ظاهرًا وباطنًا لم ينتفع بما بدا له من خطِّه ونقشه (المثال) كما لو أن رجلًا قدم له جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره.
(المثال الثاني) وكان أيضًا كالرجل الذي طلب علم الفصيح من كلام الناس فأتى صديقًا له من العلماء، له علم بالفصاحة فأعلمه حاجته إلى علم الفصيح؛ فرسم له صديقه في صحيفة صفراء فصيح الكلام وتصاريفه ووجوهه، فانصرف إلى منزله فجعل يكثر قراءتها ولا يقف على معانيها، ثم إنه جلس ذات يوم في محفل من أهل العلم والأدب فأخذ في محاورتهم فجرت له كلمة أخطأ فيها فقال له بعض الجماعة إنك قد أخطأت والوجه غير ما تكلمت به، فقال كيف أخطئ وقد قرأت الصحيفة الصفراء وهي في منزلي!
(النتيجة) فكانت مقالته لهم أوجب للحجَّة عليه. وزاده ذلك قربًا من الجهل وبعدًا من الأدب.
ثم المقارنة بين هذه الطريقة التي يسير عليها الأديب في تفكيره، واللون الذي يصبغ به أدبه، وبين طريقة غيره من الأدباء.
...
كل هذا من ناحية المعنى، ومن جهة طريقة التفكير، وهناك ناحية أخرى هي ناحية الألفاظ؛ وبالألفاظ وحسنها تتفاوت أقدار الأدباء، لأن المعاني ملقاة على الطريق يستطيع كل إنسان أن يلتقط منها!
هذا ما يقوله نقَّاد العرب، وهذا ما يختلف فيه النقَّاد المعاصرون، على أننا إذا بذَّلنا كلمة الألفاظ بكلمة التعبير، أي إذا قلنا: الأفكار والمعاني ملقاة على الطريق وإنما تتفاوت أقدار الأدباء بتفاوت قدرتهم على التعبير عنها - لما بقي في الأمر خلاف.
وذلك أن كل إنسان يحسُّ بالألم في موقف الوداع، ويحزُّ هذا الألم في نفسه، ويدع الدنيا مظلمة في عينيه، وليس في هذا الحسِّ شيء من النبوغ، ولكن النبوغ والتفوُّق في القدرة على التعبير عن هذا الألم، والقدرة على وصفه!
1 / 55