلى لندره، يعارضني فيه الكردينال أشد المعارضة. قال: أوحدك ترحل؟ قال: نعم، وما علي إذا ذهبت وحدي؟ قال: أخشى عليك القتل وافتضاح الأمر، فينبغي أن تكونوا أربعة ليسلم منكم واحد على الأقل. قال: نعم، ولكن أنت تعلم أن أتوس وبرتوس وأراميس لا بد من أن يعلموا بالسر، فقد تعاقدنا على أن لا يكتم أحدنا الآخر شيئا. قال: لا تخف، فأنا أقول لهم إنك ذاهب في أمر خطير وفي ذلك مقنع لهم، وأرخص لأتوس بالذهاب للاستحمام في مياه فورج للشفاء من جرحه ولرفيقيه بالذهاب معه؛ وبتلك الحجة يتسهل رحيلكم معا، فاذهب الليلة إلى أصحابك وأخبرهم، ثم هل معك مال يكفيك؟ فأراه دارتانيان الصرة، فقال: وكم فيها؟ قال: ثلاثمائة دينار. قال: تكفي، فاذهب على الطائر الميمون. فودعه دارتانيان وذهب إلى بيت أراميس فوجده في منزله، فجلس إليه يحادثه، وإذا بخادم دي تريفيل قد دخل عليهما وأعطى أراميس صرة مختومة، فقال له: ما هذا؟ قال: رخصة السفر يا مولاي، فقال: وأي رخصة سفر؟ فقال له دارتانيان: خذ من جذع ما أعطاك ولا تقل كيف ذاك. ثم أخرج دينارا فألقاه إلى الخادم وقال له: أقرئ سيدك السلام.
فلما خرج الخادم قال أراميس: ما معنى ذلك يا دارتانيان؟ قال: تهيأ لسفر خمسة عشر يوما واتبعني. قال: لا أقدر أن أترك باريز قبل أن أعلم ما جرى ... فقال دارتانيان: بالامرأة ذات المنديل. فاصفر أراميس لذلك وقال: من أخبرك أن عندي امرأة؟ قال: رأيتها. قال: أتعرفها؟ قال: أظن أني أعرفها. قال: وهل تعرف ما جرى لها؟ قال: سافرت إلى تور. قال: وكيف لم تخبرني؟ قال: خشيت من أن يصيبها محذور فذهبت خفية. قال: وهل تعرف سبب مجيئها إلى باريز؟ قال: نعم، وهو سبب سفرنا الآن إلى لندرة. قال: وما ذاك؟ قال: ستعلمه، والآن فقم بنا إلى أتوس وقل لخادمك بازين أن يتبعنا فقد يكون لنا به حاجة. فدعا أراميس بخادمه وأمره بأن يلاقيه عند أتوس، ثم لبس عباءته وتقلد سيفه وغداراته الثلاث وخرج. فلما صارا في السكة قال لدارتانيان: هل ذكرت هذه الامرأة لأحد؟ قال: لا، والله لم تسمع بذكرها غير أذني ولم يجر اسمها على لساني قط. قال: نعم ما فعلت. ثم دخلا على أتوس فوجداه جالسا وفي يده جواز السفر وهو يقلبه في كفه حائرا ، فقال لدارتانيان: لقد حرت في هذه الرقعة ولم أدر لها معنى، فأخذها دارتانيان وقرأ:
أيها الصديق أتوس. قد رأيت أن أراعي صحتك بأن أسمح لك بالاستقالة خمسة عشر يوما تذهب فيها إلى مياه فورج أو غيرها من المياه النافعة. والسلام عليك.
من صديقك
دي تريفيل
ثم قال: معناها أن تتبعني إلى حيث أذهب. قال: إلى مياه فورج؟ قال: نعم، وإلى غيرها في خدمة الملكة. وفيما هو يتكلم دخل بورتوس وهو يقول: لم أسمع قط من يوم دخلت في جملة الحراس أنه تعطى رخصة لأحد من غير أن يطلبها. فقال له دارتانيان: ولكن لا ينبغي أن تعجب إذا طلبها له أصحابه. قال: إني أرى في ذلك سرا. قال: نعم، وهو أن تذهب إلى لندره. قال: وما معنى ذلك؟ قال: إنه سر لا يد لي في إفشائه، فاتبعوني يحببكم الله. فقالوا: ومن أين لنا المال ونحن صفر من الدراهم؟ قال: ذلك علي، ثم طرح الصرة بين أيديهم وقال: نقتسمها، فهي تكفينا لأنا لا نصل كلنا إلى لندرة على ما أظن. قالوا: ولم ذلك؟ قال: قد يمكن أن يتخلف بعضنا في الطريق. قالوا: تلك إذن غزوة؟ قال: نعم، غزوة شديدة الخطر ولا تؤاخذوني إذا كتمتكم أسبابها إلى أجل مسمى. قالوا: رضينا، وتلك عاداتنا في بيع أرواحنا، فقالوا: أسرعوا يا قوم، فالزمان قصير. فنادى الأربعة غلمانهم وقالوا لهم: أسرجوا الخيول وانتظرونا على باب دي تريفيل. فمضى الغلمان فيما أمروا به، وأقام الموالي يتشاورون كيف يذهبون، فقال بعضهم: ننصرف تباعا. وقال بعضهم: يذهب كل منا في طريق ونتخازم في كاله، فقال دارتانيان: أخطأتم يا قوم، فإن بعثتنا في كتاب نوصله إلى لندرة ولا نقدر أن نجعل له نسخا أربعا لأنه مختوم بختم خاص لا وصول لنا إليه، ولكننا نذهب معا. قالوا: صدقت، وسنعتاض عن مياه فورج بمياه المانش ولا نقر بوجهتنا، ولو ذهبت دون ذلك أرواحنا، ونسلح الأتباع ونتسلح فنكون سرية من ثمانية فرسان. قال: أحسنتم، فاقتسموا المال. فاقتسموا ما في الصرة وأخذوا يتجهزون للرحيل .
الفصل السابع عشر
الرحيل
وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل سار الحرسيون الأربعة بغلمانهم قاصدين كاله. حتى كانت الساعة الثامنة من النهار فوصلوا إلى شانتينلي، فنزلوا للغداء في فندق فيها وجلسوا على مائدة هناك عليها رجل من النبلاء، فآكلوه وتعرفوا به وشرب نخبهم (على صحتهم)، ثم قاموا للانصراف، فتعرض لهم الرجل وعرض على بورتوس أن يشرب معه على صحة الكردينال بزعمه أن لا حاكم سواه، فامتنع بورتوس عن ذلك وألح عليه الرجل، فقال له بورتوس: إنك سكران فلا لوم عليك ولا حرج. فأحفظه ذلك وسل سيفه وطلب بورتوس للبراز، فقال له أصحابه الثلاثة: اقتله واتبعنا على جناح السرعة، ثم ركبوا خيولهم وخلفوا بورتوس يجاول خصمه وخادمه إلى جانبه. وفيما هم يسيرون وقد بلغوا مكانا ضيقا التقوا بجماعة مقبلين عليهم، فزاحموهم في الطريق، فأحفظ ذلك أراميس وتعرض لأحدهم فرموه بالرصاص فأصابوا كتفه وخادمه، وجد دارتانيان ورفيقاه في المسير دفعا للعوائق، فتحامل الجريحان وتبعاهم يماشيانهم حتى بلغوا مكانا يدعى كرافكور، فقال أراميس إنه لم يعد يقدر على التحامل وقد عزم على اللبث في القرية، فتركوه مع خادمه بازين وساروا حتى انتهوا إلى أميان عند منتصف الليل، فنزلوا في فندق هناك وطلبوا من صاحبه مكانا للمبيت فزعم أنه ليس عنده إلا غرفتان في آخر الفندق، فأبوا عليه ذلك وناموا في عرصة الفندق، وتركوا كريمود خادم أتوس يحرس الخيل. فلما كان الصباح قام الخادم إلى الخيل ليسرجها ونبه خادم الإسطبل ليساعده في العمل، فقام إليه وضربه بعصا فشق رأسه، وسمع أتوس ودارتانيان صياحه فأقبلا عليه فوجداه مطروحا مشجوج الرأس، ثم نظرا إلى الخيل فإذا بأحدها قد جرحه البيطار في عملية جراحية دعي لها لحصان آخر فظنه ذلك الحصان، فذهب بلانشت خادم دارتانيان يسأل عن حصان يشتريه بدل الحصان الذي جرح، ودخل أتوس ليدفع لصاحب الفندق أجرة المبيت فأعطاه دينارا، فأخذه وأرقصه على ظفره، ثم تعلق بأتوس وقال: لقد وجب عليك الحد لأنك مزيف للعملة، ثم صاح بالشرطة فدخل أربعة منهم وقبضوا عليه وهو يحاول الخلاص ويصيح بدارتانيان أن اركب وخادمك الحصانين الباقيين وأسرعا ما أمكن، ثم أطلق أتوس رصاصتين ونظر بلانشت وقال لسيده: أرى رجلين يسقطان. فقال: بارك الله في أتوس فسيتبعنا عن قريب، فهيا بنا على عجل. وسارا ينهبان الطريق سحابة يومهما حتى صارا على مقربة من كاله، فوقف حصان دارتانيان وجعل الدم يسيل من منخريه وعينيه، وعجز حصان بلانشت عن المسير لشدة التعب، فتركاهما وسارا ماشيين. وفيما هما يسيران أشار بلانشت لدارتانيان إلى رجل من النبلاء يمشي أمامهما ووراءه خادمه، فتبعاه حتى بلغ شاطئ البحر وأقبل على ملاح قد نشر شراع فلكه، فطلب منه أن يأخذه إلى إنكلترا فأجابه أن قد ورد إليهم أمر من الكردينال أن لا يقبلوا أحدا إلا بإذن منه، فقال: إن الإذن معي، فأين أجد والي المدينة؟ قال: هو في بيته في ظاهر البلد. وأشار له بيده إلى المكان، فعاد الرجل قاصدا بيت الحاكم وتبعه دارتانيان وقد سمع ما دار بينه وبين الملاح حتى دخل في غابة في الطريق، فداناه دارتانيان وقال: أرى أنك مستعجل. قال: لا عجلة إن شاء الله. قال: إن لم تكن عجلا فأنا ملتمس منك أمرا لأني مستعجل. قال: وما ذاك؟ قال: أن تدعني أتقدمك في السفر. قال: ذلك لا يكون أبدا، فقد قطعت مسافة طويلة في وقت قصير لأصل إلى لندرة غدا عند الظهر. قال: وأنا قطعت مسافة أطول في وقت أقصر لأصل إلى لندرة قبل الظهر. قال: لا تؤخرني بالله، فإن بعثتي من الملك. قال: وأنا بعثتي من نفسي. قال: والآن فماذا تريد؟ قال: أن تعطيني الإذن الذي تحمله. قال: أظنك تطلب البراز، فانزل، فقال دارتانيان لخادمه: أنت للخادم وأنا للمولى، ثم سل سيفه وتكافحا، فرمى بلانشت خصمه وبرك على صدره، وصاح بدارتانيان: قد فرغت من خصمي فأنجز أمر خصمك. فهجم دارتانيان على خصمه فضربه بسيفه فرماه إلى الأرض جريحا، ثم دنا منه ليأخذ الورقة من جيبه فضربه الجريح بالسيف فأصابه كتفه وجرحه جرحا خفيفا. فأعاد دارتانيان عليه حتى غاب عن رشده ، وأخذ الورقة منه وإذا بها باسم الكونت دي ويرد.
ثم عمد إلى الخادم فسد فمه بمنديل وربطه إلى جذع شجرة بإسعاف خادمه بلانشت، فقال له خادمه: أرى أنك جريح يا مولاي. قال: لا بأس، فالجرح خفيف لا خوف منه، فعلينا بالأهم، ثم سارا حتى بلغا منزل الوالي، فاستأذن عليه دارتانيان منتحلا اسم الكونت دي ويرد، فأذن له ودخل، فقال له الوالي: أمعك أمر من الكردينال؟ قال: نعم، وهو هذا. فأخذ الوالي وتصفحه ثم قال: يظهر لي أنه شديد الوصاة بك. قال: نعم، فأنا من أتباعه الأمناء. قال: أرى أن الكردينال يريد أن يمنع رجلا من الذهاب إلى لندرة حتى أصدر أمره هذا. قال: نعم، يريد أن يمنع فتى من النبلاء يدعى دارتانيان، وقد خرج من باريز بأصحاب له ثلاثة قاصدا لندرة. قال: هل تعرفه؟ قال: نعم. قال: فصف لي هيئته. فأخذ دارتانيان يصف له صفات الكونت دي ويرد حتى أتمها، ثم قال: إن معه خادما. ثم وصف له خادمه، فقال الوالي: سنرى في شأننا معه إذا انتهى إلينا، وأنا ألتمس منك إذا عدت إلى الكردينال أن تشهد بي خيرا لديه. قال: نعم. فوقع الوالي على الإذن وودعه دارتانيان وخرج مسرعا بخادمه حتى بلغ المينا، فنزل في فلك سار به إلى إنكلترا، وكان جرحه خفيفا جدا فضمده ونام، فلما أصبح إذا هو على شاطئ إنكلترا، فنزل إلى البر وسار إلى لندرة، وجعل يسأل عن اللورد دوق دي بيكنهام فأرشد إلى قصره، فسأل عنه فقال له خادمه - ويدعى باتريك - إنه ذهب مع الملك إلى الصيد في مكان لا يبعد كثيرا عن لندرة. قال: فهيا بنا إليه، وقل له إن رجلا يريد أن يراه في الحال. قال: وكيف يعرفك؟ قال: تقول له هو الرجل الذي كاد يبارزك قبالة اللوفر في باريز، وتلك علامة لا تخفى عليه. فسار الخادم مسرعا ودارتانيان معه حتى بلغا مكان الصيد، وتخلف دارتانيان وسار الخادم إلى اللورد فوصف له الفتى فعرفه، وثنى عنان فرسه وأقبل يخب حتى وصل إلى دارتانيان فعرفه، وترجل عن فرسه وقال: عسى الملكة في خير؟ قال: نعم، ولكن أظن أنها في خطر، فخذ هذه الرسالة تعلم. فأخذ اللورد الرسالة فإذا بها مثقوبة، فسأله عن الثقب فحكى له قصة اللورد دي وير وكيف أنه ضربه بالسيف فأصاب كتفه وثقب الرسالة، ففضها اللورد وقرأها والعرق يسيل من جبينه، ثم التفت إلى خادمه وقال له: اذهب إلى الملك وقل له إن أمرا خطيرا يمنعني عن إتمام الصيد، ثم وخز جواده وسار ودارتانيان إلى لندرة.
الفصل الثامن عشر
الكونتس دي ونتر
ودخل اللورد بيكنهام إلى لندرة يشق جماهير الناس بجواده لا يلوي على أحد حتى انتهى إلى قصره، فترجل ودخل في القصر وتبعه دارتانيان في عدة غرف حتى بلغ حجرته، فدهش دارتانيان من حسن فرشها وجودة إتقانها، فأخذه بيكنهام إلى باب صغير في جدارها ففتحه بمفتاح من الذهب معلق بسلسلة ذهبية في عنقه، وقال له: ادخل وانظر وعساك تخبر من أحب بما ترى. فدخل دارتانيان معه فرأى غرفة يغشى الذهب جدرانها ويكسو أرضها الدمقس الفاخر وفي صدرها شبيه الهيكل قائمة عليه صورة حنة دوتريش ملكة فرنسا تحيطه الشموع والمصابيح والزهور، والصورة في غاية الإتقان حتى دهش دارتانيان لها وكاد يحسبها شخص الملكة، وعلى الهيكل العلبة التي فيها العقد. فأخذها اللورد وأخرج منها العقد وجعل يقبل فصوصه واحدا بعد واحد وهو يقول: لله در أيوب حيث قال: الرب أعطى والرب أخذ. إلا أنه لم يأت على آخرها حتى أجفل وصفق صفقة الأواه، فقال له دارتانيان: ما بالك يا مولاي؟ قال: إن العقد ناقص منه فصان، فلا يوجد إلا عشرة، وما أظن ذلك إلا إحدى حظيات الكردينال، فانظر إلى السلك فإني أراه مقطوعا بمقص. قال: ألا تعرف السارق يا مولاي؟ قال: نعم عرفته، فما هو إلا الكونتس دي ونتر، فإنها دنت مني في رقص أقامه الملك ثم لم أرها بعد ذلك ولم أفطن للعقد لو لم أنظره الآن، وهي لا شك رسول الكردينال، ولكن متى تكون ليلة الرقص في باريز؟ قال : يوم الاثنين القادم، أي بعد خمسة أيام. قال: تكفي، ثم دعا بخادمه فقال له: علي بصائغي وكاتم سري في الحال. فخرج الغلام ولم يغب حتى دخل كاتم السر فوجد بيكنهام جالسا يكتب، فقال له اللورد: تأخذ هذه الورقة إلى وزير المملكة ويجري بموجبها في الحال. فأخذ الرجل الورقة ونظر فيها وقال: إذا سألني الوزير عن أسباب ذلك وهو من خوارق العادة، فبم أجيبه؟ قال: قل له هكذا أريد. قال: قد يمكن أن يبلغ الأمر للملك يا مولاي ولا بد من أن يعرف سبب منع الفلك عن السفر من إنكلترا. قال: إذن فقل له إني عزمت على إشهار الحرب على فرنسا وإن ذلك أول علاماتها. فسلم الرجل وخرج. فالتفت اللورد إلى دارتانيان وقال: قد خلا لنا الجو، فلا يصل الفصان المسروقان إلا بعد وصولك إذا لم يكن سارقهما قد ذهب بهما. قال: وكيف ذلك؟ قال: قد أمرت بمنع كل فلك عن المسير إلى فرنسا. فانذهل دارتانيان من ذلك وأخذ يعجب كيف أن رجلا يثير الحرب في سبيل غرامه، فقال له اللورد: لا تعجب، فما لي آمر إلا حنة دوتريش، فإني صائر إلى طاعتها ومجتهد في رضاها ولو نقمت علي ملوك الأرض وقبائلها، فقد قالت لي أن لا أرسل مددا إلى البروتستان في روشل فعدت عن قولي وأطعتها وعدلت عن إرسال المدد ... وما أتم كلامه حتى دخل الصائغ، فأخذه اللورد إلى غرفته وأراه الفصوص وقال له: كم يسوى الفص من مثل هذه؟ قال: ألفا وخمسمائة دينار. قال: وكم تستغرق في عمل اثنين منها؟ قال: ثمانية أيام. قال: أعطيك على كل فص ثلاثة ألف دينار بشرط أن تأتيني بهما بعد غد. قال: سأجهد نفسي في ذلك. قال: أحسنت، ولكن ألا تعلم أنك لا تخرج من هنا حتى تتم العمل وأنا أحضر لك كل ما يلزمك من أدوات وصناع. فرضي الرجل وأحضر ما احتاج إليه وأقام في غرفة في القصر يشتغل في العقد، والتفت اللورد إلى دارتانيان وقال: لقد أصبحت إنكلترا الآن لي ولك ، فاطلب ما تشاء. قال: أريد مكانا أنام فيه، فإني تعب من السفر، فأخذه اللورد إلى غرفة بجانب غرفته فنام.
ولم يمض على أمر بيكنهام ساعة حتى أقفلت المواني ومنعت السفن من الذهاب إلى فرنسا، وشاع في المدينة قرب نشوب الحرب بين الدولتين. وفي اليوم الثاني دعا اللورد بدارتانيان وقال له: قد انتهى العقد بحيث لا يميز جديده من قديمه، فاشهد لي عند الملكة بأني لم أدع شيئا تصل إليه قدرة الإنسان ولم آته في سبيل خدمتها، ولكن لا تأخذ العلبة فإنها أثر منها، ثم ألا أهبك شيئا؟ قال: إني لم أصنع ما يوجب الهبة، وليس عملي هذا إلا خدمة للملكة ولحبيبة لي أحبها وأظنك تعرفها، وهي التي كانت معك يوم قابلتك أول مرة. قال: عافاك الله، والآن تذهب بهذه الورقة إلى المينا وتسأل عن سفينة لي فيه، فتعطيها لربانها فيأخذك إلا ميناء لا يأوي إليه إلا الصيادون ويدعى سان فري، فتنزل فيها وتذهب إلى رجل هناك فتقول له: «فور وارد»، فيعطيك حصانا مسرجا فتركبه وتسير مسرعا حتى تصل إلى رجل آخر في يده لجام جواد آخر، فتنزل عن جوادك وتركبه وهلم جرا إلى الأربعة، حتى تصل إلى باريز في قليل من الزمن، وهي أفراس من جياد الخيل تأخذها أنت وأصحابك الثلاثة، وأنا أستودعك الله، فاذهب والله يكلأك ويرعاك. فودعه دارتانيان وسار على ما رسم له حتى انتهى إلى باريز ودخل إلى منزل دي تريفيل عند الساعة التاسعة من النهار، فقابله بالترحاب وهنأه بالسلامة وقال له: إن فرقتك الحراس في اللوفر، فاذهب إليهم. فذهب.
الفصل التاسع عشر
ليلة الرقص
وفي اليوم الثاني شاع في المدينة خبر الليلة التي عزم الملك على إحيائها للرقص، وما صارت الساعة السادسة حتى توافد المدعوون إلى قاعة الرقص أفواجا يخطرون في مطارف السندس والديباج والنساء يمسن بالحلي والحلل كأغصان بان على كثبان.
من كل باهرة الجمال كدمية
من لؤلؤ قد صورت في عاج
تمشي وترفل في الثياب كأنها
غصن ترنح في نقا رجراج
فلما كان نصف الليل علا الضجيج والتهليل لقدوم الملك، ثم دخل الملك إلى القاعة تحفه السراة والأشراف وهو عابس الوجه مقطب الحاجبين، ولم يدر أحد لذلك سببا. وبعد دخول الملك بقليل عادت أصوات التهليل ترتفع، ثم دخلت الملكة إلى القاعة وعلى وجهها سمات الكدر والتعب، وكان الكردينال ينظر إليها نظرة الأسد إلى فريسته إذ لم ير عليها العقد، فأقامت الملكة برهة تسلم على الحضور، ثم دخل الملك من أحد أبواب القاعة وإلى جنبه الكردينال يكلمه سرا وهو يتلون، وأقبل حتى انتهى إلى الملكة، فقال لها: أين العقد يا حنة؟ ولماذا لا أراه عليك؟ فنظرت الملكة حولها فرأت الكردينال واقفا وراءها وهو يتبسم تبسم الأبالسة، فقالت خشيت يا مولاي أن يسقط مني فيضيع بين هذه الجموع. قال: لقد أخطأ زعمك، فما أهديتك إلا لتلبسيه. وكان الملك يتكلم وصوته يرجف من الغضب، وكثر تحدث الناس بما يكون، فقالت الملكة: إذا شاء مولاي فإني أحضره من اللوفر في الحال. قال: نعم، وأسرعي، فإن ابتداء الرقص قد قرب. ثم تركها وانحاز إلى الرجال وانحازت هي إلى النساء، وكان الناس منتشرين في تلك القاعة مثنى وثلاث ورباع يتحدثون بما كان وما سيكون وكلهم في ريب مما جرى. فدنا الكردينال من الملك وأعطاه علبة ففتحها وإذا فيها فصان من الماس، فقال الملك: ما هذا؟ قال: إن عقد الملكة فيه اثنا عشر فصا وهذان منها، فإذا لبسته الملكة فعد فصوصه. وفيما الملك يفكر في الأمر ولا يهتدي برزت الملكة بثياب الرقص تشرق كالشمس بهجة وجمالا بما عليها من اللباس والجواهر وعليها العقد يلمع كنجوم الثريا. فسر الملك لمرآه سرورا شديدا وعلا الاصفرار وجه الكردينال، ثم بدأ الرقص ومالت القدود ميل الأغصان، فكان الملك كلما دنا من الملكة ينظر إلى العقد فلا يتمكن من عد فصوصه، وبعد ساعة من الرقص تقدم الملك إليها وقال لها: لقد وجب لك علينا الشكر في امتثال أمرنا في العقد، ولكن ساءنا أنه ناقص فصين وها هما: فقالت الملكة: إذن يكون لنا أربعة عشر فصا، فإن العقد كامل يا مولاي. فنظر الملك إليه وعده فوجده تاما، فدعا بالكردينال وقال له: ما معنى ما قلت؟ قال: أحببت أن أهدي الملكة هذين الفصين فلم أر لذلك سبيلا غير هذا. فشكرته الملكة على ذلك وفي قلبها منه حزازات، وقالت: أراهما قد كلفاك أكثر من كل العقد يا سيدي الكردينال. وهي بين ذلك تتبسم تبسم العارف بالأمر، حتى كاد الكردينال يموت حياء منها، ثم سلمت وخرجت تريد القصر، وكان الرقص قد انتهى وهم دارتانيان بالخروج، وإذا بيد لمست كتفه، فالتفت فرأى امرأة مقنعة، فعرف من عينيها أنها حبيبته، فتبعها وسارت أمامه حتى بلغت القصر ودخلت؛ فدخل وراءها حتى انتهت به إلى غرفة مظلمة، فأودعته فيها وخرجت من باب آخر في جدارها. فأقام دارتانيان في تلك الغرفة برهة، ثم سمع صوتا يدنو منه ورأى يدا قد مدت من فرجة الباب، فعرف أنها يد الملكة، فركع وقبله، فتركت في يده خاتما وارتفعت، ثم أقفل الباب فأظلمت الغرفة ظلاما شديدا، فوضع دارتانيان الخاتم في إصبعه وأقام ينتظر حتى فتح الباب ودخلت عليه بوناسيه، فصاح لرؤيتها من الفرح، فأسكتته وقالت: اخرج من حيث دخلت. قال: ومتى أراك؟ قالت: تعرف ذلك من رقعة تجدها في منزلك، فاذهب الآن. فخرج.
الفصل العشرون
الموعد
وسار دارتانيان مسرعا حتى بلغ بيته، ففتح له الخادم، فقال له: هل من رسالة لي هنا؟ قال: نعم يا مولاي، فإني دخلت إلى البيت وأنا واثق من إقفاله فوجدت رسالة على فراشك ولا أدري من أين جاءت، ولا أشك في أن أحدا يدخل عليك وأنت لا تدري. فأسرع دارتانيان إلى فراشه وإذا برسالة ففضها وقرأ:
إن لك علي حقا من الشكر يجب وفاؤه، فكن في الساعة العاشرة من هذه الليلة تجاه الشرفة القائمة على زاوية بيت أستري في سان كلو. والسلام عليك من ك. ب.
وكان دارتانيان يقرأها وقلبه يخفق ووجهه يتلون، ورآه بلانشت فقال: قاتل الله هذا الكتاب، فقد أثر فيك يا مولاي. قال: لا والله فما هو إلا بشرى تستحق عليها الإنعام، فخذ هذه القطعة واشرب بها. فشكره الغلام وقال: ولكن كيف دخل هذا الكتاب والأبواب والنوافذ مقفلة. قال: لقد سقط علي من السماء، فاذهب ونم. فذهب الغلام وأقام دارتانيان يعيد قراءة الكتاب.
ويلثمه حتى أصار مداده
محاجر عينيه وأنيابه سحما
ولم يزل كذلك حتى نام. ولما أفاق في الصباح دعا بخادمه فقال له: أنت مطلق كل النهار، فإني لا أرجع إلا عند الساعة السابعة من المساء فكن في انتظاري على الباب بجوادين. قال: أظن ذلك لبراز، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وقاتل الله هذا الكتاب. قال: صه، وكن على ما قلت لك. وخرج، وإذا بصاحب الفندق على الباب، فحياه وأخذ يقص عليه ما صادفه في السجن من العذاب والاستنطاق إلى غير ذلك، فقال له دارتانيان: هل عرفت خاطف امرأتك؟ قال: لا، ولكن أين كنت؟ فلي أيام لم أرك. قال: كنت في رحلة قريبة مع أصحابي الثلاثة على ماء ذهب إليه أتوس. قال: وإني أراك الآن ذاهبا، فمتى ترجع؟ قال: ولم سؤالك ذلك؟ هل لك في حاجة؟ قال: لا، ولكني بعد إذ خطفت امرأتي وسرق مالي صرت أخشى من قلقلة المفتاح في القفل؛ ولذلك فأنا أريد أن أعرف متى ترجع لأكون في مأمن. قال: لا تخش بأسا، فقد أرجع بعد منتصف الليل بساعتين أو ثلاث أو في الصباح. قال: مصحوبا بالسلامة يا مولاي. فحياه دارتانيان ومضى إلى دي تريفيل، فوجده مسرورا من سرور الملك والملكة منه في ليلة الرقص، فجلس إليه وقال له بعد أن نظر حوله ليرى إذا كان في مأمن من أذن تسمعه: ألا تخبرني أيها الصديق بشيء عن سفرتك التي سر لها الملك والملكة واستاء الكردينال حتى صرت أحذرك منه؟ قال: وما علي إذا كان الملك والملكة راضيين عني؟ قال: ألا تعلم أن الكردينال أحقد من بعير، فهو لا ينسى الإساءة؟ قال: وهل يعرف أني أنا الذاهب إلى لندرة؟ قال: نعم، وإلا فأنى لك هذه الجوهرة في إصبعك؟ قال: إنها ليست من لندرة ولكنها من الملكة. قال : لله درك، فكيف ذلك؟ قال: ذهبت إلى الملكة فقبلت يدها وأعطتني هذا الخاتم. قال: لله من النساء، ما أشد كيدهن، ولكن ألا أنصحك؟ قال: بلى. قال: امض إلى أي جوهري تلقاه فبعه الخاتم، فإن الدراهم آمن من الجواهر، وإن عز عليك بيعه فأدر فصه إلى باطن كفك، فإني أخشى عليك من الكردينال أن يصل إليك بمكروه، وهو قادر على ذلك، ولو كنت بين جلد الملك ولحمه، وقد ذقت ذلك بنفسي فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل، فإن لي ثلاثين سنة في بلاط الملك، فلا يغرنك شيء، وبالغ في الحرص على نفسك حتى لو مررت على بيت يبنى تجنبه لا يسقط منه حجر على رأسك بأمر الكردينال، وإذا دخلت في الليل فلا تدخل إلا وخادمك وراءك، وإياك والاسترسال إلى أحد حتى العشيقة إذا كان لك عشيقة فإن النساء كيدهن عظيم، وأنت تعلم حكاية شمشون ودليلة، ثم أخبرني ماذا جرى لأصحابك؟ قال: أتيت أستخبرك عنهم. قال: لم يصلني عنهم خبر، فأعلمني بما جرى. قال: تركت بورتوس في شانتينلي يبارز رجلا وأراميس في كرافكور مجروحا في كتفه وأتوس في أميان متهما بتزييف النقود. قال: وكيف خلصت أنت إلى لندرة؟ قال: بأعجوبة من الله إذ قتلت الكونت دي ويرد. قال: قاتلك الله، كيف قتلته وهو أمس الناس بالكردينال وأكثرهم تزلفا منه؟ ولكن أرى لك أمرا لو كنت مكانك ما قعدت عنه. قال: وما ذاك؟ قال: تذهب إلى بيكارديا فتبحث عن أصحابك؛ وبذلك تتنكب شر الكردينال ويكون لك عون من أصحابك. قال: أصبت، وسأذهب غدا. قال: ولماذا لا تذهب الليلة؟ قال: لأن علي عملا خطيرا لا بد من قضائه. قال: هو موعد عشق فيما أظن، فإياك والنساء يا بني، فهن أصل الشر ومنبع الفساد، فانتصح لي وسافر في هذا المساء. قال: ذلك لا يكون يا مولاي، فقد رهنت لساني. قال: إذا كان ذلك فعدني أنك إذا سلمت الليلة تذهب غدا. قال: أنا أعدك. قال: أمحتاج أنت إلى مال؟ قال: إن معي خمسين دينارا وأظنها تكفي، وقد تركت أصحابي ومع كل منهم خمسة وسبعون دينارا، وفي ذلك غناء لهم. فأستودعك الله من الآن فإني لا أقدر أن أراك غدا. قال: على الطائر الميمون وبصحبة الله. وخرج فمر على منازل أصحابه فلم يجد منهم أحدا ولا وقف لهم على خبر، فسار إلى الإصطبل فوجد بلانشت يسرج الخيل، فقال له بلانشت: هل أنت واثق من صاحب الفندق يا مولاي؟ قال: لا، فما ذاك؟ قال: رأيته وهو يكلمك ولونه يتقلب كالحرباء؛ فتبينت في وجهه الغدر، ولم تفطن أنت لذلك لسرورك بالكتاب، ثم لما ذهبت أخذ ينظر إليك بعين ملؤها الغدر والحقد وانثنى يركض في الشارع المخالف لطريقك، فهل لك في أن تتحاماه؟ قال: ذلك لا بد منه، وسآتيك عند الساعة التاسعة فكن مستعدا، ثم ذهب.
الفصل الحادي والعشرون
الشرفة
ولما كانت الساعة التاسعة قدم دارتانيان إلى الإصطبل فوجد بلانشت قائما في انتظاره وفي يده زماما فرسين، فركبا وسارا تحت الليل حتى أبعدا عن باريز ودخلا في غابة بولونيا، وحثا جواديهما حتى قربا من سان كلو، فقال دارتانيان لخادمه: أنظرني هنا حتى أرجع إليك. قال: يا مولاي، أجد الليلة باردة وأخشى أن يصيبني منها بعض أذى يقعد بي عن خدمتك، فلو أذنت لي بالمبيت في أحد هذه الأكواخ؟ قال: أنت وذاك. وسار بجواده ينهب الطريق ويتنكب الواسعة منها حتى انتهى إلى الشرفة، فوقف تجاهها وأقام ينتظر ساعة وهو لا يسمع حسا ولا يرى إلا قفارا يجللها ضباب كثيف تلمع من خلاله بعض الكواكب، حتى قرعت الساعة العاشرة ولم ير شيئا ولم يسمع ركزا، وبصره موجه إلى نوافذ البيت القائمة الشرفة على زاويته، وهي كلها مقفلة ليس فيها إلا واحدة مفتوحة في آخرها يلوح من خلالها نور ضعيف ولا حركة فيها. فأقام ينظر إليها حتى الساعة العاشرة والنصف، فجالت وساوسه وجعل يقوم ويقعد، ثم توهم أنه مخطئ في قراءة الرسالة، فدنا من النافذة وقرأها فإذا هو مصيب غير مخطئ، ثم كانت الساعة الحادية عشرة فضاق صدره وأوجس في نفسه خوفا من شيء يصيب حبيبته، فجعل يروح تلقاء النوافذ ويجيء، ثم حاول الصعود على الحائط فلم يقدر، وخطر له فصعد إلى شجرة تقابل النافذة ونظر فرأى نورا ضعيفا يضيء من خلال نافذة مكسورة الزجاج، وتظهر به الغرفة مصروعة الباب مقلوبة المتاع والأثاث، وعليها بعض قطرات دم، فنزل من الشجرة وقلبه خافق وفكره مضطرب، ونظر إلى الأرض فرأى فيها آثار أقدام وحوافر وعجلات مركبة تمتد إلى طريق باريز، ووجد على قارعة الطريق قفاز امرأة لم يكد الوحل يعلق به لنعومته ولينه، فضاقت عليه الدنيا وانقبض صدره وعدل إلى الشارع، فسأل بعض المارة فقال له إنه رأى امرأة تقطع النهر متشحة ببرنسها، فظن دارتانيان أنها هي، فعاد إلى النافذة ليتحقق قراءة الرسالة لعله ضل عن المكان، فوجد نفسه مصيبا وأن قد حال دون لقاء حبيبته حائل، فمال إلى بيت قريب وقرع باب ففتح له رجل شيخ، فسأله عما حدث؟ فقال: هو أمر إذا أخبرتك به ساءت مغبته علي. قال: لا بأس عليك، فقل. ثم رشاه بشيء من المال فقال له بصوت منخفض: إنه عند الساعة التاسعة بينما أنا في بيتي هذا سمعت خفق نعال وقعقعة لجم، ففتحت الباب لأرى، وإذا أنا بثلاثة رجال بلباس الخيالة، وعلى مقربة منهم عربة تقودها الخيل، فاستخبرتهم الخبر فقالوا: هل عندك سلم؟ قلت: نعم. قالوا: علينا بها وخذ هذه القطعة على أن تكتم ما رأيت. فأخذت القطعة وأعطيتهم السلم ثم تظاهرت أني داخل في الباب وتواريت وراء شجرة فإذا بهم نصبوا السلم وصعدوا إلى الغرفة ثم سمعت صوتا يقول: هي هذه. ورأيت الامرأة قد دنت من النافذة فصدها الرجلان الصاعدان على السلم فأخذت تصيح وتستغيث حتى خفي صوتها ونزلوا بها إلى العربة، فسارت بهم ولم أدر ماذا جرى بعد ذلك. قال: ألا تصف لي زعيمهم؟ قال: بلى. ثم أخذ يصف له الرجل، فقال: قاتله الله، لم يزل يتبعني، هو خصمي، والله لأذيقنه الموت ألوانا. ثم قال الرجل: فاكتم يا مولاي ما سمعت مني تحفظ حياتي. قال: لا عليك . ثم سار فوجد خادمه في أحد الأكواخ، فركب وإياه وسارا إلى البيت.
