فكر ومباحث
تأليف
علي الطنطاوي
نشر وتوزيع
مكتبة المنارة
مكة المكرمة -العزيزية- مدخل جامعة أم القرى
هاتف ٥٥٦٦٣٧٥ ص ب ٢٦٥٣
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين* إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين .. آمين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد * كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم * وبارك على محمد وعلى آل محمد * كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين * إنك حميد مجيد.
اللهم علمنا ما ينفعنا * وانفعنا بما علمتنا * وزدنا علمًا.
1 / 2
جميع الحقوق محفوظة
يمنع النقل والترجمة والاقتباس للإذاعة والمسرح
إلَّا بإذن خطي من المؤلف
الطبعة الثانية
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨م
1 / 4
لغتكم يا أيها العرب
أذيعت سنة ١٩٥٧
كنت أقلب أمس أوراقًا لي قديمة وأنا قاعد أفكر في موضوع أتحدث فيه اليوم إليكم فوجدت عددًا قديمًا مصفرًا من جريدة (فتى العرب) من يوم كنت أعمل فيها مع الأستاذ معروف، ﵀، من قبل سبع وعشرين سنة، فيه مقالة لي من سلسلة (أحاديث ومشاهدات) التي كنت أنشرها في تلك الأيام، ففرحت به وعدت إليه أقرؤه، لأني فقدت مع الأسف أكثر ما كتبته وضاع مني، وكانت المقالة موجهة إلى مجلس المعارف الكبير وقد استهلت بخلاصة قصة (الدرس الأخير) لـ (الفونس دوده). يقص فيها على لسان صبي من الألزاس، كيف هرب من المدرسة، وأخذ طريق الحقول، ليقطع النهار في اللهو واللعب، ثم بدا له، فعدل عن هذا وذهب إلى المدرسة، فإذا هو يرى الناس يسرعون السير في الشوارع، مصفرة ألوانهم، تبدو عليهم أمارات الذعر والألم، وإذا هو يرى الأستاذ يذهب ويجيء في باحة المدرسة، قلقًا مضطربًا، وقد قعد بعض أهل القرية على مقاعد الصغار، واجمين شاخصين، فانسل إلى مكانه متحيرًا لا يدري ما الخبر، وإذا بالأستاذ يعلو المنبر ويقول بصوت مرتجف ورنة حزينة كأنها رنة بكاء مكتوم:
أولادي. هذه آخر ساعة أراكم فيها، ثم نفترق إلى غير تلاق، لأن بلادكم قد احتلها الألمان (وكان ذلك في حرب السبعين) وصارت دروسكم باللغة الألمانية فلا فَرَنسية بعد اليوم.
وخنقته العبرات فما استطاع أن يتم كلامه، فعاد يقول:
والآن: أصغوا لي لألقي عليكم (الدرس الأخير) باللغة الفرنسية وقم أنت يا فلان.
1 / 7
قال الصبي: فما سمعت اسمي حتى ارتجفت ووقفت ساكتًا، ولم أكن قد حفظت درسي، فقال لي الأستاذ:
اقعد، أنا لا أعنفك ولا أعاقبك، ولكن اعلموا، اعلموا يا أولادي أنكم أضعتم بلادكم وسلمتموها إلى عدوكم بإهمالكم لغتكم (١).
...
وتركت الجريدة القديمة، ووقفت عند هذه الجملة، وقفت لأذكر ما تبذل أمم الأرض في العناية بلغاتها وما نصنع نحن العرب بلغتنا، وقفت لأذكُرَ كَمْ أسمع كل يوم من العبث باللغة والنحو والصرف، ورفع المنصوب، ونصب المرفوع، لا من التلاميذ الصغار وحدهم، ولا من الناشئة التي قد تعذر إن لحنت على لحنها. بل من السياسيين والمحامين والمدرسين، في البرلمان وفي المحكمة وفي المدرسة، بل إني لأسمع اللحن من أفواه الأدباء وأقرؤه في كتبهم، المجلات مملوءة باللحن، والقصص المطبوعة مملوءة باللحن، والكتب الجديدة مملوءة باللحن، وفي كل مكان لحن ظاهر، يتأدب به الصغير، وينشأ عليه الناشئ. وممن سمَّاهم الناس أدباء وشعراء من لا ستطيع أن يكتب صفحة واحدة صحيحة، ولا يقدر أن يقيم لسانه في صفحة واحدة. لقد فشا اللحن، وانتشر الجهل، وعم الضعف، وفقدت العربية المدافع والمحامي.
ولقد قلت لكم إن اللغة الإنكليزية (مثلًا) فيها حروف تكتب ولا تقرأ، وحروف تقرأ وهي غير مكتوبة، وحروف تقرأ مرة شيئًا، ومرة شيئًا آخر، ولا بد لكل طالب لهذه اللغة من أن يتعلم كيف يكتب كل كلمة فيها ثم يتعلم كيف تلفظ، وهي بعدُ لغةٌ سماعية، لايطَّرد فيها قياس، ولا تعرف لها قاعدة، ومخارج حروفها عجيبة، وألسنة أهلها ملتوية، ثم إنها لغة ليس لها نسب ثابت، ولا أصل معروف، ولا يفهم إنكليزي اليوم كلام الإنكليز في عصر المعري والشريف الرضي، فضلًا عن عصر امراء القيس وزهير. وألفاظها لُمامَة من الطرق، من كل لغة كلمة، ففيها كلمات ألمانية وكلمات فَرنسية وكلمات من العربية.
