وأصل كلمة الحسد في اللغة اللاتينية مشتق من النظر أو الإصابة بالعين، وهو في معنى الحسد العام يقابل عندنا معنى التذمر والسخط، وانقلاب الرأي العام الذي سنتناوله بالبحث عند الكلام في الفتنة والهياج.
وإنه لكالمرض المعدي حين يظهر في الأمة؛ لأن العدوى هي إصابة السليم من السقيم، وهكذا الحسد العام أو التذمر حين يصيب جمهرة الأمة من شأنه أن يسري إلى أحسن الأعمال، فيلوثها بسوء القالة، وقلما يجدي هنالك أن تمتزج الأعمال الذميمة بالأعمال الحميدة؛ لأنها تلوح للناس كأنها محاولة للوقاية والنجاة، وكثيرا ما يكون الجهد في اتقاء العدوى من أسباب الإصابة.
ويبدو أن الحسد العام موكل بكبار الرؤساء وأصحاب المناصب دون الملوك والدول أنفسها، ولكنها قاعدة لا ريب فيها أنه حين يشتد الحنق على وزير من الوزراء وهو قليل التبعة فيه، أو حين يعم الحنق جميع الوزراء ولا يخص أحدا منهم فهو في الواقع موجه إلى الدولة في صميمها، وإن لم تصرح به الظواهر لأول وهلة.
وحسبنا هذا في موضوع الحسد العام والفرق بينه وبين الحسد الخاص، وإنما نضيف إلى ما تقدم كله أن الإحساس بالحسد هو أشد الأحاسيس إلحاحا وأقواها على المثابرة؛ لأن الأحاسيس الأخرى تعتري صاحبها نوبة بعد نوبة. أما الحسد فهو كما قيل في المثل: «يعمل بغير إجازة أو بغير عطلة.»
ومن ثم يذبل الحاسد والعاشق، ويلح عليهما الضنى والهزال، على خلاف المعهود في غيرهما من الأحاسيس؛ لأنها لا تدوم هذا الدوام ولا تلح هذا الإلحاح.
وإن الحسد فوق هذا لمن أخس الأحاسيس وأرذلها، فلا جرم يعزى إلى الشيطان الذي يدعى بالرجل الشرير «يدس الزوان بين القمح في جنح الظلام»، وهكذا كان الحاسد أبدا من العاملين في الخفاء لإفساد الطيبات، والقمح مثل لهذه الطيبات.
الحمد والثناء
الحمد هو ظل الفضيلة أو انعكاس شعاعها، ولكنه يشبه الزجاجة أو الجسم الذي يعكس الشعاع.
فإن كان من سواد العامة فهو في الأغلب الأعم كاذب فارغ، وأكثر ما يكون من قسمة أصحاب الغرور دون أصحاب الفضيلة.
لأن الذي يستجلب الحمد منهم إنما هو أحط أنواع المزايا، فأما المزايا الوسطى فهي تدهشهم، وتثير عجبهم أو إعجابهم، وأما ما فوق ذلك من المزايا فلا قدرة لهم على إدراكها بتة، ولا يعرفون منها إلا صورتها ومرآها، ويصدق عليهم هنا قول القائل: إنهم يؤخذون بما يلوح لهم أنه فضيلة لا بما هو فضيلة في الجوهر.
Page inconnue