الفصل الثاني والعشرون
بورتوس
ولما بلغا المنزل نزل خادمه فيه وسار هو توا إلى دي تريفيل، وقد صمم على أن لا يكتمه شيئا عسى أن يكون له بعض المساعدة، فلما قابله قص عليه القصة فقال له: إن ذلك بلا شك بأمر الكردينال. قال: وكيف العمل؟ قال: أن تفارق باريز الساعة كما قلت لك أمس، وأنا هنا أنظر الملكة وأقص عليها خبر الامرأة، وعسى أن يكون لك في ذلك بعض الخير. فودعه دارتانيان وانصرف إلى منزله، فوجد بوناسيه رجل الامرأة واقفا على الباب، فتأمله ليعرف صدق كلام خادمه فرآه قد تغير لونه عند مرآه، فمر به الفتى ولم يكلمه، فقال له الرجل: رويدك يا مولاي، فقد أطلت الغياب أمس فلم ترجع إلا عند هبوب الناس من رقادهم. قال: إنك ترى ذلك فتلوم غيرك لأنك ذو امرأة جميلة تغنيك عن السعي وراء غيرها. قال: نعم، ولكني أرى نعليك يعلوهما الوحل كثيرا حتى كأنك سلكت أرضا موحلة. فنظر دارتانيان إلى نعليه، ثم نظر إلى نعلي صاحبه فرأى لون الوحل واحدا على النعلين؛ ففطن للأمر، وعلم أن الرجل كان من جملة الذين خطفوا امرأته، فخطر له أن يثب عليه فيقتله لولا أن خاف من سوء العاقبة، فقال: عير بجير بجره نسي بجير خبره، أراك تعيرني بالوحل على نعلي، وعلى نعليك أكثر منه، في حين أنت غني عن دلج الليل ومكابدة السرى. فتلجلج لسان الرجل وصمت. فتركه وصعد إلى منزله بعد أن تحقق لديه أن صاحب الفندق كان غائبا عن بيته في تلك الليلة، فقابله الخادم وقال له: لو تعرف يا مولاي من زارك اليوم من مدة ربع ساعة وأنت عند جارك؟ قال: من عساه يكون؟ قال: دي كافوا قائد حرس الكردينال. قال: وما شأنه؟ قال: لا أدري سوى أنه قال لي أن أبلغك من قبل الكردينال أن تذهب إلى البلاط الملوكي في هذا اليوم، فأجبته أنك غائب، فهمس في أذني أن قل لسيدك من قبلي أن الكردينال متغير عليه وأن حياته تتوقف على ذهابه إليه، ثم ذهب. قال: فاستعد الآن للسفر لنرى ما حل بأصحابنا الذين خلفناهم في الطريق، وأسرج لهم خيلا نأخذها معنا. فلبى وفعل، ثم سارا حتى بلغ شانتينلي وانتهيا إلى الفندق الذي نزلوا به جميعا في ذهابهم، فقال دارتانيان لصاحبه: إن لي صديقا تركته هنا في براز، فأين هو الآن؟ قال: هنا يا مولاي وهو جريح، وقد تجشمنا له نفقات طائلة وكثر تقاضينا له، وهو مملق فتوعدنا بالقتل إذا دخلنا عليه، فإذا دخلت عليه فتكنى قبل أن تدخل لئلا يصيبك بمكروه. قال: وما فعل بفرسه؟ قال: قامر عليه فخسره. قال: لا تخش على مالك، فإن له صديقة شريفة تمده بالمال. قال: أعرفها يا مولاي، وقد كتب لها كتابا وأمرنا بوضعه في البريد فأرسلته مع خادم لي كان ذاهبا إلى باريز لأبقي لنفسي أجرة البريد، فعاد وأخبرني أنها غضبى على صديقها غيرة عليه من أن يكون قد عشق سواها، وهي عجوز تبلغ الخمسين من العمر، وإني لأعجب كيف تغار عليه. قال: ألا تعلم كيف كان القتال بين بورتوس وخصمه؟ قال: لقد تبعتهما فرأيتهما يتجاولان، ثم جرح بورتوس وهم خصمه بقتله وسأله عن اسمه فقال: إنه يدعى بورتوس، فقال: نعفو عنك فلا فائدة لنا بقتلك وما نريد إلا دارتانيان، ثم حمله جريحا إلى الفندق وركب جواده وسار، ولم أقف له على أثر بعد ذلك. قال: وأين بورتوس الآن؟ قال: في الغرفة الموسومة بالعدد الأول. فصعد دارتانيان وطرق الباب ففتح له ودخل، فوجد بورتوس في الفراش، فسلم عليه وقصه القصة، فقال: هجمت على خصمي لأضربه فعثرت بحجر فسقطت، ولولا ذلك ما كنت على ما تراني عليه. فجعل دارتانيان يعرض له بذكر عشيقته، فأجابه بأنه قد طلب منها مالا فلم تجبه، وأنه قد أملق حتى اضطر إلى أن يحاصر في غرفته لكثرة ما عليه من الدين. فأقام دارتانيان عنده برهة ثم ودعه وسار يطلب أراميس بعد؛ إذ ترك لبورتوس الجواد الذي جاءه به من عند بيكنهام.
الفصل الثالث والعشرون
قصة أراميس وامرأة أتوس
فسار دارتانيان إلى كرافكور بدون أن يعلم بورتوس بشيء من أمره، فوصلها وسأل صاحبة الدار عن صاحبه فقالت: هو في الغرفة الخامسة وعنده قسيسان. قال: هل ذلك لخطر؟ قالت: لا. فصعد حتى دخل الغرفة فوجد أراميس جالسا بين اثنين من الحواريين، فسلم عليه وقال: كدت أرجع عن غرفتك يا أراميس. قال: ولم ذلك؟ قال: لأني حسبتها ديرا للرهبان، ومع ذلك فأنا ذاهب عنكم لأني أظنك تعترف لهما. فجعل القسيسان يصوبان نظرها فيه ويصعدانه وقد أحفظهما قوله، فأخذا يجادلانه في الدين ويجادلهما، وطال بهما الحديث من هذا النوع حتى فرغت كنانة الكلام، فقاما وانصرفا، فلما خلا الجو قال دارتانيان: أراك شديد الاستمساك بعرى الدين، وما أعهد ذلك برجال الحرب. قال: هو طريق الأخرى يا بني، فلا ينبغي أن تتنكبها. ودار بينهما الكلام من هذا النحو، فأخذ أراميس يقص عليه قصته، فقال: كنت في صباي أميل إلى الرهبانية حتى دخلت أحد الأديرة فأقمت فيها زمانا، ثم عرض لي يوما أن علقت امرأة فعرض لي رجل آخر من الجند وتهددني بالقتل إذا عدت إليها، فأخذ مني ذلك وكبر علي أمره فتركت الدير وذهبت إلى باريز فتعلمت ضرب السيف حتى حذقته ثم عدت إلى الرجل فبارزته فقتلته، وكنت قد تعرفت بأتوس وبرتوس فسعيا لي في الدخول في حرس الملك، وكان الملك محبا لي لأن أبي قتل في إحدى الحروب تحت إمرته؛ وعلى ذلك فلا يزال في قلبي بعض الأثر للرهبانية. ثم بدأ دارتانيان يقص عليه قصة حبيبته وكيف خطفت، فوعده بالمساعدة. فبات عنده ليلته تلك وقام في الصباح فركب وإياه متحاملا من أثر جرحه وسارا، ولم يبعدا عن القرية حتى اصفر لون أراميس وكاد يسقط عن جواده، فعاد به دارتانيان إلى غرفته وسار بخادمه وهو يفكر في أتوس وفي نفسه منه هاجس؛ لأنه كان شديد الميل إليه لعراقته في النسب ودعة أخلاقه وشدة بأسه وحذقه في ركوب الخيل واستعمال السلاح، فبلغ أميان وسأل صاحب الفندق عن أتوس وما جرى له فقال: أعلمتني الحكومة يا مولاي أنه سيأتيني رجل بلباس الحراس ومعه رفاق له وأنه مزيف للعملة، وقالت لي متى جاءك هذا الرجل أخبرنا، فلما قدمتم لم يعد عندي شك في أنكم بغية الحكومة، فأخبرتها، فبعثت بجنودها فقتل منهم صاحبك جملة، ثم ضايقوه بكثرتهم فوجد وراءه باب بيت الذخيرة فدخله وأقفل عليه الباب ومعه خادمه، ولم يزل إلى الآن فيه يأكل من مئونة الفندق ويشرب من خمره ولا يأذن لأحد بالدخول عليه، وقد صرت لذلك في أشد الضيق لأن مئونة الفندق كلها في ذلك البيت حتى أملقت يا مولاي وتعطل فندقي لعدم وجود الغذاء فيه للمسافرين، وقد جاءنا اليوم رجلان من نبلاء الإنكليز وطلبا مني خمرا فأعلمتهما بالأمر فتوجها إليه ليغتصبا البيت منه، وها هما الآن على الباب يساورانه ليدخلا إليه. فسار دارتانيان فوجدهما يتذمران ويزبدان وهما يريدان أن يكسرا الباب، فأخرج دارتانيان غدارته من حزامه وقال: والله لئن لاح منكما سلاح لأذهبن بنفسيكما. فتقدم أحدهما إلى الباب وركضه برجله، فقال دارتانيان لخادمه: عليك بالرجل الذي أمامك وأنا لهذا. فصاح أتوس من داخل: إني أسمع صوت دارتانيان والله. قال: نعم، هو أنا أيها الصديق. قال: ألا تأذن لي فأقتلهما. فتقدم دارتانيان إلى الرجلين وقال لهم: أغمدا سيفيكما، وأنت يا أتوس فرد غدارتك إلى مكانها، فما من العدل أن نقتلكما ونحن ثلاثة وأنتما اثنان، وأنا أضمن لكما أنكما تشربان، ثم تقدم دارتانيان إلى أتوس ففتح له الباب وعانقه، فرآه يخمع في مشيته فقال: هل أنت جريح؟ قال: لا، ولكني في سكر لا سكر بعده لكثرة ما شربت. فأخذه دارتانيان وصعد به إلى غرفته، ودخل صاحب الفندق وامرأته يتفقدان المئونة، ثم علا صياحهما وصعد الرجل إلى الغرفة فقال له أتوس: هات باطية من النبيذ. قال: وهل أبقيت يا مولاي نبيذا إلا شربته أو باطية إلا كسرتها أو سائلا إلا أرقته؟ فما كان ضرك لو أبقيت على ذلك ووفرت لي أسباب المعيشة؟ فقال له دارتانيان: لا عليك، فقال أتوس: وأين الكيس الذي تركته هنا؟ قال: أخذناه يا مولاي إذ ظننا أنه من النقود المزيفة التي وشي عليك بها، فقال دارتانيان: وأين حصانك يا أتوس؟ قال: في المربط، فقال لصاحب الفندق: خذ الكيس والحصان وحقك قد وصلك، فقال أتوس: وكيف أسمح بفرسي؟ وعلام أذهب؟ قال: قد أتيتك بغيره، فقال أتوس للرجل: إذن فخذ الجواد لنفسك وخذ للرجلين الإنكليزيين ما يشربان، فإن في البيت بواطي بعد. فذهب صاحب الفندق وأخذ دارتانيان يقص على صاحبه كيف وجد بورتوس وأراميس إلى أن قال أتوس: وأنت ماذا جرى لك؟ فقص عليه قصة بوناسيه واختطافها، قال: لقد أخطأت في العشق فأنا لا أحب أبدا. قال: ولم ذلك؟ قال: لأن الحب راحته عناء وأوله سقم وآخره قتل، وأنا أقص عليك الآن قصة جرت لأحد أصحابي لا لي، وهو رجل بارع في الشرف أحب فتاة وهام بها، وهي فقيرة تسكن بيتا حقيرا مع أخ لها حواري، فلما طال عليه الأمر وبرح به الحب خطبها إلى أخيها فتزوجها منه حتى إذا كان يوما يصيد وإياها جفل بها فرسها فوقعت وأغمي عليها، فنزل زوجها وفك أزرارها عن صدرها لتفيق فوجد على كتفها رسم زهرة زنبق كميسم البعير وهي علامة الفجور والخنا، فقاتل الله النساء ما أشد فجور الفاجرات منهن، فأخذها الكونت زوجها وقد بلغ به الغيظ منها مبلغا عظيما وشنقها في شجرة ... وما أتم كلامه هذا حتى اصفر لونه اصفرارا شديدا وأكب على المائدة كالمصعوق وقال: ذلك ما بغض النساء إلي. قال: وما صنع أخوها؟ قال: لم يكن أخاها بل كان عشيقها قاتله الله وإياها، فلما ماتت انصرف هاربا ولم أدر ماذا حل به بعد ذلك. فارتاع دارتانيان لهذه الحادثة وجعل يقلب أفكاره فيها لعلها جرت مع أتوس نفسه وهو لا يهتدي إلى وجهها حتى نام.
الفصل الرابع والعشرون
العودة إلى باريز
فلما أفاق دارتانيان ذهب إلى صديقه أتوس وجعل ينظر إليه نظرة المندهش من حديثه بالأمس، ففطن أتوس لذلك وقال: لقد كنت أمس ثملا جدا ولا أدري بما تفوهت. قال: قصصت علي قصة عجيبة. قال: نعم. وقد صبغ الحياء وجهه وغير الحديث فقال: أتدري ما جرى بالجواد الذي أتيتني به؟ قال: لا. قال: سهدت ليلة أمس فنزلت إلى قاعة الفندق فوجدت صاحبينا الإنكليزيين يتقامران، فقامرتهما فخسرت الجواد، فهل لك أن نلعب الآن فعسانا نسترده، وإن شئت فبع هذه الجوهرة التي تحملها وقامر بها. قال: ذلك لا يكون أبدا ولا أفرط بهدايا الملوك. فما زال به أتوس يحاوله ويجادله حتى لعب بما معه من النقود فأعاد كل ما خسره صاحبه، ثم ركبا وخادماهما معهما وساروا حتى بلغوا كرافكور، فرأوا أراميس قائما في نافذة غرفته، فلما رآهم نزل وسار معهم حتى بلغوا مقر بورتوس فوجدوه قد شفي من جرحه، فأقاموا عنده ريثما استراحوا ثم ركبوا وإياه وساروا إلى باريز. ودخل دارتانيان منزله فوجد فيه رسالة من دي تريفيل يشير فيها إلى أن الملك قد عينه في حرسه إلا أنه أبقى ذلك إلى ما بعد انتهاء الحرب في روشل، ثم جاءهم دي تريفيل فهنأهم بوصولهم وأمرهم بالتجهز للحرب، فوجدوا أنه يلزم لكل واحد منهم ألف وخمسمائة دينار، فأخذوا يسعون في جمعها بعد إذ تعاهدوا على حفظ الوداد وأن كلا منهم يبذل نفسه في سبيل صلاح صاحبه.
فلما كان ذات يوم ودارتانيان يسير في بعض الأسواق لمح بورتوس فتبعه وهو لا يراه ليطلع على بعض شأنه، فدخل بيعة ودخل دارتانيان وراءه، فتقدم بورتوس وجلس على مقربة من امرأة وجعل يخالسها النظر، وكانت لابسة ثوبا أسود وعلى مسافة منها امرأة أخرى لابسة ثوبا أبيض وهي أجمل من الأولى، فانجذب بورتوس بجمالها وترك ذات الثوب الأسود وزاحم الناس حتى جلس بالقرب منها، فجعلت صاحبته تنظر إليه وإليها نظرة الغيور. وكان دارتانيان قد عرف أن الامرأة ذات الثوب الأبيض ميلادي التي رآها في مينك، وأن الأخرى هي عشيقة بورتوس وساكنة في شارع أرومس. فلما فرغت الصلاة قام بورتوس وخرج وهو ينظر حوله، فظنت صديقته أنه يفتش عليها، ثم استاءت لما رأته قد وجه نظره وجعل يحدق بميلادي، فدنت منه وقالت: ما أدري والله ما الذي صرف وجهك عنا؟ فالتفت إليها مسلما يسائلها عن حالها وعن زوجها، وهو يعتذر بأنه لم يرها، فأخذت بيده وسارت إلى بيتها تعاتبه وتشكو له مرارة الغيرة وألم النوى وهو يشكو له مثل ذلك حتى أوصلها إلى بيتها، فوعدها أنه يأتيها في الغد وودعها وذهب.
أما دارتانيان فتبع ميلادي إلى خارج البيعة فصعدت إلى عربة حسنة الإتقان تجرها أفراس من جياد الخيل، وقالت للسائق: انطلق بي إلى سان جرمن. فلبى وانطلق، ويئس دارتانيان من لحاقها لأنه راجل، فأمر خادمه بإسراج جوادين، ثم سار إلى بيت أتوس فقص عليه كل ما جرى فقال: أنا قليل الرغبة في مثل ذلك، فقال: إن النساء لا تصبو إلا لأمثالك لما فيك من الصفات المحبوبة، وأنا أعجب منك ومن فركك لهن. قال: ذلك لما أخبرتك به. وفيما هما كذلك دخل بلانشت يقول لدارتانيان إنه قد جاء بالجوادين، فقال له أتوس: ما هذان الجوادان؟ قال: أريد أن أذهب إلى سان جرمن في نزهة، ثم قص عليه قصة ميلادي وقال: إني أريد أن أتبعها، فإن قلبي يحدثني بأن سيكون لي معها شأن. قال: يظهر لي أنك سلوت عن بوناسيه. قال: معاذ النهى، إنها والله أقرب إلي من نفسي، ولكني أجهل مكانها ولو عرفته لخلصتها ولو كانت بين أنياب الأسود. ثم خرج وركب هو وخادمه وسارا في طريق سان جرمن وهما ينظران إلى النوافذ ويتصفحان وجوه المارة، حتى قال الخادم: أترى يا مولاي هذا الغلام الواقف لدى الباب؟ قال: نعم، وأذكر أني رأيته. قال: هو خادم الكونت دي ويرد الذي ربطناه إلى الشجرة في كاله. قال: عرفته، وما أظنه تثبت في معرفتك لشدة اضطرابه وخوفه يومئذ، فهل لك في أن تقصه عن سيده؟ قال: نعم. وذهب وأخذ يحادث الغلام ويخوض معه في أفانين الكلام وإذا بعربة ميلادي مقبلة حتى وقفت قبالة الخادمين، فأعطت ميلادي وصيفتها ورقة، فأقبلت الفتاة تريد الغلامين، وفيما هي مقبلة إذا بصوت يدعو خادم الكونت فدخل، ووصلت الفتاة فلم تر أمامها إلا خادم دارتانيان فأعطته الورقة وعادت وهي تظنه خادم الكونت ويرد، وقالت له: أعطها إلى سيدك في الحال، ثم ركبت العربة وانطلقت.
فعاد بلانشت بالرقعة إلى دارتانيان فأخذها وقرأها فإذا بها:
إن أحد من يهمهم أمرك يريد أن يعرف متى تقدر أن تخرج إلى الغابة، ويأخذ الجواب منك غدا في فندق راية الذهب غلام أحمر الثياب. والسلام.
فأسر دارتانيان ذلك في نفسه وقال للخادم: ما الذي علمته من الكونت ويرد؟ قال: علمت أنه مريض ولكنه قد قارب الشفاء. قال: فهلم نتتبع العربة. فركبا وسارا حتى أدركاها وقد وقفت ولدى بابها فارس إنكليزي يحادث ميلادي باللغة الإنكليزية، فلم يفهم دارتانيان شيئا، ولكنه رأى في لهجة ميلادي ما يدل على الغيظ، فدنا من نافذة العربة وقال لها: أراك يا سيدتي حنقة من هذا الرجل كأنه يهينك، فإن كان ظني مصيبا أفتأذنين لي بتأديبه؟ فنظرت إليه مندهشة من تهجمه وقالت له باللغة الفرنسية: لا يا مولاي فإنه أخي. قال: إذن فاعذريني فقد أخطأت. وكان الفارس الإنكليزي قد غضب من مداخلة دارتانيان وغلظته له، فأخذ يشتمه وينازعه والعربة حائلة بينهما. وكانت المحادثة بين ميلادي وبينه قد انتهت، فسارت العربة والتقيا فتواعدا للبراز وراء ليكسمبرج عن الساعة السادسة، وأخبره دارتانيان عن اسمه، فقال له: وأنا اللورد ونتربارون دي سيفيلد، ثم افترقا على أن يأتي كل منهما بشهود ثلاثة.
الفصل الخامس والعشرون
البراز
ولما دنت ساعة البراز ذهب دارتانيان بأصحابه الثلاثة وغلمانهم وأقاموا ينتظرون أخصامهم حتى وفدوا، وطلب اللورد ونتر أن يتكنوا له، فتكنوا بأسمائهم المعروفة، فقال: هي أسماء لا نرضى بها وما نراها إلا أسماء رعاة غنم، فقال أتوس: تلك أسماء تلبسنا بها، لكن تحتها ألقابا عريقة في المجد. ثم ذكرها لهم بصوت منخفض. وأشهرت السيوف ودارت رحى القتال، فكان أول قتيل خصم أتوس، وهجم بورتوس على خصمه فجرحه فسلم سيفه، وضايق أراميس خصمه حتى رمى بسيفه وفر هاربا بين الأشجار. وأقام دارتانيان يناضل خصمه وهو لا يريد أن يقتله حتى أتعبه، ثم ضربه على سيفه فقصمه وألقاه إلى الأرض وبرك على صدره وقال: الآن قد باتت حياتك في يدي إلا أني أبقي عليك حبا لأختك. ثم عاد عنه واشتغل ورفاقه بمعالجة القتيل لعل فيه دماء، وفيما هم يعالجونه سقط منه كيس فأخذه دارتانيان وأعطاه للورد ونتر، فقال: وما أصنع به؟ قال: تعطيه لأسرة القتيل تنفقه في جنازته. قال: هي في غناء عن ذلك، فأعطه للغلمان. فوضعه في جيبه، ثم قال له اللورد: والآن إذ قد عفوت عني حبا لأختي فأنا أذهب بك إليها في هذه الليلة لتؤدي لك واجب الشكر على جميلك معي. ثم دنا منه أتوس فقال: وما الذي عزمت أن تفعله بالكيس؟ قال: هو لك، فأنت قاتل صاحبه والسلب لك. تلك سنة الحرب. قال: لا، ولكني كما قيل:
لي النفوس وللطير اللحوم ولل
وحش العظام وللخيالة السلب
ثم أخذ الكيس فرمى به إلى الخدم. وجاء اللورد ونتر فودعه، وقال له: إن بيت أخته في الشارع الملوكي في العدد 6، وإنه سيأتي إليه إلى بيت أتوس فيأخذه إليها عند الساعة الثامنة. وسار دارتانيان إلى منزله يزين نفسه ويسوي ثيابه، وفي قلبه شغل شاغل من ميلادي، حتى دنت الساعة، فذهب إلى بيت أتوس فقص عليه القصة، فقال له: إن في أمرك لعجبا، فإني بينا أراك عاشقا تبحث عن حبيبتك أراك قد علقت أخرى. قال: لا، فإن حبي لميلادي حبا مجردا، ولكن حبي لكونستانس حب خالط اللحم والدم وجرى في العروق جري الماء في العود، وليس شغلي بميلادي إلا لأطلع منها على بعض شأن حبيبتي لأن لها دخلا في القصر. قال: إياك وإياها، فإنها من أعوان الكردينال، ولعلها تنصب لك شركا. قال: لا تخش علي شيئا ولا تتشاءم بها. وفيما هما يتحدثان دخل اللورد ونتر وأخذ دارتانيان إلى عربة في الشارع، فسارت بهما حتى بلغا الشارع الملوكي وصعدا إلى ميلادي، فبدرها اللورد وقال: أتيتك بمن ملك حياتي ثم أعتقها على حين كنت البادئ بالعدوان وكنت إنكليزيا عدوا للفرنساويين. فترحبت ميلادي به أحسن ترحاب وجلست إليه تحادثه، ثم أخذ اللورد يقص عليها تفاصيل البراز حتى انتهى. فقام إلى مائدة هناك عليها باطية نبيذ، فسقى دارتانيان رطلا وجعل دارتانيان يلاحظ ميلادي بطرف خفي فيراها تتلون له وتعض على منديل في يدها، فلما انتهى من الشراب دخلت خادمتها التي أعطت الكتاب لخادم دارتانيان، فكلمت اللورد باللغة الإنكليزية، فاستأذن اللورد بالخروج لأمر يدعوه وخرج. وأقام دارتانيان يحادث ميلادي فأعلمته أن اللورد ليس أخاها ولكنه سلفها، وقد مات أخوه زوجها وأنها فرنسوية الأصل، وكان هو قد استدل على ذلك بطلاقة لسانها في اللغة وحسن ضبطها للألفاظ. وبعد قليل قام دارتانيان وخرج، فقابل الخادمة وهي تنظر إليه نظرة العاشق وقد صبغ الحياء خديها. ولما كان اليوم الثاني عاد دارتانيان إلى ميلادي فوجدها وحدها، فجلست تحادثه وتستخبره عن أصله وسيرته وميله إلى الكردينال، فيطنب لها فيه وأنه كان يحب أن يكون في جملة حرسه، ولكنه إذ قد تعرف بدي تريفيل كان من حظه أن يكون في حرس الملك، ثم سألته: هل ذهبت إلى إنكلترا؟ فقال: نعم، ذهبت إليها برسالة من دي تريفيل لأجلب له أفراسا. ثم قام وذهب فقابل الفتاة في الدار، وكانت تدعى كاتي، فجعلت تنظر إليه كما فعلت بالأمس، وهو لفرط اشتغاله بالسيدة لم يلتفت إلى الخادمة. واستمر على ذلك يزورها كل مساء فتقابله أحسن مقابلة، ثم يخرج فتلاقيه كاتي بوجهها الصبوح ونظرها الفتان، وهو لا يفطن لها لشدة حبه لمن هي أعلى منها مقاما.
الفصل السادس والعشرون
الطعام عند عشيقة بورتوس
ولم ينس البراز بورتوس موعد عشيقته للغداء، فسار إلى بيتها وصعد في سلم مظلم متهدم حتى بلغ الباب، ففتح له وقابلته العشيقة وهي تقول لزوجها: هذا ابن عمي، فأهلا بك وسهلا. فدخل بورتوس وسلم على زوجها، فرحب به وقال: أهلا بابن العم، فنحن إذن أقرباء؟ قال: نعم، وأنا مسرور لذلك. فقالت الامرأة: لقد تلطف بنا ابن عمنا إذ خصنا بمؤاكلته قبل أن يخرج إلى الحرب. ثم نهضوا إلى قاعة الطعام وجلسوا حول الخوان ، وجعلت الامرأة تختلف إليهم بأنواع الطعام والشراب وتتلطف في خدمة ضيفها وتبش في وجهه، حتى قال لها زوجها: أراك شديدة الاحتفاء بذوي قرباك. قالت: نعم، تلك سنة القرابة. ثم انتهى الغداء فقامت الامرأة ببورتوس إلى غرفة وجلست إليه تعاتبه على تركها وهجرانها، ثم قالت له: أبيح لك زيارتنا ثلاثا في كل أسبوع. قال: عذرا يا سيدتي، فإني مهتم بالتجهيز للحرب. قالت: وكم تبلغ نفقته؟ قال: نحن معاشر الحرس لا يكفي الواحد منا أقل من ألف وخمسمائة دينار. قالت: وكيف تنفقها؟ قال: أشتري ببعضها جوادا ... قالت: ذلك عندي، فلا تهتم به، ثم ماذا؟ قال: ما يتبع الجواد من سرج ولجام وعدة جلاد مما لا ينقص ثمنه عن ثلاثمائة دينار، ثم يلزمني جواد آخر لخادمي إذ لا يستطيع أن يتبعني ماشيا. قالت: أنا أعطيه بغلا يركبه. قال: حسن، ثم يلزمني خرج. قالت: عند زوجي عدة منه، فاختر لنفسك واحدا. قال: ما أظن أخراج زوجك إلا فارغة، وأنا لا أحتاج الخرج إلا إذا كان ملآن. قالت: ولكني أعطيك فوق ذلك ثمانمائة دينار. فرضي بها وطاب قلبه وودعها ذاهبا إلى بيته.
الفصل السابع والعشرون
الوصيفة والسيدة
ولم يزل دارتانيان يزداد غراما بميلادي وحبا لها وميلا إليها بالرغم عن نصح أتوس وإنذاره، حتى إذا كان ليلة ذاهبا إليها اعترضته الوصيفة كاتي في الدار وقد صبغ الحياء خديها وقالت له: ألا تأذن لي بأن أكلمك قليلا؟ فظن دارتانيان أن معها كلاما من سيدتها، فقال: نعم فقولي. قالت: هو كلام يطول مأخذه وسر يجب كتمانه فاتبعني. وقادته بيده في سلم صغيرة، ثم دخلت به إلى غرفة، فقال لها: ما هذا؟ قالت: هي غرفتي ولها باب إلى غرفة سيدتي، ولكن كن على ثقة من أنها لا تسمعنا فهي لا تنام إلا عند منتصف الليل. فجعل دارتانيان ينظر إلى باب الغرفة نظرات علمت كاتي معناها، فقالت: أراك شديد الشغف بسيدتي. قال: نعم، وهو شغف ما وراءه شغف. فتنفست الفتاة وقالت: يا لضيعة الحب. قال: كيف قلت؟ قالت: إن سيدتي لا تحبك مثقال ذرة. قال: وهل قالت لك ذلك لتبلغينيه؟ قالت: لا، ولكني علمته، فدعاني حبي لك وغيرتي عليك إلا أن أقوله لك. قال: إني لا أكاد أصدقه، فهل لقولك من دليل؟ قالت: نعم. وأخرجت من جيبها رسالة وقالت: خذ فاقرأ لعلك تتذكر أو تخشى. فنظر الفتى في الرسالة فرآها بعنوان الكونت ويرد، ففض ختامها فصاحت به الفتاة فلم يلتفت إلى قولها وقرأ:
لقد أرسلت لك رسالة قبل هذه فلم تجبني عليها، ولعل ذلك لأحد أمرين: أن يكون قد زاد بك الألم أو أنك نسيت اجتماعنا وحبنا في بيت دي كيز، فإن لم يكن شيئا من ذلك فهذه أحسن فرصة فاستفرصها. والسلام.
وما أتم قراءة الرسالة حتى اصفر لونه وقرصته الغيرة، فقالت له الفتاة: لا ألومك يا سيدي، فقد ذقت مثلك طعم الحب. قال: إذن فأعينيني على الانتقام من سيدتك وقتل عشيقها. قالت: أما الأول فنعم، وأما الثاني فلا أساعدك عليه أبدا لأمرين، أولهما أن سيدتي لا تحبك فتكون قد ظلمت الرجل بقتلك إياه على غير طائل منها، والثاني لا أقوله لك إلا إذا عرفته أنت من نفسك. فمال إليها وقبلها، فاحمرت وقالت: هذا هو السبب الثاني؛ أنك لا تحبني. فذكر الفتى عند ذلك كل ما كان يراه منها، فقال: لا والله بل أحبك وإذا شئت دليلا على ذلك فأنا أصرف عندك الوقت الذي أصرفه عند مولاتك، فقالت: مرحبا بك يا سيدي، ثم أجلسته على كرسي وجلست إليه، فجعل يحادثها ويغازلها حتى انتصف الليل، وإذا بحركة في غرفة ميلادي، فقالت الفتاة: اخرج يا سيدي غير مطرود، فإن سيدتي تدعوني. فأخذ قبعته وبدلا من أن يخرج من الباب دخل في خزانة كانت هناك معلقة فيها ثياب ميلادي وأقفل بابها عليه. ودخلت كاتي على ميلادي فأخذت تلومها على إبطائها، ثم قالت لها: أرأيت أن صاحبنا لم يأت الليلة، فما ترينه فعل؟ قالت: لا أدري، لعله أخلف الميعاد. قالت: لا، وما أظنه إلا عاقه أحد، ولكن رويدا فإن لي عليه ثأرا ولا بد من الانتقام منه. قالت: عجبا يا سيدتي، كنت أظنك تحبينه. قالت: بل أمقته إذ قد وقع اللورد ونتر في يده ولم يقتله لكي يبقى الميراث لي وحدي. قالت: صدقت، فأنت الوريثة الوحيدة بعد ابنك. قالت: نعم، وفوق ذلك فقد أوصاني الكردينال بقتله، فإن اختطاف خليلته لم يشف لي غليلا، فاخرجي الآن وإياك أن تنسي الرسالة. فخرجت وأقفلت الباب بالمفتاح بحيث لم تشعر ميلادي. وكان دارتانيان قد أثر فيه كلامها تأثيرا شديدا، فامتقع لونه واكفهر، وريثما دخلت كاتي خرج من الخزانة، فنظرت إليه وقالت: ما لك مصفر الوجه؟ فقال: لعنة الله عليها ما أشد دهاءها. قالت: نشدتك بالله بالخروج فإنها تسمعنا. قال: وأنا لذلك لا أخرج أو أخرج بعد قليل. ثم أخذ يداعب الفتاة ويلاعبها ويسألها عن خبر بوناسيه وهي تقسم أنها لا تعرفها ولم تسمع غير اسمها حتى مضى هزيع من الليل، فقام وخرج. ولما كان اليوم الثاني عاد إلى ميلادي وأقام عندها مدة ثم خرج، فأصاب كاتي على الباب، فأخذته إلى غرفتها فلبث عندها إلى الفجر، ثم ذهب إلى بيته، وما كاد يستقر فيه حتى رأى كاتي مقبلة في يده رسالة باسم الكونت ويرد، فقرأها وإذا بها:
هذه هي المرة الثالثة التي أكتب لك فيها بأني أحبك، فاحذر أن أكتب لك في الرابعة أني أمقتك. والسلام.
ثم التفت إلى الفتاة فرآها تنظر إليه نظرة الغيور، فقال لها: لا أحب سواك ولا بد لي من الانتقام من هذه الفاجرة، ثم أخذ القلم وكتب:
وردت علي رسائلك، وأنا في ريب من أنها منك لي لشدة شغفي بك على عدم وصولي إليك فضلا عما أقاسيه من ألم الجراح. فأما وقد تحسنت صحتي بحمد الله وتيقنت أنك تحبينني فسأكون عندك الليلة في الساعة الحادية عشرة إن شاء الله تعالى.
الكونت ويرد
وقد كتب دارتانيان ذلك معتمدا على الباب المنفتح بين الغرفتين ليفر منه إذا انكشف أمره، وقد صمم على إتيانها بدلا من الكونت، ثم أعطى الرسالة لكاتي وحذرها من أن يظهر عليها ارتباك تفطن له مولاتها، ثم صرفها بعد إذ وعدها بأنه يزورها في ليلته.
الفصل الثامن والعشرون
تجهيز أراميس وبورتوس
وكان الأصحاب الأربعة قلما يجتمعون لانهماكهم في التجهيز، فلما خرجت كاتي من عند دارتانيان ذهب إلى منزل أتوس فوجد عنده صاحبيه بورتوس وأراميس، فجلسوا يتحدثون وإذا بخادم بورتوس قد دخل عليهم وقال له: إن في بيته أمرا ضروريا يدعوه للذهاب. فقام وخرج، ولم يتجاوز الباب حتى دخل بازين خادم أراميس فقال له إن رجلا يطلب مقابلته. فقال: وما عساه يكون؟ قال: هو رجل فقير. قال: فأعطه صدقة واصرفه. قال: زعم أن له معك كلاما وأنك تسر لمرآه لأنه آت من مدينة تور. قال: أما إذا كان ذلك فنعم. ثم خرج، فبقي دارتانيان وأتوس يتحدثان، فقال له دارتانيان: لقد وجد صاحباك نفقتهما، فما تصنع أنت؟ قال: ذلك لله. ثم أخذ الفتى يقص عليه قصة ميلادي وما كان منها مما لا فائدة في استيفائه.
أما أراميس فإنه أسرع إلى بيته ليرى ذلك الرجل القادم من تور فوجده قائما في انتظاره، وهو بلباس الفقراء قصير القامة أسود العينين، فقال له: أنت المسمى أراميس؟ قال: نعم. قال: فأين المنديل الموشى. فأخرج أراميس مفتاحا وفتح خزانة عنده وأخرج منها المنديل، فلما رآه الرجل قال: قل لخادمك يخرج. فخرج. ولما خلا بهما البيت أخرج الرجل من حزامه رسالة ودفعها لأراميس، فلما رأى أراميس ختمها قبلها وقرأ:
لقد قضت الأيام بالبعد بيننا
إلى أجل في الدهر غير بعيد
وبعد، فاذكر أيها الصديق أيام الصبا إلى أن نلتقي، وخذ من حامل رسالتي إليك ما ندفعه لك، وافعل ما يجب عليك في الحرب، وأنا أفعل ما يجب علي هنا، وموعدنا باللقاء قريب إن شاء الله تعالى.