_________
(١) من مقالتي في فتى العرب سنة ١٩٣٠.
1 / 8
وهي على هذا الضعف، وعلى هذا العجز، وهذه المعايب كلها، قد سمت بها هِمَم أهلها، حتى فرضوها على ربع أهل الأرض، وأنطقوهم بها. ولغتنا العربية، وهي أكمل لغات البشر، وأجودها مخارج، وأضبطها قواعد، ذات القياس المطرد، والأوزان المعروفة، قد أضاعها أهلوها وأهملوها، لم يكفهم أن قعدوا عن نشرها وتعليمها الناس كما فعل أجدادهم من قبل، بل هم قد تنكروا لها، وأعرضوا عنها، وجهلها حتى كثير ممن يدرسها، وجهلها حتى كثير ممن يدعون الأدب فيها، وأين اليوم من أدباء العربية كلهم من يروي من الشعر مثل رواية الشنقيطي؟ أو يعرف من علوم العربية مثل معرفة حمزة فتح الله؟ أو يتذوقها ويكتب فيها مثل كتابة الرافعي؟ أويحفظ من نوادر نصوصها مثل حفظ النشاشيبي؟ وإذا ولَّى غدًا (بعد عمر طويل) هؤلاء النفر من أدباء مصر وكتابها، فمن يبقى المرجع في اللغة وعلومها؟.
العربية في خطر يا أيها العرب، العربية في خطر يا من يعتز بالقومية، إن اللغة هي ركن القومية الركين ولقد عملت في بناء حضارتنا عوامل مختلفات منذ عهد العباسيين، ودخلت فيها (في الفكر وفي العادات)، عناصر أجنبية يونانية وفارسية وهندية، ولكن بقي الدين إسلاميًا خالصًا، وبقيت اللغة عربية خالصة، فملكنا نحن هذا كلَّه ولم يملكنا وكان من أبناء هذه الشعوب غير العربية، علماء في ديننا، وأئمة في لغتنا وأدباء: شعراء وكتاب، في لساننا، ولم يخل عصر من العصور، من أئمة في اللغة وحفظة لها من عصور الانحطاط، التي توالت علينا منذ القرن الثامن الهجري إلى أن أشرق فجر النهضة الجديدة. وفي هذه العصور ألفت أكبر المعاجم اللغوية، (لسان العرب) و(شرح القاموس) وهذه أول مرة تتعرض فيها العربية إلى هذا الخطر، وهو أن تفقد الإمام اللغوي. ومن ظن أني أتشاءم أو أبالغ، فإني أعود فأساله أن يدلني على إمام في العربية ضليع فيها، يخلف هؤلاء النفر الباقين من شيوخ الأدب في مصر؟
لقد كدنا نجهل لغتنا ومن شك فليمتحن نفسه، فليفتح لسان العرب وليقرأ فيه عشرة أبيات متتابعة من شواهده، من أي صفحة شاء، فإن فهمها
1 / 9
كلها، واستطاع أن يشرحها، أو فهم نصفها أو ربعها واستطاع أن يشرحه، فأنا المخطئ ومن يرد علي هو المصيب.
أنا لا أطلب أن يكون فينا من يؤلف مثل الكامل وأدب الكاتب والأمالي، بل أطلب أن يكون فينا من يقرؤها بلا لحن، ويفهم ما فيها بلا شرح.
إن اللغة العربية معجزة الذهن البشري، وأعجوبة التاريخ في عصوره كلها، وإذا كان التاريخ يذكر ولادة كل لغة، ويعرف مراحل نموها، ومدارج اكتمالها، فإن العربية أقدم قدمًا من التاريخ نفسه فلا يعرفها إلا كاملة النمو، بالغة النضج. فمتى ولدت؟ ومتى كانت طفولتها؟ ومتى تدرجت في طريق الكمال حتى وصلت إلينا كاملة مكملة لم تحتج إلى تبديل أو تعديل؟ بل لقد أمدت بما زاد عنها من ألفاظها أكثر لغات الأرض. ففي كل لغة منها أثر.
هل في الدنيا لغة يستطيع أهلها اليوم أن يقرؤوا شعرها الذي قيل من أربعة عشر قرنًا فيفهموه ويلذّوه كأنه قيل اليوم؟ هل في الدنيا لغة يستطيع أستاذ الطب في الجامعة وأستاذ الطبيعة، وأستاذ الفلسفة، أن يجد في ألفاظها التي كانت مستعملة قبل أربعة عشر قرنًا ما يفي بحاجته اليوم، في قرن العشرين؟ أفليس حرامًا أن نضيع هذه اللغة الأصيلة العظيمة، ويفرض الإنكليز لغتهم التي لا أصل لها على ربع العالم؟ أليس حرامًا أن نهملها حتى يجهلها منا المتعلمون وأهل اللَّسَن والبيان ويلحنوا فيها؟ أليس حرامًا أن يكون فينا من الخوارج على لغتنا من ينصر العامية المسيخة أو يكتب بها؟ أليس حراما أن تسير على ألسنتنا مئات الألفاظ الأعجمية الفرنسية والإنكليزية ننطق بها تظرفًا أو تحذلقًا وعندنا عشرات الألفاظ التي ترادفها وتقوم مقامها؟
فيا أيها العرب لغتَكم. لغتَكم يا أيها العرب، تعلموها وحافظوا عليها وانشروها.
