والحق أن الصيت كالنهر الذي يحمل ما خف وانتفخ، ويغرق ما صلب ورجح وزنه، ولكنه إذا اتفق عليه أولو الرأي والجدارة كان كما جاء في التنزيل: «خيرا من الدهن الطيب.» يملأ جميع ما حوله ولا يزول سريعا؛ لأن نفحة الطيب أبقى من عبير الأزهار.
وثمة ضروب شتى من الحمد والثناء حتى ليحق للإنسان أن يتلقاها بالحذر والريبة، فمنها ما يأتي من الملق وهو مختلف على حسب أصحابه، فإن جاء من بعض العامة فهو لا يعدو إسناد الفضائل الشائعة، التي تصلح لكل ممدوح، وإن جاء من ذي حيلة وفطنة، فهو يحذو فيه حذو المتملق الأعظم وهو الممدوح نفسه.
فحيث يتعاظم رأي الممدوح في نفسه وظنه في مزاياه، فمن ثم يأخذه المتملق وتشتد قبضته عليه، إلا أن يكون متملقا وقاحا فيعمد إلى مواطن الضعف التي يحسها الممدوح من نفسه، فيغلو في الثناء عليها فيبدو له كأنه يسخر منه، وينبه إلى نقائصه وعيوبه.
ويصدر بعض الثناء من نية حسنة ومقصد شريف، كالثناء على الملوك والعظماء، وربما كان القصد به التعليم والإرشاد من طريق الإطراء والمديح.
ويصدر بعض الثناء للإيذاء والمضرة من طريق إثارة الحسد والضغينة، وفي هذا يصدق تاسيتس، حيث يقول: إن أخس الأعداء هو العدو الذي يثني ويمدح.
وقد كان من أمثال اليونان أن الرجل الذي يمدحه المادحون لضرره خليق أن ينبت له بثرة على أنفه، وهو شبيه بما نقوله نحن عن الكاذب الذي تنبت له بثرة على لسانه!
بيد أن المدح المعتدل في مناسباته ومعارضه يفيد وينفع، وسليمان الحكيم يقول: إن من يرفع عقيرته بالثناء على قريبه في بكرة الصباح «يحسب له لعنا»؛ لأن الإغراق في التعظيم يغري بالمناقضة ويثير الحسد والسخرية، وثناء المرء على نفسه غير لائق به إلا في أندر أحواله، ولكنه يستطيع أن يثني على وظيفته أو على صناعته بشيء من اللياقة وحسن النية.
وقد تعود كرادلة روما، وهم الفقهاء والعلماء، أن يطلقوا كلمة «المستخدم» على جميع العاملين في الوظائف المدنية من رجال الحرب والسفارات والشرائع على سبيل الزراية والاستخفاف، ولكن هؤلاء «المستخدمين» كثيرا ما يعملون في نطاق وظائفهم ما هو أجل وأنفع من تلك السبحات العالية!
وكان القديس بولس يقول حينما افتخر بنفسه: «إنني أتكلم كالحمقى.» ولكنه كان إذا أشار إلى رسالته قال: «بما أني رسول للأمم أمجد خدمتي.»
الشباب والشيخوخة
Page inconnue