ومثله في الأنبياء كمثل عيسى إذ يقول:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم . ومثل عمر في الملائكة كمثل جبريل ينزل بالسخط من الله والنقمة على أعداء الله. ومثله في الأنبياء كمثل نوح إذ يقول:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، وكمثل موسى إذ يقول:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .
هذه الصورة تصف كلا الرجلين في حياة الرسول أدق الوصف. فلما استخلف أبو بكر بقي على رفقه ولينه في كل أمر لا يتصل بعقيدته وإيمانه. فأما ما اتصل بالعقيدة والإيمان، فلم يكن موضع رفق أو لين عنده؛ ذلك أن نفسه كانت تنطوي على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى مقدرة ممتازة في بناء الرجال وإبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة؛ لذلك كان إذا عهد إلى أحدهم في أمر ترك له من الحرية في تنفيذه ما يتفق وثقته به، وثقته بحسن تقديره هو في اختيار هذا الرجل، ومن ثم رأيناه يضع الخطط العامة لقواده في حروب الردة وفي غزو العراق والشام، ويترك تفصيلها لهم ولا يسألهم حسابا ما نجحوا في مهمتهم. فإذا لم يصادفهم التوفيق فكر في سبب إخفاقهم والتمس الوسيلة لعلاجه. كذلك فعل حين أبى على القواد الذين لم ينتصروا في حروب الردة وفي غزو الشام أن يعودوا إلى المدينة، حتى لا يوهن عودهم إليها من يقيمون بها، وحين وقف قواد الشام موقف الجمود أمام الروم، فأمدهم بخالد بن الوليد ونقله إليهم من العراق، حتى ينسي الروم وساوس الشيطان.
ولم يكن ذلك شأنه مع القواد في وقائع الحرب وكفى، بل كان كذلك شأنه في الأمور الدينية؛ لا يتدخل فيما عهد منها إلى عماله إلا لتقويم معوج أو إصلاح فاسد. أما ما سارت الأمور سيرتها السليمة فهو يدعها لينصرف إلى غيرها من شئون الدولة؛ ولهذا ترك زيد بن ثابت بعد أن عهد إليه في جمع القرآن يقوم بمهمته، فلم يكن يتدخل في عمله إلا حين يطلب زيد إليه رأيه.
والأمير الذي يقف من سياسته عند الأمور العامة مطمئنا إلى عماله واثقا بهم، يبرز اسم عماله إلى جانب اسمه، فيحسب من لا يتعمق في الأمور أن لبعض العمال فضلا أعظم من فضله. وهذا خطأ في التقدير؛ فالفكرة الأساسية هي كل شيء في كل عمل. وحرية العامل الموثوق به في تولي التفاصيل تزيد هذا العامل نشاطا وإقداما على الاضطلاع بالتبعات، وحرصا على الفوز بمزيد من ثقة الأمير به، ليزداد ركونه إليه وتقديمه له.
كانت هذه السياسة متفقة مع طبيعة أبي بكر وما عرف من لينه ورفقه وحسن إيمانه وقوة عقيدته، متفقة كذلك مع سنه؛ فقد تولى الخلافة حين جاوز الستين من عمره، ضعيف البدن رقيقه. أما عمر فتولى الخلافة وسنه حول الخمسين، وفيه من قوة الشباب ونشاطه ما لم يكن لأبي بكر. ثم إن عمر كان عنيفا بطبعه، قوي البدن، جم النشاط في كل شيء، لا تكمن ذاتيته حتى تبرزها الحوادث في جلال قوتها، بل كانت ذاتيته دائمة البروز، وكان لذلك حريصا على أن يتولى الجليل والدقيق من شئون المسلمين أفرادا وجماعات ما استطاع. وهذا البروز في الذاتية كان يدفعه - مع ثقته بمن يعهد إليهم في أمور الدولة - إلى أن يجعل عينه دائما عليهم وأن يكون دائم الاتصال بهم، حتى تخاله وهو بالمدينة حاضرا مع من كان منهم بالعراق أو بالشام أو بفارس أو بمصر. وهذا الاتصال وهذه المراقبة جعلاه دقيق المحاسبة لهم دقة ثارت لها غير مرة نفوس بعضهم. ولو أن من ثارت به نفوسهم كان رجلا غير عمر في قوته وصلابته وبأسه لكان لهذه الثورة من الأثر ما يخشى ألا تحمد عاقبته.
وكان لذاتية عمر وبروزها أثر في الحياة العقلية كأثرها في إدارة الشئون العامة؛ فقد كان من أكثر المسلمين اجتهادا بالرأي، كان ذلك شأنه في حياة الرسول وفي حياة أبي بكر، ثم كان المجتهد الأول في خلافته، فلم تعرض مسألة تعني الجماعة الإسلامية إلا كان له فيها رأي، ولم تكن مسألة فقهية إلا كان ما يستقر عليه حكمه فيها حجة يأخذ بها الناس في عهده، ويأخذ بها الناس من بعده، وسترى أنه خالف رسول الله وخليفته أبا بكر غير مرة، وأن الوحي أيد رأيه أحيانا وخالفه أحيانا أخرى، وأن الناس في خلافته كانوا يطمئنون إلى اجتهاده أيما اطمئنان. ولقد زاد في قدر رأيه أنه اطرح وراء ظهره كل مصلحة خاصة وكل اعتبار ذاتي، وأنه تجرد لله ولدين الله ولخير المسلمين تجردا لم يوصف به أحد من أمراء المؤمنين بعده.
ولو أن ما روي عن إنكار نفسه كان كله صحيحا لكن عمر مثلا فذا في التاريخ، ولكان أدنى إلى مراتب الأنبياء والرسل منه إلى مراتب العظماء.
Page inconnue