مقدمة
الباب الأول: أصول العلم الجديد
1 - مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره
2 - أصول ومبادئ العلم الجديد
الباب الثاني: قانون التطور
1 - قانون تطور الأمم
2 - مسار الأمم في ضوء الحكمة الشعرية
الباب الثالث: المعرفة التاريخية وأثرها
1 - نظرية المعرفة التاريخية
2 - أثر فيكو في الفكر الفلسفي الغربي
خاتمة
المراجع
مقدمة
الباب الأول: أصول العلم الجديد
1 - مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره
2 - أصول ومبادئ العلم الجديد
الباب الثاني: قانون التطور
1 - قانون تطور الأمم
2 - مسار الأمم في ضوء الحكمة الشعرية
الباب الثالث: المعرفة التاريخية وأثرها
1 - نظرية المعرفة التاريخية
2 - أثر فيكو في الفكر الفلسفي الغربي
خاتمة
المراجع
فلسفة التاريخ عند فيكو
فلسفة التاريخ عند فيكو
تأليف
عطيات أبو السعود
مقدمة
فلسفة التاريخ مبحث هام من المباحث الفلسفية الحديثة العهد في الفكر الفلسفي، فلم تتضح كعلم مستقل إلا في القرن السابع عشر، ثم تحددت معالمها في القرن الثامن عشر الذي شهد العديد من فلاسفة التاريخ أمثال فيكو ومونتسكيو وتورجو وفولتير وكوندورسيه وهردر وغيرهم. وبلغ الاهتمام بالدراسات التاريخية ذروته في القرن التاسع عشر - حتى ليمكن أن نطلق عليه اسم «عصر التاريخ» - على يد أعلام هذا القرن أمثال هيجل وكونت وماركس. وترجع أهمية فلسفة التاريخ إلى حيوية موضوعها حيث تتناول بالدراسة حركة المجتمعات البشرية وتطورها وأسباب انهيارها وسقوطها في مرحلة معينة من تاريخها، والقوانين التي تحكم حركة التاريخ وتطوره.
ولا تذكر فلسفة التاريخ إلا ويذكر معها اسم فيكو. وهو فيلسوف إيطالي ولد وعاش في نابولي وعانى الفقر وتجاهل معاصريه ولم يبدأ الاهتمام الحقيقي به إلا منذ عهد قريب، وعلى الرغم من هذا التجاهل الذي استمر طويلا فهو يعد المؤسس الحقيقي لفلسفة التاريخ في الفكر الفلسفي الغربي. ويمكن القول إن مكانته في التراث الغربي تماثل مكانة ابن خلدون في التراث العربي. حقا لقد ذكره بعض فلاسفة القرن الثامن عشر وربما اطلعوا على شيء من إنتاجه، وخاصة على بعض أجزاء من العلم الجديد، ولكنه لم يكتشف اكتشافا حقيقيا إلا عندما ترجم إلى اللغة الألمانية لأول مرة عام 1822م، ثم عندما ترجم «ميشليه» مختارات من العلم الجديد عام 1825م مع مقدمة كان لها أثرها في توجيه الأنظار إلى أهمية أفكاره وأصالتها، والتفت إليه أبناء بلده بعد أن أغفلوه طويلا وخاصة مع حركة البعث القومي الإيطالي، إلى أن جاء فيلسوف إيطاليا الأكبر بندتو كروتشه فأحيا فكره من جديد وأفرد له كتابا مستقلا. ثم توالت الدراسات العلمية الدقيقة التي سلطت الأضواء على جوانب فكره المختلفة سواء في فلسفة التاريخ بوجه عام أو فقه اللغة والقانون الروماني أو نظريته في اكتشاف حقيقة هوميروس. والواقع أن فيكو ليس مجهولا في حياتنا العقلية والعلمية؛ فقد اهتم به بعض الأساتذة الذين يستحقون كل التقدير والعرفان، فكتب عنه المرحوم الدكتور عبد العزيز عزت فصلا في كتابه «فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع»،
1
وحاول أن يقدمه كمفكر اجتماعي قبل كل شيء، ثم قدم الدكتور أحمد حمدي محمود عرضا موجزا لحياته وكتابه الأساسي «العلم الجديد» في مجلة «تراث الإنسانية»،
2
وخصص المرحوم الأستاذ الدكتور محمد فتحي الشنيطي فصلا عنه في كتابه «دراسات في الفلسفة الحديثة»،
3
كما كتب عنه الأستاذ الدكتور أحمد محمود صبحي فصلا قيما في كتابه «فلسفة التاريخ»
4
أبرز فيه بإيجاز منهج فيكو ومذهبه ونظريته في التعاقب الدوري للحضارات. وكان آخر هذه الجهود مقال الأستاذ الدكتور حسن حنفي في مجلة الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة فاس،
5
وقد قدم فيه عرضا وافيا - إلى حد كبير - للعلم الجديد ختمه بتقييم شامل لتفكير فيكو وبيان حدوده وجوانب القصور فيه.
وعلى الرغم من أهمية هذه البحوث إلا أنها لم تستقص كل جوانب فلسفة فيكو ولم تقدم نظريته في التاريخ بصورة وافية، ومع اعترافنا بقيمة هذه الدراسات فإن المكتبة العربية كانت وما تزال في أشد الحاجة إلى بحوث متخصصة في فلسفة فيكو؛ ولهذا حاولنا في هذا البحث أن نقدم صورة واضحة عن هذا الفيلسوف معتمدين في المقام الأول على نصوصه نفسها. والواقع أن هذا لم يكن أمرا سهلا بسبب كثافة المادة التاريخية التي تناولها مما أعجزه عن تنظيمها والسيطرة عليها؛ فقد كان ينتقل من موضوع إلى آخر - ربما دون أن يدري هو نفسه بهذا الانتقال - بحيث يصعب الفصل بين هذه الموضوعات، ومما زاد من صعوبة البحث أن فيكو لم يشر إلى هوامش ولم يقم بعمل إحالات للنصوص، بل حشد في النص الأصلي ما كان يجب أن يشير إليه في الهامش مما جعل العثور على الأفكار الأساسية أمرا شاقا في خضم التفصيلات الجزئية الكثيرة والمتشابكة.
وقد حاولت أن ألتزم بالنصوص وأن أقدمها تقديما وافيا منظما مع الحرص على عدم إغفال أية نقطة جوهرية في الكتاب كله، وقد كانت قراءة النص وحدها مسألة شائكة لأنه يفترض إلمام القارئ بالثقافة الكلاسيكية (الثقافة اليونانية والرومانية) إلماما تاما، وكذلك معرفة تاريخ القانون الروماني، كما يستلزم قدرا كافيا من الإلمام باللغة اللاتينية بوجه خاص والقدرة على تتبع المؤلف في تحليلاته الاشتقاقية المرهقة التي جعل لها أهمية كبرى في تتبع تطور التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية من خلال التطور اللغوي.
والمنهج المتبع في البحث هو المنهج التحليلي النقدي؛ فقد توخينا عرض النصوص عرضا أمينا بحيث لا نغفل شيئا هاما منها مع الحرص على ترتيب وتنسيق ما وجدناه محتاجا إلى الترتيب والتنسيق، وعلى سبيل المثال وجدنا أنه من الضروري تصنيف المسلمات إلى مجموعات رئيسية حسب موضوعاتها ووضع عناوين مناسبة لها؛ إذ إن فيكو وضع مائة وأربع عشرة مسلمة في موضوعات متعددة وتركها بغير تصنيف أو تنسيق، ومن الطبيعي أن عرض النصوص وحده لا يكفي، فكان لا بد من تحليلها وتقييمها بعد ذلك. كما اتبعنا المنهج المقارن لبيان أثر فيكو على بعض فلاسفة التاريخ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وقد اعتمدنا على نصوص فيكو من خلال مؤلفاته الأصلية، وخاصة أهم مؤلفاته «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة للأمم»، وهو الذي شمل فلسفته بأكملها وفلسفته التاريخية بصفة خاصة بجانبيها النظري الميتافيزيقي والتطبيقي التجريبي، كما اعتمدنا على الترجمة الإنجليزية ل «العلم الجديد» التي قام بترجمتها العالمان
Fisch
و
Bergin
عن الطبعة الثالثة للنسخة الإيطالية الصادرة عام 1744م، أما عن بقية مؤلفاته فقد كانت بمثابة إرهاصات لفلسفته التي تبلورت في النهاية في المؤلف الكبير «العلم الجديد» الذي عكف على تأليفه وتعديله وتنقيحه أكثر من ربع قرن من حياته، ومع ذلك فقد رجعنا إلى ما توفر من بقية مؤلفاته مترجما للغة الإنجليزية ومن أهمها «السيرة الذاتية» و«مناهج الدراسة في عصرنا» الذي عارض فيه بوضوح نظرية المعرفة الديكارتية. وأما عن مؤلفه «الحكمة الإيطالية القديمة» فقد تعذر الحصول على ترجمة له بالإنجليزية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن موضوع هذا المؤلف لا يتعلق بالقضايا الأساسية التي تناولناها في هذا البحث. أضف إلى هذا أن مضمون مؤلفات فيكو كلها - التي كتبها باللغة اللاتينية قبل أن يتحول إلى اللغة الإيطالية في العلم الجديد - متضمنة في آخر مؤلفاته وأهمها وهو «العلم الجديد»، فبعد اكتشافه علمه الجديد كرس البقية الباقية من حياته لتنقيحه وإضافة فصول جديدة له؛ ولهذا اعتمد البحث في المقام الأول على النصوص الأصلية.