ثم أخرج الرجل من جراب معه صرة فيها ستمائة دينار وألقاها على المائدة وخرج، وأقام أراميس يعيد قراءة الكتاب ويقول: أنا لك يا حبيبة القلب وشقيقة الروح. ثم نظر وإذا بحاشية في الرسالة معناها: «احتفل بحامل هذه الرسالة فإنه من أشرف رجال إسبانيا.» فالتفت أراميس فلم يجد الرجل وإذا ببازين قد دخل يستأذن لدارتانيان، ثم دخل دارتانيان وقال: من هذا الرجل الذي دعاك؟ قال: هو رجل أتاني بقصيدة لي طبعتها أرسلها معه صاحب المطبعة. ثم أخذ بعض المال في جيبه وخرج مع دارتانيان إلى أتوس، وفيما هما يسيران وجدا خادم بورتوس يقود فرسا وبغلا، فسألاه عنهما فقال: هما من عند عشيقة بورتوس. وبعد قليل ذهب بورتوس إلى عشيقته يعاتبها على عدم إرسال المال، فقالت له: تعال غدا مساء فيكون زوجي غائبا فنتحدث مليا. ثم أعطته صرة وخرج.
الفصل التاسع والعشرون
ليلة الميعاد
ولما كان المساء ذهب دارتانيان إلى ميلادي فتلقته باسمة الثغر بشوشة الوجه، فعرف أن الرسالة قد وصلتها، فلبث عندها مدة وخرج فصعد إلى غرفة كاتي وأقام عندها حتى قربت ساعة الميعاد وسمع دارتانيان حركة ميلادي في غرفتها، فدخل الخزانة ودعت ميلادي بالخادمة وكلمتها وصرفتها، ثم أطفأت المصباح، فوثب دارتانيان من مكمنه إلى عتبة باب ميلادي فقالت: من هذا؟ فقال: أنا الكونت دي ويرد. فقالت: ادخل فأنا في انتظارك. وجعلت تتلطف به وتسأله عن جروحه وهو يجيبها بصوت منخفض، ثم دست في إصبعه خاتما وقالت: خذ هذا واذكرني به. فأخذه وأقام عندها في ذلك الظلام إلى أن دنا الفجر، فودعها وخرج، فشيعته إلى باب الدار وهي مظلمة لا نور فيها وذهب إلى بيته فنام، ثم نهض في الصباح إلى أتوس فقص عليه القصة، وفيما هو يكلمه كانت عين أتوس لا تبرح من الخاتم الذي في يده، فقال له دارتانيان: أراك تكثر التأمل في هذا الخاتم. قال: نعم، إنه خاتم عائلة شريفة خاص بها، فهل استعضت به عن خاتم الملكة؟ قال: لا، بل أعطتنيه ميلادي. فامتقع لون أتوس من ذلك وأخذ الخاتم وجعل ينظر إليه كالمتأمل والغيظ باد على وجهه، ثم وضعه في إصبعه فجاء طبقا كأنه صنع له، فقال له دارتانيان: هل عرفته؟ قال: أظن أني أعرفه وقد أكون مخطئا. ثم نزعه من إصبعه وأعطاه لدارتانيان وقال له: أدر فصه إلى باطن كفك فإنه يذكرني حكاية لا أقدر أن أقصها عليك، فلا تستشرني بعدها أبدا، ولكن أرنيه ثانية لعل في فصه كسرا. وأخذه ونظره فإذا به كذلك، فقال له دارتانيان: ماذا تعني بهذا؟ قال: هذا الخاتم لي من أمي، وقد وهبته في ليلة مثل ليلتك البارحة؛ ولهذا قلت لك إنه خاتم عائلة فإياك وهذه الامرأة، فما إخال إلا أن لها شأنا مشئوما وإنها من الفواجر. فقال دارتانيان في نفسه: إن في مسألة هذه الامرأة سرا لا بد لي من اكتشافه. ثم سلم وخرج إلى بيته فوجد فيه كاتي ومعها رسالة للكونت ويرد تسأله فيها أن يزورها، فقرأها دارتانيان وكتب:
لقد حال بيني وبين زيارتك أمر لا بد لي من الذهاب فيه، ولعلي أراك بعد ذلك.
الكونت ويرد
وأعطى الجواب للفتاة وحرضها على الصبر وأنه يحبها وأن تحذر سيدتها، فأطاعت وذهبت إلى سيدتها. فلما قرأت جواب الرسالة التفتت إلى الفتاة وقالت: ما هذا؟ فقالت: جواب رسالتك يا سيدتي. فاصفر لون ميلادي وقالت: ليست هذه رسالته ولا يكتب رجل لامرأة مثل هذا، فويل له. ثم سقطت مغشيا عليها، فجاءت الخادمة وأنهضتها، فنهضت وصاحت بها: اخرجي لا بارك الله فيك وانتقم الله ممن لا ينتقم.
الفصل الثلاثون
الزيارة
وانقطع دارتانيان عن ميلادي أياما لا يزورها حتى قلقت وفرغ صبرها، فأرسلت إليه مع كاتي هذه الرسالة:
راجع أحبتك الذين هجرتهم
إن المتيم قلما يتجنب
أيها الصديق ليس من العدل أن تقاطع أصحابك في حين أنت وشيك المفارقة لهم. ولقد انتظرتك أمس أنا وسلفي فلم تأت، وعسى أن لا يضيع انتظارنا في هذا المساء. والسلام.
ميلادي
فلما أتم قراءة الرسالة قالت له كاتي: هل أنت ذاهب؟ قال: نعم، وهو ما تدعوني إليه الضرورة لئلا توجس مني شيئا في انقطاعي بعد كثرة ترددي، وأخاف أن يلحق بك من ذلك مكروه، وكيف كان الحال فلا سبيل لك إلى الغيرة علي، فليست زيارتي لها بزيارة عشق بل زيارة استطلاع لما في القلوب، فاطمئني وانصرفي. فانصرفت.
ولما كانت الساعة التاسعة ذهب دارتانيان إلى ميلادي ودخل عليها فوجدها جالسة على مرتبة وهي مصفرة الوجه وفي عينيها أثر الحزن والوجد، فاستخبرها عن حالها فقالت: في كرب شديد. قال: إذن أخرج عنك فأنت في حاجة إلى الراحة؟ قال: لا، بل تظل لدي فإن مقامك عندي يخفف عني بعض ما بي، فقال دارتانيان في نفسه: أراها تزيد لينا ولطافة، فيجب أن أحذرها وقد قيل:
إن الأفاعي وإن لانت ملامسها
عند التقلب في أنيابها العطب
ثم قالت له: هل لك خليلة؟ فتنهد وقال:
تسائلني من أنت وهي عليمة
وهل بفتى مثلي على حاله نكر
تسألينني عن ذلك وأنا لك عاشق وبك مفتون من يوم رأيتك حتى صح في ما قيل:
جلبت إلى نفسي المنية عندما
نظرت فلم تخطئ فؤادي أسهمي
قالت: وهل تحبني؟ فقال:
إذا أنا لم أخبرك ما بي من الجوى
أما لحظت عيناك ذلك من عيني
قالت: نعم، ولكن لم لا تبوح؟ أما سمعت ما قيل:
إذا ملكت أيدي الهوى قلب عاشق
فأهون شيء ما تقول العواذل
قال: صدقت، ولكني أخشى أن يحول منك دون ذلك بعض الموانع بحيث أصبحت أرجوك وأخشاك. قالت: إذا كنت أحبك فلا مانع إن شاء الله، فقال دارتانيان في نفسه: الله أكبر، لعلها عشقتني، ثم دنا منها، فقالت له: وما برهانك على حبي؟ قال: مري تري. قالت: إن لي عدوا. قال: يا سبحان الله، وهل للوجه المليح أعداء؟ قالت: نعم عدو ألد خرق حرمتي وحط من قدري، وأنا مستعينة بك عليه. قال: ومن عساه يكون؟ قال: هو الكونت دي ويرد الخادع الماكر. قال: نعم وكرامة. قالت: وما ثوابك عندي؟ قال: وما ثواب المحب عند محبوبه إلا مثل هذا، ثم جذبها إليه وقبلها وقال: عرفت عدوك. قالت: كيف عرفته؟ قال: لقيته أمس في سمر فأراني خاتما زعم أنه منك، وأنا لذلك أنتقم لك منه غدا، فإما نصر وإما موت، ولكني أستصعب الموت في سبيل حبك وما بيدي منك غير الأمل. قالت: صدقت، فاذهب الآن فإن سلفي آت ولا يجمل بي أن يراك هنا، ثم ترجع عند الساعة الحادية عشرة، ثم دعت كاتي فقالت لها: متى جاء فخذيه إلى غرفتي. قالت: نعم، ثم قبل يدها وخرج.
الفصل الحادي والثلاثون
سر ميلادي
وعزمت كاتي على أن تدخل به إلى حجرتها، فأبى وسار يفكر كيف يفعل، وجال في فكره أن يكتب لها بالقصة وأنه هو الذي تلبس بالكونت دي ويرد وخدعها، ثم عرض له فرغب في مقابلتها مرة أخرى، فسار إلى منزلها وجعل يدور حوله حتى حان الوقت ونظر من الباب فإذا بالنور قد انطفأ، فتذكر ليلته البارحة، فصعد إلى غرفة كاتي فحاولت أن تمنعه من الدخول إلى غرفة مولاتها فأبى وجعل يناوصها، فأحست به ميلادي ففتحت الباب وقالت له: ادخل. فدخل وأقفلت الباب، فثارت الغيرة في قلب كاتي وحاولت الدخول وراءه، ولكنها خافت سوء العقبى، فتربصت وفي قلبها حزازات.
ودخل دارتانيان وفي نفسه قائل يقول له إنها لا تحبه وإنه آلة نقمة في يدها، ولكن الحب أعمى بصيرته، فأقام وإياها ساعتين والسكوت شامل والغرفة هادئة، ثم سألته: هل هيأت أسباب القتال مع الكونت؟ وهل أنت عازم على قتله؟ فأجابها - وهو مشرد الفكر تائه العقل: لا وقت لي للقتال. فقالت - وقد ملكها الجزع والندم: أتخاف منه؟ قال: لا، ولكن لعل له عذرا لو أن ذنبه لا يستحق الموت. قالت: إنه خدعني فوجب عليه الهلاك. قال: إذن أفعل. وكان الفجر قد لاح ودخل الغرفة بعض النور، فهم دارتانيان بالذهاب وقال لها: إني صائر فيما رسمته لي، ولكن ينقصني شيء. قالت: وما ذاك؟ قال: برهان على أنك تحبينني. قالت: وهل بعد ليلتنا هذه برهان؟ قال: صدقت، ولكن إذا كنت تحبينني كما تزعمين، أفما تخشين علي مما أنا ماض فيه؟ قالت: وما عسيت أخاف؟ قال: أن أجرح أو أقتل. قالت: لا سمح الله، فإني أعهدك بطلا حاذقا في الحرب تصيب ولا تصاب. قال: ولكن ما تقولين في طريقة ننتقم بها ونكتفي مئونة القتال. قالت: وما هي؟ قال: أرى أن هجرك إياه قد كفاه وحسبه بهجرك عقابا. قالت: ومن قال لك أني أحبه؟ قال: إذا لم تكوني تحبينه فأنت تحبين غيره، وإني لتهمني حياة الكونت وأراه غير مذنب، وأنا على يقين في ظني. قالت: بالله وكيف ذلك؟ قال: سأضرب لك مثلا، أفما تحبينني؟ قالت: بلى. قال: فلو أخطأت لك خطأ الكونت أتسعين في قتلي؟ قالت: لا أدري، فما تقصد في ذلك؟ قال: ألم يأتك الكونت ليلة الخميس الماضي في هذه الغرفة. قالت: لا والله، وكذب من قال. قال: لا تخاتلي، فأنا صاحب الخاتم وأنا الكونت دي ويرد يوم الخميس، وأنا دارتانيان اليوم. وكأن الصاعقة وقعت على ميلادي لدى سماعها هذا الكلام، فاصفر وجهها وامتقع لونها واضطربت أعضاؤها وارتعدت فرائصها ووثبت إلى خارج السرير، فأمسكها الفتى بطوقها فاتقد ثوبها وظهر كتفها، وكان النهار قد تعالى فرأى دارتانيان على كتفها زهرة الزنبق، فتذكر قول أتوس ولبث جامدا لا يتحرك من سر وقف عليه لا يعلمه إلا الله، وصاح: الله أكبر، ماذا أرى؟ فصاحت في وجهه صيحة اللبؤة وقالت: تبا لك يا غادر، لقد خدعتني فحق عليك الموت. ثم وثبت إلى خزانة فأخرجت منها مدية صغيرة وهجمت عليه، وكانت هيئتها هائلة حتى ارتاع لها الفتى على شجاعته، فسل سيفه وجعل يدفعها به عن نفسه غير متعمد قتلها وهي تهجم فيصدها ويقول لها: مكانك يا غادرة أو أسمك بزهرة أخرى على خدك. وما زال يجاولها بالسيف ويطلب الباب حتى بلغه، وكانت كاتي قد سمعت الصراخ، ففتحته فولجه وأقفله وراءه بالمفتاح، وجعلت ميلادي تضرب الباب بالمدية ضربات تحاكي ضربات الرجال وهي تهدر كالسعلاة، فقال دارتانيان لكاتي: أخرجيني من القصر حالا وإلا جمعت علي الخدم فقتلتني. فقالت له: وكيف تخرج وأنت عار لا يسترك إلا القميص. قال: إذن فألبسيني ما عندك، فإن من وراء ذلك الموت. فألبسته الفتاة جلبابها وقبعتها وحذاءها، فخرج وميلادي تصيح في القصر بالخدم: لا تفتحوا الباب، ولكن دارتانيان كان قد خرج وغاب عن نظرها، فسقطت مغشيا عليها.
الفصل الثاني والثلاثون
لا ييأسن نائم أن يغنما
وظل دارتانيان يركض في سكك باريز على هيئته تلك حتى بلغ باب أتوس، فقرعه ففتح له الخادم، فدخل من غير أن يتكلم، فصاح به الخادم وهو يظنه امرأة: ماذا تريدين أيتها المرأة؟ أفي مثل هذه الساعة يغشون البيوت؟ فقال له دارتانيان: صه يا غلام أنا دارتانيان، فأين مولاك؟ قال: كذبت يا لكاع، فإن دارتانيان رجل ولست بدارتانيان. وكان أتوس قد سمع صياح الخادم فخرج من غرفته، ولما نظر إلى دارتانيان ضحك حتى استلقى على قفاه، فقال له دارتانيان: أقصر المزاح فالأمر أعظم من ذلك. فقال له: أجريح أنت؟ وإلا فمالي أراك أصفر الوجه؟ قال: لا، ولكني قطعت هولا عظيما، فهل أنت وحدك؟ قال: نعم. فوثب دارتانيان إلى الغرفة وأقفل الباب، فقال له أتوس: أخبرني هل مات الملك أم قتل الكردينال؟ أم ماذا فعلت؟ فقال: رويدك أقص عليك الأمر، ولكن حتى أخلع ثيابي هذه. ثم خلع ثيابه ولبس غيرها من ثياب أتوس ودنا منه، وقال له: إن ميلادي موسومة بزهرة زنبق على كتفها. فأجفل أتوس إجفال الحمل كأن صاعقة هبطت عليه، فقال له الفتى: عساها التي أخبرتني عنها؟ قال: أليست بيضاء اللون زرقاء العينين سوداء الحاجبين لا تبلغ الثلاثين من العمر؟ قال: هي تلك، والزهرة على كتفها تكاد تزول، وما أظنها إلا فرنسوية. قال: لا بد من أن أردها. قال: إياك وإياها لئلا تكيد لك كيدا ونحن مسافرون عن قريب إلى روشل، فدع غضبها علي وحدي، ثم قص عليه القصة من أولها إلى آخرها، فقال له: احذر على نفسك منها، فإني أظن أن لها يدا مع الكردينال، ولكن ما فعلت بنفقة سفرك؟ وما أراك إلا قليل الاعتداد بها لأن معك هذا الخاتم؟ قال: ذكرت لي أنه خاتم عائلة، فما شأنه؟ قال: نعم، اشتراه أبي بألفي قطعة من الفضة وأهداه إلى أمي، فأخذته منها وأهديته لهذه الغادرة. قال: إذن فخذه. قال: كيف آخذه وقد دنسته الفاجرة بكفها؟ قال: ألا تبيعه؟ قال: معاذ الله أن أبيع هدية من أمي. قال: إذن فارهنه وتجهز بثمنه ثم استرده. قال: أفعل، ولكن على شرط أن نقتسم المال. قال: ذلك فوق الحاجة وأنا في غنى عنه، ومعي خاتم آخر. قال: ما لنا ولذلك، فإما أن تقاسمني ثمنه أو أرميه في النهر. قال: إني إذن أقبل. ثم خرجا إلى بيت دارتانيان فلاقاهما صاحب الفندق. وقال للفتى: إن عندك في الدار فتاة حسناء وهي في انتظارك، فقال: هي كاتي والله، ثم وثب إلى البيت فوجدها جالسة كاسفة اللون ترتعد فرقا، فقالت: لقد أمنتني على حياتي فلا تحنث. قال: لا تخافي، فما جرى بعد ذهابي. قالت: لا أعلم سوى أنها دعت بخدمها وهي ترغي وتزبد، فخشيت أن يصيبني منها مكروه أو تظن بي شيئا فهربت إلى هنا. قال: وما أصنع بك وأنا مسافر بعد غد؟ قالت: تخرجني من باريز أو من فرنسا أو تضعني عند أحد أصحابك بحيث لا يدري بي أحد. ففكر دارتانيان قليلا ثم دعا بخادمه فقال له: اذهب إلى أراميس وادعه لي في الحال. فخرج ولم يمض قليل حتى دخل أراميس فقص عليه القصة. قال: نعم أرسلها إلى إحدى النساء الأشراف في فرنسا، فإنها طلبت مني فتاة مثلها. ثم جلس فكتب لها كتابا بذلك، وودعت الفتى وخرجت، وعاد أراميس إلى منزله، ونزل دارتانيان وأتوس إلى السوق فرهنا الخاتم على ألفي دينار اقتسماها، وذهب أتوس وهو يقول: لا ييأسن نائم أن يغنما.
الفصل الثالث والثلاثون
مرور الخيال
ولما كانت الساعة الرابعة اجتمع الأصحاب الأربعة وفي قلب كل منهم حادث سر، وجعلوا يقتطفون أفنان الحديث. وإذا ببلانشت خادم دارتانيان قد دخل وفي يده كتابان باسم مولاه، فأخذهما الفتى. وكان أحدهما صغيرا لطيفا مختوما بالشمع الأحمر وعليه صورة حمامة في منقارها غصن زيتون، والآخر ضخما كبيرا مرسوما عليه سلاح الحرب. وهذا نص الكتاب الأول:
تنزه عن طريق كالوت بين الساعة السادسة والسابعة، وتنظر جيدا في كل ما يمر بك من العجلات، وإياك والكلام إذا كنت تحرص على حياتك وحياة من تحبهم، أو أن تشير إشارة تدل على أنك عارف بمن عرضت نفسها للخطر لكي تراك.
فقال له أتوس: إنها حيلة نصبت لك فلا تذهب. قال: يلوح لي أني أعرف الخط. قال: قد يمكن أن يكون مزورا، وفوق ذلك فأي عربة تمر في شارع كالوت في تلك الساعة إذ يكون مقفرا لا رجل تدب فيه؟ قال: إذا كان ذلك فنذهب جميعا فنأمن الخطر، فقال أراميس: ولكن ألم تع ما قالت في كتابها من أنها لا تريد أن يراها أحد؟ فقال بورتوس: إذن نختفي في مكان لا ترانا به، فقال دارتانيان: ولعلنا نتبع العربة فنفرق من يخفرها ونخلص من فيها. قالوا: سنرى، ولكن ما هذه الرسالة الأخرى؟ ففضها دارتانيان وقرأ:
دارتانيان أحد حراس الملك في فرقة دي زيسار مأمور بالحضور إلى قصر الكردينال عند الساعة الثامنة.
هوريز
قائد الحرس
فقال أتوس: هذه والله شر من الأولى، فقال دارتانيان: ولكني أذهب بعد أن أكون قضيت الرسالة الأولى فإنها في الساعة السابعة وهذه في الساعة الثامنة. قال أراميس: أما أنا فلا أذهب، ومن يخاطر بحياته في قصر الكردينال وهو لا يأمنه؟ فقال بورتوس: وأنا من رأيك. فقال دارتانيان: يا قوم لا تعجلوا، فلا بد لي من الذهاب، فقد أتاني كتاب مثل هذا من مدة فتخلفت فأصابتني نكبة على أثره وهو خطف حبيبتي، وأنا أخشى أن يصيبني مكروه إذا خالفت الآن. قالوا: أفلا تذكر سجن الباستيل وعذابه؟ قال: وما أخشى منه وأنتم ورائي. قالوا: صدقت، فنحن ذاهبون معك إلى موعديك الأول والثاني، فنقيم على أبواب القصر حتى تخرج، وإن لم تخرج وخرجت عربة مقفلة فهناك أجلها المتاح وبلاؤها العظيم.
ثم ذهب أراميس فنبه الغلمان فأسرجوا الخيول، ولما حانت الساعة ركبوا وساروا جميعا إلى الموعد الأول وغلمانهم تتبعهم. وفيما هم سائرون صادفوا دي تريفيل عائدا من اللوفر، فأخبروه بكتاب الكردينال فهدأ روعهم وقال لدارتانيان: إن لم أرك غدا فأنا هادم باريز لا محالة. ثم ساروا حتى بلغوا الشارع المعهود، فجعل دارتانيان يحدق بالعربات وهي تمر به مر النسيم حتى أقبلت عربة يجرها فرسان من جياد الخيل، فتوسم فيها الفتى خيرا ودنا منها وإذا ببوناسيه قد مرت به مرور الخيال، فصاح من الطرب وهم باتباعها لو لم يوقفه قولها في الرسالة. فعاد وقال لأصحابه: هي والله، وما أظنهم إلا ناقليها من سجن إلى آخر، وما أدري ما ذنبها؟ فقال له أتوس: لا تيأس من رحمة الله يا دارتانيان.
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
ثم انثنوا راجعين إلى قصر الكردينال وتفرقوا على أبوابه. ودخل دارتانيان من الباب الكبير بقلب لا يهاب الموت، ومشى الحاجب أمامه في دار فيها كثير من حرس الكردينال، فجعلوا يتغامزون عليه وهو لا يلوي على أحد حتى بلغ غرفة فيها رجل يكتب، فرفع الرجل رأسه لدخول الفتى وإذا به الكردينال.
الفصل الرابع والثلاثون
الخيال الهائل
فقال له الكردينال: هل أنت من رجال عائلة دارتانيان؟ قال: نعم يا مولاي. قال: فمن أيها أنت؟ قال: ابن الذي كان له بلاء حسن في الحرب التي عاناها الملك السابق رحمه الله. قال: فهل أنت الذي أتى من مدة ثمانية أشهر إلى هنا؟ قال: نعم يا مولاي. قال: وقد مررت على مينك حيث جرى لك حادث. قال: نعم، فاسمع يا مولاي ما جرى لي. قال: لا فائدة من ذلك، فإني عارف بالأمر، فهل كان معك وصاة إلى دي تريفيل؟ قال: قد كان ذلك. قال: وقد سرقت منك الوصاة ثم أتيت فصاحبت الحرس وأدخلك دي تريفيل في حرس دي زيسار، ثم عرض لك سفر إلى إنكلترا فذهبت إليها وتخلف أصحابك في الطريق، فقضيت الرسالة فيها وعدت إلى باريز حيث قابلت شخصا رفيع المكان ولم يزل في يدك أثر منه. ففطن دارتانيان للخاتم، فأدار فصه إلى باطن كفه ولم يخف ذلك على الكردينال، فأردف: ثم أتاك دي كانوا يدعوك إلى القصر فأبيت. قال: نعم، خشيت أن يكون في ذلك ما يحفظ سيدي الكردينال. قال: لا فقد أخطأت، فإن البريء لا يخاف شيئا، ثم اذكر يوم دعوت بك فتخلفت ماذا جرى في ذلك المساء؟ فتذكر دارتانيان أن قد خطفت حبيبته في تلك الليلة. وعاد الكردينال فقال: ثم خفي عني ذكرك زمانا فأحببت أن أعرف ما تفعل لأن لك علي شكرا، فاجلس فأنت أعظم من أن تخاطب واقفا. فجلس، فقال الكردينال: أرى أنك فتى أديب شجاع، وأنا شديد الرغبة في أمثالك، وأنصح لك بأن تكون على حذر، فإن لك أعداء لا آمن عليك منهم لحداثة سنك. قال: نعم يا مولاي إنهم كثيرون، وأنا واحد. قال: لا بأس، فإن لك من أفعالك أعوانا وسيكون لك شأن؛ ولذلك فأنت في حاجة إلى من يشد أزرك ويأخذ بيدك لأنك لم تقدم باريز إلا طلبا للغنى، فما تقول في وظيفة عندي بين حرسي؟ فتلجلج الفتى وظهرت عليه علائم الكره، فقال له الكردينال: ألا تريد؟ قال: إني يا مولاي في حرس الملك ولا عذر لي في الخروج منه. قال: إن حرسي وحرس الملك سيان، فإنما هما لمجد فرنسا ومنعتها. قال: لقد أسأت التعبير يا مولاي فلم تفهم قصدي. قال: لا بل فهمت، فإنك تلتمس عذرا تخرج به من حرس الملك، وما عساه أن يكون أحسن من هذه الفرصة والحرب قريبة الوقوع، وأنا أعرض عليك ذلك على كثرة الشكايات منك، وفي هذه الورقة قصة طويلة عنك أحب أن أقرأها لك، ولكن بعد أن أتم كلامي معك في هذا الشأن، فأطعني واقبل. فقال: لقد غمرتني يا مولاي بإنعامك وحملتني منة من فضلك يقصر لساني عن إيفاء الشكر عليها، وإذ كنت قد فسحت لي في الكلام فإني أقول إن أصدقائي في حرس الملك وليس لي في حرسك يا مولاي إلا الأعداء؛ وهو ما يمنعني الدخول فيما أشتهيه من خدمتك، ومع ذلك فنحن مباشرون بعون الله حصار روشل حيث أكون تحت أمرك يا مولاي فترى في رأيك، وأنا لك في كل حال شاكر ما قلدتنيه من الجميل. فقال الكردينال وقد ظهرت في وجهه علائم الغضب: أما وقد رفضت طلبي منك وأبيت تقدمتي لك فاحرص على نفسك من أعدائك، فإني إذا رجعت عن رأيي فيك لا يضمن حياتك غير الله، وإذا أصابك شيء فاعلم أنه أصابك لانقطاعي عن مراعاتك. قال: سأجتهد في ذلك يا مولاي. قال: كفى الآن فاخرج، ولي معك كلام إذا عدت سالما من الحرب. فارتاع الفتى لقوله «إذا عدت سالما» وشعر بمكيدة، ولكنه سلم وخرج فوجد أصحابه ينتظرونه، فسار معهم وقضوا ليلهم بالوداع. ولما كان الصباح قرعت الطبول ونفخ في الصور فافترق دارتانيان عن أصحابه ولحق بفرقته، وعادت الحراس إلى اللوفر ليعرضوا على الملك، فمر بهم حزينا كئيبا، ثم أمر فسارت فرقة الحرس بدارتانيان وبقي حراس دي تريفيل للذهاب في ركاب الملك، وسار بورتوس إلى خليلته فقضاها واجب الوداع، وأخذ أراميس يكتب كتابا. أما دارتانيان فسار بفرقته حتى بلغ الباستيل، فدار حوله ينظر إليه فأدهشته فخامته وضخامته، وكانت ميلادي بالقرب منه وهو لا يراها راكبة جوادا وحولها رجلان تدلهما على دارتانيان حتى عرفاه، فوخزت جوادها وسارت، ومشي الرجلان مع الحرس وهما يراقبان دارتانيان وهو لا يعلم من أمرهما شيئا، ولله علم الغيب.
الفصل الخامس والثلاثون
حصار روشل
وكان حصار روشل من أعظم الحوادث التي جرت في ملك لويس الثالث عشر وأعظم معارك الكردينال، ولا بأس أن نلم هنا ببعض تفاصيل هذا الحصار ليكون المطالع على بينة من أمر هذا التاريخ.
إن المدن التي وهبها هنريكوس الرابع للبروتستان ليعتصموا بها من سطوة الكاثوليك ذهبت منهم، فلم يبق إلا روشل، فعزم الكردينال على أن يهدم هذه المدينة وينزع من البروتستان كل ثقة وأمن، فجاهر البروتستان فيها بالحرب، واجتمع تحت لوائهم كثير من الإسبان والإنكليز والإيطاليين على اختلاف طبقاتهم، وكان ميناها آخر مينا بقي للإنكليز في فرنسا. فعزم الكردينال على أن لا يبقي للإنكليز موطئ قدم في فرنسا، جاريا في ذلك على سنن جان دارك والدوق دي كيز، ولقد كان أحد قواد فرنسا يقول: إن أخذ روشل مستحيل رابع لأنها كانت ممنعة بجزيرة ري تمدها بالذخيرة والجنود من إنكلترا. ولم يكن سبب تلك الحرب إلا عشق بيكنهام للملكة وغيرة الكردينال عليها لأنه كان يتعشقها، فدافعه عنها بيكنهام؛ ولذلك فقد كان ريشيليه الكردينال يمزج الدفاع عن فرنسا بالانتقام من خصمه بيكنهام لأنه كان على يقين من أنه إذا حارب إنكلترا فإنما يحارب بيكنهام، وإذا انتصر عليها فكأنه انتصر عليه، وإذا أذلها فقد أذله في عيني الملكة. وكانت مقاصد بيكنهام في تلك الحرب كمقاصد الكردينال لا تعدوها في شيء، وكانت قصارى رغبته فيها أن يدخل فرنسا فاتحا لأنه لم يقدر على دخولها سفيرا، فكانت الحرب قائمة على قدم وساق، تذهب الأرواح فيها مع دخان المدافع والبنادق وتسيل على شفرات السيوف وشبا الأسنة في سبيل عشق يتنازعه عاشقان، ولله في خلقه شأن.
وكان النصر في بداءة الأمر للورد بيكنهام، فأخذ جزيرة ري بتسعين أصطولا وعشرين ألف رجل، وقهر الكونت تواراك واليها من قبل ملك فرنسا بعد حرب شديدة، وهرب الكونت واليها فاعتصم في قلعة سان مارتين مع حامية المدينة، ووضع مئة من رجاله في حصن يدعى حصن لابري، وهو ما دعا الكردينال إلى استلام إدارة الحصار في روشل. وكان أخو الملك قد سبق إليها بكتيبة من الجيش، وكان في عزم الملك أن يرافق الكردينال في مسيره لولا أن ألم به من توعك المزاج ما أخره فتأخر معه الحراس، وانفصل دارتانيان عن أصحابه وسار مع حرس دي زيسار، فبلغوا روشل في اليوم العاشر من شهر أيلول سنة 1637، وكان الدوق بيكنهام عند وصولهم يحاصر قلعة سان مارتين وحصن لابري ويدافع الفرنسويين عن مدينة روشل.
فأقام دارتانيان في ذلك الحصار وحيدا لا مؤنس له، يحيق به أعداؤه ويترصدون قتله وهو بعيد عن أصحابه. وفيما هو ذات يوم ماش يفكر في أمره ووحدته ومحبوبته وما صنعت بها أيدي الزمان وما عسى أن تفعل به ميلادي، وقد أبعد عن الطريق ورفرف جنح الظلام، وإذا به يرى رجلا كامنا وراء سياج وهو يترصده، فأوجس منه وتقدم في طريقه فرأى رجلا آخر كامنا له وراء صخر، فعاد إلى الرجل الأول فأطلق الرجل عليه رصاصة فأخطأته، ثم أطلق الرجل الآخر فلم يصبه. وكان دارتانيان أعزل، فعلم أنه يغرر بنفسه إذا هاجم عدويه، فأخذ يعدو إلى المعسكر. وكان الرجلان قد أطلقا عليه ثانية فأصابت الرصاصة قلنسوته فخرقتها، وخلص دارتانيان بجريعة الذقن إلى المعسكر وهو يقول في نفسه: لا بد لهذا الأمر من أحد أسباب ثلاثة، إما انتقاما من أهل روشل أو من الكردينال أو من ميلادي، ثم نام وهو خائف من أن يداهمه أحد، فكان يهب من نومه مذعورا كأن عدوا يهاجمه حتى تبلج الصباح وبدأ القتال. وكان الدوق دورليان يزور مراكز الجيش وهم صفوف، فنظر دارتانيان وهو بين صفه فوجد دي زيسار يشير إليه بالدنو، فترك الصف ودنا فقال له: إن أخا الملك يريد بعض المتطوعين لأمر خطير، فلا تفتك هذه المأثرة. قال: نعم، فأنا لها. وكان البروتستان قد فتحوا في الليل حصنا ويريد الفرنسويين أن يقفوا على بعض شأنهم، فوقف أخو الملك وقال: أحتاج في هذه الليلة إلى أربعة رجال يقودهم فتى شجاع، فقال دي زيسار: أما الفتى الشجاع فعلي وجدانه، وهو هذا (وأشار إلى دارتانيان) فليختر من يشاء. فرفع دارتانيان سيفه وقال: من يتبعني للموت يا قوم؟ فوثب من فرقته رجلان ثم تبعهما آخران من الجند، فرد دارتانيان من تقدم بعد ذلك. وكانت بعثته في أن ينظر هل في الحصن حامية أم هو مهدم مهجور. فسار برجاله الأربعة، وكان الحرسيان اللذان من فرقته يمشيان إلى جنبيه والجنديان وراءه، فلما دنا من الحصن التفت إلى الجنديين فلم يرهما فظن أنهما خافا من القتال فرجعا، فتقدم بالحرسيين حتى صار على مقربة من الحصن وإذا بالرصاص يدوي والدخان ينتشر من الحصن، فعلم أن فيه حامية وهو ما يريد عرفانه، فعاد برفيقيه وإذا برصاصة أصابت أحدهما فخر صريعا، وسار رفيقه يعدو إلى المعسكر. ولم يشأ دارتانيان أن يترك القتيل، فدنا منه لينهضه وظن أنه جريح وإذا برصاصة أصابت رأس القتيل وأخرى أصابت الصخر ومرت بقرب دارتانيان، فعلم دارتانيان أن الرصاصتين ليستا من الحامية بل هما من الجنديين، والتفت فرآهما كامنين له، فسقط إلى الأرض متماوتا، فظناه قد أصيب فدنوا منه ولم يحشوا بندقيتيهما، فلما صارا على مقربة منه وثب إليهما، ففر أحدهما إلى نحو الحصن فأصابته رصاصة من حاميته فخر صريعا، وحمل دارتانيان على رفيقه فرماه إلى الأرض وبرك على صدره، فقال له: لا تقتلني يا سيدي أخبرك بالأمر. قال: وهل سرك يوجب العفو عنك؟ قال: نعم، قد أرسلتنا امرأة تدعى ميلادي ولا أعرفها. قال: وكيف إذن تعرف اسمها؟ قال: علمته من صاحبي هذا وهو صاحب الأمر، وأنا تابع له بالأجرة، ومعه رسالة منها. قال: أعفو عنك ولكن على شرط أن تذهب إليه وهو طريح فتأتيني بالرسالة. قال: أخشى أن يصيبني ما أصابه من حامية الحصن. قال: إن لم تذهب فإني قاتلك لا محالة، وقد تسلم من الحصن، وبعض الشر أهون من بعض. قال: أعفني يا مولاي بحق حبيبتك التي تظنها قد ماتت وهي باقية. قال: ما أدراك أن لي حبيبة؟ قال: من رسالة صاحبي. قال: ذلك ما يزيدني رغبة في أن أرى الرسالة، فعجل بها وإلا قتلتك. فأطاع الرجل وسار يتعثر بأذياله وهو يرعد فرقا، فناداه دارتانيان: ارجع ثكلتك أمك فما أنت بصاحبها، ثم أخذ يزحف على بطنه حتى انتهى إلى الجريح وجعل يبحث في جيوبه وهو لا يهتدي إليها حتى اعتاص عليه وجدانها وخشي أن يصيبه مكروه، فاحتمل الرجل على ظهره وسار به، وإذا برصاصة قد أصابت القتيل وهو على ظهر دارتانيان، فقال: تبارك الله فقد خلصني من كاد يقتلني. واستمر به سائرا حتى أمن بلوغ الرصاص إليه، فوضعه وأخذ يبحث في ثيابه حتى وجد الرسالة، ففضها وقرأ:
إذ كنت قد عجزت عن الامرأة وأفلتت منك إلى دير يمنعها وجب عليك أن تتأثر الرجل أو يحل عقابي عليك وتحرم المال.
فعرف دارتانيان من الخط أنها من ميلادي، فوضعها في جيبه، وسأل الجريح عن الأمر فقال إنه قد وكل إليه القبض على امرأة فتشاغل في الطريق ففاتته، وأنه كان مأمورا أن يضعها في مكان في الشارع الملوكي، فعرف الفتى أن المكان بيت ميلادي، وأن الملكة عرفت محبسها فخلصتها إلى دير، فدعته ليراها قبل أن تذهب ، ثم التفت إلى الجريح وقال له: استند علي وهلم إلى المعسكر. قال: أظنك قاتلي لا محالة يا مولاي. قال: لا تخف. وسارا حتى بلغا المعسكر وشاع خبر دارتانيان، وأخذ الناس يهنئونه بسلامته، وأقام آمنا من عدويه؛ إذ قتل أحدهما واسترق الآخر، ولكن ميلادي لم تنم عنه، وعين الموتور لا تنام.
