Dans la mise à jour de la culture arabe
في تحديث الثقافة العربية
Genres
خطوط الصورة حتى الآن هي: خلل في البناء الاجتماعي يتطلب الإصلاح، فلو أراد الإنسان لنفسه صلاحا؛ فأولى وسائله إدراك لما حوله «ليعرف»، ولكي يكمل لتلك المعرفة كيانها؛ وجب أن تتجسد في لفظ أعد له جهاز من لسان وشفتين، ثم نستطرد في مجموعة الآيات الكريمة؛ لننتقل إلى الخط التالي من خطوط الصورة، وهو هداية الله للإنسان في استخدامه لأفكاره تلك التي حصلها وعبر عنها بلفظ اللغة. وقبل أن نمضي في سبيلنا أريد التنبيه على نقطة مهمة خاصة بهداية الله، وهي نقطة برزت أهميتها وخطورتها في عصرنا هذا على وجه التحديد، وهي أنه لا جناح على الإنسان في تحصيل ما استطاع من أفكار، توضح له طبائع الأشياء من حوله؛ فالأفكار محايدة لا خير فيها ولا شر، وإنما تبدأ خيريتها أو شريتها عند التطبيق: فماذا يصلح منها للتطبيق الفعلي في حياة الإنسان وماذا لا يصلح؟ وإذا صلحت للتطبيق فكرة ما؛ فكيف يكون تطبيقها وإلى أي مدى؟ هذه أسئلة لا تجيب عنها «المعرفة» التي حصلناها؛ فالإنسان إزاءها بحاجة إلى هداية الله، ومن هنا نجد التسلسل في خطوط الصورة التي رسمتها مجموعة الآيات الكريمة التي ذكرناها من «سورة البلد» بعد أن أشارت إلى خط «المعرفة» تحصيلا بالحواس التي في مقدمتها حاسة البصر، عقبت عليها بالخطوة التي لولاها لما كانت المعرفة المحصلة إلا حالة خرساء، وتلك هي مرحلة «النطق» باللغة، وأداة ذلك هي اللسان مستعينا بالشفتين، فها هو ذا الإنسان قد حصل ما حصل من أفكار، ثم ماذا؟ إلى أين يتحرك بتلك الأفكار؟ وكيف؟ إن الأفكار المحصلة في ذاتها لا توجه صاحبها فيما يختص بما «يجوز» فعله وما لا يجوز، ولذلك لا يكون للإنسان في هذا الموقف إلا هداية الله، فجاءت الآية الكريمة في موضعها لتقول:
وهديناه النجدين ؛ فمن حصيلة المعرفة التي جمعها الإنسان على نحو ما أسلفنا، يهديه الله سبحانه إلى فكرتين تستحقان السعي في سبيل أن تتحققا، حتى لو كان ذلك السعي عسيرا وشاقا، والفكرتان هما «الحرية» و«العدل»، نعم، إن دون تحقيقهما وعورة في الطريق؛ فهناك نجاد يصعد إلى أسطحها الصاعدون، وليس الطريق إلى الفكرتين سهلا منبسطا منسابا يسيرا، بل هو هضاب في اجتيازها عناء، فكأنما لكل فكرة من الفكرتين: «الحرية» و«العدل» وعورة طريقها المؤدي إليها: فأما أصحاب النوايا الطيبة الذين آمنوا بآيات الله، فقادرون بإيمانهم ذاك على اجتياز «النجدين»، وأما من ساءت نيته وخبثت طويته، من أمثال ذلك الرجل الغني المنافق، الذي سيق في السورة مثلا لما أصاب المجتمع من خلل وفساد؛ فيصعب عليهم اجتياز «العقبة» فلا هم راغبون في حرية يكون من شأنها أن تفك رقاب من كانت تملكه أيمانهم من عبيد، ولا هم يريدون في الناس عدلا يقتضيهم أن يطعموا «يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة».
