ثم قال: معناها أن تتبعني إلى حيث أذهب. قال: إلى مياه فورج؟ قال: نعم، وإلى غيرها في خدمة الملكة. وفيما هو يتكلم دخل بورتوس وهو يقول: لم أسمع قط من يوم دخلت في جملة الحراس أنه تعطى رخصة لأحد من غير أن يطلبها. فقال له دارتانيان: ولكن لا ينبغي أن تعجب إذا طلبها له أصحابه. قال: إني أرى في ذلك سرا. قال: نعم، وهو أن تذهب إلى لندره. قال: وما معنى ذلك؟ قال: إنه سر لا يد لي في إفشائه، فاتبعوني يحببكم الله. فقالوا: ومن أين لنا المال ونحن صفر من الدراهم؟ قال: ذلك علي، ثم طرح الصرة بين أيديهم وقال: نقتسمها، فهي تكفينا لأنا لا نصل كلنا إلى لندرة على ما أظن. قالوا: ولم ذلك؟ قال: قد يمكن أن يتخلف بعضنا في الطريق. قالوا: تلك إذن غزوة؟ قال: نعم، غزوة شديدة الخطر ولا تؤاخذوني إذا كتمتكم أسبابها إلى أجل مسمى. قالوا: رضينا، وتلك عاداتنا في بيع أرواحنا، فقالوا: أسرعوا يا قوم، فالزمان قصير. فنادى الأربعة غلمانهم وقالوا لهم: أسرجوا الخيول وانتظرونا على باب دي تريفيل. فمضى الغلمان فيما أمروا به، وأقام الموالي يتشاورون كيف يذهبون، فقال بعضهم: ننصرف تباعا. وقال بعضهم: يذهب كل منا في طريق ونتخازم في كاله، فقال دارتانيان: أخطأتم يا قوم، فإن بعثتنا في كتاب نوصله إلى لندرة ولا نقدر أن نجعل له نسخا أربعا لأنه مختوم بختم خاص لا وصول لنا إليه، ولكننا نذهب معا. قالوا: صدقت، وسنعتاض عن مياه فورج بمياه المانش ولا نقر بوجهتنا، ولو ذهبت دون ذلك أرواحنا، ونسلح الأتباع ونتسلح فنكون سرية من ثمانية فرسان. قال: أحسنتم، فاقتسموا المال. فاقتسموا ما في الصرة وأخذوا يتجهزون للرحيل .
الفصل السابع عشر
الرحيل
وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل سار الحرسيون الأربعة بغلمانهم قاصدين كاله. حتى كانت الساعة الثامنة من النهار فوصلوا إلى شانتينلي، فنزلوا للغداء في فندق فيها وجلسوا على مائدة هناك عليها رجل من النبلاء، فآكلوه وتعرفوا به وشرب نخبهم (على صحتهم)، ثم قاموا للانصراف، فتعرض لهم الرجل وعرض على بورتوس أن يشرب معه على صحة الكردينال بزعمه أن لا حاكم سواه، فامتنع بورتوس عن ذلك وألح عليه الرجل، فقال له بورتوس: إنك سكران فلا لوم عليك ولا حرج. فأحفظه ذلك وسل سيفه وطلب بورتوس للبراز، فقال له أصحابه الثلاثة: اقتله واتبعنا على جناح السرعة، ثم ركبوا خيولهم وخلفوا بورتوس يجاول خصمه وخادمه إلى جانبه. وفيما هم يسيرون وقد بلغوا مكانا ضيقا التقوا بجماعة مقبلين عليهم، فزاحموهم في الطريق، فأحفظ ذلك أراميس وتعرض لأحدهم فرموه بالرصاص فأصابوا كتفه وخادمه، وجد دارتانيان ورفيقاه في المسير دفعا للعوائق، فتحامل الجريحان وتبعاهم يماشيانهم حتى بلغوا مكانا يدعى كرافكور، فقال أراميس إنه لم يعد يقدر على التحامل وقد عزم على اللبث في القرية، فتركوه مع خادمه بازين وساروا حتى انتهوا إلى أميان عند