Dans la mise à jour de la culture arabe
في تحديث الثقافة العربية
Genres
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين ...
ومعناه ألم نخلقه إنسانا مزودا بأدوات تكشف له عما حوله ليتدبر أمره معها، كما زودناه فوق ذلك بجهاز كامل، يحول به المادة الخامة التي جاءته عن الأشياء المحيطة به، إلى «فكر» مجسد في لغة؟ لكننا نلحظ في الآية الكريمة أن القول يشير إلى مفرد غائب، يدل على ذلك ضمير الهاء في كلمة «له»؛ فالمقصود - إذن - هو رجل واحد ولننظر خلاله إلى النوع الإنساني كله، وهنا أجد نفسي مضطرا إلى الحديث مرة أخرى عن اللغة وأداتها هنا اللسان والشفتان، وحديثي عن اللغة هذه المرة منصب على خاصة من أعجب خواصها، ولعلها كذلك تكون من أبعدها دلالة ومغزى، وتلك هي أن اللغة المعينة عند شعب معين، وإن تكن لغة واحدة يشترك فيها كل المتكلمين بها؛ فإن الحصيلة اللغوية التي استخدمها فرد معين في حياته يستحيل أن تتكرر كما هي في فرد آخر، وأكرر كلمة «يستحيل»؛ حتى ينتبه القارئ على الفردانية اللغوية، التي كأنما هي إعجاز من الإعجاز. إن الأمر في هذا يشبه أن يقيم ملايين الأفراد حول محيط مائي واسع، وكل فرد من هؤلاء الناس، يملأ إناءه من المحيط، فإن يكن المصدر واحدا؛ فإن لكل صاحب إناء نصيبه من الماء الذي ليس هو بعينه نصيب أحد آخر سواه. وبتشبيه آخر، افرض أننا زودنا كل مولود بشري بشريط للتسجيل الصوتي، ليسجل عليه كل ما ينطق به صاحبه طوال حياته - أو حتى خلال يوم واحد - ثم قمنا بمقارنة نجريها بين أشرطة الأفراد، لنرى كم تتشابه وكم تختلف؛ فإننا عندئذ لواجدون في كل شريط فردانية، بحيث يكون محالا أن نجد شريطين متطابقين؛ فاللغة عند الجميع واحدة وحياتهم مشتركة بينهم، ومع ذلك فالمركب اللغوي الذي عاش به فرد معين يستحيل أن يطابق مركبا لغويا عاش به فرد آخر، لا في عصره فقط، بل في كل العصور التي تكلمت اللغة نفسها في أي مكان على الأرض.
هي فردانية عجيبة، يتميز بها الفرد عمن سواه، ربما أكثر مما يتميز ببصمة إبهامه، ومع ذلك فاللغة المشتركة تظل لغة واحدة وإن تعددت صور تركيباتها بين الأفراد، تعددا يبلغ عدد الأفراد، وإذا كانت لغة الإنسان هي فكره، وفكره هو لغته التي نطق بها أو كتبها؛ فإن ذلك لا ينفي وحدة قاموسها، ووحدة قواعدها في التركيب. وعند هذا التوحد يجتمع أبناؤها لغة وفكرا ، على أن التنوع الشديد في صور التركيبات اللغوية، عند مستعمليها، إنما يبلغ أبعد مداه عند مستوى التعامل بين الناس، حتى إذا ما أخذنا في الصعود باللغة إلى مستويات أعلى، من حيث التعميم والتجريد، كمستويات التفكير العلمي بدرجاتها المتصاعدة؛ أخذ ذلك التنوع تضعف حدته، وتضيق زاويته لنصل إلى درجة نجد عندها علماء الفرع الواحد، على اتفاق في صيغ القول المتصل بمجال فرعهم العلمي.