الفصل السادس والثلاثون
خمر أنجو
وكان الجيش ينتظر قدوم الملك بفروغ صبر، وكان أخوه عالما أنه سيستبدل في القيادة إما بالدوق دانكوليم أو باسومبيير أو سكومبرج لأنهم كانوا يتنازعون القيادة؛ وبذلك أقام لا يجري أمرا في طرد الإنكليز عن حصار قلعة سان مارتين وحصن لابري ولا في حصار الفرنسويين روشل.
أما دارتانيان فأقام لا يحرك ساكنا وهو في هاجس من نحو أصحابه، حتى إذا كان ذات يوم ورد عليه كتاب، وهذا نصه:
سيدي الكريم. إن أتوس وبورتوس وأراميس بعد إذ صرفوا عندي مدة طلبوا مني أن أرسل إليك اثنتي عشرة باطية من نبيذ أنجو لتشربها على نخبهم.
الإمضاء
كودو خولي الحراس
فسر دارتانيان بالهدية وذهب فدعا برفيقيه الحرسيين وأعد لهما متكأ وأمر خادمه بإحضار النبيذ، وكان عنده خادم آخر في المعسكر، فجاء بكأس من الخمر وجعل ينظر إليها نظرة المشوق الولهان، فقال له دارتانيان: اشرب لا عليك. فشرب ووضع الباطية بين أيديهم وهموا بالشرب وإذا بمدفع قد دوى ثم تلته مدافع، فظنوا أن العدو قد هاجمهم، فتركوا الكئوس قبل أن يمسوها ووثبوا إلى خارج المضرب، فوجدوا أن السبب قدوم الملك بحرسه، فعدا دارتانيان إلى أصحابه يهنئهم بالسلامة، فقال له أحدهم: هل عندك ما نشرب؟ قال: نعم من خمركم تشربون، فقال أتوس: وأي خمرنا؟ فقص عليه أمر الرسالة، فجعل كل منهم ينظر إلى رفيقه ويتساءلون، فقال لهم دارتانيان: ما بالكم كيف تعجبون؟ وهذا كتاب وكيلكم لي. فأخذه أتوس وقال: كذب من أتى به، فما هذا خطه فهو كتاب زور، فقال دارتانيان: هلم بنا إلى المضرب، فما أظن ذلك إلا من أفعال الخائنة. ولما دخل دارتانيان إلى الخيمة رأى الخادم الذي شرب الكأس يجود بنفسه وعلى وجهه علائم السم، فقال وهو يتقطع ألما: غششتني يا مولاي وسقيتني السم. قال: لا والله، فقد عزمت على أن أشرب. ولم يلبث الخادم أن مات، فدفنوه وكسروا البواطي، وتقدموا إلى الحارسين في كتم الأمر فوعداهم، وانصرفا. وقال الحراس لدارتانيان: اخرج بنا من هنا، فخرجوا إلى مضرب آخر، واشتغل أراميس وبورتوس ببعض شأنهما، فقال دارتانيان لأتوس: أظن أنها الفاعلة. قال: أنا في شك من ذلك. قال: إني رأيت زهرة الزنبق على كتفها رأي العين. قال: لعلها إنكليزية قدمت فرنسا ففجرت فيها فعوقبت. قال: بل هي امرأتك يا أتوس التي حكيت لي عنها وأنت في حال السكر. قال: إن امرأتي قد ماتت وأنا على يقين من أني شنقتها. قال: لعل الله قيض لها من خلصها، والآن فما نصنع؟ قال: نذهب إليها فتقول لها أن تكف عنك وتحذرها من أنك تشكوها إلى الملك وتحاكمها وتهول عليها من أمثال ذلك، وإلا فلا إقامة لك إلا بسياف يخفر رأسك كما يخفر رأس الملك. قال: إني أرغب في ذلك، ولكن من لي بها الآن؟ قال: يكون ذلك في آتي الأيام. قال: وكيف أطيق اللبث وأنا تحت الخطر منها؟ قال: قد حفظنا الله إلى الآن وهو زعيم بنا إلى المستقبل. قال: صدقت، ولكن ما رأيك بكونستانس؟ قال: ألم تعرف من الرسالة أنها في أحد الأديرة، فأنا لك بعد انتهاء الحرب في البحث عنها فلا ندع ديرا في فرنسا بأسرها. قال: ذلك بعيد المنال طويل الشقة، ولكن نكتب إلى أحد أتباع الملكة فيسألها عنها، فإنها هي التي أدخلتها الدير. قال: سنفعل. ثم افترقا.
الفصل السابع والثلاثون
فندق برج الحمام
ولقد كان عزم الملك عند وصوله إلى روشل أن يجلي الإنكليز عن جزيرة ري ويشدد الحصار على روشل لولا أن حال بينه وبين ذلك ما وقع من النفرة بين باسومبيير وسكومبرج وبين الدوق دانكوليم. وكان باسومبيير وسكومبرج قائدين في جيش فرنسا يطلبان ما لهما من حق القيادة في الجيش، وكان باسومبيير من البروتستان في السر ، فخشي الكردينال منه أن يتساهل مع البروتستان في الحصار، فطلب من الملك أن يولي الدوق دانكوليم، فولاه قيادة عامة الجيش، فأحفظ ذلك القائدين وكادا يخرجان عن الجيش لولا أن ولوا كلا منهما قسما، وبعد ذلك أخذوا يشددون في طرد الإنكليز من الجزيرة، وكانوا قد أصيبوا ببلاء شديد من الأمراض ورداءة هواء البحر حتى قل عددهم.
واستمر الفرنسويون يضايقونهم حتى جلوهم عن الجزيرة، فانثنوا بفلكهم راجعين وقد تركوا في ساحة الحرب ألفي رجل بين قتيل وجريح فيهم كثير من الأشراف والقواد ومعهم عدة من المدافع والرايات. وكان الكردينال قد قبض على رسول بيكنهام، وعرف منه أن بيكنهام يعقد دسيسة مع إسبانيا واللورين على فرنسا، ثم وجد في غرفة بيكنهام في الجزيرة أوراقا تثبت تلك الدسيسة، وأن لدي شفريز والملكة يدا فيها؛ ولذلك فقد كان الكردينال شديد الاهتمام بأمر الحصار لأنه كان وزيرا مطلقا تلحقه التبعة في كل عمل، وكان يخشى أن تتم تلك الدسيسة فتذهب بنفسه ونفس الملك وتحط شأن فرنسا وتبيد سطوتها، فكانت رسله تنبث في الجهات وأرصاده تتقاطر عليه بالأخبار، وكان مع ذلك حريصا على نفسه شديد الحذر عليها؛ خشية من أن يقتل أو يفاجأ بمكروه.
وكان الحراس الثلاثة مرابطين لباب الملك لا يعانون من أمر الحصار شيئا ولا يقتحمون من أهوال الحرب هولا، وبينما كان دارتانيان ذات ليلة منفصلا عنهم في فرقته ركبوا خيولهم وقصدوا إلى فندق يدعى فندق برج الحمام ليشربوا فيه، وفيما هم يسيرون والليل مرخ سدوله والأرض مقفرة إذ سمعوا وقع حوافر خيل تدنو منهم، فوقفوا وإذا بفارسين على بعد منهما قد وقفا وهما بالرجوع، فتقدم أتوس وصاح بهما: من يحيي؟ فقال أحدهما: بل أنتم من يحيي؟ فقال أتوس: أجب أو تقتل، فقال الفارس الآخر: مكانكم يا قوم لا تفعلوا شيئا، فمن أنتم؟ قال: نحن فوارس نتجسس العدو في الليل. قال: وما مهنتكم في الجيش. قال: حراس عند الملك. قال: من أي فرقة أنتم؟ قال: من فرقة دي تريفيل. قال: تعالوا فأخبروني ماذا تفعلون هنا ؟ فتقدم الحراس وسبقهم أتوس وقال: نحن عسس في الليل. قال: فما أسماؤكم؟ قال: لقد أكثرت في الأسئلة، فأي سلطان لك في ذلك؟ وكان الفارس ملثما بردائه، فحله وبان وجهه، فقال أتوس: العفو يا سيدي الكردينال. قال: ما اسمك؟ قال: أتوس. فأشار الكردينال إلى خادمه فدنا منه، فقال له: قل لهم أن يتبعوني وحذرهم من الإفشاء، فإني لا أريد أن يعرف أحد أني خرجت من المعسكر، فقال أتوس: لقد وضعت سرك في موضعه يا مولاي فلا تخش إفشاءه، فقال الكردينال: لله أنت يا أتوس، فإنك أسمع من الخلد، فخذ صاحبيك واتبعوني، أوليسا بورتوس وأراميس؟ قال: بلى يا مولاي. وتقدم الحرسيان فسلما على الكردينال، فقال لهم: أنا أعرفكم يا قوم وإن لم تكونوا من صحابتي، ولكني أقدر أن أكل إليكم أمري، فاتبعوني نذهب إلى فندق برج الحمام، فقال أتوس: لقد حملتنا منة في ذلك يا مولاي، فإنه بينما نحن آتون مع الملك عجنا بهذا الفندق فجرت لنا فيه مشاجرة، ونحن نحب الآن أن نذهب إليه بحيث كانت رفقتك لنا عونا. قال: وما كان من عاقبة مشاجرتكم؟ قال: جرح صديقي أراميس في كتفه جرحا خفيفا. قال: وأنت؟ قال: أما أنا فلم أستل سيفي، بل حملت خصمي وحذفت به من النافذة فانكسرت رجله. قال: وأنت يا بورتوس؟ قال: إني لما كنت أعلم أن البراز محظور علينا لم أمد يدي إلى سيفي بل ضربت خصمي بخشبة وجدتها فكسرت كتفه. قال: وأنت يا أراميس؟ قال: أنا لما رأيت صاحبي في المشاجرة دخلت لأفصل بين المتشاجرين ففاجئني رجل بضربة سيف على عاتقي، فاغتظت منه وحملت عليه بسيفي فاخترقت صدره، وحمله أصحابه ولا أدري ماذا جرى به بعد ذلك. فقال أتوس: ولم يكن علينا في ذلك لوم يا مولاي، فإن أخصامنا كانوا سكارى وأحسوا بامرأة في إحدى غرف الفندق فحاولوا كسر الباب والدخول عليها، فقال: وهل هي جميلة؟ قال: إني لم أرها. قال: بارك الله فيكم، فإن حماية الحرم من الكرم، ونحن ذاهبون الآن إلى الفندق وسأقف على جلية الخبر. قال: إننا من النبلاء يا مولاي والقتل أهون علينا من الكذب. قال: معاذ الله أن أرتاب من كلامكم، ولكن هل كانت الامرأة وحدها؟ قال: لا، بل كان معها فارس، ولكنه لم يمنعها وما أظنه إلا جبانا. قال: يكفي، فإن بعض الظن إثم. ثم ساروا والكردينال ملثم حتى بلغوا الفندق، فأشار إلى أتباعه بالتنحي فتنحوا، ونزل إليه رجل فكلمه سرا، ثم ركب جوادا مسرجا كان هناك وسار في طريق باريز. وقال الكردينال لأتباعه: تقدموا. ثم التفت إلى الحراس فقال: لقد صدقتم في حكايتكم بارك الله فيكم، فاقتفوا أثري. ثم ترجل وترجلوا، وربطوا خيولهم، ولم تكن هيئة الكردينال في تلك الليلة إلا هيئة ضابط طارق ليل، ثم خرج صاحب الفندق فقال له الكردينال: هل عندك من مقام يقيم فيه أصحابي ساعة؟ قال: نعم، ثم فتح لهم غرفة في الطبقة العليا فدخلوها، وتوجه الكردينال بنفسه إلى غرفة أخرى.
الفصل الثامن والثلاثون
فائدة الأسطوانة
ودخل الحراس غرفتهم يتساءلون عمن عساه يكون الذي يقابله الكردينال، ثم جلس أراميس وبورتوس في ناحية يتقامران وجعل أتوس يتمشى في الغرفة مفكرا متأملا، وإذا به يسمع صوتا خارجا من أسطوانة الموقد المتصلة بالغرفة السفلى، فأشار إلى صاحبيه بالسكوت ودنا من الثقب وألصق به أذنه، فسمع الكردينال يقول: اسمعي يا ميلادي، فإن الأمر خطير واجلسي أحدثك. قالت: يقول مولاي؛ فإني سامعة مطيعة. فلما سمع أتوس صوتها ارتعدت فرائصه واقشعر جلده، فقال الكردينال: تذهبين غدا صباحا إلى مصب نهر شارانت فتجدين سفينة إنكليزية الهيئة وربانها من قبلي فتركبينها. قالت: إذن أذهب الليلة. قال: نعم، ولكن بعد أن أرسم لك ما أريد، فتجدين لدى الباب رجلين يذهبان معك، ويكون خروجك من هنا بعد خروجي بنصف ساعة. قالت: فلنعد إلى البعثة التي أنا صائرة إليها، وألتمس أن تكون تفاصيلك واضحة حتى لا يفوتني شيء منها. فسكت الكردينال برهة ليجمع بها فكره ويرتب سرد أوامره. فاغتنم أتوس ذلك وأشار إلى صاحبيه بإقفال الباب والدنو للسماع معه، ففعلا وجلسوا جميعا، فقال الكردينال: تذهبين إلى لندرة فتلتقين باللورد بيكنهام. قالت: لا أقدر يا مولاي، فإنه لم يعد يأمنني بعد أخذي منه الجوهرتين. قال: لست الآن في شيء من ذلك، ولكنك تذهبين إليه في سفارة، فتقولين له من قبلي إني عارف بكل ما يصنع وأنا في مأمن منه، وعند أقل حركة بيديه أذهب بنفس الملكة. قالت: وهل يصدق أنك قادر على ذلك؟ قال: نعم، بعلامات تأخذينها مني، فتقولين له إني أبوح بمقابلته للملكة وقد جاءها بثياب المغول التي اشتراها بثلاثة آلاف دينار، ثم تقولين له بأني عارف بدخوله القصر بهيئة قصاص إيطالي وفي ثوبه رقعة بيضاء فيها رسم جمجمة وعظام، ثم تقولين له بأني أنشر حادثة أميان بتفاصيلها، وأن رسوله مونتسكي في سجن الباستيل تحت أمري وسأجعله يقر بكل ما يعرف، ثم تذكرين له بأني وجدت في غرفته في جزيرة ري بعد ما انهزم منها أوراقا من دي شفريز بشأن الملكة تتضمن خيانتها للملك وعشقها لأعدائه وهو ما يوجب عليها القتل. قالت: نعم. وأعادت عليه الكلام بعينه لتستوثق من حفظه، ثم قالت: ولعل اللورد لا يقنع بذلك بل يستمر على حصار فرنسا. قال: لا، فإنه شديد الكلف بالملكة مشغوف بها إلى حد يكون جنونا، فهو يخشى عليها كثيرا حتى يضطر إلى الإمساك عن القتال. قالت: وإذا ثبت في عزمه؟ قال: إذن تقتلينه. قالت: وكيف يكون ذلك؟ قال: تلتمسين امرأة بارعة في الجمال جدا وترشينها بالمال وتغرينها به فتقتله وتخلص فرنسا. قالت: يكون ذلك لولا أن فيه عار الغدر. قال: ولكنه لا يدري به أحد. قالت: إذا شئت فأنا مطيعة، على أن تكتب لي صكا أكون فيه بريئة من كل ما أصنع. قال: نعم، على أن تجدي الامرأة. قالت: ذلك علي يا مولاي، فاكتب لي ما قلت لك وافسح لي في أن أعرض عليك أمر أعدائي. قال: وهل لك أعداء؟ قال: نعم، وقد عاديتهم في سبيل خدمتك. قال: ومن هم؟ قالت: أولهم بوناسيه. قال: هي في السجن. قالت: لا، فقد أخرجتها الملكة بأمر من الملك إلى أحد الأديرة. قال: أيها هو؟ قالت: لا أدري، فإن ذلك سر لم أصل إليه. قال: أنا أبحث عنه وأخبرك بعد ذلك. قالت: ثم إن لي عدوا آخر وهو صديقها. قال: ومن عساه يكون؟ قالت: تعرفه يا مولاي، وهو الذي انتصر على حراسك، وهو الذي جرح الكونت ويرد في طريق إنكلترا، وهو الذي عزم على قتلي لأني خطفت صديقته. قال: عرفته، أليس دارتانيان الذي تعنين؟ قالت: هو بعينه، فمن لنا به؟ قال: لو كان في يدك حجة عليه أنه ذهب إلى بيكنهام لأودعته سجن الباستيل. قالت: عندي، فأمهلني واكتب لي الآن ما قلت لك. قال: هاتي الدواة والقرطاس. ففعلت، وجلس يكتب. فأخذ أتوس صاحبيه وقادهما إلى طرف الغرفة فقالا: لماذا لا تدعنا نستوفي الحكاية؟ قال: سمعنا كل المهم، وأنا أريد أن أخرج. قالا: وإذا طلبك الكردينال. قال: تقولان علم من صاحب الفندق أن الطريق خطرة فخرج يتجسسها. قالا: نعم، ثم خرج وركب فرسه وسار في طريق المعسكر.
الفصل التاسع والثلاثون
لقاء الزوجين
ولم يخطئ أتوس في زعمه، فإن الكردينال لم يلبث أن نزل ودخل غرفة الحراس فوجد بورتوس وأراميس يتقامران، فقال لهما: أين أتوس؟ قالا: سمع أن الطريق خطرة فمضى يتجسسها. قال: إذن فاتبعاني، فإن الزمان قصير. ثم ركب وركبا معه وساروا من حيث أتوا.
أما أتوس فإنه ذهب بجواده غير بعيد ثم عاد فوقف إلى جانب الطريق بحيث يرى ولا يرى، ولم يمض عليه قليل حتى رأى الكردينال وأتباعه عائدين، فأتبعهم بصره حتى غابوا وعاد يركض جواده إلى الفندق، وقال لصاحبه: إن معي رسالة للامرأة التي عندك وقد نسي الذي كان معها أن يدفعها إليها فأرسلني بها الآن، فقال له: اصعد فهي في غرفتها. فصعد ودخل عليها وأقفل الباب وراءه، فالتفتت الامرأة إليه وإذا بها ترى رجلا ملتفا بردائه وقد أحنى قلنسوته على عينيه، فارتاعت منه وقالت له: من أنت؟ وماذا تريد؟ فقال في نفسه: هي والله. ثم أرسل رداءه ورفع قلنسوته ودنا منها وقال: أما تعرفيني؟ فأجفلت ميلادي لمرآه ولم تحر جوابا، فقال: أرى أنك عرفتني؟ فقالت - وقد رجعت حتى لصقت بالحائط: ويلاه إني أرى الكونت دي لافير؟ قال: نعم يا ميلادي هو الكونت دي لافير بعينه، أتى من عالم الأموات ليراك، «فاجلسي أحدثك» كما قال الكردينال. فجمدت ميلادي في مكانها كأنها صعقت، فقال لها: ما أظنك والله إلا شيطانا ماردا أفلت من النار، ولكن رويدك، فإن للرجال همما تفوق عزائم المردة، ووالله ما أدري كيف خلصت من جهنم إلى هنا باسم غير اسمك وهيئة تكاد تكون غير هيئتك، ولكنها لم تمح ما تحملين من العار والزهرة التي في جسمك. فأجفلت ميلادي من كلامه إجفال الحمل ونهضت من مكانها، فقال لها وهو قاعد: ما أراك إلا تحسبينني ميتا كما أحسبك، فإن اسم أتوس أخفى عنك الكونت دي لافير، كما أن اسم ميلادي كلاريك أخفى عني حنة دي بويل، أولم يكن ذلك اسمك عندما عقد لي عليك أخوك الكاهن؟ وما أظن أن كلا منا ترك صاحبه إلا لتوهمه إياه ميتا. فقالت: ما الذي أتى بك إلي؟ وماذا تريد مني؟ قال: أريد أن أقول لك أني متبع آثارك من غير أن تشعري بي. قالت: أوعالم أنت بما صنعت؟ قال: نعم، فاسمعي أقص عليك أفعالك من يوم دخلت في خدمة الكردينال إلى هذا المساء، فأنت سارقة الجوهرتين من الدوق بيكنهام، وأنت الخاطفة الامرأة بوناسيه، وأنت طروقة الكونت دارتانيان تحسبينه صديقك الكونت دي ويرد، ثم طروقته أيضا باسمه تحرضينه على قتل دي ويرد بزعمك أنه خادعك، ثم أنت التي حاولت قتل دارتانيان فأفلت منك بين الرصاص والسم، وأنت المعاقدة ريشيليه الليلة على قتل بيكنهام بشرط أن يسمح لك بقتل دارتانيان، فوالله ما أظنك بعد ذلك إلا من المردة الأشرار، ومهما يكن من أمرك فإن قتل بيكنهام وحياته سيان عندي فهو إنكليزي لا أعرفه، أما دارتانيان فوالله لئن مسسته يوما لأجعلن ذلك اليوم آخر أيامك من الدنيا وأولها من الآخرة، ولأطلبنك ولو كنت بين لحم الكردينال وجلده. قالت: لقد خدعني دارتانيان فيجب أن يموت . فذكر أتوس عند ذلك ماضي أيامه معها وما كان من أمرها، فهاج به حب الانتقام، فأخرج غدارة من حزامه ورفعها إلى جبهة ميلادي، وقال لها بصوت يرجف منه الأسد: والله لئن لم تعطني ورقة الكردينال لأذهبن بحياتك. وكانت ميلادي تعرف أتوس وبأسه، فأخرجت له الورقة وقالت له: خذها عليك لعنة الله. فأخذها ورد سلاحه إلى مكانه ودنا من النور وقرأ:
إن حامل هذه الورقة قد صنع ما صنع بأمري ولخير المملكة، فلا يعارضه أحد.
في 3 كانون الأول سنة 1627
ريشيليه
ثم طوى الورقة ووضعها في جيبه وقال لها: قلمت أظفارك فاخدشي. ثم فتح الباب وخرج فلقي الضابطين اللذين من قبل الكردينال، فقال لهما: امضيا فيما رسمه لكما مولاكما من أخذ الامرأة إلى قلعة بوات ولا تتركاها إلا هناك. ثم ركب جواده وركضه في عرض تلك البيداء حتى سمع وقع حوافر الخيل فعرف أنه الكردينال، فقال: من يحيي؟ فقال له الكردينال: تقدم يا أتوس فإن لك علي شكرا في حراستك لنا، وها قد وصلنا الآن فامضوا إلى مضاربكم، وكلمة المرور «الملك وري». ثم حياهم وذهب، فلما أبعد قال الصاحبان لأتوس: ما ترى كتب لها؟ قال: صه فإن الورقة معي. ثم أرسل خادمه يدعو دارتانيان وسار وصاحبيه، لا ينطقون إلا بكلمة المرور حتى بلغوا مضاربهم.
أما ميلادي فركبت الفلك فأقلع بها إلى إنكلترا.
الفصل الأربعون
حصان سان جرفي
وجاء دارتانيان إلى أصحابه وقال: علام دعوتموني؟ فقال أتوس: لأمر سوف تعلمه، فهلموا بنا الآن إلى أحد الفنادق هنا لعلنا نخلو لسرنا. ثم انطلقوا فصادفوا كريمود خادم أتوس، فأشار إليه أتوس أن يتبعهم، وساروا حتى بلغوا حانة قريبة فدخلوا وإذا بها مكتظة بالجند على اختلاف أجناسهم بين سكارى ومعربدين، فجلسوا يشربون. ودنا أحد الجند من دارتانيان وقال له: لقد كانت فرقتك غائبة ليلة أمس، فماذا فعلتم؟ قال: فتحنا حصنا. قال: وأي حصن هو؟ قال: سان جرفي، فهدمناه وتركناه مهجورا، ولا يبعد أن يرسل إليه الملك جنودا تحتله، فقال أتوس: أتراهنون يا قوم؟ قالوا: علام؟ قال : على أن أذهب أنا وأصحابي الثلاثة فنأكل في ذلك الحصن ونلبث فيه ساعة ثم نعود، ولا تجهلون ما في ذلك من الأخطار لأن رجال روشل على مقربة منه، والرهن طعام تصنعونه لنا، فقال كبيرهم: رضينا، فاذهبوا. فدنا دارتانيان من أتوس وقال له: إن علينا في ذلك لخطرا. قال: لا بأس، فإنا نخلو هناك، ثم عينوا الساعة وانطلقوا وكريمود وراءهم يحمل الزاد حتى بعدوا عن الناس، فقال أتوس: إن لدينا أمورا خطيرة نريد أن نتكلم فيها، ولا نأمن أن يسمعنا أحد إذا تكلمنا في الحانة. قال: وما علينا إذا ذهبنا إلى شاطئ البحر؟ قال: أخشى أن يرونا فيرتابوا بنا فنتهم بدسيسة أو مؤامرة ولا نأمن على أنفسنا من أن يبلغ الكردينال أمرنا من طير السماء أو سمك البحر أو وحش القفر، ولا خوف علينا من الموت هنا، فإن قتلى الحصن تخدمنا. قالوا: وكيف تخدم الموتى الأحياء؟ قال: نتقي بهم من يهاجمنا فيكونوا لنا جنة ولنا فيه مآرب أخرى من بنادقهم وسيوفهم وذخيرتهم، فقال كريمود وقد جلس على الأرض: أنا لا أذهب يا سيدي، فإني أخشى الهلاك. فأخرج أتوس غدارته وقال: أطع أو تهلك. فقام المسكين يمشي وهو يتعثر في أذياله خوفا وفرقا حتى بلغوا الحصن، فصعدوا إليه وأشرفوا على أصحابهم في الحانة، وأشاروا إليهم بالتحية، ثم نزع أتوس قلنسوته ووضعها على سيفه ونصبها كالراية.
الفصل الحادي والأربعون
محادثة الحراس
ولما دخلوا الحصن لم يجدوا فيه سوى بضعة عشر قتيلا من الفرنسويين والروشليين، فأخذ الغلام يهيئ المائدة، وقال أتوس لأصحابه: اجمعوا بنادق القتلى وذخائرهم وأنا أحدثكم، فليس للموتى آذان تسمعنا. فجمعوا ما تيسر لهم جمعه ثم جلسوا على الخوان، فقال دارتانيان لأتوس: ألا تخبرنا الآن بسرك؟ قال: بلى، فقد رأيت ميلادي أمس. وكان دارتانيان قد أدنى الكأس إلى فيه، فأمسكه وقال: رأيت امرأة ... فقال له: صه، فلا يعرف ذلك أحد غيرك. قال: وأين رأيتها؟ قال: على مقربة من هنا في فندق برج الحمام. فقال دارتانيان: إني إذن هالك. قال: لا يكبرن عليك الوهم، فإني أظنها رحلت عن فرنسا الآن. فقال بورتوس: وما عساها تكون هذه؟ قال: امرأة جميلة غاظها دارتانيان فعزمت على قتله وطلبت رأسه من الكردينال. فقال دارتانيان: وكيف ذلك؟ قال: نعم، سمعتها أنا وأراميس. فقال دارتانيان: لم يعد في القتال والجهاد فائدة، ولم يبق لي إلا أن أقتل نفسي بيدي، فما أرى لي مطمعا في الإفلات من أعداء مثل الكونت دي ويرد وميلادي والكردينال، وهو ضغث على إبالة، والرجل الذي خاصمته في مينك. قال: خفض عليك أيها الصديق فإنهم أربعة ونحن أربعة، كل واحد لواحد. ثم التفت إلى كريمود فرآه يرتعد خوفا، فقال له: ما بالك لا أم لك؟ قال: داهمتنا سرية يا مولاي. قال: وكم عددها؟ قال: ستة عشر فاعلا وأربعة عساكر على بعد غلوة منا. قال: فاستعدوا يا قوم. فهب الحراس إلى السور فرأوا الجيش مقبلا، فاصطفوا ووضعوا كريمود وراءهم ليحشو لهم البنادق، وصعد أتوس على ثلمة السور وبندقيته في يده الواحدة وقلنسوته في الأخرى وقال للسرية: يا قوم، نحن جماعة جئنا إلى هنا لنأكل، فإذا كان لكم عمل فأنظرونا حتى نفرغ فنذهب وتدخلون، فقال له دارتانيان: حذار يا أتوس، فإني أراهم يسددون بنادقهم إليك. قال: لا بأس، فإنهم نبط لا يحكمون الرمي ... وما أتم كلامه حتى دوى الرصاص عن جانبيه، فأطلق وأصحابه بنادقهم فأصابوا أربعة، فسقطوا ثم ثنوا عليهم فأصابوا منهم مثل ذلك وفر الباقون عائدين على أعقابهم. فعمد الحراس إلى أسلابهم فأخذوها وعادوا إلى طعامهم، وأخذ الخادم يحشو البنادق. واستأنف أتوس كلامه فقال: وكان ذهاب ميلادي إلى إنكلترا بنية قتل بيكنهام إما بيدها أو بأن تغري به أحدا، فقال دارتانيان: تلك إذن خيانة وغدر. قال: أنا قليل الاكتراث في مثل ذلك، وسيان عندي قتلته أم لم تقتله. ثم التفت إلى الخادم وقال له: خذ عصا واربط بها منديلا وانصبها لنا علما ليعلم رجال روشل بأنهم يحاربون أبطال فرنسا. ففعل، وأخذ العلم يخفق فوق رءوسهم، فقال دارتانيان: كيف يقل اكتراثك بقتل الدوق بيكنهام وهو لنا صديق؟ قال : لا، بل هو عدو، أما تراه يحاربنا؟ قال: أولا تذكر الأفراس التي هادانا بها، فإني والله لست بجاحد حبه؟ قال: سنرى في ذلك، ثم إن ميلادي أخذت من الكردينال صكا تأمن به عاقبة ما تفعل. قال دارتانيان: وهل لم يزل في يدها؟ قال: لا، فهو عندي فدونكه. وأخرجه من جيبه، فأخذه دارتانيان وقرأه حتى انتهى ثم قال: أرى أن نشقها؟ قال: لا والله ولو ملئت لي ذهبا ما شققتها. قال: وما ترى تصنع ميلادي؟ قال: تكتب إلى الكردينال أن أتوس أحد الحراس قد سلبها الصك، فيقبض الكردينال على دارتانيان أولا ثم يقبض علي ويودعني سجن الباستيل. قال دارتانيان: أراك تمزح؟ قال: والله بل هي الحقيقة، فما نصنع؟ قال: قد عن لي رأي ... وما أتم كلامه حتى صاح بهم كريمود: سلاحكم فاستعدوا. فهبوا إلى بنادقهم ونظروا فإذا فرقة من الجند مقبلة عليهم، فقال أراميس: أرى أن نرجع، فقال أتوس: إن ذلك لا يكون أبدا لأسباب ثلاثة، أولها أنا لم نفرغ بعد من الطعام، والثاني لا يزال في صدرنا كلام نحب أن ننفثه، والثالث أن الساعة لم تنقض بعد. قالوا: وكيف نصنع؟ قال: نطلق عليهم الرصاص حتى ينفد، وإذا بقيت منهم بقية واستمرت نحونا نمهلها حتى تصير تحت الحائط ندفع الجدار عليها وهو مهدم لا يلبث أن يهوي فنقتلهم عن آخرهم. قالوا: أصبت، ثم صوبوا بنادقهم وأطلقوها فقتلوا أربعة، ثم أتبعوها بمثلها فقتلوا أربعة آخرين، ولم يزل من بقي منهم يتقدم حتى بلغوا خندق الحصن وهم اثنا عشر رجلا، فقال أتوس: ادفعوا عليهم الجدار. فدفعوه، فسقط عليهم يهوي عليهم، ثم علا صراخهم وارتفع غبار الحائط، فقال أتوس: أظنهم ماتوا جميعا. ثم تطلع وقال: أرى ثلاثة منهم يركضون مخضبين بالدماء. قالوا: دعهم، فقد انقضت الساعة. ثم التفتوا إلى دارتانيان وقالوا: ما الرأي الذي عن لك؟ قال: أن أذهب إلى إنكلترا وأقابل بيكنهام. فقال أتوس: ليس ذلك بصواب. قال: لماذا؟ قال: لأنك عندما ذهبت أول مرة لم يكن بيننا وبين إنكلترا حرب، أما الآن فيحسب ذهابك خيانة. فقال بورتوس: وأنا قد لاح لي خاطرة. قالوا: ما ذاك؟ قال: أستأذن دي تريفيل وأتبع ميلادي حتى أدركها وهي لا تعرفني فأقتلها وأعود إليكم. فقال أراميس: عيب على الرجال أن تقتل النساء، وإنما نحن أبطال.
كتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
ولكن بدا لي رأي وعساني مصيب فيه، وهو أن نخبر الملكة بالأمر. قال أتوس: ذلك مستحيل الآن؛ إذ لا يمكن أن تصل رسالة إلى باريز على بعدها منا من غير أن يدري بها المعسكر. قال: إذا كان المحظور من هذا القبيل فلا بأس، وعلي قضاء الأمر، فإني أعرف شخصا في تور ... ثم احتبس لسانه حياء، فقال دارتانيان لأتوس: ما رأيك في ذلك؟ قال: لا أنكره، ولكني لا أراه يتم حتى يعرف به الكردينال. قال: سنرى في ذلك، ولكني أسمع صوت البوق، فما ذاك؟ قال: قد وجه إلينا القائد فرقة تحاربنا، وأنا أسمع صوت البوق يدنو فما رأيكم؟ قال: دعوهم. ثم أشار إلى كريمود أن يصف القتلى على الحائط بقبعهم وعليهم سلاحهم، ففعل واستحسنوا رأيه، فقال: فلنرجع الآن إلى رأيي. قالوا: ما ذاك؟ قال: أظن أن لهذه الامرأة الفاجرة سلفا؟ قال: نعم، وهو يدعى اللورد ونتر، مقيم في لندرة الآن، وهو لي صديق. قال: فإن كنا لا بد مرسلين فإلى هذا نخبره بالعزم الذي عزمت عليه ميلادي ليترقبها ويودعها السجن. فقال دارتانيان: بالصواب أشرت، ولكني أرى أن نخبر الملكة أيضا. قال: وأنى لنا من يذهب إلى تور ولندرة. قال أراميس: خادمي بازين. فقال دارتانيان: وخادمي بلانشت. فقال أراميس: ذلك الرأي السديد لأنا لا نقدر أن نفارق الجيش، وأما الغلمان فليس ذلك بمحظور عليهم، فنكتب رسالتين اليوم ونرسلهما. ثم التفت دارتانيان وقال: أرى البيارق تخفق على مقربة منا، فقد داهمتنا السرية من غير شك، فقال بورتوس: وما الفائدة من وضع القتلى بسلاحهم؟ قال أتوس: نوهم الأعداء أنهم أحياء، فيلهون برميهم حتى ننجو. ثم أخذ الراية التي نشرها وانطلقوا وهم يسمعون طلقات البنادق على القتلى ويضحكون، حتى دنوا من أصحابهم الفرنسويين، فقابلوهم بالتهليل والتكبير، وكانوا يتشاورون في بيع خاتم دارتانيان وإرسال الرسالتين بثمنه، فوعدهم دارتانيان ببيعه، ثم قابلوا الجند فهنأوهم بالسلامة وأثنوا على شجاعتهم، وبلغ الخبر الكردينال فسر منه وقال: لا بد من أن أضمهم إلى حرسي، ثم لقي دي تريفيل فأخبره بالأمر وهنأه بشجاعة رجاله، فقال: ليس كلهم رجالي يا مولاي، فإن دارتانيان من حرس دي زيسار. قال: يجب أن يكون منهم مذ الآن، فلا يجمل بنا أن نفرق بينهم وهم أصدقاء. فشكره دي تريفيل على ذلك وأخبر دارتانيان، فسر سرورا عظيما وذهب إلى دي زيسار يشكره ويستأذنه بالانضمام إلى أصحابه، فهنأه القائد بالرتبة الجديدة، وابتاع منه الخاتم الذي أخذه من الملكة بسبعة آلاف دينار.
الفصل الثاني والأربعون
الرسالتان
ولما كان المساء اجتمع الحراس الأربعة في مضرب أتوس ليتداولوا في إنشاء الرسالتين لسلف ميلادي، وللشخص الذي في تور، وفي إرسال الغلمان في إيصالهما، فأقاموا يتجادلون في من يرسلون وكل منهم يمدح من خادمه ويطلب إرساله ويطنب فيه بالشجاعة والأمانة، فقال أراميس: لقد وهمتم يا قوم، فليس القصد في الخادم أن يكون أمينا شجاعا، بل أن يكون محبا للمال حريصا عليه، بحيث يمكن أن يغرى به فيجتهد في أداء الرسالة. قالوا: صدقت، فمن لنا برجل يقطع فرنسا وهي مكتظة بالجواسيس ثم يذهب إلى إنكلترا فيكلم أهلها بلسانهم؟ فقال دارتانيان: نكتب له كتابا لا يرتاب فيه أحد أنه من صديق إلى صديقه ولا دخل للسياسة فيه، فقال أراميس: أنا أكتبه، ثم استمد القلم وكتب:
أيها اللورد
إن كاتب هذه الرسالة قد أسعده الدهر بأن بارزك في شارع لانفير، ولما كنت لي صديقا رأيت أن أحذرك من إحدى ذوي قرباك تحاول قتلك باعتقاد أنها وريثتك، وهي امرأة قد تزوجت في فرنسا ثم تزوجت في إنكلترا، وهي سائرة إليك الآن فترصدها فإن مقاصدهما عظيمة سيئة، وإذا شئت دليلا على صدق كلامي فاقرأ ما هو منقوش على كتفها الأيسر.