إن أمامكم اليوم فرصة لنشر العربية إذا أضعتموها لم تلقوا مثلها خلال ألف سنة. فرصة تستطيعون أن تكسبوا بها ثمانين مليونًا آخر يتكلمون العربية ويتخذونها لسانهم.
1 / 10
تقولون: أين هذه الفرصة؟
في باكستان يا سادة، في باكستان والهند.
إن نصف الباكستانيين في باكستان الغربية، ونصفهم في باكستان الشرقية، واللغة هنا الأوردية، وهناك البنغالية. والأوردية أكثر ألفاظها عربية وفارسية وتكتب بالحروف العربية، والبنغالية أكثر ألفاظها هندية وتكتب بالحروف السنسكريتية، ولا يمكن اتخاذ واحدة منهما لغة رسمية. ولا بد من اتخاذ إحدى اللغتين لغة رسمية: العربية أو الإنكليزية.
ولقد كنت هناك عند وضع الدستور. وكنت أرى هذا الجدال على اختيار إحدى اللغتين وكنت أخشى أن تضيع الفرصة، ولقد كتبت إلى الحكومات العربية وإلى الهيئات العربية، وأخجل أن أقول إني لم أجد مجيبًا.
وقد أجلت المسألة ولم تضع الفرصة. فهل نعود فنستفيد منها؟.
إن إقبال الباكستانيين على العربية لا يمكن أن يصوره لساني، لأنهم يرون فيها لغة القرآن، ولأنهم يتعلمونها ديانة وتقربًا إلى الله. ولقد درت على المدارس التي افتتحتها المفوضية السورية في كراتشي فرأيت فيها العجب، عشرون مدرسة يا سادة، في كل واحدة نحو مئة طالب، منهم الصبي ابن العشر، والشيخ ابن السبعين، إي والله وهم يتعلمون العربية نطقًا وقراءة، العربية الفصحى، خلال شهور. خلال شهور معدودات وكل هذا يقوم به أربعة مدرسين أوفدتهم وزارة المعارف، وقد افتتح قبل سفري من كراتشي، معهد لتخريج معلمين ومعلمات للعربية وقد خطبت في حفلة افتتاحه أنا والصديق الجليل عبد الوهاب عزام سفير مصر ﵀ وقلت لهم: إننا نعلمكم العربية اليوم، ولكنا سنعود فنتعلمها منكم، كما تعلمناها قبل من الزمخشري ومن سيبويه ومن الصاغاني الهندي، ومن الزبيدي الهندي شارح القاموس.
أربعة مدرسين قاموا بهذا كله، فلو أن كل حكومة عربية أوفدت مئة مدرس، لكسبت العربية ثمانين مليونًا ناطقًا بها. وليس القوم هناك بالغرباء عن العربية، فهم يقرؤون القرآن، وثلث لغتهم كلمات عربية، وهم يقرؤون
1 / 11
الكتابة العربية، لأنهم يكتبون في باكستان الغربية بها، وفي الهند علماء في العربية أجلاء، في معهد ديوبند وفي لكنو، والعلماء المسلمون في كل مكان يعرفون العربية.
وهذا سر من أسرار القرآن.
فما لنا نضيع هذه الفرص كلها؟.
ما لنا نهمل لغتنا وهي أكمل اللغات وأشرفها، وهي أوسعها، وهي أبلغها.
فيا أيها العرب ..
عودوا إلى العربية فتعلموها وحافظوا عليها، وانشروها وأخلصوا لها، فإن من العار علينا أن تكون لنا هذه اللغة ونضيعها، من العار علينا أن يصل هذا الكنز إلى أيدينا وأن نفرط فيه.
يا أيها العرب لغتَكم، لغتَكم يا أيها العرب.
***
1 / 12
آفة اللغة هذا النحو
نشرت سنة ١٩٣٥
أَستاذن الأستاذ «الزيات» فأستعير منه هذا العنوان. فأكتب كلمة في هذا الموضوع الكبير، الذي نبه إليه الأستاذ بمقالته القيمة المنشورة في «الرسالة» الثالثة عشرة:
قال الأستاذ: «ليس من شكّ في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن نحن اليوم، وقبل اليوم، إنما نستعمل لغة واحدة، ونلهج في الفصيح لهجة واحدة، فلماذا لا نجرّد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة، وتقوّم تلك اللهجة، وندع ذلك الطمَّ والرمَّ لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة وطلاَّب القديم، على ألاّ يطبقوه على الحاضر، ولا يستعملوه في النقد، وإنما يلحقونه بتلك اللغات البائدة التي خلق لها، وتأثر بها، فيكون هو وهي في ذمَّة التاريخ، وفي خدمة التاريخ؟».