هذه - إذن - صورة إسلامية لمجتمع إنساني سليم، لا أظن أن امتداد الدهر يغير منها شيئا، كلا، ولا في وسع العقل أن يتصور ظروفا معيشية يمكن أن تطرأ على بلد ما في ظل حضارة ما، كائنا ما كان البلد، وكائنة ما كانت صورة الحضارة، بحيث يقول الناس إنه لم يعد يصلح لهم مجتمع يشترط على أبنائه «علما» بالدنيا وواقعها، وأن يتجه ذلك العلم بهداية الله نحو إقامة بنيانهم على دعامتي «حرية» الإنسان، و«عدالة» بين الناس؛ ومن ثم كان من حقنا أن نقول إن الإسلام عقيدة تصلح لكل مكان ولكل زمان، على اتساع رقعة المكان، وامتداد طول الزمان.
إلا أن صلاحية «الصورة» لا يلزم عنها بالضرورة أن يسير الناس دائما على نهجها؛ لأن في جوف الإنسان حيوانا كامنا، هو الغرائز، إذا رفعت عنها الشكائم جمحت، وإذا نحن حملنا بيميننا ذلك المعيار الإسلامي في بناء المجتمع، ثم رفعنا بيسارنا صورة المجتمع الراهن الذي نعيش اليوم فيه؛ وجدنا الهوة سحيقة بين المثال والمثل، ففي حياتنا مثل ذلك الخلل الذي تجسد في المنافق الذي أشير إليه في «سورة البلد»، والذي كان هو المناسبة التي استدعت توضيح الخطوط الرئيسية في بناء مجتمع سليم؛ فمهما يكن في مجتمعنا الحاضر من صفات - والحديث هنا منصرف إلى مصر، وإلى الوطن العربي الكبير، على حد سواء - أقول إنه مهما تكن الخصائص الأخرى التي تميز أبناء هذا الوطن في هذا العصر؛ فهنالك صفة عمت وشاعت بحيث لم تعد تخطئها عين، وهي صفة تلتقي فيها الخطوط الرئيسية التي رسمتها مجموعة الآيات الكريمة التي ذكرناها من «سورة البلد»؛ فرغم قيام الخلل الذي يوجب التغيير والإصلاح، فلا نحن حريصون على «علم» بالدنيا التي نعيش فيها على حقيقتها، لا تحصيلا بمشاهدات الحواس ولا صياغة بلغة اللسان، ولا نحن على استعداد أو قدرة على تحمل المشاق بالنوايا الطيبة لنجتاز «العقبة» فنحقق في الناس «حرية» صحيحة، و«عدالة» صحيحة، على أن تقام كلتاهما على «معرفة» صحيحة بحقائق العالم.
فأما «المعرفة» الصحيحة بحقائق العالم، فتحتاج إلى نوافذ مفتوحة على الدنيا وما فيها، لكنك إذا طالبت بفتح النوافذ، زعق الزاعقون في فزع: بل أغلقوها حتى لا يكون علينا غزو ثقافي يطيح برءوسنا من فوق أعناقها، وكأننا قطيع من البله نفتح أفواهنا ليسيل لعابها، فيملأها الغزاة ترابا مسموما ونحن لا ندري! وإذا شئت عجبا فاعجب لمن يصيحون صيحات مذعورة كهذه، زاعمين لأنفسهم معرفة بما عند الآخرين من أفكار مسمومة، أليس من حقنا أن نسأل هؤلاء: ومن أدراكم بسمومها إلا إذا كنتم قد طالعتموها؟ وإذا كان ذلك كذلك فلماذا لا يكون لغيركم حق المطالعة كما كان لكم؟ فنتجت عن الموقف في مجمله حياة ثقافية منقوصة ومغلوطة ومهوشة، وأصبحت صورة العالم الذي هو منشئ حضارة عصرنا وصانعها وناشرها، تبث في عقول الناس كما كانت الجدات يصورن لأحفادهن الصغار عالم العفاريت!