فقال أتوس: لقد أحسنت في البيان، ولكن من أين لنا المال لإرسال الخدم؟ وأين خاتمك يا دارتانيان؟ قال: عندي خير منه. ثم أخرج الكيس ودفعه إليهم، فقالوا: كم فيه؟ قال: سبعة آلاف دينار. قالوا: تكفي. فاكتب الآن يا أراميس إلى الملكة وحذرها على بيكنهام، فإن لك صديقة في تور على ما تقول، فكتب:
ابنة العم العزيزة
إن الكردينال - حفظه الله تعالى وأمتعنا به - قد أوشك أن ينتهي من حرب الإنكليز لعجزهم عن إرسال عمارتهم بما يعترضهم من حرج الموقف، وفي ظني أن بيكنهام لا يقدر على المجيء إلى الحصار لحائل يحول دونه، فإن الكردينال أشهر سياسي لم يقم له مثيل ولن يقوم، فأخبري بذلك أختك، ثم إني قد حلمت أن بيكنهام اللئيم قد قتل ولا أذكر كيف كان ذلك بسم أم بجارحة، إلا إني أذكر أني رأيته قتيلا، وأنت تعلمين أن أحلامي لا تكذب، فأيقني بعودتي إليك. والسلام.
فقال أتوس: لله درك ما أرق تلطفك وتلميحك، وأبصرك بضروب البيان، فعنون الكتاب. قال: ذلك سهل، وكتب: «إلى ماري ميشون قصارة ثياب في تور». فجعل أصحابه يتغامزون ويتضاحكون من قوله، فقال: تعلمون يا قوم أنه لا يقوم بهذه الرسالة إلا بازين خادمي؛ لأنه يعرف صاحبتها وتعرفه، فلا تسلم رسائلها لغيره. فقال دارتانيان: كذلك لا يقوم برسالة لندرة إلا بلانشت لأنه ذهب إلى تلك البلاد فهو يعرف أن يقول لهم بلغتهم أين الطريق وإني آت من قبل دارتانيان. فقال أتوس: إذن يذهب بلانشت إلى لندرة ويأخذ لنفقته سبعمائة دينار للذهاب ومثلها للإياب، ويأخذ بازين ثلاثمائة لذهابه ورجوعه. فدعا دارتانيان ببلانشت وأغراه بالمال وأوصاه بالتحفظ على الرسالة، وأن لا تصل إلى غير صاحبها، فقال: أضعها يا مولاي في بطانة ثوبي وإذا اضطررت أبتلعها فلا تظهر بعد ذلك أبدا، وإني سأحفظها غدا عن ظهر قلبي. فقال له أتوس: إياك والإفشاء؛ فإنك بذلك تعرض مولاك للقتل، ووالله لئن فعلت لأطلبنك بين سمع الأرض وبصرها، فلا أدع فيك عضوا يتصل بآخر، ولك ثمانية أيام تذهب فيها ثم تعود في مثلها. فلما كان اليوم الثاني ركب وودع القوم، فدنا منه دارتانيان وقال له: تقول لدى ونتر أن يحرص على حياة بيكنهام، فإن قوما يطلبونها، وإياك أن تظهر ذلك لغير اللورد. قال: نعم. وركض جواده وسار. وفي اليوم الثاني ذهب بازين رسالة تور، وكان موعد عودته إلى ثمانية أيام.
فلما كان اليوم الثامن عاد بازين من توار بجواب الرسالة، فقرأه أراميس وإذا به:
ابن العم العزيز
قد عرفنا أحلامك وجزعنا لها لو كانت تصدق، ولكنها أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. والسلام عليك.
ماري ميشون
وبعد أيام قلائل - رأوها كالأعوام - وفد بلانشت برسالة فيها: «أشكرك فكن مطمئنا»، فأخذها وأحرقها، ثم نام وأصحابه براحة لم يذوقوها من قبل.
الفصل الثالث والأربعون
الكرب الشديد
أما ميلادي فسار بها الفلك إلى إنكلترا وهي تهدر كالبعير غيظا وحنقا، وطلبت من الربان أن يعود بها إلى فرنسا، فأبى خشية من أن يقع في أيدي الإنكليز، حتى همت بإلقاء نفسها في البحر والعود سابحة. ولم يزل الفلك ماخرا بها حتى بلغت إنكلترا. وكان وصولها في اليوم الذي بارحها فيه بلانشت، وكانت بورت سموت غاصة بجماهير المتفرجين على فلك جديدة ينزلونها في البحر، وكان على المينا ضابط يستقري وجوه النازلين من الفلك حتى بلغت إليه ميلادي، وكان الليل قد أقبل، فدنا منها وتأملها مليا حتى ارتاعت منه وأجفلت إلى الوراء، فأشار الضابط إلى أحد الخدم أن يحمل متاعها، ثم مد إليها يده وقال لها: اتبعيني، فقالت له: من أنت؟ ومن وكلك بي؟ قال: إنك ترين من ثيابي أني ضابط بحري. قالت: وهل للضابط البحري إذن بأن يعقل الناس؟ قال: نعم، ولا سيما الغرباء في أيام الحرب؛ إذ يؤخذون إلى مكان تخفرهم فيه الحكومة. فقالت: ولكني لست بغريبة، بل أنا إنكليزية واسمي ميلادي كلاريك. قال: ذلك لا يفيد، فاتبعيني. ثم قادها إلى عربة وركب وإياها وسارت بهما العربة سيرا حثيثا حتى أبعدت عن البلد، فأطلت ميلادي من نافذتها وقالت: إلى أين تذهب بي؟ فإني لا أرى البلد. فلم يجبها الضابط بشيء، فقالت: إني لا أعدو هذا المكان ولا أذهب إلى ما بعد هنا، فإن لم ترجعني لم تأمن عقابي. فلم يجبها واستمر في السكوت، فأخذت تصيح: إلي إلي، فقد هلكت. ولا يجيبها إلا الصدى. فهمت بفتح باب العربة والوثوب منها، فأمسكها الضابط وقال: إياك والتغرير بنفسك، فإنك تقتلين. فقالت: ألا تخبرني بالله أبأمرك أم بأمر الحكومة أم بأمر أعدائي تفعل بي ذلك؟ قال: لا أعاملك إلا كما نعامل كل غريب يطأ إنكلترا في هذه الأيام. قالت: إذن أنت لا تعرفني؟ قال: لا، فهي أول مرة رأيتك فيها. قال: نشدتك الله، أما في قلبك شيء مني أو حقد علي؟ قال: لا والله لا أرب لي فيك ولا ثأر لي عليك.
وبعد ساعة وصلت العربة إلى قصر هائل المنظر عالي البناء مقفر الجوانب يضرب البحر جدرانه فيسمع له صوت كالرعد، فدخلت العربة تحت قنطرتين ثم وقفت في ساحة واسعة مظلمة، فنزل الضابط وأنزل ميلادي، فقالت: إذن أنا في سجن، ولكن مقامي لا يطول فيه بهمتك أيها الفتى إن شاء الله. فلم يجبها بكلمة، بل أخرج من جيبه بوقا صغيرا ونفخ فيه ثلاث نفخات، وإذا برجال تقاطروا إليه، فقادوا العربة إلى داخل القصر وأخذ الضابط ميلادي فمشى بها نفقا طويلا وصعد في سلم انتهى منه إلى غرفة، ففتحها وأدخلها فيها، ثم دخل الخادم بمتاعها وهم في صمت دائم، فعلمت أنها أسيرة. وطال سكوت القوم حولها، فقالت: بالله يا سيدي ما هذا الذي أرى؟ أخبرني بحقيقة الأمر فإني جليدة على المصائب، فأين أنا؟ وما عساني أكون هنا؟ أطليقة؟ فلماذا أرى الحراس حولي؟ أم أسيرة؟ فأي جريمة اجترحت؟ فقال الضابط: إنك يا سيدتي في المكان الذي أعد لك، وقد كان إلي الأمر أن أذهب إلى البحر فآتي بك إلى هنا. وقد فعلت كما رسم لي وقمت بما ندبت إليه وما يقتضيه شرفي وحرمتي من التجمل معك وعدم الغلظة لك، أما بقية أمرك فلا يد لي فيها ولا علم لي بها، فهي منوطة بغيري. قالت: ومن عساه يكون؟ وما أتمت كلامها حتى سمعت خفق أقدام تقترب، قال لها الضابط: ذلك الذي سألتني عنه. ثم انفتح الباب فظهر منه رجل بغير قبعة وإلى جنبه سيف وفي يده منديل، فدنا منها فقالت: هذا أنت يا أخي؟ قال: نعم. قالت: فما هذا القصر؟ قال: لي. قالت: وما هذه الغرفة؟ قال: لك. قالت: إني إذن أسيرتك؟ قال: تقريبا، فاجلسي أحدثك كما يحدث الأخ أخته، ثم التفت إلى الضابط فقال له: عافاك الله يا فلتون، فدعنا الآن واذهب.
الفصل الرابع والأربعون
محادثة الأخ والأخت
فقال اللورد: أراك قد عدت إلى إنكلترا خلافا لما قلته لي من أنك لا تدخلينها أبدا، فما بدا لك؟ قالت: أخبرني قبلا كيف عرفت بقدومي وساعة وصولي في الفلك الذي حملني وباسمي الذي تسترت به؟ قال: بل قولي لي أنت ما قصدك في المجيء إلى إنكلترا؟ قالت: أتيت لأراك. فقال اللورد منذهلا: لتريني؟ قالت: نعم لأراك، وأي عجب في ذلك؟ قال: ليس لك في دخول إنكلترا قصد سوى ذلك؟ قالت: لا. قال: إذن لأجلي وحدي قطعت المانش؟ قالت: نعم. قال: لله ما أشد حنوك وحبك يا أختاه! قالت: أولست أقرب الناس إليك وأمسهم رحما بك؟ قال: نعم، حتى إنك الوريثة الوحيدة لي. فارتاعت ميلادي لتلك العبارة وقالت: لا أفهم يا ميلورد ما تقول ولا ما تقصد في كلامك. قال: لا شبهة في قولي، فإنك اشتقت إلي فأتيت لتريني، فأنفذت إليك أحد خدمي يقودك إلى قصري هذا حيث تريني كل يوم فينطفئ ما بك من غلة الشوق إلي، فأي إبهام في ذلك وأي عجب؟ قالت: إني لأعجب كيف علمت بقدومي. قال: ذلك هين، فإن رئيس الفلك بعث إلي من أعلمني فأرسلت إليك من أتى بك. فعلمت ميلادي أنه يكذب عليها، فقالت: أوليس اللورد بيكنهام الذي أبصرته واقفا على الشاطئ؟ قال: نعم، وهو يهمك جدا، بل يهم فرنسا، بل يهم صديقك الكردينال، ولكن ما لنا ولهذا الآن؟ قلت إنك آتية لمرآي؟ قالت: نعم. قال: وقد أعددت لك مكانا أراك فيه كل يوم كما تحبين. قالت: إذن أقيم هنا أبدا. قال: وهل في ذلك ما يسوءك. قالت: إني هنا منفردة ليس معي خادماتي، وهو ما يوجب علي الملل. قال: يكون لك ذلك، ولكن ألا تخبرينني أين زوجك الأول الفرنساوي؟ قالت: أظنك تمزح يا ميلورد. قال: ليست تلك عادتي. قالت وقد نهضت من مكانها واقفة: إذن أن تسخر بي وتهينني؟ قال: ولا ذلك. قالت: فإذن أنت سكران أو قليل الحياء، فاخرج وابعث لي بامرأة. قال: إن النساء غير كتومات للسر، فلو بقي السر بينهن فهو أولى وأستر. فقالت وقد هاجها الغضب: اخرج يا شقي. ثم هجمت عليه كاللبؤة فردها بشماله وأهوى بيمينه على سيفه، وقال: أعرف أنك معتادة قتل الرجال، فأنا أحذر منك. قالت: أف لك، أتمد يدك إلى النساء؟ قال: ليست يدي بأول يد مدت إليك. وأشار بإصبعه إلى كتفها حتى مسه، فأجفلت إجفال الحمل وعادت حتى لصقت بالحائط وهي ترغي وتزبد، فقال: احنقي ما شئت بشرط أن لا تؤذي، فإن حاولت ذلك أشكوك بخيانة أخي وأدمغ كتفك الآخر. فهاجت ميلادي لذلك هياجا شديدا حتى صارت عيناها كالدم، فقال: أنا أعلم أنك ورثت أخي وتودين أن ترثيني، كأنك لست قانعة بما عندك من وافر الثروة، فاعلمي أنك تقيمين هنا عشرين يوما حتى أذهب بالجيش إلى روشل، ولكن قبل أن أذهب بيوم أرسلك إلى مستعمراتنا في الشمال حيث تقضين غابر أيامك منفية فلا تعودين، أما الآن فأنت في قصر متين الجدران شاهق البناء موصد الأبواب ولا نافذة لك إلا على البحر، فلا تقدرين على الفرار، وعلى بابك حراس أشداء أمناء، ولا ترين إلا ضابطي هذا الذي جاء بك من البحر، وهو أصم أبكم لا يكاد يتكلم كما رأيت منه ولا ينخدع لك فيما أظن. ثم أقبل إلى الباب ففتحه وقال للحارس: علي بفلتون. ثم دخل الفتى وأقفل الباب وراءه، فقال له ونتر: انظر إلى هذه المرأة وجمالها الفتان ووجهها الصبوح واعلم أنها شيطان في صورة إنسان وفي عنقها جرائم لا تحصى، تستخدم جمالها هذا في سبيلها، فإياك وإياها واحذر أن تغرك أو تفتنك أو تسعى في قتلك؛ فقد انتشلتك يا فلتون من حضيض الفقر ومهاوي الذل ورفعت مكانك وخلصتك من الموت، فأنا لك أب وصديق، فاحرص على هذه الامرأة فهي آتية إلى هنا لتقتلني، واحلف لي أنك لا تخون. فحلف، فقال له اللورد: لا تدعها تخرج من هذه الغرفة قط، ولا تكلم أحدا سواك إذا تدانيت وكلمتها. فقال الفتى: كفى يا مولاي تشديدا، فقد أقسمت. فالتفت اللورد إلى ميلادي وقال: إذن فاهدئي ولا تحاولي شرا فيعود عليك أعظم منه. ثم خرج وتبعه فلتون، وجاء حارس شاهر سيفه يحرس ميلادي، وأقامت في هم شديد يشيب ناصية الصبي ويهرم.
الفصل الخامس والأربعون
عود إلى فرنسا
وكان الكردينال في أثناء ذلك يتقلب على أحر من الجمر في انتظار أخبار من إنكلترا فلا يرده شيء منها، وكانت مدينة روشل في ضيق عظيم وحصار شديد حتى قلت مئونتها ونزفت ذخيرتها، فجعلت تبعث الرسل إلى بيكنهام في طلب المدد، فيأخذهم الفرنسويون ويصلبونهم، وكان مع آخر رسول منهم كتاب يقولون لبيكنهام في عرضه: «إذا لم يصلنا مدد بعد خمسة عشر يوما متنا جميعا من الجوع.»
وكان جل اعتمادهم في الحصار على بيكنهام، فدافعوا أشد الدفاع وقاتلوا عن الأسوار قتالا أحبوا معه الموت؛ لأنهم كانوا فرنسويين يحاربون أمثالهم، ولسان حالهم ينشدهم:
إذا ما أخ جر الرماح انتهى له
أخ لا بليد في الطعان ولا وغل
بطعن يكب الدارعين دراكه
وضرب كما ترغو المخزمة البزل
وكان الكردينال لقلة توارد الأخبار إليه من إنكلترا في هاجس عظيم وبلبال زائد، ولا سيما من نحو ميلادي؛ إذ كان اعتماده عليها، وهو لا يدري أعن خيانة منها كان انقطاعها أم عن مكروه أصابها، فأقام المتارس وشدد التضييق على المدينة. وكان يرمي مع السهام أوراقا يثير الروشليين فيها على زعمائهم؛ حتى أثر ذلك فيهم تأثيرا شديدا وكادوا يخابرون عساكر الملك، لولا أن ورد إليهم رسول من إنكلترا، وقال لهم إن الإنكليز يعدون لهم أساطيل عظيمة، وقد واطئوا الإسبان على دخول فرنسا وافتتاحها، فنشرت بذلك الأوراق في الشوارع، فتشددت بها العزائم وقويت القلوب وعاد الدفاع إلى أشد ما كان عليه من قبل؛ فأثر ذلك في ريشيليه أشد التأثير، فكان جيشه في سرور ونعيم بين السكر والنزهة، وهو في قلق دائم لا يقر له قرار، فكان يخرج في بعض أصحابه يتفقد أحوال الجيش ويذهب عنه بعض ما به من الهم بالنزهة والتجول، حتى إذا كان ذات مرة ومعه رجلان من أتباعه مر بكثيب من الرمل عليه سبعة رجال، أربعة منهم يقرأن كتابا والثلاثة يراقبون المارة وهم الحراس وغلمانهم، فلما رأى أحد الغلمان الكردينال صاح بالأربعة فأخفوا الكتاب ووقفوا، فحيوه، فقال لهم: أراكم تحترسون بغلمانكم يا قوم؟ فقال أتوس: نعم يا مولاي، فنحن أعظم من أن لا نحترس إذا فرغنا من أعمالنا، ولولا ذلك لم ننتبه لسيدي الكردينال ونقض الواجب من تحيته. قال: أتدرون من تشبهون باجتماعكم هذا وسيوفكم على عواتقكم؟ قالوا: لا. قال: تشبهون قوما في خلوة سرية لا يريدون أن يعرف أحد ما هم فيه. فهاج أتوس لذلك وتقدم إلى الكردينال، وقال: سل يا مولاي ما بدا لك وأنا أجيب. قال: أنت مخبري ما هذه الرسالة معكم ولم أخفيتموها عند وصولي. قال: رسالة عشق يا مولاي. قال: ألا أطلع عليها فإني كاهن لا تمنع عني الأسرار. فقال أتوس - وقد غاظه ذلك: هي رسالة يا مولاي لا شيء فيها من ماريون دي لورم ولاراكوبيلون (وهما عشيقتا الكردينال). فاصفر وجه الكردينال من الغيظ والتفت إلى صاحبيه يريد أن يأمرهما بالإيقاع بالحرس، ولكنه تبين جسامة العمل، وردته هيبة الأمر وخوف الفشل؛ لأنهم ثلاثة والحراس أربعة، فعاد عن عزمه وقال: لا بأس عليكم ولا خوف منكم. وحياهم وانصرف وفي قلبه حزازات، فأتبعوه النظر حتى غاب، فقال أتوس لأراميس: هل عزمت على أن تعطيه الرسالة؟ قال: كنت عازما لو شدد في طلبها على أن أعطيه إياها بيد والسيف بالأخرى فأطير رأسه. قال: قد توقعت منك ذلك فحلت بينك وبينه، فاقرأها الآن. فقرأ:
ابن العم العزيز
أما بعد. فقد عزمت على الذهاب إلى ستينالي؛ لأن أختي قد بعثت بخادمتها إلى دير هناك للكرمليين؛ إذ خشيت عليها من القتل، وفي عزمها أن تخرجها منه متى انتهت المشاكل الحاضرة، وهي شاكرة لك على ذكرك إياها وتسلم عليك. والسلام.
ماري ميشون
فصاح دارتانيان: يا بشراي، كونستانس حبيبتي في الحياة، فبالله قل لي أين تكون ستينالي لأذهب فآخذها من الدير. قال: على مقربة من حدود الألزاس واللورين، فمتى انتهى الحصار نذهب جميعا.، فقال أراميس: ولا يبعد أن ينتهي؛ فقد علمنا أن الروشليين قد فتك بهم الجوع ولا يبعد أن يسلموا. فقال دارتانيان: والآن، فما تصنع بالرسالة؟ فإني أخشى إذا أحرقتها أن يرى الكردينال رمادها. فقال أتوس: علي إخفاؤها، ثم دعا بخادمه فقال له: كل هذه الورقة واشرب عليها رطلا من النبيذ. فأخذها الغلام ولاكها حتى ابتلعها وشرب بعدها نبيذا، وكان الكردينال أثناء ذلك يسير وهو يقول: لا بد لي من إدخال هؤلاء الرجال في خدمتي.
الفصل السادس والأربعون
اليوم الأول من أسر ميلادي
أما ميلادي فلم تزل على ما تركناها عليه من اليأس من الفرج والقنوط من الإطلاق وفي قلبها غصص من دارتانيان، كيف لم تشف غليلها منه مما فعل بها من خرق الحرمة والامتهان والتلبس بالكونت دي ويرد واكتشاف سرها واستخلاص صديقه منها ورقة الكردينال، وتوصلها بسببه إلى ما لا تحب من النفي إلى أميركا. فكانت على حالها تلك من القلق والهم تنظر في عظم مصابها، وتفكر في سجنها ومصيرها، فتضيق بها الدنيا ويستحيل لديها الخلاص، ثم تعود إلى التأسي والسلو وتنظر صورتها في المرآة فترى نفسها على جمال باهر وحسن فائق يسبي العقول ويدهش الأبصار. وفيما هي كذلك بصرت بسرير في غرفتها فتوسدته، وكان الظلام قد أقبل فرأت نورا يضيء من خصاص الباب، ثم سمعت خفق أقدام ورجلا يقول: ضع هذه المائدة هنا وأنر المصباح، ثم نبه الخفراء. فلاح لميلادي أن تستعمل بعض الخداع لعلها تطغي خفراءها؛ فتناومت كأنها لا تعلم بما يجري، فدنا منها فلتون، وقال: أراها نائمة فلا حاجة لها بالطعام. ثم هم بالخروج فقال له الجندي الذي معه: يا مولاي، إنها مغمى عليها، فإني لا أسمع لها نفسا وأرى وجهها شديد الاصفرار. قال: إذن فادع اللورد ونتر فلا أدري ما أصنع بها. فخرج الجندي وجلس فلتون على كرسي لدى الباب، وخشيت ميلادي أن يجيء اللورد فيبطل حيلتها، فرفعت رأسها وفتحت عينيها وتنهدت، فالتفت فلتون إليها وقال: ها قد أفقت فلا حاجة بمقامي هنا، وإذا أردت شيئا فاقرعي الجرس. فتنهدت ثانية وقالت: وا كرباه كم أتألم. فقال لها وقد نهض: إنهم يخدمونك ثلاث مرات في النهار عند الصباح والظهر والعشاء، وإذا شئت أن تبدلي الوقت فلك الأمر. قالت: هل ألبث وحدي أبدا؟ قال: لا، فقد أعددت لك امرأة تخدمك متى شئت، ثم خرج، فألفى اللورد لدى الباب ووراءه جندي وفي يده قليل من الملح، فقال له: ما جرى؟ وماذا تريد؟ فإني لا أراها إلا وقد بدأت تتلاعب بك وأنت غر لا تعرف مكر النساء. قال: لقد فطنت لذلك، ولكني رأيت من الواجب إسعاف امرأة في حال الإغماء. قال: ألم تصبك عيناها وبضاضة جسمها وصباحة منظرها وسواد شعرها؟ فوالله ما أنت إلا حطبة. قال: إن قلبي يا مولاي أبعد من أن يناله هوى أو يعلق به غرام. قال: أحسنت، فانطلق بنا الآن ودعها تدبر حيلة أخرى. ثم أخذ بيده وخرج وجعلت تتبعه نظرها وهي تقول: ويل لك من غلام غر، وسأريك فعل النساء.
فوقف اللورد على عتبة الباب وقال لها: إذا كنت جائعة فكلي واشربي مما لديك وقري عينا ولا تخشي أن يكون به سم، فأنا أقوى من أن أقتلك بالسم إذا أردت إهلاكك، وموعدنا إغماؤك الثاني إن شاء الله.
ثم خرج وأقفل الباب. فصاحت ميلادي كاللبؤة وأجالت نظرها في المائدة، فبصرت بسكين عليها، فعمدت إليها وإذا بها مدورة الطرف ونصابها من حديد كليل، ثم سمعت قهقهة خارج الباب وفتح الباب ودخل اللورد وهو يقول لفلتون: أرأيت يا فلتون كيف تتهيأ لقتلك؟ فلو أطعتك ووضعت لها مدية حديدة النصل لأرتك الموت ألوانا، أوما تراها تقبض على النصاب قبضة ماهر في السلاح؟ وكانت ميلادي واقفة والسكين في يدها، فقال فلتون: صدقت يا مولاي، فقد أخطأت في قولي، ثم خرجا وأقفلا الباب، فأنصتت لهما ميلادي فوجدتهما قد أبعدا، فقالت: هلكت والله بين قوم لا أثر لي فيهم، فهم أشد من الصخور قلوبا ومن الجماد قساوة. ثم ألقت نفسها على السرير، فخطر لها قول اللورد لفلتون: «فلو أطعتك»، فاستأنست به ولاح لها من خلاله أن فلتون قد كلم اللورد بشأنها.
الفصل السابع والأربعون
اليوم الثاني من الأسر
فلما كان الصباح جاءها فلتون بالامرأة التي وعدها بها، فوجدها في الفراش وهي صفراء كالبهار، فقالت للامرأة: لقد أصابتني الحمى فلم أنم سواد ليلي، وعساني أجد فيك قلبا أرق من قلب غيرك. فقالت الخادمة: أتريدين أن أدعو لك طبيبا؟ وكان فلتون يسمع كلامهما وهو صامت، ففكرت ميلادي في استدعاء الطبيب وخشيت أن يكشف سرها ويظهر تمارضها فتبطل حيلتها الثانية كما بطلت الأولى، فقالت: لا داعي لذلك فسيان عندهم صدقت أم كذبت، حتى لقد اتهموني أمس بأني أحتال عليهم. فقال فلتون: كيف ترين نفسك؟ قالت: أجدني موجعة متألمة، فافعلوا ما بدا لكم. فقال فلتون للحارس: اذهب وادع اللورد. فصاحت ميلادي: لا يا مولاي لا تدعه فإني بخير ما دمت لا أراه. وكان كلامها حسنا في الأذن خفيفا على القلب حتى استهوى فلتون، فخطا نحوها، فقالت في نفسها: أراه يدنو من الشرك، فصبرا صبرا. فقال لها: إذا كنت متألمة حقيقة فلندع لك الطبيب، وإلا فلا علينا إذا أصابك مكروه. فلم تجب ميلادي بشيء، بل ألقت يدها على رأسها وأخذت بالبكاء، فأقام فلتون يتأملها ساعة ثم خرج وتبعته المرأة، وبعد قليل نفضت عن نفسها المرض وقالت: يجب أن أسعى للخلاص، فلم يبق لي إلا عشرة أيام.
ولما كان اليوم الثاني أتاها فلتون وبيده كتاب، فقال لها: لما كان اللورد كاثوليكيا مثلك قد بعث إليك بهذا الكتاب تقرئين فيه صلاتك. فقالت: إن اللورد يعلم أني لست من مذهبه، ولكنها حيلة ينصبها لي. قال: وما مذهبك؟ قالت: لا أقوله إلا متى آن لي أن أموت به شهيدة. فوقف فلتون يتأملها ويعجب من محاسنها، حتى قالت: قل للورد ونتر بأني قد صرت في يد أعدائي، وأنا أسأل الله أن يقرب خلاصي أو موتي؛ فإن الموت إحدى الراحتين، أما هذا الكتاب فأنت أحوج إليه مني لأنك من حزب سيدك. فأخذ الكتاب وخرج بدون أن يحير جوابا.
ولما كانت الساعة الخامسة قدم إليها اللورد وجلس إليها وقال: أراك قد غيرت دينك. قالت: كيف تقول؟ قال: أعني أنك لما تزوجت بأخي انصرفت عن دينك الأول، ولعلك عدت فتزوجت رجلا آخر فعدت إلى دين البروتستان. قالت: أفصح يا لورد فإني أسمع كلامك ولا أكاد أفهمه. قال: يلوح لي أنك كافرة لا دين لك. قالت: ذلك من طبعك يؤيده ما أراه منك، ولعلك تتكلم بهذا لتثير حراسك علي. قال: كل امرئ في بيته أمير، وإذا بقيت هنا بعد ثمانية أيام فقولي ما شئت. قالت: اغرب لعنة الله عليك من خادع ماكر. قال: خفضي عليك ما تقولين وإلا وضعتك في سجن المجرمين. ثم خرج وهو يبربر غيظا، فصادف فلتون لدى الباب لم تفته كلمة، وكانت ميلادي قد فطنت له، فقالت: اذهب وسترى على من تدور الدوائر.
ولما كان المساء جيء لها بالطعام، وكانت تصلي، فأقامت على ذلك برهة ثم جلست فأكلت ثم جاءوا فأخذوا الطعام فلم تجد معهم فلتون، فظنت أنه خاف من تأثير جمالها، فضحكت ضحكة الغيظ. ثم أخذت ترتل آيات الزبور وكان صوتها رخيما جدا حتى أحست بالحراس قد وقفوا يسمعون لها، فأملت بعض الخير وزادت في الغناء حتى زجرها الحارس، وإذا بصوت فلتون يقول له: ويحك، أمأمور أنت بمنعها عن الغناء أم أنت سيدها؟ فلست بمأذون أن تمنعها شيئا سوى الفرار، فإذا حاولته فاقتلها، وذلك ما رسم لك. فسرت ميلادي لذلك واستبشرت بالنجاح واستمرت في الترتيل الشجي حتى قال لها فلتون: خفضي صوتك يا سيدتي فإنك تمنعين أهل القصر من النوم. قالت: إذن أمسك عن الغناء ؟ قال: لا، بل تغنين ولكن بصوت منخفض. ثم لم يعد يطيق سهام لحاظها الجارحة، فتركها وخرج، فقال له الحارس: لقد أحسنت يا مولاي فإن صوتها حسن ولكنه شجي.
الفصل الثامن والأربعون
اليوم الثالث من الأسر
وكانت ميلادي ترى أن ليس عليها إلا أن تدع فلتون يبادئها بالكلام، فكانت شديدة الانتباه إلى كل حركة يأتيها أو نظرة ينظرها لتستطلع من ورائها كنه أمره ودخيلة حاله. فلما كان الصباح جاءها فلتون فعزمت على أن لا تفاتحه بشيء حتى يكلمها، فلم يفعل. وكانت شفتاه تتحركان ولا ينطق، كأن في صدره شيئا يريد أن ينفثه فلا يقدر، حتى طال به الأمر وخرج، فيئست ميلادي منه وقطعت آمالها من إسعافه. ولما قرب الظهر أتاها اللورد فأشعرت بقدومه فتعامت عنه وتشاغلت بالنظر إلى ما حولها، فقال لها: أراك تتلاعبين بنا بين الجد والهزل والشدة والرخاء، وما أظنك حاصلة على شيء. ثم قال: وإنك لتحبين أن يكون أمرك في يدك في إنكلترا فتذهبين حيث تشائين في ذلك البحر الواسع، فرويدا رويدا تري نفسك في ذلك البحر بعد مضي أربعة أيام. فجمعت ميلادي يديها ورفعت بصرها إلى السماء وقالت: اللهم اغفر له كما غفرت له أنا. قال: تصلين يا فاجرة، فهي والله صلاة أطهر من أن تخرج من فمك. ثم تركها وخرج، ولم يمض قليل حتى دخل فلتون وهو يسترق الخطى كأنه لا يحب أن تراه، فتغافلت عنه وقالت: يا رب أتترك عدوك هذا يفعل بي ما يشاء؟ ثم التفتت إلى فلتون وقد صبغ الخجل خديها فقال لها: لا تحتفلي بقدومي وامضي في صلاتك. قالت: ومن أنبأك بأني أصلي؟ قال: أراك تحاولين الإنكار كأني مأمور بمنعك عن الصلاة، فإن كان لك ذنوب فادعي ربك عله أن يتوب عنك إنه تواب غفور. قالت: معاذ الله أن أكون مذنبة، فلا يغرنك بي ما ترى من هذا العقاب الذي ينالني، فكم من بريء مات ظلما وعند الله تجتمع الخصوم. قال: كيف كنت، بريئة أم مذنبة، فأنت في حاجة إلى الصلاة، وأنا أساعدك وأدعو لك. فأكبت على رجليه تقبلهما وهي تقول: لله أنت يا سيدي ما أعدلك، فاسمع مني حفظك الله ما لا أعود أقدر بعد ذلك على النطق به؛ إذ يحول الجريض دون القريض، واقبل طلبات امرأة شملها اليأس وأحاق بها البلاء فيما تطلبه منك، ثم تباركك في الدنيا والآخرة. قال: إذا كان لك التماس فاطلبي ذلك من سيدي اللورد فلست مطلقا في أن أسامحك أو أعاقبك. قالت: لا، والله لا أكلم سواك فاسمع مني ولا تزد في أحزاني. قال: إذا كنت اجترحت ما أوجب لك هذا السجن فكفري عن ذنبك لله. قالت: أراك لا تفهم ما أقول كأنك تتوهم بي خشية الموت أو السجن وأهون بطول الثواء والتلف عندي، أو أنك تتغابى عن كلامي أن تفهمه. قال: لا وعلم الله يا مولاتي. قالت: إذن أنت لا تدري ما عزم اللورد على أن يفعله بي. قال: لا وأبي. قالت: إنه أعظم من أن يخفى، فكيف تجهله؟ قال: لأني لا أعني بمثل هذه الأمور، ولم يبلغني شيء. قالت: إذن لا تعرف أنه يعد لي عقابا يلبسني العار إلى الأبد، وأرى من دونه الموت. قال: أخطأت يا سيدتي فإن اللورد ونتر أشرف من أن يفعل ذلك وأعلى مقاما. قالت: النفس أمارة بالسوء يا فلتون، وسيان فيه الشريف والوضيع عند الخادع الماكر. قال: ومن تعنين بذلك؟ قالت: رجلا في إنكلترا. قال: لعلك تريدين جورج فيليه دوق دي بيكنهام؟ قالت: نعم، ومن يجهل جرائمه؟ قال: إن يد الله على الظالمين، وهو أعدل من أن يتركهم بغير عقاب. وكان فلتون في كلامه عن بيكنهام يرغي ويزبد شأن كل إنكليزي تكلم عنه لأنهم كانوا يكرهونه، فقالت: إذا بعثتك إلى عقاب هذا الرجل فلا يكون عقابا عني بل عن جميع الأمة. قال: وهل تعرفينه؟ قالت: كيف لا وهو منشأ مصابي ومصدر كربي. ثم فتحت ذراعيها كمن مسه ألم، وضاق صدر فلتون لمرآها وهم بالخروج، فأمسكته بردائه وقالت: قف بالله واسمع نشدتك الله، ألا ما أتيت لي بالمدية التي أخذها مني اللورد، ولا تخيب في ذلك سؤلي فتنقذ عرضي من العار ونفسي من الدنايا. قال: أتنتحرين؟ وكأنها ندمت على تسرعها في كشف أمرها، فقالت: ويلاه، قد بحت بالسر فهلكت. ثم سمعت صوت أقدام فعلمت أنه اللورد، فقالت لفلتون: إياك والإفشاء فإنك تهلكني فيلحقك ذنب قتلي. ثم وضعت يدها على فيه ومر اللورد بالباب ولم يقف. ففتحه فلتون وخرج مسرعا، فقالت: لقد صار لي أطوع من ثواب. ثم عادت فقالت: ولعله يخبر اللورد فيقتلني لأنه يعلم أني لا أقتل نفسي بيدي. وعند المساء جاءها الطعام وجاء اللورد ونتر فقالت له: ألا تعفيني من قدومك علي وتكفيني شؤم منظرك؟ فقال: سرعان ما تغيرت، فقد قلت إنك آتية من فرنسا لتريني، فما بالك تعتفين من زيارتي الآن مع أنها السبب. فارتاعت ميلادي من كلامه وظنت أن فلتون باح بأمرها، فأخرج اللورد من جيبه ورقة وقال: هذه ورقة نفيك فانظريها. فأخذتها وقرأت: «هذا أمر بأن تنفى إلى ...» فقاطعها اللورد وقال: لم أكتب اسم المكان لكي أخبرك في أي مكان تريدين أن تقيمي؟ ثم عادت فقرأت: «المسماة كارلوت باكسون التي وسمتها الحكومة الفرنسوية ثم أطلقتها بعد أن عاقبتها، فتقيم في ذلك المكان لا تبعد عنه أكثر من ثلاث غلوات حتى تموت، وتكون نفقتها في النهار خمسة شلنات تعطى لها»، ثم قالت: إن ذلك لا يوافقني، فليست تلك بكنيتي. قال: وهل لك كنية؟ قالت: نعم، لقب أخيك. قال: إن أخي لم يكن إلا زوجك الثاني، فأعلميني عن لقب زوجك الأول أستبدل اسمك هذا به وإلا فلا تغيير له ولا تبديل. فذعرت ميلادي لذلك وخشيت أن يكون اللورد قد عجل في سفرها وأنه سينزلها في البحر في ذلك المساء، فأعادت نظرها في الرقعة فلم تر عليها توقيعا فاطمأنت. ولحظ ذلك منها اللورد، فقال لها: أراك تنظرين إلى مكان التوقيع، وكأني بك تقولين لم يفت الزمن، وما ذلك إلا تهويل علي ولكن سيخيب فألك ويرسل هذا الأمر غدا إلى بيكنهام فيوقع عليه فتذهبين من هنا مذمومة مدحورة ، ثم خرج. فقالت له: إن ذلك شؤم وعار عليك. قال: أتحبين أن أقتلك وأشهر أمرك في إنكلترا تحت اسمك الأصلي، ولو كان في ذلك هتك حرمة أخي رحمه الله؟ فاصفرت ميلادي من الجزع ولم تحر جوابا، فقال: أرأيت كيف تؤثرين النفي على الموت؟ فالحياة عزيزة عليك يا لكاع. ثم خرج، فقالت في نفسها: لم يقل فلتون شيئا فيا بشراي. وكان لم يزل أمامها أربعة أيام وهي تكفي لأن تخدع بها فلتون، إلا أنها كانت تخشى أن يكون الرسول إلى بيكنهام فيفوت قصدها، فقعدت تصلي وإذا بها تسمع صوت فلتون قادما ولكنه لم يدخل، بل وقف لدى الباب برهة ثم رجع أدراجه.