ولقد صدق الأستاذ وبرَّ، وأصبح النحو علمًا عقيمًا، يدرسه الرجل ويشتغل به سنين طويلة ثم لا يخرج منه إلى شيء من إقامة اللسان والفهم عن العرب. وإنني لأعرف جماعة من الشيوخ، قرؤوا النحو بضعة عشر عامًا، ووقفوا على مذاهبه وأقواله، وعرفوا غوامضه وخفاياه، وأوّلوا فيه وعللوا، وأثبتوا فيه ودللوا، وناقشوا فيه وجادلوا، وذهبوا في التأويل والتعليل كلّ مذهب، ثم لا يفهم أحدهم كلمة من كلام العرب، ولايقيم لسانه في صفحة يقرؤها، أو خطبة يلقيها، أو قصة يرويها. ولم يقتصر هذا العجز على طائفة من الشيوخ المعاصرين ومن قبلهم من العلماء المتأخرين، بل لقد وقع فيه جلة النحويين وأئمتهم منذ العهد الأول:
1 / 13
وقد روى السيوطي في) بغية الوعاة) أن الكسائي (١) قد مات وهو لا يعرف حد نعم وبئس، وأن المفتوحة، والحكاية! وأن الخليل (٢) لم يكن يحسن النداء. وأن سيبويه (٣) لم يكن يدري حد التعجب! وأن رجلًا قال لابن خالويه (٤): أريد أن تعلمني من النحو والعربية ما أقيم به لساني. فقال ابن خالويه: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو، ما تعلمت ما أقيم به لساني!
فأي فائدة من النحو، إذا كانت قراءته خمسين سنة لا تعلم صاحبها كيف يقيم لسانه؟ وما الذي يبقى للنحو إذا لم يؤد إلى هذه الغاية، وإذا أصبح أصعب فنون العربية وهو لم يوضع إلا لتسهيلها وتقريبها؟
ومن -ليت شعري- يسلك الجادة ليخلص من الوعر ويدنو من الغاية، إذا رأى من هو أقوى منه وأجلد قد سلكها فانتهت حياته ولم ينته منها، وأتته منيته وهو في بعضها يقلب حصباءها، وينبش تربها، وينظر في جوانبها؟
_________
(١) علي بن حمزة، إمام الكوفيين في النحو واللغة، وأحد القراء السبعة، استنفد علم معاذ الهراء، وقرأ على الخليل، وخرج إلى البادية، فأفرغ في الكتابة عن العرب حبر خمس عشرة قنينة، قال ابن الأعرابي: كان الكسائي أعلم الناس، ضابطًا عالمًا بالعربية، قارئًا صدوقًا، توفي سنة ١٨٢.
(٢) الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العربية والعروض، قال السيرافي: كان الغاية في استخراج مسائل النحو، وتصحيح القياس فيه، وهو أول من استخرج العروض، ورتب المعاجم، وهو أستاذ سيبويه. وعامة الحكاية في كتابه عنه، وهو على الجملة آية من آيات الله في الذكاء والفهم والعلم، على زهادة وشرف نفس، وانقطاع إلى الله، توفي سنة ١٧٥.
(٣) عمرو بن عثمان، إمام البصريين، أصله من أرض فارس ونشأ في البصرة، أخذ عن الخليل ويونس والأخفش وألف الكتاب في النحو، الذي يسمى شيخ الكتب، ارتحل إلى أرض فارس بعد مناظرته المشهورة مع الكسائي، ومات بها غمًا سنة ١٨٠ وعمره ٣٢ سنة.
(٤) هو الحسين بن أحمد بن خالويه النحوي الإمام، قرأ القرآن على ابن مجاهد والنحو والأدب على ابن دريد ونفطويه، وابن الأنباري. سكن حلب واختص بسيف الدولة، وهناك انتشر علمه وروايته، وله مع المتنبي مناظرات، كان أحد أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب وله تصانيف جليلة، توفي بحلب سنة ٣٧٠.
1 / 14
وإذا كان (ملك النحاة) (١) بعد أن أنفق عمره كله في تعلم النحو وتعليمه، يستشكل عشر مسائل، وتستعصي عليه فيسميها «المسائل العشر، المتعبات إلى يوم الحشر» (٢) ويأمر أن توضع معه في قبره، ليحلها فيه! فما بالك بأمثالنا من (السوقة)؟ وكيف نفهم هذا النحو وندركه إدراكًا بله الاستفادة منه؟ وأن نجتنب به الخطأ في النطق وفي الفهم؟
ومن يقبل على النحو، وهو يرى هذه الشروح وهذه الحواشي التي تحوي كل مختلف من القول، وكل بعيد من التعليل، وفيها كل تعقيد، حتى ما ينجو العالم من مشاكلها مهما درس وبحث ونقب، ولا يستقر في المسألة على قول حتى يبدو له غيره أو يجد ما يردُّه ويعارضه، كالقائم على ظهر الحوت، لا يميل إلى جانب إلاَّ ميل به إلى جانب، ولا يدري متى يغوص الحوت، فيدعه غريقًا في اليمِّ؟
وسبب هذا التعقيد -فيما أحسب- أن النحاة اتخذوا النحو وسيلة إلى الغنى، وطريقًا إلى المال، وابتغوه تجارة وعرضًا من أعراض الدنيا، فعقَّدوه هذا التعقيد وهوَّلوا أمره، حتى يعجز الناس عن فهمه إلَّا بهم، فيأتوهم، فيسألوهم، فيعطوهم، فيغتنوا.