منتصف الليل، فنزلوا في فندق هناك وطلبوا من صاحبه مكانا للمبيت فزعم أنه ليس عنده إلا غرفتان في آخر الفندق، فأبوا عليه ذلك وناموا في عرصة الفندق، وتركوا كريمود خادم أتوس يحرس الخيل. فلما كان الصباح قام الخادم إلى الخيل ليسرجها ونبه خادم الإسطبل ليساعده في العمل، فقام إليه وضربه بعصا فشق رأسه، وسمع أتوس ودارتانيان صياحه فأقبلا عليه فوجداه مطروحا مشجوج الرأس، ثم نظرا إلى الخيل فإذا بأحدها قد جرحه البيطار في عملية جراحية دعي لها لحصان آخر فظنه ذلك الحصان، فذهب بلانشت خادم دارتانيان يسأل عن حصان يشتريه بدل الحصان الذي جرح، ودخل أتوس ليدفع لصاحب الفندق أجرة المبيت فأعطاه دينارا، فأخذه وأرقصه على ظفره، ثم تعلق بأتوس وقال: لقد وجب عليك الحد لأنك مزيف للعملة، ثم صاح بالشرطة فدخل أربعة منهم وقبضوا عليه وهو يحاول الخلاص ويصيح بدارتانيان أن اركب وخادمك الحصانين الباقيين وأسرعا ما أمكن، ثم أطلق أتوس رصاصتين ونظر بلانشت وقال لسيده: أرى رجلين يسقطان. فقال: بارك الله في أتوس فسيتبعنا عن قريب، فهيا بنا على عجل. وسارا ينهبان الطريق سحابة يومهما حتى صارا على مقربة من كاله، فوقف حصان دارتانيان وجعل الدم يسيل من منخريه وعينيه، وعجز حصان بلانشت عن المسير لشدة التعب، فتركاهما وسارا ماشيين. وفيما هما يسيران أشار بلانشت لدارتانيان إلى رجل من النبلاء يمشي أمامهما ووراءه خادمه، فتبعاه حتى بلغ شاطئ البحر وأقبل على ملاح قد نشر شراع فلكه، فطلب منه أن يأخذه إلى إنكلترا فأجابه أن قد ورد إليهم أمر من الكردينال أن لا يقبلوا أحدا إلا بإذن منه، فقال: إن الإذن معي، فأين أجد والي المدينة؟ قال: هو في بيته في ظاهر البلد. وأشار له بيده إلى المكان، فعاد الرجل قاصدا بيت الحاكم وتبعه دارتانيان وقد سمع ما دار بينه وبين الملاح حتى دخل في غابة في الطريق، فداناه دارتانيان وقال: أرى أنك مستعجل. قال: لا عجلة إن شاء الله. قال: إن لم تكن عجلا فأنا ملتمس منك أمرا لأني مستعجل. قال: وما ذاك؟ قال: أن تدعني أتقدمك في السفر. قال: ذلك لا يكون أبدا، فقد قطعت مسافة طويلة في وقت قصير لأصل إلى لندرة غدا عند الظهر. قال: وأنا قطعت مسافة أطول في وقت أقصر لأصل إلى لندرة قبل الظهر. قال: لا تؤخرني بالله، فإن بعثتي من الملك. قال: وأنا بعثتي من نفسي. قال: والآن فماذا تريد؟ قال: أن تعطيني الإذن الذي تحمله. قال: أظنك تطلب البراز، فانزل، فقال دارتانيان لخادمه: أنت للخادم وأنا للمولى، ثم سل سيفه وتكافحا، فرمى بلانشت خصمه وبرك على صدره، وصاح بدارتانيان: قد فرغت من خصمي فأنجز أمر خصمك. فهجم دارتانيان على خصمه فضربه بسيفه فرماه إلى الأرض جريحا، ثم دنا منه ليأخذ الورقة من جيبه فضربه الجريح بالسيف فأصابه كتفه وجرحه جرحا خفيفا. فأعاد دارتانيان عليه حتى غاب عن رشده ، وأخذ الورقة منه وإذا بها باسم الكونت دي ويرد.