وقد قسمنا البحث إلى ثلاثة أبواب مترابطة يؤدي كل منها إلى الآخر؛ عرضنا في الباب الأول أصول العلم الجديد، وحاولنا في الفصل الأول منه تتبع نشأة العلم الجديد وتبلوره في ذهن مؤلفه، وكان لزاما علينا أن نعرض للظروف التاريخية والثقافية التي عاش في ظلها وأثرت على تفكيره؛ فقد عاصر سيطرة الفلسفة الديكارتية العقلانية، وكان له موقف محدد منها جعله يميل إلى تغليب منهج بيكون الاستقرائي، وإن كان في النهاية قد جمع بين الاثنين دون أن يشعر، ويقدم الفصل الثاني أصول العلم الجديد ومبادئه ومنهجه.
ويتناول الباب الثاني قانون تطور الأمم، وقد أفردنا الفصل الأول لقانون تطور الأمم وبينا كيف أنه قانون يحدد المراحل الثلاث التي مر بها تاريخ الأمم الأممية (وهي الأمم الوثنية)، ثم انتقلنا إلى الفصل الثاني وعرضنا تطبيق هذا القانون على المسار الأول للأمم الأممية في ضوء الحكمة الشعرية خاصة في الحضارتين اليونانية والرومانية، ثم تطبيقه على المسار الثاني للأمم في العصور الوسطى الأوروبية. وبنهاية الباب الثاني نكون قد عرضنا منهج فيكو ومذهبه عرضا مستفيضا، وتعاطفنا مع فكره إلى حد كبير، واقتربنا منه حتى يتسنى لنا فهم مذهبه فهما صحيحا. وربما نكون بذلك قد عملنا بنصيحة فيكو نفسه للباحثين في التاريخ بألا يسقطوا ثقافة عصرهم على فكر العصور القديمة، واستجبنا إلى دعوته لهم بالتعاطف الوجداني مع فكر القدماء لكي يفهموا ما كان يدور في عقولهم. وهذا ما حاولناه في البابين الأول والثاني. وقد وجدنا من الضروري أن نبتعد في الباب الثالث قليلا عن هذا المذهب لنتمكن من تقييمه، ورأينا أن نفرد هذا الباب لنظرية المعرفة التاريخية وأثرها، فقدمنا في الفصل الأول تقييما وتحليلا لنظرية المعرفة التاريخية انطلاقا من مبدأ فيكو الأساسي في المعرفة؛ وهو أن «الإنسان لا يعرف إلا ما يصنعه بنفسه.» وقد وقفنا عند هذه النظرية لإلقاء الضوء على جوانبها المختلفة ومضمونها الاجتماعي والتاريخي، وقد كان من الطبيعي أن نعرض لموقف فيكو من فلسفة عصر التنوير الذي عاش فيه، فأوضحنا أن مفهوم التقدم عنده يختلف إلى حد كبير عنه عند فلاسفة هذا العصر، ثم انتقلنا في الفصل الثاني من هذا الباب إلى بيان أثر نظرية المعرفة التاريخية على أهم فلاسفة التاريخ الذين جاءوا بعده ومن أهمهم هردر وكونت وماركس. وأخيرا بلورنا الرؤية الكلية للبحث في خاتمة قدمنا فيها تقييما للأفكار الأساسية العامة في مذهب فيكو، وهي الأفكار التي وردت في ثنايا البحث، أما عن بعض التفاصيل الجزئية فقد عقبنا عليها أثناء عرضها في ثنايا الفصول، ورأينا أن نتناولها في موضوعها حتى يكون التقييم النهائي للبحث منصبا على الأفكار الرئيسية واستخلاص أهم النتائج التي أمكننا التوصل إليها.
وأخيرا نقول لعل أهمية فيكو تكمن في أنه يعد بحق أحد آباء الوعي التاريخي في وقت كان فيه الضمير الأوروبي في حاجة إلى هذا الوعي، ولما كنا، نحن العرب، نمر بمرحلة تشتد فيها حاجاتنا إلى الوعي التاريخي لإدراك دورنا في التاريخ المعاصر وتوجيه خطانا من التمزق إلى الوحدة ومن الغيبوبة إلى الوعي، فما أحوج أمتنا العربية - في مرحلتها الراهنة - إلى هذه الدراسات، وعسى أن يكون هذا البحث مساهمة متواضعة في إيقاظ وعينا التاريخي وتوجيه خطانا نحو التقدم والمشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية.
الباب الأول
أصول العلم الجديد
الفصل الأول
مدخل إلى فلسفة فيكو وعصره
(1) حياة فيكو ومؤلفاته
جامباتيستا فيكو
Giambattista Vico
مؤرخ وفيلسوف إيطالي ولد في نابولي في 23 يونيو عام 1668م في حجرة متواضعة فوق مكتبة يملكها والده، نشأ في أسرة رقيقة الحال؛ فكان والده ابنا لفلاح نزح إلى نابولي عام 1656م، وكانت أمه ابنة صانع عربات كما كانت هي الزوجة الثانية لأبيه. كان جامباتيستا هو الطفل السادس لأسرة مكونة من ثمانية أطفال، التحق في سن مبكرة بمدرسة الآباء اليسوعيين وفيها درس اللغات القديمة، وخاصة اللاتينية وبعض اليونانية، كما درس الآداب والبلاغة والفلسفة والمنطق واللاهوت والتشريع، وخاصة التشريع الروماني، بالإضافة إلى ما حصله من فترات اعتكافه في مكتبة والده.
انشغل بالقانون الروماني والقانون الكنسي واضطره الفقر إلى الاشتغال بالمرافعات القضائية في ساحات المحاكم، وفي ذلك الوقت تدهورت صحته وشعر بالاشمئزاز من صخب ساحات القضاء، وقلت موارد أسرته واشتعلت فيه رغبة التفرغ للدراسة، فكانت فرصة سانحة عندما عرض عليه أحد الأساقفة من عائلة روكا
Rocca
أن يعمل مدرسا لابن أخيه في قلعة تشيلنتو
Cilento
في فاتولا وهي تتميز بالموقع الجميل والمناخ الصحي الذي أفاد صحة فيكو كثيرا. ولم يجد من معاشرته لهذه الأسرة سوى المعاملة الكريمة؛ فكان بمثابة أحد أبنائها. عاش في هذه القلعة لمدة تسع سنوات، ووجد الفراغ الكافي للدراسة فعكف على دراسة القانون الطبيعي للشعوب، وبدأ بأصول القانون الروماني والقانون المدني للأمميين، ودرس اللغة اللاتينية وبدأ بمؤلفات شيشرون ثم الشعراء اللاتين مثل فرجيل وهوراس وغيرهم.
1
عاد فيكو بعد ذلك إلى نابولي عام 1695م ليجد أن ديكارت قد تربع على عرش الفكر وسادت فلسفته العقلية في جامعات نابولي، فكان إحساسه بعد العودة إحساس الغريب في وطنه، وبعد أربع سنوات وفي عام 1696م تولى منصب كرسي البلاغة بجامعة نابولي، وظل في هذا المنصب حتى عام 1741م.
عانى فيكو كثيرا من الفقر والأزمات المادية، وكان أجره زهيدا متواضعا فظل يأمل في تحسين أحواله المادية، وتقدم عام 1717م لمسابقة أكاديمية للفوز بمنصب كرسي القانون المدني الذي كان شاغرا ولكنه أخفق، ولم يكن إخفاقه في الفوز بهذا الكرسي لسبب يتصل بكفاءته العلمية، بل كان راجعا لعدم معرفته بلعبة السياسة الأكاديمية التي لم يفكر في خوضها؛ ولهذا عكف على بحث في القانون ليتقدم به في المسابقة التالية.
لم تكن كتابات فيكو حتى ذلك الوقت إلا بالتكليف من بعض الأمراء؛ إذ عهد إليه ابن أحد الأمراء بكتابة تاريخ عمه مارشا كارافا
Marshat Carafa
ونشر هذا الكتاب عام 1716م، وقد اطلع أثناء تأريخه لهذه الأسرة على كتاب جروسيوس (1583-1645م) «قانون الحرب والسلام»، كما كلفته الدولة بتأريخ مؤامرة ماكيا
Macchia
فكتب مقالا لم ينشر.
وسعيا وراء الكسب وبدافع من الفقر والعوز وضع فيكو كتابات مرتبطة بمناسبات خاصة كخطب المديح والخطب الجنائزية وقصائد الزفاف، بالإضافة إلى محاضراته في البلاغة والخطب الافتتاحية التي بلغ عددها ست خطب كتبها باللغة اللاتينية وتبنى فيها مبادئ تربوية تؤمن بتحديث التراث الإنساني، وقد نشرت إحدى هذه الخطب في كتاب تحت عنوان «مناهج الدراسة في عصرنا» عام 1709م، ثم كتب بعد ذلك رسائل عن الشعر والشعراء مثل دانتي، ورسائل عن ديكارت ورسائل دفاع عن العلم الجديد ضد معارضيه. وفي عام 1710م كان كتابه «الحكمة الإيطالية القديمة» أول مؤلف يكتبه بدون تكليف وبغير ارتباط بالمناسبات، وقد قدم فيه نظرية جديدة في المعرفة والميتافيزيقا (تعارض نظرية ديكارت) رأى فيها ياكوبي
Jacobi (1743-1819م) فيما بعد حدسا بمذهب كانط في المبادئ القبلية للإدراك الحسي والعلم الطبيعي.