الفصل التاسع والأربعون
اليوم الرابع من الأسر
وفي غد اليوم التالي دخل فلتون على ميلادي فوجدها جالسة على كرسي تجاه الحائط وهي تفتل حبلا من خرق موصلة، فلما أحست به انفتلت وأخفت الحبل وراءها، فقال لها: ما هذا الذي بيدك؟ قالت: لا شيء، فإني ضجرت من الوحدة فرأيت أن أتشاغل ببعض الشيء أقطع به مسافة الفراغ وسآمة العزلة. فنظر فلتون إلى الجدار فرأى فيه غدانا (كلابا) تعلق عليه الثياب، فقال: أنت مخبرتي ما تصنعين قبالة هذا الجدار؟ قالت: وما يعنيك من ذلك؟ قال: لا بد من عرفانه. قالت: لا تسلني بالله فإني أضطر إلى أن أكذب وهو ما يحظره علي الدين. قال: إذا أنت لم تجيبي فأنا أجيب عنك، إنك تهيئين لنفسك أسباب الانتحار وهو أكبر إثما عند الله من الكذب. قالت: إن الله غفور تواب لمن يختار بين العار والانتحار فيؤثر الثاني. قال: بالله ماذا تعنين بذلك؟ قالت: لا يد لي في الإقرار لك بأمري وإطلاعك على باطن سري، فدعني أمت فهو خير لي ولا تلحقك منه تبعة أو عقاب. قال: لا والله لا أدعك تفعلين ذلك. قالت: وما عليك إذا مت فتخلص من حراستي؟ فإن دائي عضال، وكفى بي داء أن أرى الموت شافيا. قال: وما فائدتي من أن تموتي فأكون شريكك في قتل نفسك لأني لم أردك؟ ثم أنا متخلص من حراستك بأهون من الموت لأنك ستخرجين بعد أيام فتكون حياتك في يد غيري، وشأنك بها عند ذلك. قالت: لا يحزنك موتي بالله ودعني على رأيي. قال: ذلك لا يكون أبدا لأني مأمور بحفظ حياتك وأنا مسئول عنها. قالت: هو خير من أسر تكثر عاقبته بالمجرمين، فكيف بالأبرياء. قال: إني جندي يا سيدتي وليس لي إلا المضي فيما سن لي. قالت: اذكر عقابك يوم الدين في منعي عن قتل جسمي وإسعافي على قتل نفسي. قال: لا بأس عليك يا سيدتي، وأنا أنوب عن اللورد في كلامي هذا. قالت: حماقة والله، أتنوب في الكلام عمن لا يقدر أن يتكلم عن نفسه؟ إنك في ضلال بعيد. قال: لا والله لا أكون سببا لمماتك. قالت: إذن تكون سببا لأعظم من مماتي وأنت مسئول عن ذلك بين يدي الله. وكان العشق قد بلغ منه أعظم مبلغ وأضر به الكتمان وفتنته ميلادي بجمالها، فهام بها أشد الهيام ولاح ذلك على وجهه، وكان لسان حاله ينشد:
كذا العشق لا يحلو إذا لم يكن له
شهود على وجه المحب عدول
وعلمت ذلك منه وفطنت لدخيلته، فجعلت تتغنج لديه لتزيده بها هياما ولها عشقا، ثم أخذت ترتل آيات الزبور حتى دهش بحسن غنائها وصباحة وجهها وتاه عقله في حبها، فدنا منها دنو العاشق وقال: من أنت؟ أملك من النعيم أم إبليس من الجحيم؟ قالت: ألم تعرفني يا فلتون؟ لست بهذا ولا ذاك، ولكني امرأة من الناس دينها مثل دينك. قال: لقد كنت في ريب من ذلك، وقد تأكدت الآن. فقالت: أخدعك اللورد ونتر وأوهمك أني من الأبالسة فانخدعت له؟ أتتركني بين أيدي أعدائي وأعداء الله، بين يدي ذلك الظالم الغادر بيكنهام؟ فقال: أبى الله أن تنالك يد بيكنهام يا ميلادي؛ فقد انتبهت للصوت القائل لي في الحلم: «اضرب وخلص إنكلترا ونفسك، فيكون لك الأجر عند الله والناس»، فتكلمي فأنا سامع لك مقبل عليك حتى أستفرغ كل ما عندك. فأبرقت أساريرها سرورا وقالت: ليس لي أن أكون سيف نقمة الله على الأرض، فدعني أوثر الموت على العار فأموت شهيدة الشرف، ولست أطلب منك خلاصا ولا انتقاما ممن ظلمني، فدعني أقضي الواجب من الموت فيكون لك علي بذلك فضل ومنة.
وكان صوتها على غاية من الرقة واللطف حتى انجذب إليها فلتون، فقاربها وقال: ويلاه لا أقدر إلا على أن أندبك وأرثيك يا ميلادي، فإن اللورد ونتر شديد الحنق عليك، ولقد أحببتك لأنك أختي في الدين ولم أكن أحب قبلك إلا اللورد ونتر المحسن إلي، ولكنك غلبت على قلبي بجمالك، فقصي علي خبرك. قالت: كيف أسلمك سري وأكشف لك أمري وأنت رجل وأنا امرأة؟ إن ذلك لا يكون ولا أقدر عليه. قال: أنا أخوك يا ميلادي، فإن تكلمت تشكين إلى أخ لك ما بقلبك. فصمتت ميلادي طويلا حتى ظن فلتون أنها خضعت له وعزمت على إخباره، فجعل يلاطفها ويؤانسها ويتملقها حتى قالت: أما وقد آخيتني فلا أحب أن أكتمك شيئا فوق ما كتمتك ... وما أتمت كلامها حتى سمعت وقع أقدام، ثم دخل اللورد وجعل يقلب طرفه بينها وبين فلتون، ثم قال: لقد طال مكثك هنا يا فلتون، فهل شغلتك بقص جرائمها؟ فاضطرب الفتى وتقهقر، وخشيت ميلادي أن ينفضح أمرها، فبدرت قائلة: أتخشى أن أفر من بين يديك؟ فاسأل صاحبك ماذا كنت أطلب منه. فقال فلتون: إنها كانت تطلب مني مدية. قال: كأن عندها أحدا تريد قتله؟ قالت: نعم، وهو أنا. قال: لقد خيرتك بين القتل والنفي، فاختاري لنفسك ما يحلو. قالت: سأنظر في ذلك وأتدبر أمري. فقال لفلتون: احذر منها يا فلتون، فقد وكلت إليك أمرها إلى مدة لا تتجاوز الثلاثة أيام. فرفعت ميلادي نظرها إلى السماء وقالت: اللهم أسامع أنت؟ فعلم فلتون أنها تعنيه، فأطرق برأسه إلى الأرض فأخذ اللورد بيده وأخرجه. وأقامت ميلادي تنظر عودته ولم يمض عليه قليل حتى عاد، فقالت له: ماذا تريد؟ قال: لقد أبعدت الحارس لكي ألبث عندك ولا يدري بي أحد وأكلمك فلا تسمع أذن ما يدور بيننا، فإن اللورد قد قص علي قصة هائلة لم أشك بعدها في أن أحدكما شيطان مارد، وأنا حائر في أيكما أصدق وإلى أيكما أميل، على قرب عهدي بحبك وطوله بوداد اللورد، ولا أدري ما سيئول إليه أمري، فانتظريني عند منتصف الليل آتي إليك. قالت: لا تخاطر بنفسك يا فلتون، فإن مجيئك تغرير، وأنا لا تسمح نفسي بك، فدعني أهلك وحدي. قال: لا تقولي ذلك؛ فقد أتيت أعاهدك على أن لا تمسي نفسك بشيء. قالت: ذلك بعيد يا فلتون، فأنا إذا عاهدت وفيت، وأخشى أن أقيد نفسي معك فتمنعني عما أروم. قال: إذن فاحلفي أنك تحفظين نفسك حتى أعود إليك بالجارحة، وبعد ذلك فأنت وما تريدين. قالت: أما ذلك فنعم. ثم أقسمت له وواعدها إلى الليل، وخرج وعاد الحارس إلى مكانه وأقامت تنتظر إطباق الظلام.
الفصل الخمسون
اليوم الخامس من الأسر
وكان الساعة تمر بها دهورا والدقائق شهورا، وهي تتجرع أمر من الصبر وتتقلب على أحر من الجمر، حتى كانت الساعة العاشرة، فجاء فلتون فوضع على الباب حارسا جديدا ورجع من غير أن يدخل لأن الوقت لم يئن بعد. ثم قرعت الساعة الثانية عشرة، فاستبدل الحارس، وسمعت ميلادي فلتون يقول له: إياك ومفارقة الباب فيصيبك من العقاب ما أصاب رفيقك بالأمس، وأنا داخل على هذه المرأة لأستوثق منها فلا تفلت، فإذا ناديتك فادخل وإذا نوديت فأبلغني، ثم دخل على ميلادي فقالت: أتيت؟ فقال: نعم على ما وعدت. قالت: وقد وعدتني بشيء آخر. قال: وما ذاك؟ قالت: مدية تأتيني بها. قال: أعرضي عن ذلك يا ميلادي، فما أظن في حالات الإنسان ما يلجئه إلى الانتحار، وأنا لا أجاريك على ذلك. قالت: إذن لا أخبرك بأمري، فاخرج عني ودعني. قال: هذا ما تطلبين. وأخرج من حزامه مدية، وهو يتردد في تسليمها إياها، فقالت: ما بالك تتردد؟ فوالله لا أفعل شيئا حتى أتم لك قصتي، فضعها على المائدة وقف بيني وبينها، ثم أخذتها وتأملتها طويلا وردتها إليه، فوضعها وراءه، فقالت: اسمع يا فلتون ما جرى لي.
لما كنت في إبان الشباب ومقتبل العمر وزهرة الجمال أخذت بحيلة وحاول آخذي أن يراودني عن نفسي فأبيت واعتصمت، فبالغ في الطلب بين اللطف والشدة والوعد والوعيد حتى أعيته الحيلة واعتاص عليه الأمر، فعمد إلى منوم فمزجه لي بالماء وسقاني منه وأنا لا أدري، فما كاد يستقر بي حتى شعرت بالدوار وغلب علي النعاس وارتخت قواي حتى عجزت عن القيام، فوقعت على كرسي منعقدة اللسان واهية العزم، ثم نمت نوما ثقيلا، فلما انتبهت إذا أنا في غرفة مدورة لا ينفذ إليها النور إلا من نافذة في السقف، ولا باب في جدارها يظهر للعين، فجعلت أفكر في أين أكون وما جرى بي، فلا أهتدي إلى شيء ولا أرى حولي سوى الجدران، حتى توهمت أني في حلم، ثم قمت إلى ثيابي فلبستها وتحققت أني لست في البيت الذي كنت فيه، وأني نمت يوما كاملا، ولم أدر ما جرى لي في خلاله. وكانت غرفتي مفروشة فرشا يليق بالنساء كأنها غرفة امرأة، فجعلت أطوف فيها كالهائم، وألمس الجدران فلا أهتدي فيها إلى باب، حتى أطبق الظلام، وكان حالكا جدا في غرفتي لانقطاع النور عنها. وبينا أنا أقلب أجفاني في ذلك الظلام إذ سمعت صريف باب، ثم رأيت نورا قد سطع من نافذة السقف ورجلا على مقربة مني وإلى جنبه مائدة عليها طعام، فعرفت أنه الرجل الذي كان يتبعني أينما ذهبت ويحاول خداعي وخرق حرمتي، فكان أول ما ذكرني أنه تمتع بي البارحة وأنا نائمة.
فثارت الحمية برأس فلتون وأخذته الغيرة، فقال: تبا له وشلت يداه. قالت: نعم، لعنة الله عليه، فكأنه كان يتوهم أنه غلبني وخضعت له إذا اغتالني في نومي، فجاء يطلب رضاي ويعدني بالغنى إذا جاريته في مراده واسترسلت معه في بغيته، فأخذت أشتمه أقبح الشتائم وأهينه أشد الإهانة بكلام يؤثر في الصخر ويحرك الجماد، وهو واقف أمامي كالصنم لا يفعل فيه الكلام ولا تأخذه الحمية، ثم دنا مني فنفرت إلى المائدة فرأيت عليها سكينا فأخذتها وسددتها إلى صدري وقلت له: ارجع فالموت ولا العار. قال: يعز علي والله أن تموتي قبل أن أنال منك نصيبا على رضى منك، وموعدنا الليلة القادمة إن شاء الله. ثم نفخ في بوق كان معه فارتفع السراج من السقف وأطبق الظلام، ثم سمعت صريف الباب وإذا أنا وحدي، فجلست أندب طالعي وأبكي على نفسي لوقوعي بين يدي رجل لا أحبه ولا أطيق أن أراه، وهو مع ذلك ظلوم غشوم. فقال لها فلتون: من هو هذا الرجل يا ميلادي؟ فلم تجبه ومضت في حديثها فقالت:
وقضيت الليلة جالسة على كرسي ترتعد فرائصي لأقل حركة، ولم يحدث لي شيء حتى طلع الصباح، فنظرت وإذا ليس في يدي من الخوان غير السكين، وكان جل اعتمادي عليها. وكان النعاس قد هوم في رأسي، فقمت ووضعت المدية تحت الوساد ونمت، فلما أفقت رأيت خوانا آخر قد أحضر، فقمت وأكلت ما يمسك الرمق وخشيت أن أشرب من ماء المائدة فذهبت إلى ماء يخرج من الجدار بأنبوبة فشربت. وقضيت سحابة يومي على حالي تلك من الضجر واليأس حتى خيم الظلام، وكانت عيناني قد تعودتا النظر في الليل، فرأيت الخوان يمد وعليه الطعام ثم سطع القنديل في غرفتي من نافذة السقف، فعزمت على أن لا آكل إلا ما آمن من دخول مادة سامة فيه، فجعلت طعامي الأثمار والبيض وشربت من الماء الذي في الجدار، فإذا أنا أجد له طعما غير طعمه الأول فأمسكت عنه ورميت بالقدح قبل أن أفرغه، وأخذ العرق يسيل على وجهي فظننت أن أحدا رآني أشرب من ماء الأنبوبة فمزجه بشيء سام، ثم أخذتني عوارض الأمس من الدوار والنعاس، ولكن أخف لقلة الماء الذي شربته، فأخذت أحاول نفسي وأمنعها من النوم حتى أعييت فجلست وأنا بين نائمة ومستيقظة، ثم خطرت لي السكين فقمت لآخذها من تحت الوسادة فلم تحملني رجلاي فسقطت وأنا في حالة أشبه بحال النزاع لا قوة لي على النهوض لآخذ السكين، وفيما أنا كذلك رفع القنديل فأظلمت الغرفة ظلاما حالكا، ثم سمعت صريف الباب وشعرت برجل يدنو مني، فذعرت وحاولت الفرار فلم أستطع فسقطت في يديه. فصاح بها فلتون: ألا تخبريني من هذا الرجل؟ فلم تجبه واستمرت في حديثها فقالت: فأخذت أدفعه عني وأتقيه بيدي وهو لا يرجع ولا يلين حتى تمتع بي وأنا في اليقظة منهوكة القوى لا قدرة لي على الحراك.
فثارت في فلتون حمية زائدة وغيرة شديدة، فجعل العرق يسيل من جبينه وأخذ يمزق ثيابه غيظا وحنقا، ومضت ميلادي في حديثها فقالت: فلما أفقت من سكرتي بحثت على السكين فوجدتها وعزمت على عمل هائل الخطر عظيم الإجراء في جانب ضعفي وهو أن أقتله وإن يكن عملي هذا إثما لا يمحى وذنبا لا يغفر، فتهيأت لذلك ووطنت نفسي على ارتكاب القتل، وقضيت نهاري على ذلك حتى جاء المساء، فأكلت من بعض الأثمار وصببت ما في الإبريق لأوهم أني شربت منه، وشربت من ماء صاف حفظته في زجاجة عندي، ثم أخذت أتظاهر بالأعراض التي كانت تصيبني ونهضت إلى السرير، فتوسدته ومددت يدي تحت الوسادة وأنا قابضة على نصاب السكين، وأقمت على ذلك مدة طويلة حتى خشيت أن لا يجيء، ثم رأيت النور يرتفع وأظلمت الغرفة، فرأيت شبحا يدنو من سريري، فجمعت ما بقي لي من القوى وتهيأت للعمل، فمد يده إلي وحاذاني، فرفعت يدي بالجارحة وطعنته في صدره فراحت ضربتي خائبة كأني أضرب صخرا لأنه كان دارعا، فقبض على يدي وأخذ مني المدية وقال لي بتهكم وازدراء: كنت أظن أنك لنت بعض اللين، فإذا بي أجدك أشد مراسا من بادئ أمرك، وما أنا ممن يحتبسون النساء جبرا، وسأطلق سبيلك في غد. فقلت له: إياك وإطلاقي، فإنك لا تأمن لساني أن يشهرك في الآفاق. قال: كيف تقولين؟ قلت: أقول إذا خرجت من هنا أقص على الناس خبرك واغتصابك إياي، ثم أدل الحكومة على قصرك هذا مقر الشر والفساد، فإنك وإن تكن وزيرا عظيم الشأن فإن فوقك ملكا وفوقكما ربا يأخذ للضعيف من القوي. وما أتممت كلامي حتى شعرت بهزة في يده القابضة على يدي ثم قال: إذن لا تخرجين ؟ قالت: بل أموت هنا وأقبر حيث ضاعت حرمتي وهتك عرضي، ولعلك لا تعدم من صدى قبري ما يذيع أفعالك بين الناس. قال: إذن أنزع منك كل سلاح. قلت: لا يعدم المرء حيلة في قتل نفسه، فإذا قصدت أموت جوعا. قال: ألا ترين أن الصلح أفضل من هذا الخصام إذا مننت عليك بالإطلاق؟ قلت: إذا فعلت لا تأمن إفشاء معايبك وإشهار نقائصك. قال: على ذلك لا تخرجين أبدا، وأنا لا أبخل عليك بلوازم الحياة، فإذا امتنعت عن الطعام حتى تموتي كان ذلك من يدك. ثم خرج عني وسمعت صريف الباب على أثره، ولبثت جالسة أندب نفسي لا آكل ولا أشرب بقصد أن أموت جوعا، وقطعت على ذلك سواد ليلي وبياض يومي وأنا أدعو الله وأتوب إليه عن ذنب بلا عمد وخطيئة عن غير قصد حتى أقبل المساء، فأقبل علي وهو يقول: أما عزمت على الطاعة بالكتمان فأخلي عنك؟ فاحلفي لي يمينا على الكتاب إذا شئت. فقلت: وكتاب الله العظيم لا أحفظ لك أيمانا ولا أحبس عن إشهارك لسانا في زلة ارتكبتها معي ما بعدها زلة ولا وراءها ذنب، وأنا موالية على أن لا أتركك حتى آخذ بثأري منك. قال: احذري من أن أجري معك علاجا يمنع لسانك من الكلام أو يمنع كلامك من التصديق، فانتصحي لقولي وأنا تارك لك بقية هذا الليل وطول النهار لتفتكري في أمرك وتعزمي عزما، فإما أن تتعهدي بالصمت والكتمان أو أجري معك أفعالا تلبسك ما لبسك جلدك فتسقط دعواك بين الناس، وموعدنا المساء المقبل. وما أتمت ميلادي هذه الجملة حتى رأت فلتون يتلون ويرجف حتى كاد يسقط إلى الأرض لو لم يتكئ على الكرسي.
الفصل الحادي والخمسون
تمام الحكاية
فأمسكت ميلادي قليلا حتى هدأ روعه وسكن جأشه، ثم عادت فقالت: وكان قد مضى علي ثلاثة أيام لم أذق فيها طعاما ولا شرابا حتى أضر بي الجوع والعطش وضعف جسمي ووهى عزمي، فقضيت نهاري أجمع في ضنك شديد وضيق زائد حتى كان المساء، وإذا به قد أقبل يتبعه رجل وكل منهما شاكي السلاح، فقال لي: على ماذا عزمت؟ أتحلفين؟ فقلت: أنا على ما قلت لك من أني لا أترك لك ثأري في هذه الدنيا ولا في الآخرة. قال: أما تحولين عن قصدك؟ قلت: لا والله أو تحول الروح عن الجسد. قال: إذن أضع لك في جسمك علامة تحبس لسانك وتمنع كلامك من التصديق. ثم التفت إلى الرجل وقال له: امض فيما رسمته لك. فصاح بها فلتون: أما تخبريني عن اسمه؟ فقالت: فأخذت أصيح وأستغيث لعلمي أنه يقصد بي فعلا أمر من الموت، فلم يسمع الجلاد لي، بل طرحني إلى الأرض فوقعت على وجهي وأخذت أدعو عليه الله وأستغيث به وهو لا يسمع، وإذا به قد أتى بحديدة محماة إلى الحمرة فوسمني بها على كتفي. فصحت صيحة شديدة من الألم واليأس ولكن كان قد قضي الأمر.
ولما انتهت من حديثها كشفت عن كتفها وقالت له: انظر فعل الخائن الماكر بفتاة أطهر من الملائكة، واعلم قلوب الرجال ولا تغرنك الظواهر. فقال: إني أرى زهرة زنبق. قالت: نعم وهي علامة العار والعهر والتهتك والفجور، فلو كانت علامة إنكلترا لدعوت عليه الناس ودفعته إلى القضاة، ولكنها علامة فرنسا فلمن أشكوه. فندم فلتون على تسرعه إلى تهمتها وأثرت فيه حكايتها تأثيرا شديدا حتى صار لونه كالبهار وجعل يقول لها: السماح السماح، وعيناه تقولان: الغرام الغرام، فقالت: مم أسامحك؟ قال: من مساعدتي لأعدائك. ثم مدت يدها إليه فجعل يقبلها وهي تنظر إليه بلحظ لو لحظت به الصخر لغادرته هشيما، فأكب على رجليها يقبلهما، ثم وقف أمامها وقال: لقد بقي علي شيء واحد أسألك عنه، وهو اسم الفاعل. قالت: عجبا! ألم تفطن له؟ قال: من عساه يكون؟ هل هو بنفسه الظالم المجرم؟ قالت: نعم هو بعينه هادم إنكلترا وعدو الله والدين، المتهتك الفاجر والخليع الماجن سفاك الدماء، لعنة الله عليه. قال: هو إذن بيكنهام؟ قالت: إن لم يكن فمن؟ قال: وهل مثله يعيش بعد ذلك وهو مكرم عزيز الجانب نافذ الكلمة مطاع القول؟! قالت : إن الله يترك من يتركه، ونسوا الله فنسيهم. قال: إذن يجب الانتقام منه ورد كيده في نحره ليعلم أن في الدنيا من ينتقم لله. قالت: ومن لك به وهو أمنع من عقاب الجو؟ قال: إلا علي، فإني لا أهابه ولا أخشاه، وإني لأعجب من اللورد ونتر كيف يخالطه وهو كذلك. قالت: إن من الناس من يكون في الخفاء نذلا لئيما وفي الظاهر عزيزا كريما، ولقد كان لي فيما مضى من الزمان خطيب شهم مثلك يا فلتون، وكان قديم المعرفة بي، فأطلعته على أمري وقصصت عليه القصة فما شك في صدقها، ثم أخذ سيفه وخرج إلى بيكنهام يريد أن يفتك به فلم يجده. قال: لقد أحسن فيما صنع، ولكن مع مثل بيكنهام لا يغني إلا الخنجر. فقالت: وكان بيكنهام قد رحل إلى إسبانيا في بعض شأنه، فعاد زوجي وقال لي: إنه قد رحل ولكن رويدا حتى يرجع، ولا بد للورد ونتر أن يصون شرفه وامرأته. قال: إذن أنت امرأة اللورد ونتر؟ قالت: نعم، وقد كان غياب بيكنهام في إسبانيا سنة، وقبل مجيئه بثمانية أيام مات اللورد ونتر ولا أدري كيف مات، فلا أقدر أن أتهم بدمه أحدا، فبقيت أنا بعده وريثة المال، فاغتاظ لذلك أخوه اللورد ونتر مودبك وحاول أخذ الميراث مني، فخفت على نفسي منه ورحلت إلى فرنسا وتركت له كل ثروتي في إنكلترا حتى انقطعت الصلات ونشبت الحرب واحتجت إلى المال، فأتيت لأخذ بعض مالي فوصلت من ستة أيام إذ قبضت علي، وما أظن إلا أن بيكنهام عرف بقدومي فوشى بي للورد بأني مدموغة وأغراه بي فانخدع له وأخذني، وفي عزمه أن يرسلني بعد غد إلى المنفى بين المومسات حيث أفقد شرفي وحرمتي، وأي سبب أعظم من هذا أحب عليه الموت؟ فأعطني الجارحة أقتل بها نفسي، فلا خير في الحياة بعد ذلك ... وما أتمت كلامها حتى سقطت كالواهية القوى بين يدي فلتون، فضمها إلى صدره وقد أسكرته خمرة الهوى وثارت به سورة الغيرة والغيظ، فقال: لا تموتين، بل تحيين مصونة كريمة لتنتقمي من أعدائك، فدفعته عنها بلطف وقالت: الموت ولا العار يا فلتون، فلا تبخل علي به. قال: لا، بل تعيشين قاهرة ظافرة. قالت: أخشى عليك يا فلتون أن يلحقك بي بعض المكروه، فدعني أموت. قال: إذن نموت معا، ثم أهوى عليها يقبلها وهو ثمل بخمرة الحب. وإذا بالباب يقرع، فأفلتت ميلادي من يديه وقالت: لقد سمعونا فقد هلكنا. قال: لا تخافي، فإنما هو الحارس ينبهني، فلا بأس علينا. قالت: إذن فاذهب وافتح الباب. فذهب وإذا بالحارس يقول له: سمعتك تصيح يا مولاي فهممت بفتح الباب فوجدته مقفلا، فقرعت ودعوت رفيقي لأرى ما أصابك فأوجب صياحك. وعلمت ميلادي أن لا خلاص لها إلا بفلتون ولا خلاص لفلتون إلا بها، فوثبت إلى الجارحة وقالت: دعني أموت، فلماذا تمنعني؟ فصاح الفتى بها مرعوبا، وكان اللورد قد سمع الضوضاء فخرج متفضلا وهو متأبط سيفه حتى وقف بالباب وقال لفلتون: دعها ولا تخش عليها، فهي غادرة ماكرة ولا جسارة لها على قتل نفسها. فعلمت ميلادي أن لا خلاص لها إذا لم تر فلتون طرفا من شجاعتها، فقالت: كذبت يا لورد، فإن الشجاعة عندي، ثم ضربت نفسها وهي لا تقصد القتل، فجاءت الضربة على جنبها فخرقت الثوب وشقت الجلد قليلا، فسال دمها حتى صبغ رداءها وسقطت صرعى. فأسرع إليها فلتون وأخذ الجارحة من يدها وقال: أرأيت يا لورد كيف أن امرأة قتلت نفسها وهي تحت حراستي؟ قال: لا تخش عليها، فإن الشيطان لا يموت، فاذهب وانتظرني في غرفتي. قال: نعم ولكن ... قال: اذهب ولا تقف. فدس الجارحة في حزامه وخرج. ودعا اللورد بالخادمة وقال لها: استوصي بها خيرا. ثم خرج فأرسل رسولا يدعو الطبيب.
الفصل الثاني والخمسون
الفرار
أما جرح ميلادي فكان كما قال اللورد خفيفا جدا، فلم يمض عليها قليل حتى فتحت عينيها وأخذت تتحايل في إظهار الألم والضعف، ولم يكن ذلك صعبا على أمثالها من الماكرات، وكانت آمالها معلقة على فلتون من يوم استهوته وعشقها. فلما كانت الساعة الرابعة من الصباح قدم الطبيب فوجد أن الجرح قد التأم ولم ير حاجة لسبره، وقال: أن لا خطر عليها، وانصرف وصرفت هي الخادمة بحجة أنها في حاجة إلى النوم. وكان ظنها أن ترى فلتون فخاب أملها، وجالت وساوسها وجعلت تقوم وتقعد كأنها على نار وهي في خشية من أن يكون اللورد قد اطلع على بعض أمره معها فمنعه عنها، فسألت الحارس عنه فقال لها إنه ركب جواده من ساعة وذهب، وأن اللورد لم يزل في القصر. ثم لم يمض قليل حتى تبدلت الحراس على الباب بجماعة لا يعرفون فلتون ولا يأذنون له بالدخول عليها، فهاجت بلابلها واضطربت أفكارها، حتى إذا كانت الساعة السادسة أقبل عليها اللورد ونتر مدججا بسلاحه، فعرفت من نظرته أنه عارف بدخيلة أمرها، فقال لها: إنك اليوم لا تقدرين على قتلي، فأنت عزلاء وأنا كمي، ولقد رأيتك تتلاعبين بفلتون فخشيت عليه عاقبة دهائك فأبعدته عنك، فلست ترينه بعد اليوم أبدا، فتهيأي للسفر فإني مرحلك غدا في الرابع والعشرين من هذا الشهر ويكون أمر نفيك في يدي غدا عند الظهر موقعا عليه من اللورد بيكنهام، وإذا نبست بكلمة وأنت نازلة إلى الفلك فأنت مقتولة لا محالة، ثم إذا كلمت أحدا في السفينة بغير إذن رئيسها فهو مأمور بأن يطرحك في البحر، وهذا ما أقوله لك اليوم. ثم خرج وترك في صدرها منه حزازات. ولما كان المساء جيء لها بالطعام فأكلت، حتى إذا أظلم الليل سمعت نقرا على زجاج النافذة، فالتفتت فبصرت برجل واقف وراءها، فأسرعت وفتحت النافذة وصاحت: أفلتون أنت؟ فوا بشراي فقد خلصت. قال: نعم، ولكن اصمتي، فإنه يجب أن أقتلع مصراعي النافذة وأنا أخشى أن يرانا أحد من خادعة الباب. قال: لا تخش، فإنها قد أقفلوا الرتاج، فما علي أن أفعل؟ قال: لا شيء سوى أن ترتدي بثيابك وتلبثي في فراشك حتى أفرغ من العمل فأدعوك، فهل تقدرين على اتباعي؟ قالت: نعم، ولو إلى برك الغماد. قال: وجرحك؟ قالت: يؤلمني، ولكن لا يمنعني من المسير. قال: إذن فتهيأي لإشارتي. فأطفأت القنديل وذهبت إلى فراشها وجلست لا تسمع إلا احتكاك المبرد على حديد النافذة يكاد يضيعه هزيم الريح، واستمر فلتون على عمله ساعة خالتها ميلادي دهرا حتى فرغ، فقال لها: أمستعدة أنت؟ قالت: نعم، فهل أحمل معي شيء؟ قال: أما عندك مال؟ قالت: نعم. وأعطته كيسا مملوءا ذهبا، فقال لها: هلمي، فصعدت على كرسي وأطلت من النافذة فرأت فلتون معلقا تحتها بسلم من حبال، فارتاعت لمنظرها وهابها علو القصر، فقال لها: هل تخشين النزول؟ قالت: لا، فإني أغمض عيني فلا أرى. قال: أفتثقين بي؟ قالت: وبمن أثق سواك؟ قال: فأدني يديك. فأدنتهما، وربطهما بحبل في السلم، فقالت: ما تصنع؟ قال: ضعي ذراعك على عنقي ولا تخشي بأسا. قالت: أخشى أن أرجح عنك فنهوى كلانا إلى الأرض. قالت: لا تخافي، فأنا أعلم منك بذلك. ففعلت ما قال لها، وتمسكت بعنقه وأرسلت نفسها إلى خارج النافذة، فأخذ ينزل بها رويدا درجة فدرجة والرياح تهب عليهما فيتنوحان في الهواء، وفيما هو ينزل إذا به قد وقف، فقالت له: ما بالك؟ قال: صه، فإني أسمع وقع أقدام. فقالت: ويلاه، قد رأونا. فأصغى برهة ثم قال: لا، فلم يجر شيء، فقالت: وما هذا الصوت الذي أسمع؟ قال: صوت العسس الذين يمرون حول القصر. قالت: قل قد رأونا. قال: لا، فإن السماء لا تبرق، فقالت: ها هم. فأسكتها ولبث وإياها معلقين على ذلك الحبل لا يتحركان ولا يتنفسان إلا اختلاسا، وهم على ستة أقدام من الأرض حتى مر بهما رجال العسس يتحادثون ويتضاحكون، فكان لهما ساعة تشيب لها الأطفال من الرعب والجزع. فلما أبعد الرجال قال فلتون: قد نجونا والحمد لله. فشهقت ميلادي شهقة وأغمي عليها، فنزل بها فلتون حتى بلغ الأرض، وكان الكيس في فمه، فحمل ميلادي على ذراعيه وسار بها نحو البحر بين الصخور حتى بلغ الشاطئ، فنفخ في بوق كان معه فأجيب بمثله، ثم ظهر له زورق فيه أربعة رجال، فدنا منهم حتى قاربهم، ثم غاص في البحر وهو حامل ميلادي حتى دانى الزورق ، فألقاها فيه وصعد وراءها، وكان البحر مزبدا والزورق يعلو ويسفل مع الأمواج، ثم قال للنوتية: أسرعوا إلى الفلك. فأعملوا المجاذيف، فطار بهم الزورق على وجه الماء. وكان الظلام حالكا جدا فلم يرهم أحد، ولم يكن على البحر إلا نقطة سوداء تتحرك وهي الفلك. وبينما الزورق يسير بهم حل فلتون يدي ميلادي ورش على وجهها من ماء البحر، فشهقت شهقة عظيمة وقالت: أين أنا؟ قال: ناجية أنت بإذن الله. فقالت - وقد نظرت حولها: بلى والله، فهذه السماء وهذا البحر مصداق على ما تقول، جزاك الله خيرا. وكان الزورق قد اقترب من الفلك، فنادى النوتية بأصحابه فأجابوهم، فقالت ميلادي: لمن هذا الفلك؟ قال: لك. قالت: وإلى أين يمضي بي؟ قال: إلى حيث تشائين، بشرط أن تنزليني على ميناء بورت سموث. قالت: وما تصنع هناك؟ قال: أمضي في أمر رسمه لي اللورد ونتر؟ قال: وأي أمر هو. قال: أن يوقع لي على الأمر بنفيك، وقد تحذر مني اللورد فعزم على أن يحرسك عني وأرسلني في هذا الأمر. قالت: إذا كان كذلك زعمه فكيف سلمك الأمر. قال: يزعم أني لا أدري ما أحمل. قال: إذن أنت ذاهب؟ قال: من غير بد لأن بيكنهام مسافر غدا مع الأسطول إلى روشل. قالت: ويلاه، لا يجب أن يذهب. قال: إنه لا يذهب فاطمئني. فنظرت في وجهه فإذا كأنها تقرأ موت بيكنهام على جبينه، فاستبشرت وقالت: لله درك من شجاع يا فلتون، فأنا أموت لموتك وأحيا لحياتك. قال: صه، فقد وصلنا، فنظرت وإذا بالزورق قد صار إلى جانب الفلك. فصعد فلتون إليه وأصعد ميلادي معه، وقال للرئيس: هذا الذي أخبرتك عنه تأخذه إلى فرنسا سليما لا ضر فيه. قال: نعم، على أن يعطيني ألف دينار. قال: هي لك وتأخذ منها الآن خمسمائة. ودفع إليه المال، فقالت له ميلادي: وهذه مثلها خمسمائة أخرى. قال: والله لا آخذ منها فلسا حتى أصل بك سالمة إلى بولونيا. قالت: بارك الله فيك وسأعطيك ألف دينار أخرى، فقال فلتون: فخذنا الآن إلى مينا كذا، فأنت تعرفها. فسار الرئيس بالفلك حتى بلغ المينا المقصود عند الصباح، وكان فلتون أثناء ذلك يقص على ميلادي كيف أنه خالف الأمر بالذهاب إلى لندرة وسعى في جلب الفلك وكيف صعد على جدار القصر وخلصها، فنظرت إليه ميلادي فرأت هائجا يزيد حنقا على بيكنهام، فلم تجد حاجة لإغرائه به، ثم ودعته وواعدته إلى الساعة العاشرة إذا عاد إليها ذهب معها وإلا سارت وحدها إلى فرنسا، وإذا ذهب هو بعد ذلك فيجدها في دير الكرمليين في بيتين.