روى الجاحظ في كتاب الحيوان، أنه قال للأخفش: ما لك تكتب الكتاب فتبدؤه عذبًا سائغًا، ثم تجعله صعبًا غامضًا ثم تعود به كما بدأت؟
قال: ذلك لأن الناس إذا فهموا الواضح فسرَّهم، أتوني ففسرت لهم الغامض فأخذت منهم!
وروى السيوطي: أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرة ابن خالويه ذات ليلة: هل تعرفون اسمًا ممدودًا وجمعه مقصور؟
_________
(١) هو الحسن بن صافي، كان أنحى أهل طبقته، وكان فهمًا ذكيًا فصيحًا إلا أنه كان عنده عجب بنفسه وتيه، لقب نفسه بملك النحاة، وكان يسخط على من يخاطبه بغير ذلك، استوطن دمشق آخر حياته ومات فيها سنة ٥٦٨، قال عنه ابن خلكان: كان مجموع فضائل.
(٢) بغية الدعاة.
1 / 15
فقالوا: لا. فقال لابن خالويه: ما تقول أنت؟
فقال: أنا أعرف اسمين. قال: ما هما؟
قال: لا أقول لك إلَّا بألف درهم!
وكان نفطويه (١) لا يُقرئ كتاب سيبويه إلَّا إذا أخذ الرسم، من أجل ذلك اتخذ النحاة هذا التعقيد سنة جروا عليها، وغاية تواطؤوا على بلوغها، لتتم الحاجة إليهم وتثبت لهم مكانتهم، وتستمر الرغبة فيهم، حتى إن أبا علي الفارسي (٢)، لما سأله عضد الدولة ابن بويه أن يصنف له كتابًا في النحو - وصنف الإيضاح، وأوضح فيه النحو وقربه حتى أتى عليه عضد الدولة في ليلة، واستقصره وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئًا، أحسَّ أبو علي بالخطأ، وشعر بأنه خرج على هذه الخطة التي اختطوها لأنفسهم: خطة التعقيد ... فعمد إلى تدارك الخطأ، فمضى فصنف التكملة وحملها إليه، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ فجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو (٣).
وزاد النحو تعقيدًا وإبهامًا وبعدًا عن الغاية التي وضع من أجلها، ما صنعه الرماني (٤) من مزج النحو بالمنطق وحشوه به، حتى ما يقدر من بعده على تجريده منه، وحتى قال أبو علي الفارسي وهو معاصر له:
_________
(١) هو إبراهيم بن محمد، ينتهي نسبه إلى المهلب بن أبي صفرة. لقب بنفطويه لشبهه بالنفط لدمامته وأدمته، وجعل على مثال سيبويه لانتسابه في النحو إليه وجريه على طريقته وتدريسه كتابه، جلس للإقراء أكثر من خمسين سنها، وكان عالمًا بالعربية واللغة والحديث، مات سنة ٣٢٣.
(٢) هو الحسن بن أحمد الإمام المشهور واحد زمانه في علم العربية، أستاذ ابن جني الإمام العلم البليغ، وله مصنفات كثيرة وجليلة، توفي ببغداد سنة ٣٧٧.
(٣) بغية الوعاة ووفيات الأعيان.
(٤) هو علي بن عيسى بن علي المعروف بالوراق، الأخشيدي النحوي المتكلم أحد المشاهير، جمع بين الكلام وعلم العربية، وله تفسير القرآن الكريم، قال أبو حيان: لم ير مثله قط علمًا بالنحو وغزارة بالكلام، واستخراجًا للعويص وإيضاحًا للمشكل، مع تأله وتنزه ودين وفصاحة وعفاف ونظافة، مات سنة ٣٨٤.
1 / 16
«إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن، فليس معه منه شيء ...».
فخرج النحو بذلك عن الجادَّة، ولم يعد واسطة لفهم كلام العرب واتباع سبيلهم في القول، بل غدا علمًا مستقلًا معقدًا مضطربًا لا تكاد تثبت فيه مسألة. ورضي النحاة عن هذا التعقيد ووجدوا فيه تجارة وكسبًا، حتى إن السيرافي (١) لما ألف كتابه الإقناع (الذي أتمه ولده يوسف) وعرض فيه النحو على أوضح شكل وأجمل ترتيب، فأصبح مفهومًا سهلًا، لا يحتاج إلى مفسر ولا يقصر عن إدراكه أحد، حتى قالوا فيه: وضع أبو سعيد النحو على المزابل بكتابه الإقناع. ولما ألَّفه قاومه النُحَاة، وما زالوا به حتى قضوا عليه، فلم يعرف له ذكر، ولم نعرف أنه بقي منه بقية!
وزاد النحو فسادًا على هذا الفساد هذا الخلاف بين المذهبين (أو الدرستين على التعبير الجديد) المذهب الكوفي، والمذهب البصري، وما جرَّه هذا الخلاف من الهجوم على الحق، والتدليل على الباطل، والبناء على الشاذ، قصد الغلبة وابتغاء الظفر، كما وقع في المناظرة المشهورة بين الكسائي وسيبويه، حين ورد هذا بغداد على يحيى البرمكي فجمع بينه وبين الكسائي للمناظرة، فقال له الكسائي:
- كيف تقول: قد كنت أظن أن الزنبور أشد لسعة من العقرب، فإذا هو هي، أو هو إياها.