والواقع أن دراسات فيكو سواء كانت لغوية أو أدبية أو فلسفية أو قانونية أو تاريخية كانت إرهاصا لفلسفة المجتمع البشري؛ ففي أثناء إعداد نفسه لكرسي القانون المدني الذي خلا في يناير عام 1723م ألف المسودة الأولى لهذه الفلسفة تحت اسم «القانون العالمي» وجعل شعاره عبارة مشهورة من كتاب «القوانين» لشيشرون (106-43ق.م.): «إن علم القانون ليس مستمدا من قرارات إدارية، كما يعتقد أغلبية الناس، ولا من قانون الألواح الاثني عشر، كما اعتقد البعض قديما، ولكنه مستمد من أعمق أعماق الفلسفة.» وأصدر فيكو مؤلفه «القانون العالمي» في ثلاثة أجزاء، ظهر الجزء الأول منها عام 1720م والثاني عام 1721م والثالث عام 1722م، وكان أحد فصول هذا الكتاب بعنوان: «محاولة عن العلم الجديد». وتقدم فيكو بمؤلفه هذا للمسابقة، ولكنه أخفق للمرة الثانية، ولعل من سخرية القدر أن يفوز في المسابقة أفاق يدعى دومينيكو جنتيله
Domenico Gentile
وقد كان زير نساء يهتم بمغازلة الخادمات حتى انتهت حياته بالانتحار مع إحداهن، ولم يسبق له أن كتب شيئا يستحق الذكر عدا محاولته الوحيدة في وضع كتاب فشل بسبب انتحاله. ذهبت كل آمال فيكو في الفوز بهذا المنصب ولم يعد الكرة مرة أخرى، وما كان منه إلا أن هجر اللغة اللاتينية، وهي لغة العالم الأكاديمي في ذلك الحين، أي لغة المنصب الذي يشغله (كرسي البلاغة) والمنصب الذي كان يريد أن يشغله (كرسي القانون المدني) وتحول إلى الإيطالية لغة أهله ومواطنيه.
وبشخصيته المثابرة العنيدة ارتفع فوق كل هذا الإحباط الذي صادفه في حياته، وآمن بأنه قد اهتدى إلى فكرة علم جديد وضع يديه على بدايته بحيث لا يحتاج منه إلا أن يؤصله ويتفرغ له. وبعد أن كان العلم الجديد فصلا في الجزء الأول من مؤلفه «القانون العالمي» - الذي قال عنه جنتيله، منافسه في منصب القانون المدني، إنه غير مفهوم ويكاد أن يكون ملحقا للدراسات التشريعية
2 - أفرد له فيكو مؤلفا خاصا وآمن في هذه الفترة بأن العناية الإلهية وحدها هي التي هدته إلى هذا الكشف الجديد، وعكف على هذا المؤلف وبذل أقصى جهده حتى انتهى من الجزء الأكبر من العلم الجديد في أواخر عام 1724م وأطلق عليه اسم «العلم الجديد في صورته السلبية» وفيه ينقد أصحاب نظريات القانون الطبيعي، أمثال جروسيوس وسيلدن وبافندروف (1632-1694م)، والمذاهب النفعية للرواقيين والأبيقوريين، كما يوجه نقده لهوبز (1588-1679م) وإسبينوزا (1632-1677م) ولوك (1632-1704م) وفي ديسمبر من العام نفسه حصل فيكو على تصريح من الكاردينال لورنسو كورزيني
Lorenzo Corsini
بإهداء الكتاب له، وقد وعده الكاردينال - كما جرت العادة في ذلك الوقت - بتحمل نفقات الطباعة والنشر.
وبينما كان فيكو مشغولا بإتمام كتابه تلقى دعوة من أحد نبلاء البندقية بورشيا
3
لكتابة سيرته الذاتية، رفض فيكو في البداية عدة مرات إلا أنه وافق بعد إلحاح، وبعد أن انتهى من إعداد كتابه «العلم الجديد في صورته السلبية» في 15 يوليو 1725م وفي انتظار أن يفي الكاردينال بوعده كتب الجزء الأول من سيرته الذاتية، ولكن سوء الحظ الذي لازم فيكو كظله صفعه مرة أخرى بتخلي الكاردينال عن وعده بتحمل نفقات الطباعة والنشر. وقد كانت صفعة تعادل ضربة القدر عندما أخفق في الفوز بمنصب كرسي القانون المدني قبل ذلك التاريخ بعامين.
واهتدى فيكو - أثناء تعثر الطبع والبحث عن ناشر - إلى أن الكتاب بمنهجه السلبي خطأ وأنه لو أعيدت كتابته على أساس منهج إيجابي لاختصره لربع حجمه ولحقق بذلك كسبا عظيما. وآمن فيكو أن إخلاف الكاردينال لوعده كان بتدبير من العناية الإلهية مرة أخرى حتى يصدر الكتاب في صورة أفضل. وعكف على إعادة صياغة الكتاب طوال شهري أغسطس وسبتمبر فكانت الطبعة الأولى بعنوان «مبادئ العلم الجديد الخاص بالطبيعة المشتركة بين الأمم والذي يسمح باكتشاف مبادئ نسق آخر للقانون الطبيعي للشعوب».
4
واجتهد فيكو أن يصدر الكتاب بإمكانياته المتواضعة في أكتوبر عام 1725م ومعه إهداء لنفس الكاردينال الذي نكث عهده معه من قبل. وأرسل له نسخة من الكتاب مع خطاب رقيق يقول له فيه: «كنت أود أن أرسل لسموك نسخة في طباعة أفخم وتغليف أفخر وحروف أوضح ولكن ضعف إمكانياتي لم يسمح لي إلا بهذا.»
5
بيد أن الكاردينال أهمل الكتاب ولم يقرأه بل أعطاه للماركيز كابوني
Capponi . وبعد موت هذا الأخير ظل الكتاب مع بقية مخلفات الماركيز في مكتبة الفاتيكان حتى اليوم.
وفي ديسمبر عام 1725م وبعد نشر الطبعة الأولى من العلم الجديد كتب فيكو الجزء الثاني من سيرته الذاتية، وهي سيرة طريفة يروي فيها تفاصيل مشوقة عن مراحل تطوره العقلي والجهود المضنية التي بذلها لإخراج كتابه العظيم «العلم الجديد». غير أن هذا العمل المبدع لم يلق من أبناء عصره إلا التجاهل والجحود، وقد عبر فيكو عن ذلك في رسالة له لأحد أصدقائه الرهبان شرح له فيها كيف أن كتابه لم يجد صدى في مدينته ومسقط رأسه التي وصفها بالتبلد ، وأن من أهدى إليهم كتابه لم يترك لديهم أثرا ولا أدنى استحسان، وكأن الكتاب قد سقط في صحراء قاحلة. ويذكر فيكو في رسالته أن كل أعماله السابقة كان لها غايات محددة؛ وهي شغل أحد الكراسي بالجامعة، ولكن هذه الأخيرة اعتبرته غير كفء مما جعله يعكف على عمله الجديد وهو الكتاب الوحيد الذي تمنى أن يبقى بعد موته. وقد أثبت التاريخ صدق حدسه، وعبر في رسالته أيضا عما لقيه في حياته من سوء الحظ وطعنات الحقد وفساد الحياة الثقافية في عصره، ولكنه بعد أن أتم كتابه شعر أن العناية الإلهية كانت رحيمة به، وأنها قد توجت آلامه بتاج العلم الجديد مما جعله ينسى كل ما صادفه من عذاب وبؤس وفقر وشقاء، فكتب يقول: «أمدني هذا الكتاب بروح بطولية حتى إنني لم أخش المنافسين بل لم أعد أخشى الموت نفسه.»
ولم يمر يوم 10 مارس من عام 1728م إلا وأرسل فيكو الجزء الثاني من سيرته الذاتية لبورشيا مع تصحيح وإضافات للجزء الأول، هذه السيرة التي لم تكن من قبيل السير الذاتية الأدبية بل تميزت بطابع تعليمي يجعلها قدوة لطلاب المدارس وناشئة الباحثين. وفي العام نفسه طلب منه الناشر إعادة طبع «العلم الجديد» في البندقية طبعة جديدة تكون أحسن حظا في الطباعة والتغليف وبحروف أوضح مع كتابة شروح ومقدمة للكتاب تلقي الضوء على فكرته،
6
واعتكف فيكو ما يقرب من عام ونصف العام لإضافة تعليقات وهوامش للنص الأصلي وأرسل إليه المخطوطة في أكتوبر عام 1729م، ولكنه اختلف مع الناشر على ما وصفه الأخير بأنه تكرار غير مترابط للكتاب وإسهاب في التفاصيل فضلا عن صعوبة فهمه، مما دعا فيكو إلى استعادة مخطوطته فكان هذا آخر عهده بالناشرين في البندقية. وبذلك واجه ما واجهه من قبل عندما أخلف الكاردينال وعده، في الوقت الذي كان يعاني فيه من جحود النقاد وهجومهم على العلم الجديد واعتلال صحته بجانب المتاعب التي واجهته في بيته؛ فقد كان له أربعة أبناء لويزا الابنة الكبرى وكانت شاعرة مرهفة الحس، والابن الثاني وهو ابن عاق اقترف كل الآثام فكان مصدر شقاء لأبيه الذي بذل ما في وسعه لتقويمه ووضعه على الطريق السليم ولكن ضاعت جهوده هباء، وقضى الابن سنوات طويلة من عمره في السجن بعد أن طاردته الشرطة، ولم يصغ لتوسلات أبيه للعدول عن طريق الضلال إلى أن مات هذا الابن في 1736م، وفي غمرة شقاء الأب بعقوق ابنه الأكبر مرضت ابنته الصغرى مرضا شديدا حفر في نفسه حزنا عميقا؛ لأنه كان شديد التعلق ببنتيه اللتين وجد فيهما عوضا عن ابنه الضال. أضف إلى هذا ما سببه له هذا المرض من إرهاق مادي.