الفصل الثالث والخمسون
فيما جرى في بورت سموث في 22 آب سنة 1628
ثم ودع فلتون ميلادي وداع أخ لأخته وقبل يدها، وكان يمازج كلامه لهجة غضب واستبسال، وركب الزورق وسار به قاصدا ميناء بورت سموث وهو لا يحول نظره عن ميلادي حتى بلغ الشاطئ، فأشار إليها إشارة السلام وذهب إلى المدينة. وكان الميناء مكتظا بالسفن تظهر أدقالها كالغابة تحرك أشجارها الريح. وكان في قلب فلتون من بيكنهام وزير جاك الثالث وشارل الأول ملكي إنكلترا حزازات تحرق صدره وتثير عواطف الانتقام فيه، وقد زاده حنقا وهياجا قصة ميلادي حتى صار يرى قتل بيكنهام فرضا واجبا وأمرا لا بد منه. وكان وصوله إلى الميناء في نحو الساعة الثامنة من الصباح، وكان البوق ينفخ في أحياء المدينة لجمع الجيش وركوب البحر، فوصل فلتون إلى قصر بيكنهام وهو معفر الثياب أصفر الوجه، وعزم على الدخول فمنعه الحاجب، فدعا برئيس الحجاب وأراه الرسالة وقال: إني رسول مستعجل من قبل اللورد ونتر. وكان اللورد ونتر من أقرب الناس إلى بيكنهام وأودهم إليه، فأذن لفلتون فدخل. وكان قد وصل عند دخوله فارس يلهث جواده تعبا، فدخل القصر أيضا وطلب الدخول إلى بيكنهام. وإذ كان الحاجب يعرف مكانة اللورد ونتر عند بيكنهام أذن لفلتون بالدخول أولا، ثم قاده إلى باب غرفة فيها اللورد ودخل وقال له: بالباب رسول من قبل اللورد ونتر. قال: فليدخل. فدخل فلتون فوجد اللورد جالسا على مرتبة وفي يده ثوب فاخر موشى بالذهب يريد أن يلبسه، فقال لفلتون : لماذا لم يحضر اللورد ونتر بنفسه؟ فإني أنتظره من الصباح. قال: لقد قال لي اللورد يا مولاي أن أبلغك أن الذي منعه من الحضور حراسة القصر. قال: نعم، أنا أعرف ذلك فإنه فيه أسيرة. قال: وفي شأن هذه الأسيرة أتيتك. قال: هات ما عندك. قال: يجب أن أكون وإياك لا ثالث بيننا. فأشار اللورد إلى الحاجب فخرج، وقال: قد خلونا فتكلم. فقال: قد كتب إليك اللورد يلتمس منك التوقيع على صك النفي لامرأة تدعى كارلوت باكسون. قال: نعم، وقد أمرته بالحضور أو بإرسال الصك. قال: هو هذا. وناوله الأمر، فأخذه اللورد وقرأه، ثم استمد بالقلم ليوقع عليه، فقال له فلتون: رويدك يا مولاي، فإن هذا الاسم ليس بالاسم الحقيقي. قال: أنا أعرف ذلك. قال: أنت تعرف اسمها الأصلي؟ قال: نعم، ثم أدنى القلم من الورقة فاصفر وجه فلتون وقال: إذن فاكتبه باسمها الحقيقي ميلادي ونتر. قال: إني عارف بما أكتب، فما هذا السؤال؟ قال: أتغير اسمها ولا يبكتك ضميرك. قال: ما هذه الأسئلة التي لا ضرورة تدعوني للجواب عليها؟ قال: بل تجيب يا مولاي، فإن الأمر أعظم مما تفكر به؟ فظن لورد أن فلتون يتكلم بلسان مرسله، فجاراه في كلامه وقال: لا شيء يمس الضمير، فإن اللورد يعلم أن ميلادي امرأة مجرمة فاجرة. ثم وضع القلم على القرطاس، فصاح به فلتون وقد تقدم إليه: إنك لا توقع على هذا الصك يا ميلورد. قال: لماذا؟ قال: لأنه يجب عليك أن تنزل بنفسك فتحاكم ميلادي. قال: إنها تحاكم في توبرن حيث تنفى؛ فإنها فاجرة عاهرة. قال: بل هي يا مولاي ملك كريم، وأنا ألتمس منك إطلاقها. قال: أمجنون أنت يا فتى حتى تكلمني بهذا الكلام؟ قال: إني أتكلم بما أصل إليه، فاحذر من عواقب ما تفعل. قال: كيف قلت؟ أتتوعدني؟ قال: معاذ الله، ولكني أقول لك إن الكأس قد طفحت، فلم تعد تحمل نقطة، وأنا أخشى أن يكون فعلك هذا آخر جرائمك فيجري عليك القصاص. قال: يجب أن تخرج من هنا. قال : لا، بل يجب أن تسمع لي إلى النهاية، فإنك قد فحشت بهذه الامرأة ودنستها وشفيت غليلك منها، فدعها تذهب حرة لوجه الله تعالى، وهذا ما أطلبه منك، فاحذر عاقبة أمرك فإن إنكلترا قد ضاقت منك وكلت من أفعالك، فأنت مقر غضب الله والناس، أما الله فيعاقبك في الآخرة وأما أنا فأعاقبك اليوم. فخطا بيكنهام إلى الباب وقال: إن هذا لا يطاق. فحال فلتون بينه وبين الباب وقال له: أقول لك وقع على الصك بإطلاق ميلادي، فإنك قد فضحتها. قال: اخرج أو أنادي الخدم عليك. قال: لا أخرج ولا أدعك تنادي، ثم اعترض بينه وبين الجرس وقال: اذكر الآن أنك بين يدي الله. قال: بل بين يدي الشيطان. ومد بها صوته ليجلب الخدم، فقال له فلتون وهو يدني منه الورقة: وقع بالإطلاق يا لورد، فقال: أتجبرني اضطرارا؟ إلي يا قوم. ثم وثب إلى سيفه فلم يمكنه فلتون من استلاله حتى شهر خنجره، وإذا بالخادم قد دخل وهو يقول: رسالة من فرنسا يا لورد. فدهش اللورد لهذا الخبر حتى نسي فلتون، فاغتنم فلتون فرصة اندهاشه ووجاه بالمدية في خاصرته فغاصت إلى النصاب، فصاح اللورد: قتلتني يا قاتل. وصاح الحاجب إلينا يا قوم. ونظر فلتون حوله فرأى الباب مفتوحا، فوثب منه وفر هاربا حتى إذا بلغ السلم صادف اللورد ونتر داخلا ورآه اللورد أصفر الوجه ملطخا بالدماء، فقبض عليه وقال: كان هذا في حسابي. ثم سلمه إلى الجند فأخذوه إلى مكان حتى يصدر الأمر بشأنه، وذهب اللورد ونتر إلى غرفة بيكنهام ودخل وراءه الفارس الذي قدم بعد فلتون، فلما رآه بيكنهام صاح وهو قابض على جرحه بيده: يا لابورت، أمن قبلها آت أنت؟ قال: نعم يا مولاي. وكان ذلك الرجل حاجب الملكة حنة، فقال له اللورد: صه لا يسمعوك. وأشار إلى الناس فخرجوا، وذاع الخبر واضطرب القصر والمدينة، وأغمي على اللورد. وبلغ اللورد ونتر أن ميلادي قد فرت على سلم من الحبال معلق على نافذتها، فدخل على الدوق بيكنهام، وكان قد أفاق من إغمائه، فقال: دعوني يا قوم أنا والحاجب ولابورت قليلا. ثم التفت إلى ونتر فقال له: أبعثت لي من يقتلني يا لورد؟ فقال: وا كرباه لكربك والله، لا عزاء بعدك. ثم خرج وهو يبكي أشد البكاء، فلما خلا بهم المكان جثا لابورت على قدمي اللورد بيكنهام وقال: سليم أنت إن شاء الله يا مولاي. فقال بيكنهام - وصوته يتقطع بحشرجة الموت: ماذا كتبت لي؟ اقرأ على عجل فإن ساعاتي قصيرة. فأعطاه الرسالة، فأجال فيها نظره فلم يقدر على قراءتها، فقال: اقرأ أنت. فقرأ:
أيها اللورد، أستحلفك بالحب الذي بيننا وأنشدك ما ألقى من ألم البعاد أن تكف الحرب عن فرنسا، فإنهم يعزونها لحبك لي، وقد تتدمر بها فرنسا وإنكلترا ويلحقك منها لا سمح الله ما لا عزاء لي بعده، فاحرص على حياتك الغالية لدي. والسلام عليك من حنة دوتريش.
فقال اللورد: أما عندك شيء غير ذلك؟ قال: نعم. قالت لي الملكة أن أوصيك بالحذر على نفسك لأنهم يحاولون قتلك. قال: ثم ماذا؟ قال: وأن أقول لك إنها تحبك وهي لك عاشقة أبدا. فقال اللورد: إذن أموت سعيدا. ثم دعا بالعلبة التي أخذها من الملكة فأعطاها للابورت، ثم أخذ يفتش حوله وهو يقول: وتأخذ أيضا هذا. وهو لا يهتدي إلى ما يفتش عليه حتى وقعت يده على الخنجر، فقال: وتأخذ هذا أيضا للملكة. ثم تمدد على فراشه وجاد بنفسه وهو يحاول التبسم، فصاح حاجبه بالحرب وأخذ يعول. وكان الطبيب قد حضر فنظر إليه وقال: قد قضي الأمر، فلا حول ولا قوة إلا بالله. ثم دخلت على أثره الناس ورأى اللورد ونتر بيكنهام قتيلا، فدخل على فلتون حيث كان مسجونا وقال له: ثكلتك أمك، ماذا فعلت؟ قال: قتلته لأنه رفض طلبك لي رتبة قائد. ثم حول نظره إلى البحر فرأى شراع الفلك، فوضع يده على صدره وقال: أسألك مكرمة يا لورد. قال: ما ذاك؟ قال: ما الساعة الآن؟ قال: التاسعة. وكانت ميلادي قد عجلت قبل الميعاد بساعة لما سمعت صوت المدفع منذرا بحلول القضاء . فجعل فلتون ينظر إلى البحر وهو يقول: لا مرد لأمر الله، فقال له اللورد ونتر: إنك تموت وحدك الآن، أما التي خلصتها فوالله لألحقنها بك عن قريب، ثم تركه وسار إلى الميناء.
الفصل الرابع والخمسون
في فرنسا
وكان أشد خوف شارل الأول ملك إنكلترا من موت بيكنهام أنه يوهن عزائم المحاصرين في روشل، فسعى في أن يكتم عنهم خبر موته ما أمكن، فمنع المراكب من الخروج من شطوط إنكلترا إلى أن يصل الجيش الذي كان بيكنهام عازما على أن يقوده إلى روشل، ثم زاد في التحوط حتى منع سفراء الدانمرك من السفر بعد أن أذن لهم، ومنع سفير هولاندا أيضا عن مأمورية مهمة كانت له. ولكنه قبل أن يصدر هذا الأمر الشديد بمنع خروج السفن كان فلكان قد خرجا من المينا أحدهما يحمل ميلادي وأما الثاني فسيأتي ذكر من كان فيه.
وكان في أثناء ذلك لا يجري شيء في روشل سوى ازدياد ضجر الملك لويس حتى عزم على أن يقضي عيد القديس لويس في سان جرمن، فطلب من الكردينال أن يعد له حرسا يخفره في الطريق لا يزيد عن عشرين حارسا وعين سفره في 15 أيلول، وعلم دي تريفيل بذلك وهو عارف برغبة حراسه في الذهاب إلى باريز، فاختارهم أن يكونوا من جملة حرس الملكة، وكان فرح دارتانيان شديدا لرغبته في استطلاع خبر بوناسيه وما جرى عليها. وكان أراميس قد كتب إلى ابنة عمه القصارة في تور يسألها أن تلتمس من الملكة صكا يؤذن بخروج بوناسيه من الدير حيث وضعتها، فورد له منها هذا الجواب:
ابن العم العزيز
هذا أطال الله بقاءك صك أختي في إخراج خادمتنا من الدير المسمى بدير بيتين لرداءة الهواء فيه، وهي ترسل لك هذا الصك على سرور منها بخروج هذه الفتاة لأنها تحبها وتأمل منها الخير في المستقبل. والسلام.
ماري ميشون
وكان في ضمن تلك الرسالة صك الملكة، وهذا نصه:
المأمول من رئيسة دير بيتين أن تسلم حامل كتابي هذا الفتاة التي أدخلت الدير بأمري.
كتب في اللوفر
في 10 آب سنة 1628
حنة
وكفى بذلك شاهدا على شرف أراميس أن تكون ابنة عمه تسمي الملكة أختها، وكان أصحابه يتهكمون عليه في أنها قصارة ويسألونه حقيقة أمرها حتى منعهم عن أن يفاتحوه بشأنها، فأرسلوا غلمانهم أمامهم بالزاد والمتاع، ثم سافروا مع الملك في السادس عشر من الشهر، وركب الكردينال في ركاب الملك يشيعه إلى مسافة بعيدة، ثم استأذن من الملك وودعه وعاد. وما زال الملك سائرا بحراسه حتى بلغ باريز في الثالث والعشرين من الشهر ودخلها في الليل. وذهب الحراس لشأنهم، وفي عزم دارتانيان أن يلحق بحبيبته ليأخذها من الدير. وفيما هو وأصحابه في إحدى الحانات وخادمه إلى جانبه إذا بفارس خرج من الحانة وركب جوادا وسار، وهب الهواء فرفع قلنسوته عن رأسه فتبينه دارتانيان ثم امتقع لونه وسقط الكأس من يده، فقال له بلانشت: ما بالك يا مولاي؟ فدنا منه أصحابه، فقالوا: ما بالك؟ قال: هو بعينه، فدعوني أتبعه. قالوا: ومن هو؟ قال: عدوي الذي نغص عيشي وخطف حبيبتي، وكانت بداءة أمري معه في مينك، فهلموا إلى خيلكم نتبعه. قالوا: أخطأت، فإن جواده مستريح وخيلنا تعبة فلا ندركه. وفيما هم كذلك وإذا بخادم يصيح بالفارس - وكان قد أبعد: هذه يا مولاي ورقة وقعت منك. فقال له دارتانيان: أعطيك هذا الدينار فهاتها. فأخذها وفتحها وتجمع حوله أصحابه فقالوا: ما فيها؟ قال: كلمة واحدة وهي «أرمانتيير». قالوا: لا ندري ما هذا؟ قال: أظنها اسم بلد أو قرية، فاركبوا يا قوم. فركبوا وساروا في طريق بيتين خببا.
الفصل الخامس والخمسون
دير الكرمليين في بيتين
أما ميلادي فإنها وصلت إلى بولونيا من غير أن تصادف مكروها، وتظاهرت أنها فرنسوية، فلم يشك بها أحد. ولم تلبث في بولونيا إلا ريثما كتبت هذه الرسالة ووضعتها مع البريد، وهي هذه:
إلى سيادة الكردينال دي ريشيليه في معسكره أمام روشل؛ سلام
أما بعد، فليفرح روع مولاي، فإن بيكنهام لا يسافر إلى فرنسا أبدا.
كتب في بولونيا في 25 مساء
ميلادي دي ...
حاشية: «وأنا أنتظر أمر مولاي في دير بيتين على نحو ما رسمه لي.»
ولما فرغت من الرسالة، وكان الليل قد أقبل، ركبت قاصدة دير بيتين، فوصلته في اليوم الثاني، ودخلت إليه فلاقتها الرئيسة، فأظهرت لها ميلادي أمر الكردينال، فوضعتها الرئيسة في غرفة بها، ثم جاءت تزورها بعد الغداء، فجعلت ميلادي تتجمل لها وتتلطف بها وهي في موقف حرج بين أن تكون الرئيسة من حزب الكردينال أو من حزب الملك، فقصدت في خطابها. وكانت الرئيسة تخشاها أيضا فجرت معها مثلما جرت، إلا أن ميلادي رأت أن تخدعها لتقف على حقيقة أمرها، فأخذت تلمح لها بالطعن على الكردينال وأنه عشق الخاتون أكويليون وماريون دي لورم وغيرهما من النساء، فوجدتها تتبسم لأحاديثها، فعرفت أنها من حزب الملك، فقالت لها الراهبة: إنا قلما نسمع بمثل هذا الكلام لانفرادنا عن الناس وبعدنا عن البلاط، ولكنا عرفنا ظلم الكردينال بإحدانا لأني لا أراها تستحق ما عاملها به؛ فإن هيئتها تدل على الوقار والسكينة. قالت: لا تحكمي بالظواهر، فما كل مصقول الحديد يماني. قالت الراهبة: إني لأعجب من لهجتك هذه على الكردينال على حين أنت صديقة له لأنك هنا بأمر منه. قالت: لا، فإني هنا بأمره في مثل سجن لا حبا وكرامة. قالت: ولم لا تهربين؟ قالت: وإلى أين أمضي؟ وأي مكان أذهب إليه ولا تنالني فيه يد الكردينال؟ ولو كنت رجلا لكان لي في الأمر مخرج، ولكني امرأة، فهل التي حدثتني أن الكردينال ظلمها بحبسها عندكم حاولت الفرار؟ قالت: لا، ولكني أراها مرتبطة في فرنسا بغرام رجل. فقالت ميلادي: إذا كانت عاشقة فهي غير تعيسة. فنظرت إليها الراهبة نظرة المرتاب ثم قالت: أما أنت عدوة ديننا؟ قالت: معاذ الله أن أكون من البروتستان أعداء الله والدين. قالت: إذن فاطمأني فإنك لا تكونين في سجن يضيق فيه عليك بل نبذل الجهد في إراحتك ثم يكون لك أنيس من هذه الامرأة التي ذكرتها لك، فإني أظن أن لها عملا في البلاط. قالت: وما اسمها؟ لقد سلمت لي من إنسان عظيم القدر جدا تحت اسم كاتي. فصاحت ميلادي: وهل أنت واثقة من ذلك؟ ثم جال في فكرها أن تنتقم منها إذ ظنتها أنها خادمتها القديمة، فقالت الراهبة: ذلك اسمها، وهل تعرفينها؟ قالت: لا، فمتى أقدر أن أراها؟ فإني أشعر لها بحب في فؤادي. قالت: ترينها اليوم، ولكني أراك في حاجة إلى النوم، فنامي. ثم خرجت. فأقامت ميلادي في فراشها تجيل في فكرها أنواع الانتقام من كاتي، ولكنها كانت تخشى من زوجها الكونت دي لافير الذي كانت تحسبه ميتا فوجدته تحت اسم أتوس، ثم نامت وهي في تلك الأفكار. وفيما هي نائمة إذا بها تستمع صوتا ضعيفا ففتحت عينيها فوجدت الراهبة ومعها امرأة جميلة الوجه جدا، فجعلت ميلادي تنظر إليها ولا تعرفها، وهي تنظر إلى ميلادي فلا تعرفها، فتركتهم الرئيسة كذلك وخرجت، فأرادت الامرأة أن تتبعها، فأمسكتها ميلادي وقالت لها: كيف تخرجين من عندي وأنا شائقة إلى أن أراك حتى تنقضي أيامي هنا؟ قالت: ليس ذاك من قصدي، ولكني خشيت أن أكدر عليك منامك، فأنت تعبة. فأخذت ميلادي بيدها وأجلستها على كرسي إلى جانبها، فقالت: وا أسفاه، ها أنا هنا من ستة أشهر في هذا الدير لا يصلني خبر حتى سئمت الحياة لو لم يبعثك الله لي إلى أن أخرج من هنا. قالت: إنك إذن ستخرجين؟ قالت: نعم، وذلك في مأمولي. قالت: علمت أنك هنا بأمر من الكردينال وهو ظالم لك؟ قالت: وهل صحيح ما قالته لي الرئيسة من أنك أسيرة أيضا بأمر هذا الظالم؟ فقالت لها ميلادي: صه، فإن مصيبتي من كلام كهذا لدى صديقة كنت أثق بها فخدعتني ووشت بي، فهل أنت مثلي؟ قالت: لا، فإني سجنت لأني مخلصة لامرأة شريفة أبذل في سبيل خدمتها حياتي. قالت: وكيف تركتك؟ قالت: كنت أظن أنها تركتني، ولكنها لم تتركني؛ فقد جاءني خبر من مدة أنها لا تزال تفكر بي، ولكن أنت يظهر لي أنك مطلقة تذهبين متى شئت. قالت: وإلى أين أذهب ولا مال ولا رفيق معي على جهلي بهذه الجهة؟ قالت: إن مثلك لا يهتم بالرفيق، فإنك بارعة في الجمال لا تعدمين رفيقا. قالت: ذلك لا يمنع عن أكون وحيدة. قالت: لا تقنطي من رحمة الله، فلعلي أن أخرج من هنا فأجد لك من يأخذ بناصرك ويخلصك من هذا الدير. قالت: لا تظني أن قولي أني وحيدة دليل على أن لا أقارب لي ولا أصدقاء، بل أن ليس فيهم من يقدر على أن يقابل الكردينال ويفلت منه إذا خلصني، ولو كان الملكة نفسها؛ ولذلك قلت إني وحيدة، فإن الملكة إذا عجزت عن خلاص أحد تركته. قالت: لا، بل تزيد تفكرا به وبخلاصه. فقالت ميلادي: نعم، فإن الملكة كثيرة الشفقة طيبة القلب. قالت: أوتعرفينها أنت؟ قال: لا أعرفها بوجهها، ولكني سمعت عنها من كثيرين ممن لها عليهم فضل مثل دي بيتاج وريجار ودي تريفيل قالت: أوتعرفين دي تريفيل؟ قالت: نعم، وهو قائد حرس الملك. قالت: إذا كنت تعرفينه فأنت تعرفين أصحابه؛ إذ لا شك أنك كنت تذهبين إليه. قالت: نعم، كنت أزوره في غالب أوقاتي. قالت: إذن تعرفين بعض الحراس عنده. فلاح لميلادي من ذلك وجه طمع فيها وفي استطلاع أسرارها؛ فقالت أجاريها إلى الغاية، ثم قالت: نعم، أعرف كل من كان يزوره. قالت: تتفضلين علي بذكر بعضهم. قالت: نعم، أعرف دي سوفيني دي وكرتيفرون ودي فيريساك. ثم أمسكت، فقالت لها الامرأة: أما تعرفين عنده رجلا يدعى أتوس. فوقع هذا الاسم في أذن ميلادي وقوع السهم في قلبها، فاصفر وجهها اصفرارا شديدا واضطربت أعضاؤها، فقالت لها: ما بالك تصفرين يا سيدتي؟ هل كان في كلامي ما يسوءك؟ قالت: نعم قد أثر في هذا الاسم، فإنه قل من يعرفه، وله صديقان وهما بورتوس وأراميس. قالت: إذن تعرفين لهم صديقا آخر؟ قالت: إني لا أعرفهم إلا من كلام الناس، وقد سمعت بصديقهم هذا وهو دارتانيان. فقبضت الامرأة على يد ميلادي وجعلت تحدق بها، ثم قالت: أوتعرفين دارتانيان؟ ثم رأت منها تغيرا، فقالت: وكيف تعرفينه؟ قالت: أعرفه صديقا لهم. قالت: لا تخدعيني، فأنت عشيقته. قالت: لا، بل أنت ، فقد عرفتك، أنت كونستانس بوناسيه. فأجفلت منها كونستانس وقالت: أتغارين مني؟ ألم تكوني صديقته؟ قالت: لا والله. قالت: ولماذا أجفلت من اسمه؟ قالت: ألم تفهمي؟ قالت: لا وأفصحي. قالت: ألا تعلمين أني عارفة باختطافك من بيت صغير في سان جرمن ويأسه منك وتفتيشه عليك هو وأصحابه، فكيف تريدين أن لا أعرفك وقد طالما كلمني عنك وهو يزفر من حبك زفرات أحر من النار، فقد عرفت الآن أيتنا الحبيبة. قالت: العفو يا سيدتي، فإني أحبه. قالت: ما أسعدني بمرآك، فدعيني أنظر إليك، فأنت أنت والله لم يخطئ ظني فيك. فاغترت الامرأة بكلامها ووثقت منها بالتمليق وهي لا تعلم ما وراءه من الغيظ والحقد الكامن، فقالت لها بوناسيه: إذن تعلمين كم أقاسي لأجله من العذاب، ولكني أجد العذاب عذبا في سبيل حبه، وقد قيض الله لي أن أراه فسأراه الليلة أو غدا. فانذهلت ميلادي لكلامها وقالت: كيف ذلك؟ أتنتظرين منه خبرا؟ قالت: بل أنتظره بعينه. قالت: هو نفسه يأتي إلى هنا؟ قالت: نعم. قالت: إن ذلك لا يكون، فإني أعرفه في حصار روشل مع الكردينال، فلا يرجع قبل أخذ المدينة. قال: ليس شيء صعبا على رجل شريف مثل دارتانيان. قالت: إني لا أكاد أصدق. قالت: إذن فاقرئي هذا الكتاب. ثم ناولتها كتابا، فنظرت فيه فعرفت أنه خط الخاتون دي شفريز، فقرأت:
أي بنية، كوني متأهبة للسفر، فإن صديقك آت إليك ليأخذك من الدير، فبالغي في الاختفاء والتنكر إذا خرجت واستعدي للرحيل. والسلام عليك.
ثم قالت: أتعرفين ما معنى هذه الرسالة؟ قالت: لا، ولكني أظن أن الملكة قد علمت بمكيدة ينصبها لي الكردينال. قالت: هو ذاك. ثم سمعت وقع حوافر فرس، فهبت بوناسيه إلى النافذة وهي تقول عساه هو؟ فقالت ميلادي - وهي لم تنتقل من سريرها: انظري جيدا لعله هو. قالت: لا، فإنه رجل لا أعرفه وقد وقف على باب الدير وهو يقرع. قالت: أمتأكدة أنت أنه ليس دارتانيان؟ قالت: نعم، فإني أراه بزي آخر. فقامت ميلادي وأخذت تلبس ثيابها، فقالت لها بوناسيه : لقد دخل. قالت: إما لأجلي أو لأجلك، فقالت لها بوناسيه: ما بالك تضطربين؟ قالت: نعم، فإني أخشى من الكردينال. فقالت لها: صه، فإنهم آتون إلينا. ثم فتح الباب ودخلت الرئيسة، فقالت لميلادي: هل أنت آتية من بولونيا؟ قالت: نعم، فمن يطلبني؟ قالت: رجل لا يريد أن يتسمى ويقول إنه آت من قبل الكردينال يريد أن يكلم الامرأة القادمة من بولونيا. قالت: إذن فأدخليه يا سيدتي. فقالت لها بوناسيه: إني أخشى عليك منه، فأنا أتركك وأذهب. ثم خرجت مع الراهبة، ولبثت ميلادي شاخصة إلى الباب حتى فتح ودخل منه رجل، فعرفته وصاحت عند مرآه صيحة الفرح، وكان هذا الرجل الكونت دي روشفور صفي الكردينال وساعده.
الفصل السادس والخمسون
اثنان من الأبالسة
فتلقته ميلادي بالترحاب وقالت له: من أين آت؟ قال: من روشل، وأنت؟ قالت: من إنكلترا. قال: ما جرى ببيكنهام؟ قالت: جريح أو قتيل، فإني أغريت به بعض الجند ولا أدري ماذا جرى. قال: بارك الله فيك، فهل أعلمت الكردينال؟ قالت: كتبت له من بولونيا، فما جاء بك إلى هنا؟ قال: أرسلني الكردينال لأبحث عنك، فمتى وصلت؟ قالت: أمس، ولم أضع الوقت سدى، أفلا تعرف من وجدت؟ قال: لا. قالت: وجدت الامرأة التي خلصتها الملكة من السجن. قالت: أليست بوناسيه حبيبة دارتانيان؟ قالت: هي بعينها، والكردينال يجهل مقرها. قال: إن السعادة تخدم الكردينال هنأه الله. قالت: ولو رأيت انذهالي عندما وجدت هذه الامرأة. قال: هل عرفتك؟ قالت: لا، بل هي تعتقد أني صديقتها الودودة. قال: لله درك، فلا أحد أقدر منك على فعل هذه العجائب يا كونتس. قالت: وقد عرفت منها أيضا أنهم آتون لأخذها غدا أو بعد غد بأمر من الملكة. قال: ومن يأخذها؟ قالت: دارتانيان وأصحابه. قال: حسنا يفعلون فإنهم يهيئون لنا فرصة نرسلهم فيها إلى سجن الباستيل. قالت: ولم لم يسجنوا بعد؟ قال: أرى الكردينال ضعيفا عنهم، ولا أدري لذلك سببا. قالت: قل له إذن إن محادثتي إياه في فندق برج الحمام قد سمعها هؤلاء الرجال الأربعة، وصعد إلي أحدهم بعد ذهابه فأخذ مني صك البراءة، وأنهم أخبروا اللورد ونتر بذهابي إلى إنكلترا ليحبطوا مسعاه كما فعلوا بالعقد، وقل له أيضا إنه يجب أن يخشى اثنين منهم هما أتوس ودارتانيان وإن الثالث عشيق دي شفريز فلا يقتله فإن حياته تفيدنا لاستطلاع أسراره، أما بورتوس فلا تمسوه فإنه يحسب عليكم رجلا ولا خير فيه. قال: أظن أنهم الآن في حصار روشل؟ قالت: لقد كنت أظن ذلك لولا أن رأيت الرسالة في يد بوناسيه تبشرها بقدومهم عن قريب. قال: كيف العمل؟ قالت: ما عندك لي؟ قال: أن آخذ ما لديك من الأخبار إما خطا أو شفاها، ثم أعود إلى الكردينال فيرسم لك ما تصنعين. قالت: وهل ألبث هنا؟ قال: كما شئت هنا أو في الضواحي. قالت: ألا أذهب معك؟ قال: ذلك لا يكون، فإنهم يعرفون أنك في المعسكر وهو ما يضر بالكردينال. قالت: إذن أنتظر إما هنا أو في ضواحي الدير. قال: عيني لي مكانا أجدك فيه إذا طلبتك. قالت: إني لا أقدر أن ألبث هنا خشية من أن يصل أعدائي أصحاب دارتانيان فيصيبني منهم مكروه. قال: إذن تفلت هذه المرأة من الكردينال. قالت: معاذ الله أن تفلت أم نسيت أني صاحبتها المخلصة؟ فقل للكردينال إني أنا لها. قال: والآن: ما أصنع؟ قالت: تذهب مسرعا إلى الكردينال فإن الأمر خطير. قال: لقد كسرت عربتي عند دخولي إلى ليليه. قالت: ذلك خير لأني في حاجة إليها، فاذهب راكبا ولو كانت الشقة بعيدة، ثم إذا وصلت إلى ليليه ترسل لي العربة وتوصي خادمها بالامتثال لي، ثم تأمر راهبة الدير بالتسريح لي بالذهاب متى شئت مع كل من يأتيني باسمك، ولا تنس أن تكلم الرئيسة بغيظ إذا ذكرتني لأني أوهمتها أني عدوة الكردينال وأني بغيته. قال: وأين أجدك بعد ذلك؟ قالت وقد فكرت طويلا: إني أعرف هذه البلاد حق المعرفة لأني ربيت بها، فإنك تجدني في أرمانتيير. قال: وما أرمانتيير؟ قالت: قرية صغيرة على ضفة نهر ليس، فإذا قطعته صرت في بلاد غير فرنسا. قال: نعم، ولكن لا تقطعيه إلا عند الخطر الشديد. قالت: نعم. قال: وأين أعرف مقرك؟ قالت: أفي حاجة أنت إلى خادمك؟ قال: لا. قالت: وهل أنت واثق منه؟ قال: نعم. قالت: آخذه معي إلى حيث أسكن، ثم يذهب إليك ليدلك على مقري. قال: نعم، فاكتبي لي اسم القرية لئلا أنساه. فكتبته. فودعها وخرج وقد وضع الورقة تحت قبعته.