وأما «الحرية» فقد أشارت الآية الكريمة إلى نوع منها كانت تتطلبه ظروف عصر ساد فيه الرق، إذن تكون «الحرية» المطلوبة في ضرورة ملحة، هي تحرر العبيد من أصفاد الرق التي كانت تغل رقابهم، لكن المطلب يتسع ويتنوع مع اختلاف الظروف في مختلف الظروف؛ فإنه إن لم يكن بيننا رق بذلك المعنى البدني الذي عرفه القدماء فبيننا صور أخرى تحمل جوهره وطابعه؛ إذ ماذا يكون جوهره وطابعه إلا إلغاء إرادة إنسان، ليريد له سواه؟ ومثل هذا الإلغاء لإرادات الناس؛ لتسري عليهم غصبا وقسرا وقهرا إرادة صاحب الإرادة، في حكومة، أو في ميدان من ميادين العمل، أو في مجال من مجالات التفكير. وليس هذا الضرب من الطغيان بالشيء النادر في مجتمعاتنا اليوم، وحتى إذا لم يقترف مثل هذا الإثم أفراد طغاة؛ فما يسمونه «بالرأي العام» كفيل بأن يهوي بضربات سياطه على كل من يخالفه في أمر يعده ذلك الرأي العام أمرا له خطورته في حياته التي ألف العيش في ظلها.
وأما فكرة «العدالة» الاجتماعية؛ فقد ركزت مجموعة الآيات الكريمة على فرع من فروعها، وهو «التعاون بين الأفراد»، تعاونا يضيق الفجوة بين غني وفقير، وإنني لأرجو في هذا الموضع من الحديث أن ألفت النظر إلى جانب القوة من تلك الفكرة كما صورتها الآية الكريمة، وهو أن ذلك التعاون المطلوب والمفروض، بني على أساس حرية الأفراد. والفرق بعيد بين مجتمع يتعاون أبناؤه أحرارا وعن إيمان بما يعملون، ومجتمع آخر - كمجتمعاتنا الحاضرة - إذا ما أراد تعاونا بين الناس صاغ له القوانين الملزمة مهددة بعقاب العصاة، إنه لا ضير في ذلك إذا استعصى على الناس أن يصدروا فيما يفعلونه عن وازع الأخلاق، لكن الكرامة الإنسانية تكون أقرب إلى كمالها حين يجيء التعاون بإرادة حرة من المتعاونين. «يقول أهلكت مالا لبدا، أيحسب أن لم يره أحد»؛ تلك كانت العلة، وموضع من مواضع الخلل، فكان لا بد من إقامة بناء اجتماعي جديد ركائزه : معرفة صحيحة بالعالم، ولغة تصوغ تلك المعرفة علما، ثم هداية من الله توجه الإنسان أن يتخير من ذلك العلم فكرتين، يقيم عليهما بناءه الجديد، هما «الحرية» و«العدالة» متمثلة في تعاون حر، وأما عن العلة فما أشبه الليلة بالبارحة، وأما عن قوائم البناء الجديد فها هي تي تقدم نفسها، فهل من مريد؟!