7
أما جنيارو ثالث أبنائه فقد شارك والده اهتماماته الفكرية إلى أن خلفه في إلقاء محاضرات البلاغة في الجامعة. وعلى الرغم من هذه المعاناة تمكن فيكو بعناده المعهود وإيمانه بعلمه الجديد من إعادة صياغة الكتاب بأكمله على أساس خطة جديدة، فكانت الطبعة الثانية التي اختصر فيها العنوان عما كان عليه في الطبعة الأولى فأصبح «مبادئ العلم الجديد الخاص بالطبيعة المشتركة للأمم»،
8
ونشرت هذه الطبعة الثانية في ديسمبر عام 1730م مطبوعة بصورة لم تكن أكثر حظا من سابقتها ولنفس السبب وهو فقر مؤلفها.
في 17 مايو 1730م التحق فيكو بأكاديمية
Assorditi ، وكان قد التحق من قبل عام 1710م بأكاديمية أركاديا
Arcadia
وهي أكاديمية علمية أدبية، وفي عام 1735م التحق بأكاديمية
Oziosi
وفي نفس العام عين مؤرخا ملكيا للملك شارل بوربون الذي غزا نابولي 1734م وجدير بالذكر هنا أن مملكة نابولي تعاقب عليها ثلاثة نظم ملكية في عصر فيكو؛ فقد حكمها نواب ملوك إسبانيا من عام 1509 إلى 1707م ثم حل الحكم النمسوي محل الحكم الإسباني من عام 1707م وحتى غزو شارل بوربون لنابولي 1734م. ويذكر بعض المؤرخين أن الحكم الملكي المستنير ساد في عهد هذا الأخير. وفي عام 1741م بدأ فيكو يعاني من ضعف صحته وذاكرته فتوقف عن دروسه الخصوصية وتوقف أيضا عن إلقاء محاضراته في الجامعة. وتقدم بطلب إلى الملك ليتابع ابنه محاضراته في الجامعة، فخلفه ابنه الثاني جينارو
Gennaro
في الأستاذية.
وتوفر فيكو في آخر سنوات عمره على كتابة إضافات لسيرته الذاتية وأيضا إضافات وتعديلات لكتابه الأساسي «العلم الجديد» وانتهى منها عام 1743م وأرسلها للمطبعة فكانت الطبعة الثالثة عام 1744م، ولكنه توفي في يناير 1744م قبل أن يشهد الطبعة الثالثة لعلمه الجديد الذي كان الهدف الأوحد لحياة مؤلفه فلم تكن السيرة الذاتية مجرد تتبع الخطوات التي أدت به للوصول إلى العلم الجديد وإنما كانت أيضا، كما لاحظ كروتشه، تطبيقا للعلم الجديد على حياة مؤلفه.
وقضى فيكو أيامه الأخيرة معتكفا في بيته هادئا صامتا في أحد الأركان، غير قادر - في أحيان كثيرة - على التمييز بين الأشخاص أو الأشياء، وحين اقتربت النهاية استرد وعيه وتعرف على أولاده الذين التفوا حوله. وحين شعر بقرب النهاية استدعى القسيس ليكون بجانبه في اللحظات الأخيرة، وأخذ يصلي ويتلو مزامير داود إلى أن أسلم الروح في سلام في 20 يناير 1744م. ولقد لاحقه سوء الحظ الذي لازمه في حياته حتى بعد وفاته؛ فقد كانت تقاليد الجامعة الملكية تقضي بأن يصطحب الأساتذة رفات زميلهم الراحل لمثواه الأخير، وعندما حانت ساعة الجنازة حضر زملاؤه الأساتذة وزملاؤه في الأكاديمية وتم نقل الرفات إلى فناء الدار ووضعت عليه علامة الجامعة الملكية، ولكن ما لبث أن دب الخلاف بين زملاء الجامعة وزملاء الأكاديمية؛ إذ رفض أعضاء الأكاديمية أن يحمل أساتذة الجامعة الجثمان وانتهى الخلاف بانسحاب أعضاء الأكاديمية تاركين الجثمان، ولم يستطع أساتذة الجامعة الملكية أن يقوموا بالطقوس الجنائزية بمفردهم فأعيد الجثمان إلى مكانه، وحزن ابنه جينارو حزنا شديدا فقام في اليوم التالي بالاتفاق مع الكاتدرائية على نقل الجثمان إلى مثواه الأخير وتحمل النفقات الزائدة، ودفن فيكو في ركن منزو من الكنيسة وظلت رفاته مجهولة وغير معروفة حتى عام 1689م حين قام ابنه بعمل نقش على قبر والده وسجل في هذا النقش اسم جامباتيستا فيكو أستاذ البلاغة الملكي والمؤرخ الملكي، كم كان رقيقا في حياته عظيما في كتاباته، توفي في 20 يناير عام 1744م عن ستة وسبعين عاما.
9
وقد جمع ابنه جينارو السيرة الذاتية والإضافتين التاليتين لها اللتين لم تنشرا ووجدتا بين أوراقه بعد وفاته عام 1806م وسلمها للماركيز فيلاروزا
Villarosa
الذي تعهد بنشرها وألحق بها هو الآخر بعض الإضافات التي جمعها من بعض الروايات الشفوية وبعض الإشاعات عنه. وأيا كان الرأي في هذه الإضافات فهي تعد المرجع الوحيد عن السنوات الأخيرة من حياة فيكو. (2) بداية التفكير التاريخي في القرن الثامن عشر
يعرف القرن الثامن عشر بأنه عصر التنوير وسيادة فلسفة عقلية تجريبية تتخذ من الميتافيزيقا والدين موقفا نقديا حرا، وتهتم بالرياضة والفلك والطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي والجغرافيا والطب، فلسفة تؤمن بالتقدم وتسعى إلى التجديد في كل شيء، تحدوها ثقة مطلقة في العقل ويدور التفكير فيها حول الإنسان؛ ولهذا كان الاهتمام بالتاريخ في هذا القرن مظهرا من مظاهر الاهتمام بالإنسان.
10
وتعد سيطرة النزعة الإنسانية في هذا القرن رد فعل لما ساد أوروبا في العصور الوسطى من سيطرة الكنيسة وقتلها روح الاجتهاد بنظرتها للإنسان كمخلوق ضعيف وتسليمها بعجز العقل البشري وضعف الإرادة الإنسانية مما جعل الإنسان بحاجة إلى عقل أسمى من عقله وإرادة أقوى من إرادته ألا وهما العقل الإلهي والإرادة الإلهية التي تسير التاريخ البشري. كانت إحدى النتائج المترتبة على هذا التفكير، كما يقول كولنجوود
11 (1889-1943م) في كتابه «فكرة التاريخ»، أن المؤرخين زعموا بأن في مقدورهم التنبؤ بالمستقبل وأنهم انصرفوا إلى البحث عن جوهر التاريخ خارج نطاق التاريخ نفسه، وبذلك انصرفوا عن أعمال الإنسان للبحث عن الخطة التي رسمتها المقادير لتوجيه أحداث التاريخ.
هكذا كانت المشكلة الرئيسية التي عرض لها التفكير في ذلك الوقت تتعلق بفلسفة الأديان، فتناولت الصلة بين الله والإنسان، وانتشر التفسير الديني الذي ساد فيه الإيمان على العقل، كما يقول القديس أنسلم (1033-1109م): «أنا لا أعقل لأومن وإنما أومن لأعقل.» وبذلك جعل العقل تابعا للإيمان يسبح بتعاليمه ولا يجد منه مخرجا، ويجعل نفسه حبيس الحدود الدينية.
12
ولما جاء القرن السادس عشر انصرف الفكر إلى وضع أسس العلوم الطبيعية، وكان الموضوع الرئيسي الذي عرضت له الفلسفة هو العلاقة بين العقل الإنساني، بوصفه أداة التفكير، وبين الكون المادي من حوله بوصفه موضوع التفكير؛ ومن ثم جاء التفكير التاريخي - على الرغم من الاهتمام بالماضي والتراث - تفكيرا بدائيا ضعيفا من حيث النقد والتحليل فلم يستهدف الدراسة العلمية الدقيقة للحقائق التاريخية، حتى جاء القرن الثامن عشر فبدأ الاهتمام بدراسة التاريخ على أسس من النقد والتحليل ولم تكن حركة الاستنارة، كما قال كولنجوود،
13
ثورة ضد سلطان الديانة التقليدية فحسب، بل ضد الدين كيفما كان؛ فقد اعتبر فولتير (1694-1778م) نفسه قائد حملة تستهدف القضاء على المسيحية؛ إذ اعتبر أن الدين دالة على كل ما هو رجعي بربري في الحياة الإنسانية. كان هدف عصر التنوير إنهاء العصر الديني في تاريخ الحياة البشرية وبداية عصر جديد متعقل، وكان القرن الثامن عشر بداية التفكير الحر بالقدر الذي سمح بتقديم علوم كثيرة منها العلوم التجريبية والدراسات التاريخية. وإذا كانت فلسفة التاريخ لم تظهر بصورة واضحة إلا في القرن الثامن عشر على يد فيكو، إلا أن هناك بدايات للتفكير التاريخي قبل ذلك ساعدت فيكو بطريقة غير مباشرة على بلورة أفكاره الرئيسية في فلسفة التاريخ، على الرغم من أن هذه البدايات يمكن أن توصف بأنها إرهاصات ساذجة لم تتخذ الشكل العلمي وإن كانت دفعات قوية للاهتمام بالدراسات التاريخية كما في حركة الإصلاح الديني التي تزعمها مارتن لوثر (1483-1546م).