ولنعد - مرة أخرى - إلى الآية الكريمة:
ألم نجعل له عينين * ولسانا وشفتين
لنعلم منها مقدار ما لا بد أن يكون ذلك الغني المقبوض اليدين على ماله، قد تفرد به قولا وفكرا، ولنعلم كذلك ما لا بد أن يكون بينه وبين غيره من أفراد الناس من نقط التقاء، تجعل منهم قوما، أو قبيلة، أو أمة، وهنا ننتقل بحديثنا إلى الآية الكريمة التالية على ذكر العينين واللسان والشفتين، وهي:
وهديناه النجدين
وتذكر ما قلناه عن «النجد» الذي هو مرتفع من الأرض، قد يصعب الصعود إليه من بطون الوهاد، والنجدان هنا هما هدفان للإنسان إذا أراد لنفسه حياة كريمة رفيعة المقام، فإن يكن في الصعود إلى ذينك الهدفين مشقة؛ فهي مشقة في سبيل الصعود إلى ما هو أعلى، والسعيدة السعيدة من الأمم هي الأمة التي تشق طريقها إلى قمة النجد، والشقي الشقي هو شعب خائر الهمة، يعجز دون اقتحام العقبة، ولست أرى كيف تكون العقبة «جبلا في جهنم» كما ورد في تفسير الطبري، ثم ماذا يفيدنا في حياتنا أن نجعلها كذلك، إنما العقبة هي كما جاء في الآيات التاليات: أن تفك الرقاب المغلولة بأغلال العبودية - بشتى صنوفها وأشكالها - وأن يتعاون الناس، قادرا مع عاجز، وقويا مع ضعيف، وغنيا مع فقير، للتغلب على مشاق الحياة وصعابها، لكن لماذا يكون هذان الهدفان الساميان «عقبة» تستعصي على الاقتحام؟ والجواب هو أن ذلك يكون إذا ما جعل الإنسان السيادة لغرائزه، وللغريزة اندفاعها الذي لا يحده إلا عقل يحكم، وأخلاق تضبط، ومن تلك الغرائز الطاغية، حب التملك، وحب المال، لما يتضمنه من قوة وسيادة، فمن ملك رقيقا، وكانت السيادة في كيانه متروكة للغريزة، صعب عليه أن يحرر عبيده، ومن امتلأت خزائنه بالمال، وأحس به قوة وسيادة، صعب عليه كذلك أن ينفقه في سبيل حياة كريمة بينه وبين آخرين.
تعالوا نستجمع معا عناصر الصورة التي تناثرت بين أيدينا في الفقرات السابقة، لنرى كيف قدمت مجموعة الآيات الكريمة من «سورة البلد» لوحة متماسكة مترابطة الأجزاء واضحة الأصول والفروع لحياة الإنسان في مجتمع سليم، فقد جاءت مقدمة الصورة في إشارة إلى خلل في جسم المجتمع القائم، مما يستوجب التغيير في سبيل الإصلاح، وكان الخلل مجسدا في صورة رجل كثرت أمواله وامتد ثراؤه، ولضعف في تكوينه الخلقي؛ اختار الرجل أن يعيش بين الناس منافقا بوجهين، يقبض يده على ماله بوجه، وبوجه آخر يعلن في الناس أنه أهلك ماله في سبيلهم، ولو أننا حددنا حدود ذلك الرجل الواحد، لنجعل منه أمة بأسرها؛ لوجدناها أمة مفككة العرى متناثرة الأفراد مفرقة القوى.
ذلك - إذن - موضع الداء، ومن هذه النقطة تبدأ خطوط الصورة في التتابع والتكامل، وأول خط فيها وجوب أن يجمع الإنسان من أطراف «المعرفة» بجوانب محيطه الذي يحيا فيه ويعيش فردا من أبنائه، ولقد أمده خالقه سبحانه وتعالى بالوسيلة التي يتوسلها في تحصيله لما يستطيع تحصيله من إحاطة بالكون من حوله، وما ذلك الكون إلا الدار التي خلق الإنسان ليسكنها ما دام حيا، والوسيلة هي الحواس وفي مقدمتها العينان تبصران وتعودان إلى المبصر بهما بأنباء الدار، لكن تلك الأنباء إذ تأتي بها العينان وبقية الحواس، كل حاسة في مجالها؛ فهي تأتي انطباعات على العين المبصرة، وإلى هنا لا تكون «معرفة»؛ فلا فرق في بداية المرحلة بين أن تقع الصورة على عين إنسان، أو عين حيوان، أو على عدسة زجاجية في آلة التصوير، فلكي تصبح الصورة المرئية «معرفة»؛ فلا بد لها أن تتحول إلى «فكرة»، وللفكرة طبيعة تختلف عن طبيعة الانطباع الضوئي على شبكية العين، والجانب الجوهري من طبيعة الأفكار، هو اصطناعها لجسم لغوي؛ أي أن تتجسد في لفظة أو في مجموعة ألفاظ ، ومن هنا تظهر لنا معجزة «اللسان» مستعينا بشفتين، ولكن حذار أن نقع في خطأ شائع عن العلاقة بين الفكرة ولفظها، وذلك أن خيال الإنسان يصور لصاحبه - على سبيل التشبيه، لا على سبيل الأمر الواقع - أن ألفاظ اللغة تشبه الأواني الفارغة، ثم تجيء الأفكار فتصب فيها، وذلك تصوير قد يبسط الأمر ليسهل فهمه، لكنه بعد ذلك يضلل الناس ضلالا بعيدا ... فالفكرة هي لفظها، واللفظ هو فكرته، كالشمس وضوئها، والوردة وأريجها، والزيتونة وزيتها، والسكر وحلاوته، والحنظل ومرارته، وبهذا التصور الصحيح نرى معجزة «اللسان والشفتين»؛ إذ هما ينطقان لفظا فينطقان «فكرا».
Page inconnue