- فقال سيبويه: فإذا هو هي، ولا يجوز النصب.
- فقال الكسائي: أخطأت، العرب ترفع ذلك وتنصبه، وجعل يورد عليه أمثلة، منها: خرجت فإذا زيد قائم أو قائمًا.
وسيبويه يمنع النصب.
_________
(١) الحسن بن عبد الله المرزباني، أبو سعيد السيرافي، كان أبوه مجوسيًا اسمه بهزاد فسماه أبو سعيد عبد الله. كان يدرس ببغداد علوم القرآن والنحو واللغة والفرائض، قال التوحيدي: وكان إمام الأئمة فيها جميعًا مع الصلاح والأمانة. قضى ببغداد ولم يأخذ على الحكم أجرًا. مات سنة ٣٦٨ وكان معاصرًا للرماني وأبي علي الفارسي.
1 / 17
فقال يحيى: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما، فمن يحكم بينكما؟
قال الكسائي: هذه العرب ببابك قد وفدوا عليك، وهم فصحاء الناس فاسألهم.
- فقال يحيى: أنصفت.
وأحضروا فسئلوا، فاتَّبعوا الكسائي فاستكان سيبويه وقال:
- أيها الوزير. سألتك إلا ما أمرتهم أن ينطقوا بذلك، فإن ألسنتهم لا تجري عليه، وكانوا إنما قالوا: الصواب ما قاله هذا الشيخ!
- فقال الكسائي ليحيى: أصلح الله الوزير، إنه قد وفد إليك من بلده مؤملًا، فإن رأيت ألَّا ترده خائبًا.
فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج إلى فارس فمات بها بعد قليل غمًا وأسى!
في حين أن الحق كان في الذي يقوله سيبويه، وأن الكسائي كان -كما يقول السيوطي- ممن أفسدوا النحو، لأنه كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا.
وزاد النحو فسادًا على هذا الفساد، ابتغاؤهم العفلَّة والسبب، لكل ما نطقت به العرب، وسعيهم لتعليل كل منصوب ومخفوض، وسلوكهم في ذلك أبعد السبل من الواقع، وأدناها إلى التنطع والوهم. من ذلك ما رواه ابن خلكان من أن أبا علي الفارسي كان يومًا في ميدان شيراز يساير عضد الدولة، فقال له:
- بم انتصب المستثنى في قولنا: قام القوم إلا زيدًا؟ قال الشيخ: بفعل مقدر. قال: كيف تقديره؟ قال: أستثني زيدًا. فقال له: هلَّا رفعته وقدرت الفعل امتنع زيد!
فانقطع الشيخ وقال:
1 / 18
- هذا جواب ميداني فإذا رجعت قلت الجواب الصحيح. ثم إنه لما رجع إلى منزله وضع في ذلك كلامًا حسنًا وحمله إليه فاستحسنه.
قال السيوطي، والذي اختاره أبو علي في الإيضاح أنه ينتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلا.
قال: والمسألة فيها سبعة أقوال ... حكيتها في كتابي جمع الجوامع من غير ترجيح، وأنا أميل إلى القول الذي ذكره أبو علي أولًا.
...
هذه بعض الأسباب التي جعلت النحو معقَّدًا هذا التعقيد، مضطربًا هذا الاضطراب، بعيدًا عن الغاية هذا البعد. «فلماذا لا نجرد من النحو القواعد الثابتة التي تحفظ هذه اللغة التي نستعملها، وتقوم تلك اللهجة -التي نلهجها- وندع ذلك الطمَّ والرمَّ لمؤرخي الأدب وفقهاء اللغة؟».
ولماذا لا يدلي علماء العربية وأدباؤهم برأيهم في سبيل الإصلاح، ولماذا لا ينشر شاعرنا الفحل الأستاذ المحقق محمد البزم، وهو أول رجل أعرفه انتبه إلى فساد هذا النحو، ولبث خمسة عشر عامًا يعالج أدواءه ويصف دواءه، ويقرأ من أجل ذلك كل ما في أيدي الناس من كتب النحو وأسفار العربية، لماذا لا ينشر ثمرة بحثه، وخلاصة دراسته في (الرسالة) مجلة الآداب الرفيعة والثقافة العالية، ليطَّلع عليها علماء العربية وأدباؤها، ويُبْدوا آراءهم فيها، فيكون من ذلك الخير للعربية إن شاء الله، ويكون الفضل للأستاذ الزيات على أن فتح هذا الباب، وللأستاذ البزم (١) على أن كان أول من ولجه؟
...
_________
(١) لم ينشر ﵀ شيئًا، ولم ينتدب أحد من تلاميذه لجمع أوراقه، ونشر آثاره، بل هو لم يجد (ولا أستاذ الجيل محمد كرد علي وجد) من يقيم له حفلة تأبين!