وإذا كانت حركة الإصلاح الديني قد ساعدت، كما ساعد أصحاب النزعة الإنسانية بوجه عام، على إحياء تراث المؤلفين والكتاب القدامى والاقتداء بنماذجهم ونشر مخطوطاتهم وتيسيرها للعلماء والدارسين، فإن حركة الإصلاح المضادة قد اضطرت هي الأخرى إلى محاربة التاريخ بالتاريخ، مما اتضح أثره في تأسيس علوم تاريخية مساعدة كعلم النقوش أو الكتابة القديمة الباليوجرافيا
الإغريقية واللاتينية الذي أسسه كل من مابيلون
Mabillon
ومونتفيكون
Montfaucon ، فنشر مابيلون كتابه عن الوثائق
De re diplomatica
عام 1681م ووضع فيه نظام الوثائق والباليوجرافيا اللاتينية، والباليوجرافيا اللاتينية، وبعدها بأربع سنوات - وكان فيكو يبلغ من العمر سبعة عشر عاما - عكف مابيلون في نابولي على البحث عن الكتب والمخطوطات، وحضر مونتفيكون أيضا لنابولي عام 1698م وصدر كتابه «النقوش الإغريقية»
عام 1708م وقد قدم كلاهما إسهامات في التاريخ الفرنسي وتجاوزت أعمالهما في عصر فيكو كل الأعمال السابقة لها من حيث الدقة والشمول.
14
ولا بد من القول إن كل ما تمخضت عنه حركة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد لم يؤد إلى دراسة التاريخ بالمعنى الحديث ولم يتعد تهيئة الأدوات والمواد المساعدة على دراسته، كما يمكن القول بأن نشأة الدول القومية الأوروبية وحاجتها إلى مؤرخين قد جعلت المؤرخين الإيطاليين يتأثرون بفيلسوف العصر ليبنيز (1646-1716م) فكتب موراتوري
Muratori
الذي كان أمين مكتبة نابولي، تاريخ أسرة إسته
Este
على غرار التاريخ الذي كتبه ليبنتز لأسرة برونشفيك
Brunswick
ولكن ظلت الغاية الأساسية من التاريخ عند ليبنتز مثل الغاية النهائية من الشعر أن يعلمنا الحكمة والفضيلة عن طريق الأمثلة التي يقدمها لنا من خلال التاريخ وأن يعرض الرذيلة في صورة تدعو إلى تجنبها وكراهيتها. ساهم أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة في نشر مؤلفات الكتاب القدامى وبعث التراث الكلاسيكي في البلاغة والأدب والنحو والفلسفة والتاريخ، فاهتموا بنشر كتابات المؤرخين الرومان مثل ليفيوس (59ق.م.-17م) وتاسيتوس (55-120م) لاستخلاص ما فيها من عبرة وقيم تربوية وتعليمية وأخلاقية، وتاريخ بلوتارك (46-190م) الذي يزخر بالشخصيات العظيمة مثل الإسكندر وهانيبال وقيصر، غير أن النزعة الإنسانية قد اقتصرت على النظر للتاريخ نظرة عملية أخلاقية بحيث لم تظهر لديها النظرة العلمية.
ثم كان كتاب بيكون (1561-1626م) «تقدم العلم» بداية الانتقال من الناحية الفلسفية إلى الناحية التاريخية، من النظر إلى العمل، وفيه وجه بيكون الأنظار إلى ضرورة الاهتمام بالتاريخ بجانب الاهتمام بالأخلاق. وبالرغم من قول بيكون: «إن المعارف كالأهرامات قاعدتها التاريخ.» إلا أنه لم ينظر للتاريخ بوصفه مبادئ لفلسفة أخلاقية وتم الانتقال من النظر للتاريخ كمصدر للعظة الأخلاقية والتربوية، واعتباره رصيدا نافعا يستخلص منه القدوة والمثل، إلى الاهتمام بدراسة الوقائع التاريخية نفسها وكيفية دراسة التاريخ دراسة علمية.
15
ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا إن هذا التحول بدأ عند هوبز متأثرا بما وصلت إليه علوم الطبيعة من الدقة والإحكام، فتطور علوم الطبيعة ووصولها إلى اليقين والدقة والإحكام في مناهجها على أيدي رواد العلم الحديث خاصة جاليليو وبعده نيوتن ، جعل المؤرخين يحاولون بالتدريج أن ينظروا إلى عملهم نظرة علمية ويحاولوا أن يصلوا فيه إلى اليقين.
واستمر هذا الانتقال إلى النظرة العلمية للتاريخ عند الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز؛ فقد تحول في بداية حياته عن المناهج المدرسية وتعمق دراسة الكتاب القدامى من إغريق ورومان، وخاصة المؤرخين والشعراء والفلاسفة وبوجه أخص مؤلفات أرسطو في الأخلاق والسياسة، واتجه إلى هوميروس وترجم الإلياذة ، واهتم بقراءة توكيدوديس (460-396ق.م.) الذي اعتبره أهم المؤرخين السياسيين وترجم كتابه عن الحرب الأهلية (البليبونيزيه) بين أثينا وإسبرطة، وكان هوبز عند ترجمته هذا الكتاب لا يزال ينظر للتاريخ من ناحيتيه الأخلاقية والتربوية ويؤكد على أهمية دراسة الماضي بالنسبة للحاضر والمستقبل. ثم عكف هوبز بعد ذلك على دراسة إقليدس (365-300ق.م.) وجاليليو (1564-1642م) وتوصل إلى نظرية في المعرفة قابل فيها بين العلم باعتباره معرفة بالنتائج أو معرفة مشروطة وبين المعرفة المطلقة أو معرفة الوقائع التي يسجلها التاريخ، ولكنه ظل حتى النهاية على رأيه في أن التاريخ ليست له إلا قيمة أخلاقية بل لقد استبعد المعرفة التاريخية من كتابيه «التنين» و«الجسم» ثم انتهى إلى رأي في التاريخ يشبه رأي ديكارت، الذي يحتمل أن يكون قد تأثر به، وهو أن التاريخ مجرد حكايات يمكن أن تساعدنا، كما تساعدنا الأسفار والرحلات، على تكوين أحكامنا والارتقاء بعقولنا وتعريفنا بعادات الأمم الأخرى، ولكن الإمعان في قراءة التاريخ قد يجعل صاحبه يعرف العادات السيئة في الماضي مع جهله كل الجهل بالعادات السائدة في الحاضر، وقد انتهى الأمر عند ديكارت (1596-1650م) إلى التفرقة بين المعرفة العقلية الدقيقة القائمة على أسس رياضية وبين المعرفة التي تقوم على الخبرة البشرية كما نجدها في معرفة اللغات والتاريخ والجغرافيا التي تثقل في رأيه ذاكرة الإنسان بأعباء غير ضرورية وبذلك يكون ديكارت قد تشكك في القيمة العلمية للتاريخ وقلل من شأنه.
والخلاصة أن حركة الإصلاح الديني والإصلاح المضاد ونشأة الدول القومية ساعدت جميعا على دراسة التاريخ كما ساعدت على إحياء البحث التاريخي والاهتمام بالمؤرخين والكتاب القدامى بحيث ظهرت مؤلفات عديدة كانت في الواقع مجاميع تضم ذخيرة من الوثائق والنقوش القديمة، ولكنها لم تكن تاريخا بالمعنى الدقيق، أضف إلى هذا ما ذكرناه من قبل من أن أصحاب النزعة الإنسانية قد شجعوا الإقبال على دراسة التاريخ القديم أو بالأحرى نشر كتب المؤرخين القدامى ولفتوا الأنظار إلى فائدة التاريخ، لكن المؤرخين الذين كتبوا بهذا الأسلوب لم تكن كتاباتهم دقيقة ولم تكن لهم دراية بالوقائع التاريخية، أما نزعة الشك في أصالة الوثائق التاريخية - وهي النزعة التي تأثرت بشك ديكارت - فلم ترق إلى مستوى الشك النقدي أو المنهجي، ولم تحاول أن تضع الفروض التي تختبرها بطريقة صحيحة بحيث انصب اهتمام المؤرخين في تلك الفترة على معرفة ما تم في الماضي لا على معرفة كيف تم وكيف تطور حتى وصل إلى حالته، أي أنه لم يخرج من الرواية التاريخية إلى التفسير والتعليل وبالتالي تفسير حركة التاريخ على أساس فروض ومبادئ تبين وجهته ومساره.