الفصل السابع والخمسون
نقطة الماء
وما كاد روشفور يبعد عن غرفة ميلادي حتى دخلتها بوناسيه فوجدت ميلادي ضاحكة السن، فقالت لها: هل دنا ما كنت تخشين منه من قبض الكردينال عليك؟ قالت: من قال لك ذلك؟ قالت: سمعته من فم الرسول. قالت: تعالي فاجلسي حذائي وأنصتي لئلا يسمعنا الرجل. فجلست وقالت: لم هذا التحذر؟ قالت: سترين. ثم نهضت إلى الباب ففتحته ونظرت في الرواق فلم تجد أحدا، فأقفلته وعادت وهي تقول: لقد أتم الحيلة. قالت: من؟ قالت: من ادعى أنه رسول من قبل الكردينال؟ قالت: ومن هو هذا الرجل إذن؟ قالت: أخي، وهو سري سلمته لك فلا تعبثي به، وإليك القصة، فإن أخي هذا سمع بي أني هنا فأقبل قاصدا خلاصي، فصادف رسول الكردينال آتيا فتبعه حتى خلت الطريق فتعرض له وطلب أوراق الكردينال منه، فأباها عليه فقتله وأخذها؛ إذ لم يجد لأخذها واسطة أخرى، فأخذ الأوراق وجاء باسم الكردينال، وستأتي بعد ساعة أو ساعتين عربة تأخذني باسم الكردينال وهي عربة أخي، ثم اعلمي أن الكتاب الذي بيدك المنبئ لك بوصول من يخلصك ليس هو من دي شفريز بل هو مزور حيلة عليك، فإن دارتانيان ينازل روشل الآن ولا سبيل إليه نحوك. قالت: وأنى لك هذا؟ قالت: علمته من أخي حيث قال إنهم سيأتونك من قبل الكردينال بأثواب حرس الملك لتنخدعي لهم فيذهبوا بك إلى باريز، فقالت: وا كرباه، أكاد أجن من هذه الأمور. قالت: أنصتي. قالت: ما ذاك؟ قالت: إني أسمع وقع حوافر فرس وهو أخي ذاهبا، فتعالي أودعه الوداع الأخير، ثم صعدت إلى النافذة ومعها بوناسيه حتى مر بهم الفارس، فقالت له ميلادي: على الطائر الميمون يا أخي. فالتفت إليها وأشار بيده يودعها وغاب. فعادت من الشباك فأقبلت إليها بوناسيه وهي تقول: أشيري علي بالله ماذا أصنع. قالت: ليس لك إلا واسطة واحدة، وهي أن تخرجي فتقيمي في بعض نواحي هذا الدير. قالت: وإلى أين أذهب؟ قالت: تذهبين معي، فإني سأذهب أنتظر وصول أخي في بعض هذه القرى. قالت: إنهم لا يسمحون لي بالخروج، فأنا هنا كالأسيرة. قالت: نعم، ولكنك تظهرين أنك تريدين أن تودعيني فتقعدين معي في العربة، فيسوق السائق الخيل فتجري بنا ونخلص. قالت: وإذا جاء دارتانيان. قالت: نعرف من غير بد. قالت: وكيف ذلك؟ قالت: نرسل إلى الدير خادم أخي الذي نتكل عليه في أمرنا هذا فيتجسس الأمر، فإن وجد القادمين من حرس الكردينال لبث متخفيا لا يظهر، وإذا كانوا دارتانيان وأصحابه أتى بهم إلينا. قالت: وهل يعرفهم؟ قالت: نعم، فإنه طالما رأى دارتانيان عندي. قالت: أحسنت، ولكن لا يجب أن نبعد من هنا. قالت: نلبث على الحدود، حتى إذا داهمنا خطر نفر من فرنسا. قالت: وما أصنع الآن وأنت تنتظرين؟ قالت: لعلك تذهبين ولا أشعر بك. قالت: اطلبي من الرئيسة أن تسمح لك بالإقامة معي، وما أراها تمنعك. قالت: أصبت. قالت: فانزلي حالا إليها واستأذنيها، وأنا أنزل إلى الجنينة أتنزه فيها فإني أرى نفسي في دوار. قالت: وأين أجدك؟ قالت: هنا بعد مضي ساعة. قالت: نعم. وذهبت تلك إلى الجنينة وبوناسيه إلى الرئيسة. وكانت ميلادي قد أصابها الدوار كما قالت من عظم الحيلة التي دبرتها وفظاعة العمل التي نوت عليه، وكان جل قصدها في ذلك أن تذهب ببوناسيه إلى مكان لا يدري به أحد، وأخذت تفكر في ذلك لعلمها أن بوناسيه حياة دارتانيان، فإذا أخذتها من بين يديه هان عليها الانتقام منه. وفيما هي تمشي في الجنينة وهذه الأفكار تساورها سمعت صوتا خفيفا يناديها، فالتفتت وإذا بها ترى دي بوناسيه مستبشرة بما أذنت لها به الرئيسة، ثم عادت وإياها، فلما بلغت فناء الدار سمعت صوت عربة، فقالت: هذه عربة أخي، فاذهبي وأحضري ما يهمك إحضاره من حلي ودراهم. قالت: ليس عندي سوى تلك الرسائل. قالت: فاذهبي وأحضريها، ثم لاقيني إلى هنا فنأكل معا. فقالت: وا كرباه، أرى نفسي ضعيفة لا أقدر على المشي. قالت: تشددي ولا تخشي فإنك تطلقين بعد قليل. فذهبت وصعدت ميلادي إلى غرفتها فوجدت فيها خادم روشفور، فأعطته التعليمات اللازمة، ومن جملتها أن ينتظرها لدى الباب، فإذا رأى حراس الملك قادمين ينطلق بالعربة إلى جهة الدير الأخرى فينتظرها عند قرية صغيرة فتخرج إليه من باب الحديقة. وفيما هي توصيه دخلت بوناسيه فقالت له ميلادي: ثم تصعد إلى عربتي هذه الامرأة، وحالما تصير معي تسوق الخيل بسرعة البرق. قال: نعم. وخرج. فأقامت ميلادي هي وبوناسيه وأكلتا. وفيما هما تأكلان إذا بميلادي تسمع وقع حوافر خيل وصهيل، فوثبت إلى النافذة فلم تر أحدا لأن الصوت كان بعيدا، فقالت لها بوناسيه: ما هذا الذي أسمع؟ قالت: إما أعداؤنا أو أصدقاؤنا، فالبثي مكانك حتى أقول لك. ولم يمض قليل حتى ظهرت الفرسان، فرأتهم ميلادي ثمانية وفي مقدمتهم فارس عرفت أنه دارتانيان، فصاحت صيحة اليأس، فقالت لها بوناسيه: ما هذا؟ قالت: قدم حرس الكردينال، فلا خلاص لنا إلا بالفرار. قالت: نعم، فهيا بنا. فهبت من مكانها وهي واهية القوى من الخوف والرهبة، ثم سمعت صوت الفوارس تمر تحت النافذة، فزاد رعبها، فأخذتها ميلادي بيدها وقالت: هلمي فإن لنا طريقا من الحديقة ومعي مفتاحها، فسارت معها خطوتين ثم سقطت لا تستطيع النهوض، وإذا بميلادي تسمع صوت العربة هاربة من وجه الحراس، ثم تلاها صوت البنادق، فقالت ميلادي: أتذهبين أم لا؟ قالت: لا أقدر أن أذهب، فاهربي وحدك. قالت: أهرب وحدي وأتركك، إن ذلك لا يكون. ثم وقفت برهة تفكر وذهبت إلى المائدة فأخذت كأس بوناسيه ففتت فيه فص خاتم كان معها ثم ملأته نبيذا وقالت لها: اشربي، فإن هذا يشدد العزم ثم أدنت الكأس من فم بوناسيه فشربتها، فقالت ميلادي: والله لم أكن أريد أن أنتقم هذا الانتقام لولا مداركة الفرص. ثم وضعت الكأس على المائدة وخرجت راكضة وبوناسيه تنظر إليها نظرة غرقى إلى ساحل، وأخذ العرق يسيل منها وقواها تضعف، ثم سمعت صوت الأبواب تفتح وسمعت اسمها يلفظ، ثم فتح الباب وظهر دارتانيان، فصاحت به صيحة الفرح وأكبت عليه تقبله ويقبلها، ثم تبعه أصحابه وسيوفهم في أيديهم، فقالت لدارتانيان: لقد أتيت يا حبيبي ولم تخدعني، فقد غلطت إذ قالت لي إنك خدعتني وإنك لا تأتي. فقال دارتانيان: ومن هي؟ قالت: رفيقتي التي أرادت أن تأخذني معها، وقد هربت الآن منكم ظانة أنكم حرس الكردينال. فاصفر وجه دارتانيان وقال: أي رفيقة تعنين؟ قالت: التي كانت عربتها على الباب والتي زعمت أنك تحبها، فقال: وما اسمها؟ أخبريني، أما أتعرفين؟ قالت - وصوتها يتقطع من النزاع: لقد قالوه أمامي ونسيته، وا كرباه، ما هذا الدوار. فصاح دارتانيان: إلي يا رفاقي، فإني أشعر بيديها قد بردتا وقد أغمي عليها. فتقدم بورتوس يساعده ووثب أراميس إلى المائدة ليأتي بكأس من الماء، فدهش عندما رأى أتوس واقعا لدى المائدة كالصنم لا حراك به، وعيناه تقدحان شرارا. فصاح دارتانيان: علي بالماء. فقال أتوس: مسكينة أنت يا بوناسيه. ففتحت المرأة عينيها، فقال دارتانيان: وا بشراي قد فتحت عينيها وأفاقت والحمد لله. فقال لها أتوس: لمن هذا الكأس؟ قالت: لي. قال: ومن سكب لك هذا النبيذ؟ قالت: هي. قال: ومن هي؟ قالت: ذكرت اسمها الآن هي الكونتس دي ونتر. فأجفل الأربعة وصاحوا صيحة الجزع، وكانت صيحة أتوس تفوق الجميع، وسقطت بوناسيه بين يدي أراميس وبورتوس لا تسمع ولا تعي، فقام دارتانيان إلى أتوس وقال: أتظن أنها ...؟ قال: نعم. وهو يعض على شفتيه حتى كاد يدميهما. فتحول دارتانيان إلى بوناسيه فوجدها قد اصفر وجهها وغارت عيناها وكان جسمها يرتجف وهي تتصبب عرقا، فقال: ادعوا لنا طبيبا، فقال أتوس: لا فائدة من الطبيب فإن السم زعاف لا دواء له. فقالت وهي تجود بنفسها: نعم، لا دواء له. ثم جمعت قواها وضمت رأس دارتانيان بين يديها وقبلته وطارت نفسها، فوجد دارتانيان بين يديه جثة باردة، فسقط مغشيا عليه، وأقام أصحابه يندبون، وإذا بالباب قد انفتح وظهر على عتبته رجل، وجعل ينظر إلى بوناسيه ودارتانيان، ثم قال: لم أخطئ، فهذا دارتانيان وأنتم أصحابه الثلاثة أتوس وبورتوس وأراميس. فنظر إليه الثلاثة وهم مرتابون في معرفته، فقال لهم: أظنكم مثلي تفتشون على امرأة مرت من هنا لأني أرى لها أثرا في هذه الجثة. فلبثوا صامتين ينظرون إليهم وهم يذكرون أنهم رأوه، فعقب قائلا: إذا كنتم مترددين في معرفتي بعد إذ خلصتموني مرتين من الموت فأنا أعرفكم بنفسي، أنا اللورد ونتر سلف هذه الامرأة. فقام إليه أتوس وصافحه وقال: أهلا وسهلا بك، فأنت منا. قال: قد تتبعتها من بورتسموث بعد سفرها بخمس ساعات فوصلت بعدها إلى بولونيا بثلاث ساعات، وتبعتها من قرية إلى قرية أستخبر الناس عنها حتى رأيتكم تسيرون أمامي، فعرفت دارتانيان فناديتكم فلم تجيبوا إذ لم تسمعوني لبعدي عنكم لوقع حوافر خيلكم، فشددت في لحاقكم فلم يغن جوادي لكلاله حتى اجتمعت بكم الآن، فهل الاثنان قتيلان؟ قال أتوس: لا والحمد لله، فإن دارتانيان مغمى عليه. ففتح دارتانيان عينيه ورمى بنفسه على جثة حبيبته يقبلها ويتشممها، ثم انثنى عنها إلى أتوس فقبله وقال: كتب القتل والقتال علينا، وعلى الغانيات ندب القتيل، دع النساء يبكين النساء فللرجال الأخذ بالثأر. قال: صدقت والله لأنتقمن من قاتلها ولو تعلق بأهداب السحاب. فأشار أتوس إلى أراميس وبورتوس أن يدعوا الرئيسة، فذهبا فوجداها في فناء الدير، فأتيا بها، فقال لها أتوس: ها نحن نترك بين يديك جسم هذه الامرأة الطاهرة فادفنيها فإنها ملك كريم في صورة إنسان، وسنرجع بعد فنصلي على قبرها. ثم أخذ دارتانيان بيده وهو يبكي أشد بكاء، وخرج الخمسة من الدير إلى مدينة بيتين فوقفوا على أول فندق فيها، فقال دارتانيان: ألا نتبعها فنأخذ ثأرنا منها؟ قال أتوس: ذلك علي. قال: أخشى أن تفوتنا فيكون اللوم عليك. قال: أنا لها فلا تخش فرارها. فجعل أراميس وبورتوس يتناظران ويعجبان من ثقة أتوس بإمساكها، وظن اللورد ونتر أنه يتكلم كذلك ليهدئ روع دارتانيان، فقال أتوس: تفرقوا يا قوم كل إلى غرفته في هذا الفندق، فنحن في حاجة إلى الاختلاء، وعلي تدبير الأمر. فقال اللورد ونتر: لا، بل ذلك علي، فأنا أقرب إليها لأني سلفها. قال: لا، بل أنا، فإنها امرأتي. فتبسم دارتانيان لذلك وعلم أن أتوس لا يتركها لأنه باح بسره فيها، فقال أتوس: اذهبوا إلى غرفكم وأعطني يا دارتانيان الورقة التي سقطت من الفارس، فهذا وقتها. قال: نعم، فإنها بخطها. فأخذها وتفرقوا.
الفصل الثامن والخمسون
الرجل ذو العباءة الحمراء
وكان أتوس أشد أصحابه حنقا على ميلادي والتزاما بالقبض عليها لتعهده بذلك، فدخل غرفته ودعا إليه بصاحب الفندق، فطلب منه رسم ذلك الإقليم وطرقه، فأعطاه، فرأى أنه يوجد من بيتين لأرمانتيير أربع طرق، فدعا بالخدم وهم بلانشت وكريمود وموسكتون وبازين فأمرهم بالذهاب في وجه الصبح إلى أرمانتيير كل منهم يأخذ في طريق، ووجه بلانشت في الطريق التي سارت منها العربة وفيها خادم روشفور. وكان أتوس شديد الثقة بهم لعلمه أنهم يعرفون ميلادي وهي لا تعرفهم، فتعاقد الأربعة على أن يصلوا إلى أرمانتيير عند الصباح، حتى إذا وجدوا ميلادي بعثوا بأحدهم ليأتي بهم إليها، ثم ذهبوا فتقلد أتوس سيفه واشتمل بعباءته وخرج. وكانت الساعة العاشرة ليلا، فسار في طريق أرمانتيير يلتمس من يسأله عنها حتى صادف رجلا فسأله، فأشار إليه بيده عن الطريق، فأغراه بدينار ليذهب معه فأبى، فسار أتوس في الطريق التي أشار إليها الرجل، ولم يزل سائرا حتى انتهى إلى طريق متشعبة إلى أربعة، فوقف حائرا لا يدري في أيها يأخذ حتى رفع له رجل فلم يدله إلا بالإشارة وأبى أن يذهب معه. ثم سار حتى تشعبت الطريق فوقف ينتظر، حتى مر به سائل ووقف به يسأله الصدقة، فعرض عليه قطعة من الفضة على أن يدله فتوقف السائل قليلا، ثم غرته لمعة الفضة فرضي ومشى أمامه حتى بلغ به غاية الطريق، فأشار له إلى بيت في وسط بستان لا شيء حوله من العمران، فدنا أتوس من بابه وقرعه ففتح له رجل طويل القامة أصفر الوجه مسود اللحية والشعر، فكلمه أتوس سرا فأشار إليه بالدخول، فدخل إلى بيت حقير يتدلى العشب من سقفه وهو رث الأثاث لا شيء فيه من الترتيب والنظافة، وكان يسكنه ذلك الرجل وحده ولا رفيق معه. فجلس إليه أتوس يحادثه فيما ندبه له من العمل الخطير وعرضه عليه من الفعل الهائل، فأجفل الرجل منه وتمنع، فأخرج له أتوس من جيبه ورقة عليها سطران تحتهما إمضاء، فلما قرأها الرجل أحنى برأسه علامة الطاعة، فقام أتوس وحياه وخرج عائدا في طريقه التي جاء منها حتى بلغ الفندق، فدخل غرفته وأقفل عليه الباب.
فلما كان الصباح دخل عليه دارتانيان وقال له: ماذا يجب أن نفعل؟ فقال: الانتظار. وبعد قليل جاءهم خبر من رئيسة الدير بأن الدفن يكون عند الظهر وأنها لم تعلم من أمر السم شيئا سوى أنها رأت آثار أقدام في الحديقة تنتهي إلى بابها وهو مغلق والمفتاح ضائع. وعند الظهر ذهب اللورد ونتر وأصحابه الأربعة إلى ملحد الدير فصلوا على الامرأة، فهاج ذلك في دارتانيان الجزع والحزن، فانثنى يطلب أتوس فلم يجده. وكان أتوس قد ذهب في الحديقة على آثار الأقدام حتى انتهى إلى بابها ففتحه وخرج إلى الغابة، فوجد آثار عجلات العربة ذاهبة في الغابة، فتبعها وهو ينظر إلى الأرض فرأى عليها قطرات دم، إما من أحد الخيول أو من الخدم عندما أطلق الحراس عليها بنادقهم، فسار أتوس على الآثار حتى انتهى إلى غاية الغابة فوجد عندها بركة دم واسعة وبعدها أقدام صغيرة مثل آثار الحديقة حتى انتهت عند الطريق حيث وقفت العربة، فعلم أتوس أن ميلادي مشت إلى هناك ثم ركبت العربة وسارت. فعاد إلى الفندق فوجد بلانشت ينتظره، فأخبره أنه رأى كل ما رآه من آثار الدم وعجلات العربة، إلا أنه أمعن في تتبع الأثر أكثر من أتوس حتى بلغ بيتا فعرف منه أن قد وقفت عليه أمس عربة فيها رجل جريح وامرأة، فأودعت الرجل في البيت وسارت في طريقها، ثم سار على آثار العربة حتى انتهى إلى أرمانتيير فبلغها عند الساعة السابعة صباحا وأسرع إلى فندقها يسأل عن غرفة يأخذها، فعلم من النازلين في الفندق أن امرأة قدمت أمس فأقامت في إحدى غرف الفندق ثم طلبت من صاحبه بيتا في ضواحي القرية فاكتفى بلانشت بذلك وعاد إلى رفاقه الثلاثة، فرتبهم كالعسس وعاد إلى أتوس وأخبره. وما أتم كلامه حتى دخل الأصحاب الثلاثة، فقال دارتانيان: ماذا يجب أن نفعل؟ قال: الانتظار. فعاد كل إلى غرفته.
ولما كانت الساعة الثامنة مساء أمر أتوس أن تسرج الخيل فأسرجت، ونبه أصحابه الأربعة فاستعدوا وركبوا. فجعل دارتانيان يتأفف ويتضجر، فقال له أتوس: رويدا فإنه ينقصنا رجل. ثم ساروا، فهمز أتوس جواده وقال لهم: أنظروني فأنا راجع. ولم يغب إلا قليلا حتى عاد ومعه رجل مرتد بعباءة حمراء، فجعل الحراس واللورد ونتر ينظرون إليه وهم لا يقفون على عرفانه، فظنوا أن ذلك من تدبير أتوس فتركوه. وعند الساعة التاسعة سارت الفرقة في ذلك الظلام الحالك يقدمها بلانشت في طريق العربة، ولسان حالهم ينشد:
وكم لظلام الليل عندك من يد
تخبر أن المانوية تكذب
الفصل التاسع والخمسون
المحاكمة
وكان الليل عاصفا والسحاب متكاثفا والظلام شديدا، إذا مد الإنسان يده لم يكد يراها، وكان القمر لا يشرق إلا عند منتصف الليل. فجعل القوم يسيرون في ذلك الظلام ولا ينظرون الطريق إلا إذا لمع البرق. وما زالوا كذلك حتى مروا بحيث وضع الجريح، فعطف بلانشت على شماله، وكان الحراس واللورد يكلمون الرجل ذا العباءة الحمراء فلا يجيب إلا برأسه، فأمسكوا عنه. وكان الرعد قد زاد والبرق أخذ يتتابع والهواء يعصف بشدة، ثم تبع ذلك مطر غزير كأنه من أفواه القرب. وفيما هما يسيرون إذا برجل خرج من وراء شجرة واعترض في الطريق وأشار إلى القوم بالسكوت، فعرف أتوس أنه كريمود، فقال له دارتانيان: ماذا جرى؟ هل فارقت أرمانتيير؟ قال: نعم. فعض دارتانيان على شفته وزفر زفرة الضرام، فقال له أتوس: رويدك فأنا صاحب الأمر وعلي وجدانها. ثم قال لكريمود : أين هي؟ فأشار له بيده إلى مقاطعة ليس، فقال: هل هي بعيدة عنا؟ فهمس في أذنه، فقال أتوس لهم: إنها على مقربة منا وهي وحدها في بيت على شاطئ النهر، فهيا بنا يا كريمود. فسار أمامهم وتبعوه، فقطعوا نهرا وساروا، وفيما هم يسيرون لمع البرق فظهر منه بيت منفرد له نافذة يلوح من خلالها نور، فأشار إليهم كريمود، فقال أتوس: قد وصلنا يا قوم. وفيما هم كذلك إذا برجل قد طلع عليهم من حفرة هناك وهو موسكتون، فأشار إلى النافذة، فقال له أتوس: وأين بازين؟ قال: يخفر الباب وأنا أخفر النافذة. فترجل عن جواده وترجلوا معه وسلموا أعنة الخيل لموسكتون، وأشار لهم أتوس أن يذهبوا من جهة الباب، وتقدم هو إلى النافذة. وكان البيت محاطا بسياج، فتسلقه أتوس ودنا من النافذة وصعد على حجر هناك فرأى امرأة برداء أسود وبين يديها سراج ونار تصطلي عليها معتمدة رأسها بيديها، فعرف أنها بغيته. وعند ذلك صهل جواد من خيله فرفعت رأسها فرأت وجه أتوس في النافذة فصرخت، فوثب أتوس إلى داخل الغرفة، فهربت ميلادي إلى الباب فصادفت دارتانيان، فكانت كالمستجير من الرمضاء بالنار، فأجفلت منه ورجعت. وخاف دارتانيان من فرارها فأخرج غدارته من حزامه، فقال له أتوس: رد سلاحك إلى مكانه، فإني أحب أن أحاكم هذه الامرأة فلا نقتلها إلا عن حكم، فادخلوا يا قوم. فرد دارتانيان غدارته إلى حزامه، ودخل بورتوس وأراميس واللورد ونتر وذو العباءة الحمراء، ووقف الغلمان يخفرون الباب والنافذة. فسقطت ميلادي على كرسيها ثم نظرت سلفها فصاحت صيحة الجزع وقالت: من تطلبون؟ قال أتوس: نطلب كارلوتا باكسون التي دعيت أولا الكونتس دي لافير ثم صارت لادي ونتر بارونة دي شيفيلد. قالت: أنا بغيتكم، فماذا تريدون؟ قال: نريد أن نحاكمك على ما فعلت من الجرائم، وأنت مطلقة في الاحتجاج ودفع الظنة عن نفسك إذا كان لك من ذلك مخرج، فتقدم يا دارتانيان وأعرض شكواك. فتقدم دارتانيان فقال: أشكو هذه الامرأة أمام الله وأمام الناس بأنها سممت كونستانس بوناسيه أمس . فقال بورتوس وأراميس: ونحن على ذلك من الشاهدين. ثم عاد فقال: وأشكوها أيضا بأنها أرادت أن تسممني أنا بالخمر الذي أرسلته لي بكتاب مزور فخلصني الله منها وفداني برجل آخر. فقال الشاهدان: ونحن نشهد. ثم عاد فقال: وأنا أشهد لنفسي بأنها أغرتني بقتل الكونت ويرد ولم يكن عند ذلك من يسمعها، وهذه شكايتي عليها. ثم تنحى فتقدم اللورد ونتر، فقال: أشكو هذه الامرأة أمام الله وأمام الناس بأنها قتلت اللورد بيكنهام. فصاح الجميع: أوقتل بيكنهام؟ قال: نعم، فإني عندما حذرتموني منها قبضت عليها وسجنتها، فأغرت أحد خدمي فخلصها وقتل اللورد بيكنهام، وهو يضرب الآن عنقه جزاء ذنبه، وليست تلك شكايتي كلها، فإنها تزوجت بأخي فمرض بمرض لم يلبث فيه سوى ثلاث ساعات ثم مات وعلى جسمه آثار، فأخبريني كيف مات يا فاجرة، فأنا أطلب الانتقام منك لأنك قتلت بيكنهام وقتلت فلتون وقتلت أخي، وإلا أنتقم منك بيدي. ثم تنحى إلى طرف الغرفة، فتقدم أتوس وقال: تزوجت هذه الامرأة وهي فتاة بالرغم عن أهلي وغمرتها بالنعم والإحسان، ثم رأيتها موسومة بزهرة على كتفها الأيسر، فحاولت ميلادي التبرؤ فصاح بها ذو الرداء الأحمر وقال: صه، فإني أجيبك. ثم دنا منها وخلع رداءه فنظرت إليه محدقة فيه بصرها، ثم صاحت: لا لا، ما أنت إلا خيال جهنمي، فلست هو، إلي إلي، ثم سقطت على الحائط، فقال له الجمع: من أنت يا رجل؟ فقال: سلوها عني، فقد عرفتني. فقالت ميلادي: هو سياف ليل، هو سياف ليل. ثم سقطت على رجليه وهي تقول: السماح السماح، والعفو العفو. فقال لها: نعم أنا سياف مدينة ليل، وهذه حكايتي: «كانت هذه الامرأة في صباها بارعة في الجمال أكثر مما ترونها عليه الآن، وكانت متنسكة في دير، وكان لي أخ راهب فاستهوته فعلقها وعزم على الفرار بها، ولما لم يكن معه مال سرق آنية البيعة المقدسة فباعها، ولكنه أمسك قبل أن يسافر، وأمسكت معه ووضعت في السجن، فأغرت ابن السجان فأطلقها، وحكم المجلس على أخي بالسجن عشر سنوات وأن يوسم على كتفه وكنت أنا جلاده، فوسمته وثأرت نفسي لإمساك هذه الفتاة، فتتبعتها وأمسكتها ووسمتها كما وسمت أخي، ثم عدت إلى ليل فوجدت أخي قد هرب من سجنه، فعقلت مكانه إلى أن يأتي، ومضى هو يلتمسها حتى أصابها وهرب بها إلى بري، فسكن هناك وجعلها أخته. فاتفق أن سيد تلك الأرض نظرها فعلقها ووقعت في نفسه فتزوجها من أخي، فصارت الكونتس دي لا فير. فنظرت الجماعة إلى أتوس، فأشار لهم برأسه أن الحكاية صحيحة. فعقب السياف فقال: ولما أخذها هذا الكونت ويئس منها أخي عاد إلى ليل فأقام في سجنه وأطلقت أنا، ثم ضرب عنقه في ليلة وصوله، وتلك جنايتها علي أبينها لدى الله والناس. فقال أتوس لدارتانيان: أي ثأر تطلب من هذه الامرأة؟ قال: القتل. ثم التفت إلى ونتر فقال: القتل أيضا. ثم التفت إلى بورتوس وأراميس: فقال أنتما الآن في مقام القضاة، فبم تحكمان عليها؟ قالا: بالموت. فسقطت ميلادي على ركبتيها وهي في حالة اليأس، فقال لها أتوس: أنت كارلوتا باكسون والكونتس دي لا فير وميلادي دي ونتر قد اجترحت ذنوبا ضجت لها الناس في الأرض والأملاك في الأفلاك؛ فقد وجب عليك القتل، فكفري عن ذنبك لله فإن الله غفور رحيم. فنهضت وأراد أن تتكلم فلم تقدر واحتبس لسانها، وإذا بيد السياف قبضت على شعرها وأخرجتها من بيتها، فتبعها الأربعة وتبعهم خدمهم وتركوا الغرفة على حالها.»
الفصل الستون
الإعدام
وكان نصف الليل قد دنا وظهر القمر من خلال السحاب، فسارت الجماعة وميلادي تتقدمهم يقودها اثنان من الخدم وخلفها السياف، وخلف السياف أتوس ودارتانيان واللورد ونتر وبورتوس وأراميس وبلانشت وبازين وراءهم. وكان الخادمان يقودانها إلى جهة نهر ليس وهي صامتة لا تنبس بكلمة، حتى إذا رأت نفسها قد صارت على بعد من الجماعة قالت للخادمين: أعطي كلا منكما ألف دينار إذا ساعدتماني على الفرار، وأما إذا قتلت فإن لي من ينتقم مني. فسمع أتوس كلامها فتقدم إليها وتقدم معه اللورد ونتر، فقال له: دع الخادمين الآخرين يمسكانها. فدعا بهما أتوس وأرجع كريمود وموسكتون، فسارا بها حتى بلغا حافة النهر فعمد إليها السياف وربط رجليها ويديها، فصاحت بهم: إنكم جبناء أخساء لا تقتلون إلا نساء، فحذار حذار من ثأري وحمل دمي. فقال أتوس: ما أنت امرأة، إن أنت إلا مارد فر من الجحيم وسيرجع إليه. فقالت: إياكم أن تمسوني، فأنتم سفاكو دماء. فقال السياف: إن الجلاد يضرب الأعناق ولا جريمة قتل تلحق به، فاستعدي للموت. قالت: إذا كنت مجرمة فخذوني لدى القضاء فاشتكوا علي، فإنكم لستم بقضاة تحكمون بالموت. فقال اللورد ونتر: لقد عرضت عليك النفي فلماذا لم تقبليه؟ قالت: لأني لا أريد أن أموت، فإني لم أزل حدثة جميلة. قال: إن التي قتلتها بالسم في الدير كانت أصغر منك سنا وأبهى جمالا. قالت: إذن أدخل في الدير فأتنسك. قال السياف: لقد كنت في الدير فلم تخرجي منه حتى قتل أخي بسببك. ثم حملها ودنا بها من قارب كان في النهر لهذه الغاية، فقالت: يا رباه، قد عزموا على إغراقي. وكان في صوتها ضعف وخوف تأثر له دارتانيان وذكره بعض ما كان نسي من حبها، فأقبل على السياف وقال: لا أطيق أن أرى هذه الامرأة تموت. فلما سمعت ميلادي كلامه تجدد فيها بعض الأمل، فقالت: اذكر يا دارتانيان أني كنت أحبك. فتقدم دارتانيان إليها، فشهر أتوس سيفه واعترضه وقال: إذا أقدمت تلجئني إلى أن أنازلك. فوقع دارتانيان على ركبتيه، فقال أتوس: يا سياف امض في عملك. قال: نعم. ثم دنا أتوس من ميلادي فقال: أنا أغفر لك ما صنعته معي من تدنيس شرفي وافتضاح عرضي وإضاعة حبي والحالة التي صيرتني إليها من اليأس، فموتي بسلام. فتقدم اللورد ونتر وقال: وأنا أغفر لك تسميم أخي وقتل بيكنهام وموت فلتون واجترائك علي، فموتي بسلام. ثم تقدم دارتانيان وقال: وأنا أغفر لك ما أجريت معي من وسائط القتل، وأغفر لك قتل حبيبتي وأسأل لك الرحمة، فموتي بسلام. فقامت ميلادي وقالت: قد انقطع الرجاء، فلا بد من الموت. ثم نظرت حولها وقالت: أين مكان الإعدام؟ فأجابها السياف: على الشاطئ الآخر. ثم حملها فوضعها في الزورق، فدنا منه أتوس وأعطاه بعض المال وقال: هذه أجرة الضرب فلا إثم عليك. قال: نعم، فأنا أصنع الواجب علي. ثم قذف بالزورق في النهر فسار نحو الشاطئ الآخر، وركع القوم يصلون لها. وكانت ميلادي وهي في الزورق قد حلت رجليها من الرباط، فلما أخرجها السياف فرت هاربة، وكانت الأرض حول النهر رخوة من المياه فزلقت رجلها وسقطت فأدركها السياف، ونظرت الجماعة من الضفة الأخرى سيف السياف يهوي على عنقها، ثم سمعوا صوت موتها، فوضع السياف رداءه الأحمر ولف به الجثة والرأس وركب الزورق حتى صار في وسط النهر، فرمى بها فيه فغرقت.
ولما كان اليوم الثالث من هذه الحادثة وصل الحراس إلى باريز وذهبوا إلى زيارة دي تريفيل، فتلقاهم بالترحاب.
الخاتمة
وفي اليوم السادس من الشهر التالي ذهب الملك من باريز إلى روشل حسبما وعد الكردينال، وبلغ الملكة خبر بيكنهام فلم تكد تصدقه حتى جاءها لابورت بالخبر اليقين فقامت تندبه سرا ولسان حالها ينشد:
أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لثمنا ركن قبرك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
وكان الملك في غاية المسرة ونهاية الحبور، وكان يصحبه في سفره إلى روشل الأصحاب الأربعة. وفيما هو في بعض الطريق خطر له أن يصيد، فتخلف عنه دارتانيان وأصحابه إلى حانة في طريقهم، فجعلوا يشربون وإذا برجل قد وقف على الحانة ونظر إليهم، ثم التفت إلى دارتانيان، فقال: أدارتانيان الذي أرى؟ فقام إليه دارتانيان وسل سيفه ولاقاه وقال: لقد طالما فررت مني، أما الآن فلا تفلت. قال: الأمر أعظم من ذلك، وأنا آت من قبل الملك لآخذ منك سيفك وأقودك إليه فلا تمانع. قال: من أنت؟ قال: أنا دي روشفور خادم الكردينال ريشيليه، وأنا مأمور أن آخذك إليه. فقال أتوس: نذهب إلى الكردينال إذن؟ قال: إني سأرسله مع الحرس إلى روشل حيث يقابل الكردينال في المعسكر. قال أتوس: إذن نذهب معه فلا نفارقه. قال: إذا سلمني دارتانيان سيفه تذهبون معه. قال: هذا سيفي فخذه. قالوا: لا حاجة إلى الحرس، فنحن نأخذ دارتانيان إلى الكردينال قسما بالله وبالشرف. قال: إذن أنا واثق بكم لأنكم نبلاء، فاذهبوا وأنا ذاهب في أمر آخر. فقال له أتوس: إذا كنت ذاهبا في طلب ميلادي فلا تتعب فإنك لا تجدها أبدا. قال: وأين هي؟ قال: ستعرف ذلك إذا بلغنا المعسكر. فعاد روشفور معهم حتى بلغوا المعسكر، فقابل الكردينال الملك بالإجلال والتعظيم ثم استأذن وسار إلى مقره فوجد دارتانيان على الباب أعزل وأصحابه الثلاثة بسلاحهم، فأشار إليه أن يتبعه ودخل، فتبع دارتانيان الكردينال إلى أن بلغ غرفته فجلس ووقف دارتانيان أمامه، فقال له: لقد أمرت بإمساكك. قال: نعم كذلك بلغني. قال: أوتعلم لماذا؟ قال: إن الأمر الذي يوجب إمساكي لم يبلغك بعد يا مولاي. قال: ماذا تعني بذلك؟ قال: ليتفضل مولاي الكردينال بإعلامي لما أوجب إمساكي ثم أعلمه بخبري. قال: إنك متهم بأمور تطير لها رءوس أشد ارتفاعا من رأسك. قال: ما هي يا مولاي؟ قال: أنت متهم بأنك خابرت أعداء المملكة وأنك سرقت أسرارها وغير ذلك من التهم. قال: أنا أدري من اتهمني بذلك، فإنها امرأة موسومة بزهرة على كتفها تزوجت رجلا في فرنسا ثم تزوجت آخر في إنكلترا فقتلته بالسم وحاولت أن تسمني أنا. قال: ماذا تقول؟ وأي امرأة تعني؟ قال: لادي ونتر نفسها، فإنك يا مولاي جاهل جرائمها حتى شرفتها بتسليمها أمورك. قال: إذا كانت ميلادي كذلك فيجب أن تعاقب. قال: لقد جرى عليها العقاب يا مولاي. قال: ومن عاقبها؟ قال: نحن. قال: هل هي في السجن؟ قال: لا، بل في الجحيم. قال: أوتجسر أن تقتلها؟ قال: لقد حاولت قتلي ثلاث مرات ثم قتلت حبيبتي، فأخذناها أنا وأصحابي وحاكمناها وقتلناها، ثم أخض يقص على الكردينال كيفية موت بوناسيه ولحاق ميلادي وقتلها على نهر ليس. فارتعد جسم الكردينال من ذلك وقال: أنى لكم الحكم في ذلك ولستم بقضاة، فأنتم إذن قتلة. قال: أقسم لك يا مولاي بأني لم أمنع حياتي عنك، فإذا شئتها فخذها ، فلا خير فيها. قال: نعم، أعرف أنك شجاع يا دارتانيان؛ ولذلك فأنت تحاكم ثم يحكم عليك. قال: لكن يوجد من يردك عن ذلك إذا ظهر لك صك البراءة. قال: بخط من موقع عليه؟ قال: بخطك يا سيدي، ثم أخرج له الورقة، فقرأ:
إن حامل هذه الرقعة قد صنع ما صنع بأمري ولخير المملكة فلا يعارض.
كتب في معسكر روشل
في 5 آب سنة 1628
ريشيليه
ثم أخذ الكردينال يفكر، فقال دارتانيان: إنه يهيئ لي نوعا من الموت، فسأريه كيف تموت النبلاء. ولبث الكردينال غائصا في أفكاره وهو يقلب الورقة بين يديه، ثم مزقها، فقال دارتانيان في نفسه: هلكت والله، ثم دنا الكردينال من المائدة وأخذ القلم وجعل يكتب على ورقة ودارتانيان يظن أنه يكتب الحكم عليه بالسجن، ثم ناوله إياها فقرأه وإذا بها أمر بتعيينه ضابطا في حرس الملك، فوقع دارتانيان على رجلي الكردينال وقال: لقد غمرتني بفضلك يا مولاي وأنا غير مستحق لذلك؛ فإن أصحابي أكثر استحقاقا مني. فقال: لا، بل أنت شجاع تستحق كل رتبة وإن أكن لم أكتب اسمك فإنما إياك أعني. ثم نادى الكردينال بروشفور فدخل، فقال له: هذا الكونت دارتانيان قد دخل في جملة أصحابي فاحتفظ عليه وعانقه. فدنا منه روشفور فتعانقا بطرف الشفاه ثم خرجا، فقال روشفور: قد التقينا والحمد لله. قال: نعم، فمتى نلتقي؟ قال: سنلتقي. وإذا بالكردينال قد فتح الباب وسعل، فالتفتا إليه وسلما عليه وخرجا، فقابله أتوس فقال: لقد جزعنا لغيابك. قال: لم أخرج فقط، بل خرجت ومعي رتبة، فهل لك أن تقبلها، فإن الاسم غير مكتوب فيها؟ فقال: لا، بل هي لك. ثم عرضها على أراميس وبورتوس فلم يقبلاها وقالا له: إنك لم تزل شابا وأنت في حاجة إلى المراتب والرفعة.
وكانت روشل قد يئست من النجدة؛ لموت بيكنهام، فسلمت بلا حصار في الثامن والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 1628، وعاد الملك إلى باريز فدخلها في الثامن والعشرين من شهر كانون من السنة نفسها، فكان له احتفال شائق لم يجر مثله قط .
أما دارتانيان فأقام على قيادة فرقته الجديدة وترك بورتوس خدمة الحرس وتزوج بعشيقته، وذهب أراميس فساح في البلاد ثم انقطع عن مكاتبة أصحابه فسألوا عنه دي شفريز فقالت إنه دخل في أحد الأديرة وترهب. ولبث أتوس حارسا تحت قيادة دارتانيان إلى عام 1631، ثم ترك الخدمة وذهب إلى إرث ورثه فأقام في روسيليون وتبعه خادمه كريمود. أما دارتانيان فنازل روشفور ثلاث مرات وفي كلها يجرحه، ثم صالحه وآخاه، وأدخل بلانشت خادم دارتانيان في حراس الكردينال، وعاش بوناسيه صاحب الفندق لا يعلم ماذا حل بامرأته ولا أين هي. والله تعالى أعلم بالصواب. انتهت.
قد انتهينا بحمد الله وحسن مدده إلى خاتمة الجزء الأول من هذه الرواية تحت عنوان «الفرسان الثلاثة»، وسنتبعه بالجزء الثاني منها بعنوان «رجع ما انقطع» بحيث يكون الكتابان رواية واحدة يعاد في ثانيهما على تمام ما انقطع منها في ختام الأول. ويتخلل ذلك نبذة مهمة من تاريخ فرنسا وإنكلترا في ذلك العهد الذي عني المؤلف رحمه الله في أن يجمع حوادثه الخطيرة المشهورة على نسق يلذ للذوق بما يدخل في تضاعيفه من الأخبار والحوادث الخارجة عن متن التاريخ تفكهة للقراء وتسلية لخواطرهم، بحيث يقف المطالع على جل تاريخ فرنسا في عرض حكاية فكاهية أدبية لا تستوجب مللا ولا تستدعي كللا بخلاف التاريخ المحض عند العامة إذ تورد حوادثه متتابعة على وتيرة الجد والاهتمام فتستجلب الضجر وتورث السأم على خلوها مما يثقف الأخلاق ويقوم الآداب، كما هو شأن الروايات الفكاهية؛ ولذلك فقد اخترت أن ألحق هذا الجزء بما قبله في التعريب توفية للفائدة وإتماما للخدمة. والله أسأل أن يهدينا إلى طريق الحق والصواب ويسدد أقلامنا إلى حكاية الصدق في كل عمل وكتاب، إنه ولي الأمور وإليه المرجع والمآب.
Page inconnue