1
فهذا الرجل الذي بلغ أسمى مكانة في عصره، فكان العاهل المطلق اليد في الإمبراطورية الكبرى لعالم يومئذ، قد كان يأبى على نفسه كل ما يرفه عنها، ويحرص على أن يعيش عيش الفقير ليمسه ما يمسه. على أن زهده في الدنيا لم يكن زهد عائف عنها، بل كان زهد قادر عليها متحكم فيها؛ ولذلك كان - مع شدة ورعه وعظيم تقواه - ينكر صنيع أولئك المتنسكين الذين يرون في الحرمان متاعا ولذة، والذين يخفضون من أصواتهم إذا تكلموا ويتباطئون في مشيهم إذا ساروا، يريدون أن يقول الناس عنهم إنهم نساك؛ ذلك لأنه كان يمقت الضعف في كل مظاهره، وكان أشد مقتا للتظاهر به.
وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي طوع له أن يكون مضرب المثل في العدل؛ فقد كان لهذا الزهد لا يخشى إلا الله، ولا يرجو أحدا غيره. وكانت خشيته الله ورجاؤه إياه شديدين. وكان يعلم أن الله محاسبه عما ولي من أمر المسلمين فيزداد خشية، فتزيده الخشية حرصا على تحري العدل إرضاء لله جل شأنه؛ لذلك كان في عدله لا يفرق بين قريب له وبعيد عنه؛ فالمؤمنون عنده جميعا سواء، ومن دخل في ذمة المسلمين أصبح وله من الحق في عدل أمير المؤمنين ما لهم. وحبه العدل مجردا من الهوى جعله يطلب إلى عماله أن يكونوا مثله عدلا وإنصافا، ويطلب إلى الناس في أرجاء الإمبراطورية أن يرفعوا إليه ما قد ينزل بهم على يد عماله من حيف حتى ينصفهم إذا رأى إنصافهم حقا؛ فإن شكوا إليه عاملا كيدا بغير حق أنصف هذا العامل منهم، لتبقى للحكم هيبته، وليبقى للعامل العادل مكانه وسلطانه.
وزهد عمر في أنعم الحياة هو الذي دفع إلى قلبه من الرفق بالفقراء والعطف عليهم ما خشي الناس يوم استخلف ألا يكون له منه نصيب. فقد رأوه في عهد رسول الله عادلا صارم العدل، ورأوه في عهد أبي بكر شديد البطش بالظالمين؛ فلم يدر بخلد أحدهم أنه سيعرف الرحمة حياته. لهذا لم يلبث حين آل الأمر إليه أن احتفظ بكل شدته على الظالمين، ثم كان بالضعفاء والفقراء برا رحيما، بل كان أحن عليهم من آبائهم وأمهاتهم: يكفكف دموعهم ويحمل إليهم بنفسه حقوقهم، ويرعاهم صغارا وكبارا. والضعفاء والفقراء هم السواد في كل أمة؛ لذلك لم يلبث هذا السواد أن وجد في عمر ملجأه وملاذه، وأن أصبح هذا الرجل الباطش أحب إليهم من أنفسهم ومن أبنائهم.
لا أريد بما قدمت أن عمر بن الخطاب لم يكن يخطئ، أو أنه لم تكن له ميول تجعل الناس يختلفون في بعض أحكامه، وسنرى كيف اختلفوا فيما كان بينه وبين خالد بن الوليد؛ يرى بعضهم أنه ظلم القائد القاهر الذي وضع للإمبراطورية أساسها، ويرى آخرون أنه قصد إلى خير الإمبراطورية أكثر مما قصد إلى العدل في أمر خالد. وسنرى كذلك كيف عزل سعد بن أبي وقاص سياسة في غير عجز ولا خيانة. لكن اختلاف الناس فيما اختلفوا فيه من آراء عمر ومن تصرفاته وأحكامه، لا يغير من أنه لم يمل يوما مع الهوى ولم يخالف يوما ضميره، وأنه كان يحاسب نفسه أدق الحساب كلما اجتهد برأي أو قضى بحكم أو أصدر أمرا.
هذه صورة مجملة من حياة عمر ومن تصرفاته، وهي مفصلة في هذا الكتاب تفصيلا أرجو أن يجلوها بينة واضحة، وهذه الصورة تدلك على ما كان لشخصه من أثر في بناء الإمبراطورية العظيمة في الزمن الوجيز الذي قامت فيه، وتكشف لك عن السبب الذي أبقى على التاريخ اسم هذا الرجل العظيم يتحدث الناس عنه على مر الأجيال في مشارق الأرض ومغاربها حديث إكبار وإعجاب.
على أن ما فصل في هذا الكتاب لم يتخط التاريخ السياسي لهذه الفترة القصيرة من حياة المسلمين الأولين. أما ما جاء في فصوله عن حياة العرب الاجتماعية وعن الفرس والروم فإنما جاء مجملا أريد به إيضاح هذا التاريخ السياسي، ولم يقصد به إلى تفصيل ما حدث من تطور الحياة الاجتماعية في بلاد العرب بقيام الإسلام، ولا إلى تفصيل الحياة السياسية نفسها في البلاد التي فتحها المسلمون. كذلك لم يتناول الفصل الذي أفرد لاجتهاد عمر تفصيل هذا الاجتهاد. وقد تناول بعض العلماء الباحثين في عصرنا طائفة من هذه النواحي ببحوث ممتعة أيما إمتاع. وللمستشرقين في مثل هذه البحوث فضل تقترن به أسماؤهم مع أسماء علماء العربية وكتابها. مع ذلك لا يزال هذا الميدان مفتقرا إلى التنقيب. وما أشك في أنه سيلقى من العناية ما هو جدير به.
وأختتم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفقنا جميعا للحق في كل ما نعرض له من بحث. فالحق خير ما يرجو الباحث المنصف. والله خير حافظا من الزلل، وهو الحكم العدل اللطيف الخبير.
محمد حسين هيكل
هوامش
Page inconnue