ولعل الكتاب الذي جمع بين هاتين الناحيتين هو كتاب جانونه
عن التاريخ المدني لمملكة نابولي، فكان الكتاب الوحيد الذي قدم تاريخا عاما اهتم فيه بالقوانين والنظم الاجتماعية كما أكد نظريته النقدية، خاصة فيما يتعلق بتاريخ السلطة الكنسية، وقد نشأ فيكو في نفس البيئة الثقافية التي نشأ فيها جانونه فكانت نابولي في ذلك الحين مزدهرة بالثقافة والتفكير الحر والحماس الوطني وانتعشت فيها الفلسفة الأبيقورية والنزعة الذرية. (3) الاتجاهات الفكرية في فلسفة فيكو
هكذا نشأ فيكو في المجتمع الإيطالي في زمن كانت فيه نابولي ملتقى تيارات ثقافية عديدة، فدرس في صباه المذهب الذري والأبيقوري، الذي كانت نابولي في ذلك الحين مركزا له، وتأثر تأثرا كبيرا في بداية حياته بالفلسفة الذرية القديمة عند ديمقريطس وأبيقور ولوكريتوس (94 / 99-51 / 55ق.م.) وخاصة هذا الأخير، يظهر هذا جليا في قصيدته «عواطف يائس» التي كتبها في شبابه المبكر عام 1692م متأثرا بدراساته للوكريتوس وقصيدته الكبرى «طبائع الأشياء» وعبر فيها عن تأثره بشخصية هذا الشاعر الروماني ومزاجه المكتئب، وقرأ الكلاسيكيين أمثال أفلاطون وأرسطو وتاسيتوس. كما توفر كذلك على دراسة مذاهب السابقين لعصر النهضة ورواد النزعة الطبيعية الحديثة (أمثال تيلزيو وبرونو وكامبانيلا) كما أثر عليه المنهج العلمي التجريبي عند جاليلو وبيكون وبويل (1627-1692م) تأثيرا قويا. ولا ننسى أن هذا العصر هو عصر سيادة الفلسفة العقلية لديكارت وهوبز وأن الفكر المسيطر كان فكر ديكارت ومعارضه جاسندي (1592-1655م) اللذين لم يجتمعا إلا على شيء واحد ألا وهو معارضتهما لأرسطو وجالينوس (129-199م) والمدرسيين.
كل هذه التيارات الفكرية مجتمعة كانت هي الفكر السائد في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر، وهي الفترة الزمنية التي عاشها فيكو والتي انتشرت فيها تيارات فلسفية جديدة للإعلاء من شأن العلم وتمجيده، ولم تكن مراكز هذه الدراسات الجديدة في الأديرة أو الجامعات، وإنما كانت في بعض الصالونات الأدبية والأكاديميات التي أسسها رواد النهضة الإيطالية على نمط الأكاديميات العلمية في فرنسا وإنجلترا. واتهم أنصار الفلسفة الجديدة من قبل الكنيسة بالإلحاد وقدم بعضهم لمحاكم التفتيش التي كانت تجثم على الأنفاس في ذلك الوقت. وإذا كان فيكو لم يذكر شيئا عن محاكم التفتيش في سيرته الذاتية رغم نشاطها في نابولي طوال فترة حياته، إلا أن كتاباته لا تفهم إلا من خلال هذه الخلفية القاتمة؛ فقد مزقت المدينة نتيجة الصراع بين المكاتب المقدسة الإسبانية والرومانية التي أخذ الأهالي يقاومونها مطالبين بإبعاد محاكم التفتيش، وقد انعزلت محاكم التفتيش الإسبانية قبل مولد فيكو، ولكن المحاكم البابوية أو الكاثوليكية استمرت طوال حياته وحتى بعد مماته، ثم لم تلبث هذه المحاكم الأسقفية أن لجأت إلى نفس الأسلوب الذي اتبعته محاكم التفتيش.
وفي عام 1688م قدم بعض أصدقاء فيكو المقربين إلى هذه المحاكم بتهمة الزندقة. عاش فيكو إذن فترة الإرهاب الديني والفكري التي تصدت فيها محاكم التفتيش للنهضة الإيطالية وكادت أن تخمد أنفاسها، ولعل هذا - كما يؤكد بعض الباحثين - أن يكون هو سبب لجوء فيكو إلى حجب أفكاره بدلا من توضيحها، واستخدام أسلوب يغلب عليه الغموض ولا سيما في المواضع التي احتاج فيها إلى إخفاء نزعاته الفكرية عن محاكم التفتيش أو الحكام المستبدين الأجانب من ملوك نابولي سواء كانوا من الإسبانيين أو النمسويين، وإذا كان فيكو يزعم في سيرته الذاتية أنه نأى بنفسه عن الفلسفة الجديدة أثناء وجوده في فاتولا من 1686 إلى 1695م، إلا أن الواقع يشهد أنه لم يمض عام حتى حضر إلى نابولي وعاش بالقرب من هذه الفلسفة وعلى صلة بها طوال فترة شبابه، وتمثلت مبادئها في تطوره الفكري وتأثره بالمفكرين القدامى والمحدثين ابتداء من ديمقريطس (460-371ق.م.) وأبيقور (341-270ق.م.) ولوكريتوس حتى ديكارت. وعلى الرغم من انتقاده الشديد للفلسفة الديكارتية إلا أنه ظل ديكارتيا حتى سن الأربعين، وهي السن التي تسجل بداية تبلور أفكاره بوضوح وظهور مبدئه الأصلي. والغريب أن أعظم من نقد ديكارت كان هو نفسه أعظم ديكارتي في إيطاليا. وحتى إذا صدقنا زعمه باعتزال الحياة الثقافية لمدة تسع سنوات في فاتولا، فقد كان متأثرا بديكارت وحياته المتوحدة أثناء إقامته في هولندا؛ إذ قال عن نفسه إنه كتب «المقال في المنهج» بعيدا عن كل أصدقائه معتزلا كأنه يعيش في الصحارى المقفرة.
وفي الفترة بين سنتي 1699 و1706م كان فيكو لا يزال يشارك ديكارت ومالبرانش (1638- 1715م) في ازدرائهما للتاريخ الذي لم يرق في نظرهما إلى مستوى العلم كما عبر عن ذلك في إحدى محاضراته، ولكنه بدأ يتخلص من تأثير ديكارت بعد ذلك بعشر سنوات، بل بدأ يستنكر أحكامه على علم اللغة على الرغم من اعترافه بفضله في تحرير العقول من سلطان أرسطو ومناهج المدرسيين، ويكفي أن نذكر سخريته من ديكارت في هذه العبارة: «لقد أصبحت دراسة اللغات هذه الأيام تعد في نظر الناس شيئا عقيما لا فائدة منه، ويرجع هذا إلى سلطان ديكارت الذي يقول إن من يعرف اللغة اللاتينية لن يعرف أكثر مما كانت تعرفه خادمة شيشرون.»
أخذ فيكو بعد تخلصه من تأثير ديكارت يستعيد في ذهنه عداوته السابقة للتاريخ التي كان متأثرا فيها بديكارت، ويكفي أن نقرأ الفقرة التالية من فصل بعنوان «محاولة عن العلم الجديد» في كتابه «القانون العلمي» عام 1721م لنرى كيف يسخر من إهمال الفلاسفة لعلم اللغة وكيف ينصحهم بالتعمق فيه واستنباط مبادئه الفلسفية: «لقد ظللت طوال حياتي أجد السعادة في استخدام العقل أكثر من استخدام الذاكرة، وكلما ازددت معرفة في علم اللغة ازددت إحساسا بجهلي، وكان يبدو لي في ذلك الحين أن ديكارت ومالبرانش كانا على حق عندما قالا إن التعمق في دراسة اللغة يضر بالفيلسوف ولا يلائمه، ولكنه كان من الواجب على هذين الفيلسوفين المرموقين أن يشجعا الفلاسفة على دراسة علم اللغة وأن يبحثا إمكانية رد هذا العلم لمبادئه الفلسفية.»
16
وإذا كان هذا يدل على شيء فإنما يدل على اقتناعه في تلك الفترة بأن دراسة اللغة شرط لا غنى عنه لدراسة القانون واللاهوت، بل ولتحقيق مجد المسيحية قبل مجد الفلاسفة. أضف إلى هذا أنه بدأ في هذه الفترة يفكر في علمه الجديد الذي سيعتمد على المنهج اللغوي اعتمادا كبيرا في تحليلاته لأصول الكلمات ودلالتها على نشأة الأنظمة الاجتماعية. (4) موقف فيكو من فلسفات عصره (4-1) موقفه من الفلسفة الديكارتية
كانت نقطة الانطلاق في فلسفة فيكو هي نقده لنظرية المعرفة الديكارتية، فقدم نظرية جديدة تعارض بوضوح نظرية المعرفة الديكارتية واحتقار ديكارت للدراسات الإنسانية
Litterae Humanitores
وخصوصا اللغات والتاريخ، وتنم معارضته لديكارت عن معرفة لكتابي «المقال في المنهج» و«قواعد لهداية العقل». وقد كانت بداية ظهور هذه النظرية في الخطبة الافتتاحية التي ألقاها عام 1708م عند توليه منصب التدريس في الجامعة بعنوان «مقارنة المناهج الدراسية القديمة والحديثة» ونشرها عام 1709م في كتابه «مناهج الدراسة في عصرنا»، وكان رأيه أنه إذا كان المحدثون قد أدخلوا إصلاحات كبيرة على العلوم الطبيعية، فقد قللوا من شأن الدراسات التي تقوم على الإرادة الإنسانية مثل اللغات والشعر والبلاغة والتاريخ والتشريع والسياسة، بل حاولوا أن يطبقوا المنهج الرياضي والهندسي على علوم لا تصلح لهما.