ثم عمد إلى الخادم فسد فمه بمنديل وربطه إلى جذع شجرة بإسعاف خادمه بلانشت، فقال له خادمه: أرى أنك جريح يا مولاي. قال: لا بأس، فالجرح خفيف لا خوف منه، فعلينا بالأهم، ثم سارا حتى بلغا منزل الوالي، فاستأذن عليه دارتانيان منتحلا اسم الكونت دي ويرد، فأذن له ودخل، فقال له الوالي: أمعك أمر من الكردينال؟ قال: نعم، وهو هذا. فأخذ الوالي وتصفحه ثم قال: يظهر لي أنه شديد الوصاة بك. قال: نعم، فأنا من أتباعه الأمناء. قال: أرى أن الكردينال يريد أن يمنع رجلا من الذهاب إلى لندرة حتى أصدر أمره هذا. قال: نعم، يريد أن يمنع فتى من النبلاء يدعى دارتانيان، وقد خرج من باريز بأصحاب له ثلاثة قاصدا لندرة. قال: هل تعرفه؟ قال: نعم. قال: فصف لي هيئته. فأخذ دارتانيان يصف له صفات الكونت دي ويرد حتى أتمها، ثم قال: إن معه خادما. ثم وصف له خادمه، فقال الوالي: سنرى في شأننا معه إذا انتهى إلينا، وأنا ألتمس منك إذا عدت إلى الكردينال أن تشهد بي خيرا لديه. قال: نعم. فوقع الوالي على الإذن وودعه دارتانيان وخرج مسرعا بخادمه حتى بلغ المينا، فنزل في فلك سار به إلى إنكلترا، وكان جرحه خفيفا جدا فضمده ونام، فلما أصبح إذا هو على شاطئ إنكلترا، فنزل إلى البر وسار إلى لندرة، وجعل يسأل عن اللورد دوق دي بيكنهام فأرشد إلى قصره، فسأل عنه فقال له خادمه - ويدعى باتريك - إنه ذهب مع الملك إلى الصيد في مكان لا يبعد كثيرا عن لندرة. قال: فهيا بنا إليه، وقل له إن رجلا يريد أن يراه في الحال. قال: وكيف يعرفك؟ قال: تقول له هو الرجل الذي كاد يبارزك قبالة اللوفر في باريز، وتلك علامة لا تخفى عليه. فسار الخادم مسرعا ودارتانيان معه حتى بلغا مكان الصيد، وتخلف دارتانيان وسار الخادم إلى اللورد فوصف له الفتى فعرفه، وثنى عنان فرسه وأقبل يخب حتى وصل إلى دارتانيان فعرفه، وترجل عن فرسه وقال: عسى الملكة في خير؟ قال: نعم، ولكن أظن أنها في خطر، فخذ هذه الرسالة تعلم. فأخذ اللورد الرسالة فإذا بها مثقوبة، فسأله عن الثقب فحكى له قصة اللورد دي وير وكيف أنه ضربه بالسيف فأصاب كتفه وثقب الرسالة، ففضها اللورد وقرأها والعرق يسيل من جبينه، ثم التفت إلى خادمه وقال له: اذهب إلى الملك وقل له إن أمرا خطيرا يمنعني عن إتمام الصيد، ثم وخز جواده وسار ودارتانيان إلى لندرة.
الفصل الثامن عشر
الكونتس دي ونتر
ودخل اللورد بيكنهام إلى لندرة يشق جماهير الناس بجواده لا يلوي على أحد حتى انتهى إلى قصره، فترجل ودخل في القصر وتبعه دارتانيان في عدة غرف حتى بلغ حجرته، فدهش دارتانيان من حسن فرشها وجودة إتقانها، فأخذه بيكنهام إلى باب صغير في جدارها ففتحه بمفتاح من الذهب معلق بسلسلة ذهبية في عنقه، وقال له: ادخل وانظر وعساك تخبر من أحب بما ترى. فدخل دارتانيان معه فرأى غرفة يغشى الذهب جدرانها ويكسو أرضها الدمقس الفاخر وفي صدرها شبيه الهيكل قائمة عليه صورة حنة دوتريش ملكة فرنسا تحيطه الشموع والمصابيح والزهور، والصورة في غاية الإتقان حتى دهش دارتانيان لها وكاد يحسبها شخص الملكة، وعلى الهيكل العلبة التي فيها العقد. فأخذها اللورد وأخرج منها العقد وجعل يقبل فصوصه واحدا بعد واحد وهو يقول: لله در أيوب حيث قال: الرب أعطى والرب أخذ. إلا أنه لم يأت على آخرها حتى أجفل وصفق صفقة الأواه، فقال له دارتانيان: ما بالك يا مولاي؟ قال: إن العقد ناقص منه فصان، فلا يوجد إلا عشرة، وما أظن ذلك إلا إحدى حظيات الكردينال، فانظر إلى السلك فإني أراه مقطوعا بمقص. قال: ألا تعرف السارق يا مولاي؟ قال: نعم عرفته، فما هو إلا الكونتس دي ونتر، فإنها دنت مني في رقص أقامه الملك ثم لم أرها بعد ذلك ولم أفطن للعقد لو لم أنظره الآن، وهي لا شك رسول الكردينال، ولكن متى تكون ليلة الرقص في باريز؟ قال : يوم الاثنين القادم، أي بعد خمسة أيام. قال: تكفي، ثم دعا بخادمه فقال له: علي بصائغي وكاتم سري في الحال. فخرج الغلام ولم يغب حتى دخل كاتم السر فوجد بيكنهام جالسا يكتب، فقال له اللورد: تأخذ هذه الورقة إلى وزير المملكة ويجري بموجبها في الحال. فأخذ الرجل الورقة ونظر فيها وقال: إذا سألني الوزير عن أسباب ذلك وهو من خوارق العادة، فبم أجيبه؟ قال: قل له هكذا أريد. قال: قد يمكن أن يبلغ الأمر للملك يا مولاي ولا بد من أن يعرف سبب منع الفلك عن السفر من إنكلترا. قال: إذن فقل له إني عزمت على إشهار الحرب على فرنسا وإن ذلك أول علاماتها. فسلم الرجل وخرج. فالتفت اللورد إلى دارتانيان وقال: قد خلا لنا الجو، فلا يصل الفصان المسروقان إلا بعد وصولك إذا لم يكن سارقهما قد ذهب بهما. قال: وكيف ذلك؟ قال: قد أمرت بمنع كل فلك عن المسير إلى فرنسا. فانذهل دارتانيان من ذلك وأخذ يعجب كيف أن رجلا يثير الحرب في سبيل غرامه، فقال له اللورد: لا تعجب، فما لي آمر إلا حنة دوتريش، فإني صائر إلى طاعتها ومجتهد في رضاها ولو نقمت علي ملوك الأرض وقبائلها، فقد قالت لي أن لا أرسل مددا إلى البروتستان في روشل فعدت عن قولي وأطعتها وعدلت عن إرسال المدد ... وما أتم كلامه حتى دخل الصائغ، فأخذه اللورد إلى غرفته وأراه الفصوص وقال له: كم يسوى الفص من مثل هذه؟ قال: ألفا وخمسمائة دينار. قال: وكم تستغرق في عمل اثنين منها؟ قال: ثمانية أيام. قال: أعطيك على كل فص ثلاثة ألف دينار بشرط أن تأتيني بهما بعد غد. قال: سأجهد نفسي في ذلك. قال: أحسنت، ولكن ألا تعلم أنك لا تخرج من هنا حتى تتم العمل وأنا أحضر لك كل ما يلزمك من أدوات وصناع. فرضي الرجل وأحضر ما احتاج إليه وأقام في غرفة في القصر يشتغل في العقد، والتفت اللورد إلى دارتانيان وقال: لقد أصبحت إنكلترا الآن لي ولك ، فاطلب ما تشاء. قال: أريد مكانا أنام فيه، فإني تعب من السفر، فأخذه اللورد إلى غرفة بجانب غرفته فنام.
ولم يمض على أمر بيكنهام ساعة حتى أقفلت المواني ومنعت السفن من الذهاب إلى فرنسا، وشاع في المدينة قرب نشوب الحرب بين الدولتين. وفي اليوم الثاني دعا اللورد بدارتانيان وقال له: قد انتهى العقد بحيث لا يميز جديده من قديمه، فاشهد لي عند الملكة بأني لم أدع شيئا تصل إليه قدرة الإنسان ولم آته في سبيل خدمتها، ولكن لا تأخذ العلبة فإنها أثر منها، ثم ألا أهبك شيئا؟ قال: إني لم أصنع ما يوجب الهبة، وليس عملي هذا إلا خدمة للملكة ولحبيبة لي أحبها وأظنك تعرفها، وهي التي كانت معك يوم قابلتك أول مرة. قال: عافاك الله، والآن تذهب بهذه الورقة إلى المينا وتسأل عن سفينة لي فيه، فتعطيها لربانها فيأخذك إلا ميناء لا يأوي إليه إلا الصيادون ويدعى سان فري، فتنزل فيها وتذهب إلى رجل هناك فتقول له: «فور وارد»، فيعطيك حصانا مسرجا فتركبه وتسير مسرعا حتى تصل إلى رجل آخر في يده لجام جواد آخر، فتنزل عن جوادك وتركبه وهلم جرا إلى الأربعة، حتى تصل إلى باريز في قليل من الزمن، وهي أفراس من جياد الخيل تأخذها أنت وأصحابك الثلاثة، وأنا أستودعك الله، فاذهب والله يكلأك ويرعاك. فودعه دارتانيان وسار على ما رسم له حتى انتهى إلى باريز ودخل إلى منزل دي تريفيل عند الساعة التاسعة من النهار، فقابله بالترحاب وهنأه بالسلامة وقال له: إن فرقتك الحراس في اللوفر، فاذهب إليهم. فذهب.
الفصل التاسع عشر
Page inconnue