1 / 19
بين العلم والأدب
نشرت سنة ١٩٣٧
قرأت منذ أيام في صحيفة يومية، مقالة يسأل فيها كاتبها عن العلم والأدب والقول فيهما، والمفاضلة بينهما، فوجدته قد حمل الكلام على غير محمله، وساقه في غير مساقه، فأفتى وهو المستفتي، وحكم وهو المدَّعي، فلم يدع مذمَّة إلا ألحقها بالأدب، ولم يترك مزيَّة إلا نحلها العلم، وزعم بأن الأمر قد انتهى، والقضية قد فصلت، وحكم للعلم على الأدب ... فلم أدْرِ متى كانت هذه المنافرة، وأين كانت هذه المفاخرة، ومن هو الذي جلس في منصَّة القضاء، ومن الذي زعم أنه وكيل الأدب حتى أخزاه الله على يديه، وأذلَّه به؟ ...
ومتى كان بين العلم والأدب مقاربة، حتى تكون بينهما (مقارنة)، ومتى كان بينهما مناضلة، حتى تكون بينهما مفاضلة؟ وهل يفاضل بين الهواء الذي لا يحيا حيّ إلا به، وبين الذهب الذي هو متاع وزينة وحلية، ولو كان الذهب أغلى قيمة، وأعلى ثمنًا، وأندر وجودًا؟
إن الأدب ضروري للبشر ضرورة الهواء. ودليل ذلك أن البشرية قد عاشت قرونًا طويلة من غير علم، وما العلم إلا طفل ولد أمس ولا يزال يحبو حبوًا ... ولكن البشرية لم تعش ساعة واحدة من غير أدب، وأظن أن أول كلمة قالها الرجل الأول للمرأة الأولى، كلمة الحبّ، لمكان الغريزة من نفسه، ولأنها (أعني غريزة حفظ النوع) كانت أقوى فيه، والحاجة إليها أشد، وبقاء النوع معلَّق بها، فكانت كلمة الحب الأولى أول سطر في سفر الآداب، كتبت يوم لم يكن علم، ولا عرفت كلمة العلم ... ودرج البشر على ذلك فلم يستغن أحد عن الأدب، ولم يعش إلا به، ولكن أكثر البشر استغنوا عن العلم ولم يفكروا تفكيرًا علميًا، وهؤلاء الأكابر من العلماء كانوا يضطرون في ساعات من ليل
1 / 20
أو نهار، إلى مطالعة ديوان شعر، أو النظر في قصة أدبية، أو صورة فنية ليلبوا صوت العاطفة، ويستمعوا نداء الشعور، وأكثرهم قد أحب، وملأ نفسه الحب، فهل بلغ أحدًا أن أديبًا نظر في معادلة جبرية، أو قانون من قوانين الفيزياء أو أحسَّ الحاجة إلى النظر فيها؟ وهذا أكبر عالم في مختبره، يسمع نغمة موسيقية بارعة، أو يرى صورة رائعة، أو تدخل عليه فتاة جميلة عارية مغرية، فيترك عمله ويقبل على النغمة يسمعها، أو الصورة يمعن فيها، أو الفتاة يداعبها، فهل رأيت شاعرًا متأملًا يدع تأمله، أو مصورًا يترك لوحته ليستمع منك قوانين النواس ونظرية لا بلاس؟
هذه مسألة ظاهرة مشاهدة، وتعليلها بيِّنٌ واضح هو أن المثل العليا كلها تجمعها أقطاب ثلاثة: الخير والحقيقة والجمال. فالخير تصوره الأخلاق، والحقيقة يبحث عنها العلم، والجمال يظهره الأدب. فإذا رأيت الناس يميلون إلى الأدب أكثر من ميلهم إلى العلم فاعلم أن سبب ذلك كون الشعور بالجمال أظهر في إلانسان من تقدير الحقيقة ... وانظر إلى الألف من الناس كم منهم يهتم بالحقيقة ويبحث عنها؟ وكم يعنى بالجمال ويسعى للاستمتاع به؟ إن كل من يعنى بالجمال ويتذوقه بل إن كل من يذكر الماضي ويحلم بالمستقبل ويحسّ اللذة والألم واليأس والأمل يكون أديبًا، ويكون الأدب -بهذا المعنى- مرادفًا للإنسانية. فمن لم يكن أديبًا لم يكن إنسانًا.
ولْندع هذا التفريق الفلسفي ولْنفاضل بين العلم والأدب من الناحية النفسية (السيكولوجية) إننا نعلم أن العلم يبحث عن الحقيقة فهو يستند إلى العقل. أما الأدب فيتَّكِئُ على الخيال. فلْننظر إذن في العقل والخيال: أيهما أعمّ في البشر وأظهر؟ لا شك أنه الخيال .. فكثير من الناس تضعف فيهم المحاكمات العقلية، ولا يقدرون على استعمال العقل على وجهه. أو تكون عقولهم محدودة القوى، ولكن ليس في الناس من لا يقدر على استعمال الخيال، وليس فيهم من يعجز عن تصور حزن الأم التي يسمع حديث ثكلها، أو لا يتخيل حرارة النار، وامتداد ألسنة اللهب، عندما يسمع قصة الحريق، بل إن الخيال يمتد نفوذه وسلطانه إلى صميم الحياة العلمية فلا يخرج القانون العلمي
1 / 21
حتى يمر على المنطقة الخيالية (الأدبية) ولا تبنى القانون العلمي إلى على هذا الركن الأدبي. وبيان ذلك أن للقانون العلمي أربع مراحل: المشاهدة والفرضية والتجربة والقانون. فالعالم يشاهد حادثة طبيعية، فيتخيل القانون تخيُّلًا مبهمًا ويضع الفرضية ثم يجربها فإما أن تكذبها التجربة فيفتش عن غيرها، وإما أن تثبتها فتصير قانونًا، فالمرحلة التي بين المشاهدة والفرضية مرحلة أدبية لأنها خيالية. وقد شبَّه هنري بوانكاره الرياضي الفرنسية (أو غيره فلست أذكر) شبَّه عمل الذهن في هذه المرحلة بعمل الذي يبني جسرًا على نهر، فهو يقفز أولًا إلى الجهة المقابلة قفزة واحدة ثم يعود فيضع الأركان ويقيم الدعائم. وكذلك الفكر يقفز إلى القانون على جناح الخيال، ثم يعود فيبنيه على أركان التجربة. فالقانون العلمي نفسه مدين إذن للخيال أي للأدب.