ونمت هذه البذور الأولى وتفتحت في شكل نظرية متكاملة للمعرفة أفرد لها كتاب «الحكمة الإيطالية القديمة» (1710م) ومنه انطلق في هجومه على نظرية المعرفة الديكارتية وخاصة نظرتها للتاريخ كمجموعة من الحقائق المضطربة وسلسلة رديئة من الحكايات السخيفة.
هاجم فيكو الأسس الثلاثة التي استند إليها ديكارت؛ أولا: الكوجيتو الديكارتي الشهير الذي يستند إلى الوعي الذاتي كمبدأ أول لليقين؛ فالكوجيتو في رأي فيكو لا يلغي الشك ولا يقدم أساسا للعلم؛ لأن الشاك يكون على يقين كاف من تفكيره ووجوده معا ولكن يقينه هو يقين الشعور البسيط لا يقين العلم، إن الكوجيتو يترك الأمر على هذه الحال، غير أن معيار الحقيقة كما يراه فيكو هو صنعها؛ لأن ما نعرفه ونحن على يقين منه هو ما نفعله؛ فالفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو مبدأ الحقيقة في علم التاريخ، وليست الأفكار الواضحة المتميزة للعقل هي معيار الحقيقة كما رأى ديكارت، وإنما المعيار هو صنع الحقيقة؛ ولهذا فإن الفكرة الواضحة المتميزة لا تصلح لأن تكون معيارا لحقائق أخرى، بل لا تصلح أيضا في رأيه لأن تكون معيارا لحقيقة العقل نفسه؛ لأن العقل عندما يتأمل أو يفهم نفسه لا يصنع نفسه، ولأنه لا يصنع نفسه فهو يجهل الشكل أو الأسلوب الذي يفهم به نفسه. ثانيا: أدلة وجود الله التي تستند إلى وجود معرفة أولية سابقة على التجربة. نقد فيكو كذلك الأدلة العلمية المزعومة على وجود الله، ولعله قد سبق كانط في هجومه على الميتافيزيقا التأملية الدوجماطيقة التي تزعم أنها تثبت وجود الله بأدلة عقلية بحتة، ويكفي أن نقرأ هذه العبارة لفيكو في «الحكمة الإيطالية القديمة»: «إن الذين يحاولون أن يثبتوا وجود الله بصورة قبلية يرتكبون إثم الفضول البعيد عن التقوى والورع؛ لأن من يفعل ذلك يجعل من نفسه إلها يصدر حكمه على الله وبذلك ينكر الوجود الإلهي الذي كان يبحث عنه.» ثالثا: اليقين الرياضي كمعيار للوضوح والبداهة وبالتالي كمعيار للحقيقة، لم يطعن فيكو في صدق المعرفة الرياضية وإنما طعن في نظرية ديكارت للمعرفة بما تضمنته من إنكار ألوان أخرى من المعرفة؛ لذلك طعن في مبدأ ديكارت القائل بأن مقياس صدق المعرفة هو الفكرة الواضحة المتميزة، وزعم أن هذا المقياس إن هو إلا مقياس ذاتي سيكولوجي، فإن ظهر لي أن أفكاري واضحة ففي هذا دليل تصديقي لها. ويرى فيكو أن أية فكرة مهما تكن خطأ قد تكون باعثة على اقتناعنا بها ما دامت واضحة كل الوضوح في حين أنها لا تعدو أن تكون من قبيل الخرافة التي لا أساس لها؛ ولهذا يرى أن ما نحتاج إليه هو قاعدة نستطيع قياسا إليها أن نميز بين ما يمكن معرفته وما لا يمكن.
17
إن الأساس الذي يقوم عليه يقين القضايا الرياضية التي أخذها ديكارت وأتباعه مقياسا للبداهة، ليس في الواقع في البداهة ذاتها بل في أن النظم الرياضية هي نظم صنعها البشر أنفسهم؛ فالحقائق الرياضية تعلو على التناقض لأنها تصورات واصطلاحات تحكمها رموز وقواعد هي من صنع البشر. والرياضة علم ابتكره الإنسان بعقله؛ لذا فإن اليقين الرياضي ليس مسألة بداهة ووضوح كما زعم ديكارت، وإنما هو علم بنائي أو افتراضي وضعه عالم الرياضيات. وقد أدى الأمر بديكارت إلى اعتبار العلوم يقينية بقدر ما تطبق المنهج الرياضي، وأدى هذا بدوره إلى تصور أن العلوم التي لم تقتصر على التجريدات الرياضية وحدها أقل يقينا؛ فالميكانيكا أقل يقينا من الهندسة والحساب، والفيزياء أقل يقينا من الميكانيكا، وعلم النفس والتاريخ أقل يقينا من الفيزياء، وهكذا ...
ويؤكد فيكو أن علم الفيزياء لا يقترب من العلم الحقيقي بتطبيق المنهج الهندسي على طريقة ديكارت، بل باستخدام المنهج التجريبي الذي طبقه كل من فرنسيس بيكون وجاليليو، ويرجع هذا في رأيه إلى أن العالم الذي يقوم بتجربة ما، يخلق الظروف التي يجمع فيها مشاهداته. كان رأي فيكو هذا سابقا لأوانه وغريبا على عصره لأنه يختلف عن الرأي العام السائد حينذاك؛ لذا لم يتنبه أحد لأهمية أفكاره إلا بعد مرور ما يقرب من مائة عام على موته.
هكذا ميز فيكو بدقة بالغة بين الحقيقة التي نحصل عليها من الرياضيات والحقيقة التي تخص العلوم التجريبية كالطبيعة؛ فالطبيعة بالضرورة أقل يقينا من الرياضيات لأن الطبيعة من صنع الله؛ ولهذا فهو وحده القادر على معرفتها معرفة تامة. ويرى الأستاذ إميل برييه في كتابه تاريخ الفلسفة أن الفكرة الواضحة في نظر فيكو هامة بدون شك ولكنها محدودة، وهي تصور خاص بالرياضيات والمفاهيم الذهنية المجردة، ولكنه يعود في موضع آخر فيؤكد أن الوضوح والتميز رذيلة وآفة للعقل البشري أكثر منه فضيلة، وأن الفكرة الواضحة فكرة محدودة وقاصرة، إن إحساسي بالألم على سبيل المثال إدراك لا أعرف شكله ولا حدوده، والإدراك اللامتناهي يشهد على عظمة الطبيعة البشرية، هذا الجانب الغامض اللامتناهي من الطبيعة الذي يدركه كل المؤرخين والشعراء بالحدس والذي يفسر حياة الإنسان الدينية والسياسية والأخلاقية هو موضوع فيكو في كتابه «العلم الجديد في الطبيعة المشتركة للأمم».
18
ويرى كل من
Bergin, Fisch
في مقدمتهما لكتاب فيكو «مناهج الدراسة في عصرنا» أن نقد فيكو للديكارتية ينحصر في النقاط التالية: (1) إنكار قدرة المنهج الذي عرضه ديكارت في المقال على الكشف والاختراع. (2) اتهام هذا المنهج بأنه أحادي الجانب أي أنه يهتم بجانب واحد في الإنسان وهو العقل. (3) تأكيد فيكو أن المنهج التأليفي متفوق على المنهج التحليلي ورفضه أن ترد الفيزياء بل والفسيولوجيا والكونيات إلى الرياضيات، والهدف من هذا كله تأكيد أن الإنسان شخصية متكاملة، وأنه ليس عقلا فحسب بل خيال وانفعال وعاطفة؛ فنقد فيكو لديكارت يقوم على تأكيد البعد التاريخي والاجتماعي للإنسان. ولعل أصالة فيكو تكمن في هذه النقطة، وهذا ما وضحه فيكو في الفصل الخامس من «مناهج الدراسة في عصرنا».
19
وينتهي فيكو من نقده لنظرية المعرفة الديكارتية إلى أن دراسة التاريخ تختلف عن دراسة الرياضيات والطبيعة؛ فالفلسفة الديكارتية تقف عقبة في سبيل البحث التاريخي نظرا لإغفال ديكارت دور التجربة، والقول بفطرية الأفكار الواضحة يعزلنا عن الواقع. فكيف نطبق ذلك على التاريخ؟ هل نتصور أفكارا ثم نزعم أن هكذا كان مجرى التاريخ؟
20
إن فكرة موضوع التاريخ قد تبلورت لأول مرة لدى فيكو في نظرته إلى العملية التاريخية بوصفها عملية تمكن الإنسان من ابتكار النظريات الخاصة باللغة والعادات والقانون والحكومة، أي أنه ينظر إلى التاريخ بوصفه نشأة الجماعات الإنسانية وأنظمتها وتطورها، لقد خلق الإنسان صرح الحياة الاجتماعية من العدم؛ لهذا كانت كل صغيرة أو كبيرة في هذا الصرح عملا من أعمال الإنسان يعرفه العقل على حقيقته حق المعرفة. (4-2) موقف فيكو من أصحاب نظريات القانون الطبيعي
على الرغم من أن فيكو كتب ونشر في القرن الثامن عشر إلا أن طفولته كانت في القرن السابع عشر، هذا القرن الذي تميز بالنزعة العقلية والعلمية وبناء المذاهب الفلسفية الشامخة، وقد ساعدت البيئة الثقافية التي عاش فيها فيكو على إثارة طموحه لإيجاد علم جديد للمجتمع البشري يؤدي لعالم الأمم ما أداه جاليليو ونيوتن لعالم الطبيعة.