بلاغة الصمت
من المفارقات العجيبة، التي ليس في وسعنا إلا أن نقف أمامها حائرين، أن نجد في عصرنا هذا، الذي هو - من الناحية العقلية - عصر «التحليل» بلا منازع له من أي عصر آخر في هذه الصفة المميزة، لأنه إذا جاز لنا أن نلخص اتجاهات التفكير العقلي في تاريخه كله، أن نلخصها في صفحتين؛ لجعلنا إحداهما للكون وكائناته، والأخرى للغة التي حدث بها الإنسان نفسه عن تلك الكائنات، ففي صفحة الكائنات، لا أظن أن عصرا مضى ينافس عصرنا فيما بلغه من دقة التحليل لطبيعة تلك الكائنات، وذلك حين ردها إلى ما دون الذرة ودون الخلية، وفي صفحة اللغة، لا أظن كذلك أن عصرا مضى ينافس عصرنا في تحليل اللغة، لا أظن كذلك أن عصرا مضى ينافس عصرنا في تحليل اللغة إلى جذور جذورها، وإلى أصول أصولها، من حيث هي ظاهرة عامة شملت البشر جميعا، ومن حيث هي فروع تفرعت لتصبح لكل جماعة لغتها، حتى لقد بلغت تلك التحليلات من الدقة التفصيلية حدا جعلها تنافس الرياضة العليا، وحتى اضطرت جامعات كثيرة في أنحاء العالم المتقدم أن تجعل محور الارتكاز في دراسة اللغة، ذلك الجانب الذي يسمونه «لغويات»، وذلك بعد أن كان «الأدب» هو محور ارتكاز في الدراسة الجامعية. أقول إنها مفارقة عجيبة؛ أن نجد نفرا من أعلى أعلام الفكر في عصرنا قد رأوا أنفسهم بعد المضي في تحليل الفكر الإنساني متمثلا في لغته، أشواطا بعيدة، رأوا أن النهاية التي لا بد أن يلوذ بها الإنسان ليعرف حقيقة نفسه - وبالتالي حقيقة الإنسان - هي «الصمت» الذي هو في هذه الحالة أبلغ من الكلام.
والحق أنك إذا تأملت الموقف - بعد الدهشة التي أخذتك للوهلة الأولى - وجدت أن الأمر لا جديد فيه من الناحية العملية؛ إذ تجد حالات ليست بالقليلة لعمالقة من أفراد الناس أرادوا أن يتقصوا حقيقة ما يشعرون به، في أنفسهم وفي العالم من حولهم، ثم أرادوا أن يضعوا ما قد رأوه في لغة لينقلوه إلى سائر الناس، فتبينوا كم هو محال من المحال أن توضع تلك الرؤى في أي لفظ، كائنة ما كانت بلاغته؛ فلاذوا بالصمت، وفي مقدمة هؤلاء العمالقة الذين لاذوا بالصمت لعجز اللغة عن أداء ما أرادوا تأديته، جماعة المتصوفة على اختلاف أوطانهم ولغاتهم، وعلة ذلك العجز هي أن الخبرة الصوفية حالة يشعر بها الصوفي، كشعوره بأنه من الله سبحانه وتعالى في حالة شهود، أو في حالة حب، أو حتى في حالة حلول، وأمثال تلك الحالات هي مما يدركه صاحبها إدراكا باطنيا مباشرا، وهي فوق ذلك غير قابلة للتحليل، في حين أن اللغة أقيمت على أساس تحليل الأشياء التي نرمز إليها، وهي لا تستطيع غير ذلك؛ لأنها مجموعة جمل، وكل جملة مجموعة كلمات، وكل كلمة مجموعة حروف؛ فاللغة إذن مؤلفة من صور، كل صورة منها مركبة من أجزاء، فالذي يقابلها ويناسبها في دنيا الواقع، حقائق مركبة بدورها من أجزاء، لتأتي الصورة متقابلة مع الشيء، الذي تصوره، فمثلا إذا أردت أن أصف لك موقفي وأنا أكتب هذه السطور، قلت لك: إنني جالس إلى مكتبي، الورقة أمامي، والقلم في يدي، فإذا أمعنت النظر في هذه العبارة، وجدت فيها عددا من الكلمات يقابل عددا من الكائنات الموجودة في هذه الحالة التي أصفها، ويضاف إلى تلك الكائنات عدد من «العلاقات» التي تصلها بعضا ببعض، فهنالك من أسماء الكائنات: أنا، مكتب، ورقة، قلم، يد، وهنالك من العلاقات الرابطة بينها: إلى، أمام، في، وذلك التقابل بين الواقع من جهة، واللغة التي تصوره من جهة أخرى، هو الذي يجعل للجملة اللغوية معناها.
Page inconnue