ثم إن الخيال يخدم العلم من ناحية أخرى هي أن أكثر الكشوف العلمية والاختراعات قد وصل إليها الأدباء بخيالهم، ووصفوها في قصصهم قبل أن يخرجها العلماء. فبساط الريح هو الطيارة، والمرآة المسحورة هي التلفزيون، والحياة بعد قرن هي خيال وِلْز في روايته مستقبل العالم ...
أنا إلى هنا في القول بأن الحقيقة في صف العلم والجمال مع الأدب، ولكني أقول ذلك متابعة للناس، وسيرًا على المألوف، والواقع غير ذلك. ذلك أن العلم في تبدل مستمر، وتغير دائم. فما كان يُظن في وقت ما قانونًا علميًا ظهر في وقت آخر أنه نظرية مخطئة. والكتاب العلمي الذي ألِّف قبل خمسين سنة لم يعد الآن شيئًا ولا يقبله طالب ثانوي، في حين أن الأدب باق في منزلته، ثابت في مكانته، مهما اختلفت الأعمار، وتناءت الأمصار. فإلياذة هوميروس، أو روايات شكسبير، أو حكم المتنبي، كل ذلك يقرأ اليوم كما كان يقرأ في حينه ويُتلى في الشرق كما يتلى في الغرب، ولا يعتريه تبديل ولا تغيير.
فأين هي الحقيقة؟ وأي الشيئين هو الثابت؟ وأيهما المتحول؟
...
وعَدِّ عن هذا ... وخبِّرني يا سيدي الكاتب: ما هي فائدة هذا العلم الذي يطنطن به وتدافع عنه؟ وماذا نفع البشرية؟
1 / 22
تقول: إنه خدم الحضارة بهذه الاختراعات وهذه الآلات، إن ذلك احتجاج باطل، فالاختراعات ليست خيرًا كلها، وليست نفعًا للبشرية مطلقًا، والعلم الذي اخترع السيارة والمصباح الكهربائي، هو الذي اخترع الديناميت والغاز الخانق، وهذه البلايا الزرق، فشرُّه بخيره والنتيجة صفر.
ودع هذا ... ولْنأخذ الاختراعات النافعة: لنأخذ المواصلات مثلًا ... لا شك أن العلم سهَّلها وهوَّنها، فقرَّب البعيد، وأراح المسافر، ووفَّر عليه صحته ووقته، ولكن هل أسعد ذلك البشرية؟
أحيلك في الجواب على (شبنكر) لترى أن البشرية قد خسرت من جرَّائها أكثر من الذي ربحته: كان المسافر من بغداد إلى القاهرة، أو الحاجُّ إلى بيت الله، ينفق شهرين من عمره أو ثلاثة في الطريق، ويحمل آلامًا، وتعرض له مخاوف، ولكنه يحسّ بمئات من العواطف، وتنطبع في نفسه ألوف من الصور، ويتغلغل في أعماق الحياة، ثم يعود إلى بلده، فيلبث طول حياته يروي حديثها، فتكون له مادة لا تفنى، ويأخذ منها دروسًا لا تنسى، أما الآن فليس يحتاج المسافر (إن كان غنيًّا) إلا إلى الصعود على درجة الطيارة، والنزول منها حيث شاء بعد ساعات قد قطعها جالسًا يدخِّن دخينة، أو ينظر في صحيفة، فهو قد ربح الوقت، ولكنه خسر الشعور، فما نفعتنا المواصلات إلا في شيء واحد، هو أننا صرنا نقطع طريقنا إلى القبر عَدْوًا، ونحن مغمضون عيوننا ... لم نر من لجَّة الحياة إلا سطحها الساكن البرَّاق!.
ولْناخذ الطب ... وليس من شك أن الطب قد ارتقى وتقدم، وتغلب على كثير من الأمراض، ولكنَّ ذلك لا يُعَد مزيَّة لأنه هو الذي جاء بهذه الأمراض، جاءت بها الحضارة، فإذا سرق اللص مئة إنسان، ثم ردَّ على تسعين منهم بعض أموالهم أيعدّ محسنًا كريمًا، أم لا يزال مطالبًا بالمال المسروق من العشرة؟
انظر في أيّ مجتمع بشري لم تتغلغل فيه الحضارة، ولم يمتد إلى أعماقه العلم، وانظر في صحة أهله وصحة المجتمعات الراقية؟ هل الأمراض أكثر
1 / 23