وقد اطلع فيكو أثناء كتابته لتاريخ أسرة كارافا
Carafa
على الكتاب المشهور «قانون الحرب والسلام» لجروسيوس ليهيئ نفسه لكتابة التاريخ العالمي الذي دفع لكتابته أثناء تأريخه لهذه الأسرة، ونبهته قراءته لجروسيوس إلى أن الفلسفة وفقه اللغة يجب أن يتحدا ليقيما نسق القانون العالمي، وقاده جروسيوس إلى أصحاب نظريات القانون الطبيعي سيلدن وبافندروف، ثم قاده نقد بافندروف لهوبز إلى الاطلاع على هوبز نفسه، ومن هؤلاء جميعا، جروسيوس وبافندروف وهوبز، أيقن أن مؤسسي المجتمع المدني الأول لم يكونوا فلاسفة ولم تنشأ المجتمعات الأولى من الحكمة الفلسفية العميقة، كما كان يعتقد قديما، ولكن الإنسان الوحشي البعيد عن الحضارة هو الذي دفعته غرائزه الفطرية ورغبته في البقاء وحاجاته ومنافعه الضرورية إلى أن يتطور مع الزمن فيصبح إنسانا اجتماعيا ويضع أول حجر في بناء الحضارة.
تصدى فيكو لنقد نظريات القانون الطبيعي لأن أصحابها في رأيه قد وقعوا في خطأين أساسيين؛ أولا: افتقارهم للحس التاريخي أو الرؤية التاريخية؛ إذ سلموا في مناقشتهم لأصول المجتمع البشري والمؤسسات الاجتماعية بسكون الطبيعة البشرية وجمودها وأنها طبيعة غير متغيرة فكانت مناقشاتهم ضربا من الجدال المجدب انتهى في رأيه إلى تجريدات جوفاء مثل القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي. ثانيا: الخطأ الثاني الذي وقع فيه أصحاب نظريات القانون الطبيعي والنظريات السياسية في القرن السابع عشر هو محاولتهم إسقاط ثقافة عصرهم وتفكيرهم العقلي المنطقي على بدايات المجتمع البشري ففقدوا بذلك المفتاح الأساسي لسيكولوجية الشعوب الأولى وافترضوا أن أولئك البشر كانوا يفكرون مثلهم، كما حاول هؤلاء الفلاسفة تفسير الماضي تفسيرا يتوافق مع مصالح عصرهم وحاضرهم. من هنا كانت أولى مسلمات فيكو في أصول العلم الجديد «أن العقل البشري يجعل من نفسه مقياسا للحكم على الأشياء جميعا كلما ضل في الجهل.» لقد فرض هؤلاء الفلاسفة على مشاعر البدائيين وتفكيرهم أفكارا فلسفية لم تعرفها المجتمعات القديمة، فجاءت مسلمة فيكو الثانية التي تقرر صفة أخرى من صفات العقل البشري وهي حكمه على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه، ولقد ذكر فيكو هاتين المسلمتين في معرض كلامه عن غرور الباحثين، ولعله قصد بذلك أصحاب نظريات القانون الطبيعي والنظريات السياسية في القرن السابع عشر الذين تصوروا البدايات الأولى للبشرية على ضوء حياتهم وثقافة عصرهم المستنير؛ ولهذا وصف فيكو نظرياتهم بأنها «القانون الطبيعي للفلاسفة» وعارضهم «بالقانون الطبيعي للشعوب» ووجد أنه لا مفر من العودة للوراء لقراءة ما بداخل قلوب الشعوب الأولى وعقولها، وكيفية شعورهم وتفكيرهم ونشأتهم نتيجة فترات طويلة من التطور التاريخي. وبهذا يكون قد شق طريقه عائدا من العصر الذي يتسم بالعقل والإنسانية إلى العصور الأولى البربرية التي لم تعرف التفكير العقلي ولا يمكن فهمها إلا بعناء مضن. من هذه الحقيقة الهامة نستطيع أن نتتبع بدايات المجتمع البشري وأصوله كما نستطيع أن نفهم مسلمته الأساسية: «إن كل نظرية يجب أن تبدأ من حيث يبدأ الموضوع الذي تتناوله.» وبذلك تكون مشكلة تكون المجتمع المدني هي مشكلة الأصول التاريخية لهذا المجتمع، وهي نقطة أساسية أخفقت التشريعات الكبرى والنظريات السياسية للقرن السابع عشر في التعرف عليها.
بهذا يكون «القانون الطبيعي للفلاسفة»، وهو الذي تمخض عن التصور والتحليل الفلسفي، قد تحول عند فيكو إلى «القانون الطبيعي للشعوب» الذي ينمو نموا طبيعيا مع نمو المجتمع ويؤكد أن مراحل تطور هذا المجتمع تكون من داخله، وأن «القانون الطبيعي للشعوب» ليس هو حكمة الحكماء أو فلسفة الفلاسفة بل هو الحكمة الشعبية للشعوب نفسها، يقول برييه في كتابه تاريخ الفلسفة: إن النتائج التي توصل إليها فيكو تعارض ما توصل إليه كل من هوبز ولوك اللذين يقولان إن شكل الدولة قد صاغه الحكماء من البشر، فلا يوجد في رأيه حكماء ولا فلاسفة إذا لم توجد دولة أو حضارة. والميزة الكبرى لفيكو أنه يستند على الوثائق الحية
21
فلم يلجأ إلى التنظيمات والتشريعات أو إلى النزعة العقلية لتفسير نشأة المجتمعات الأولى، وإنما اعتمد على التاريخ نفسه وعادات الشعوب، وعصمته عودته إلى التطور التاريخي والاجتماعي للأمم من السقوط في النزعة العقلية واللجوء إلى فكرة العقد الاجتماعي التي كان يتجنبها، ويرى كل من
Bergin, Fisch
في ترجمتهما لسيرة «فيكو الذاتية»، أنه يتابع تطور المجتمع المدني بكل فروعه ودقائقه كما يتعقب تطور العناصر الحضارية الأخرى الموازية له لكي يدعم فكرته الأساسية وهي أن الدولة توجد وجودا طبيعيا وتاريخيا ولا تنشأ بالمواضعة والاتفاق وأن هذا يصدق على الحضارة البشرية في مجموعها.
22
ومن الأمور الأساسية في العلم الجديد أن «القانون الطبيعي للشعوب» نشأ نشأة طبيعية في كل شعب على حدة وعرف فيما بعد نتيجة الحروب والسفارات والأحلاف والتجارة، أي أنه مشترك بين الجنس البشري كله لنشأته من الحس المشترك وعادات الشعوب وتقاليدها، وقد عبر فيكو عن هذا المعنى في مسلمات العلم الجديد تعبيرا واضحا، ويكفي أن نقرأ المسلمات التالية لنتأكد من هذا «ولما كانت حرية الإنسان بطبيعتها غامضة وغير محددة فإن الذي يؤكدها ويحددها هو الإحساس المشترك بين الناس بحاجاتهم ومصالحهم وهما المنبعان الأساسيان للقانون الطبيعي للشعوب.» «إن الحس المشترك هو حكم بغير تفكير يشترك فيه أفراد طبقة كاملة أو شعب بأسره أو أمة أو الجنس البشري كله.» «إن نشأة الأفكار المتشابهة عند شعوب مختلفة لا يعرف بعضها بعضا لا بد أن يكون لها أساس مشترك من الحقيقة.»
والواقع، كما سنرى، أن القانون الطبيعي للشعوب قد نشأ بطريقة أولية وبدائية في كل الشعوب مع جهل كل منها بالآخر، كما عرف فيما بعد نتيجة للحروب والسفارات والأحلاف والتجارة وظهر أن له أساسا مشتركا في الجنس البشري بأكمله؛
23
لهذا اهتم فيكو بوضع نظام علم جديد يتعلق بطبيعة الشعوب ويختلف عن القانون الطبيعي لفلاسفة القرن السابع عشر، ويكفي أن نقف قليلا عند عنوان كتابه «مبادئ العلم الجديد المتعلق بالطبيعة المشتركة للشعوب»
the Common Nature of Nations
لنعلم أن المقصود بهذه الطبيعة هو ميلاد ونشأة الشعوب، فكلمة
Nature
يستعملها فيكو بدلالتها الأصلية في اللغة اللاتينية على معنى الميلاد والنشوء، وهي طبيعة تبدأ في كل الأحوال بالعقيدة ثم تكمل بألوان أخرى من العلوم والفنون المعرفة. وإذا كان فيكو قد اختصر العنوان في طبعتيه الثانية والثالثة فإنه لم يتخل عن الموضوع نفسه وهو نظام القانون الطبيعي لنشأة الأمم عبر مراحل تطورها. وهذه النظرة الجديدة للتاريخ قد أبعدته بغير شك عن التفسير اللاهوتي الخالص للتاريخ كما نراه عند أوغسطين وبوسويه، وجعلته يستعين بعلوم أخرى مساعدة مثل الأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع وعلم الميثولوجيا المقارن وعلم القانون المقارن. ويرى
Bergin, Fisch
أن الاستعانة بكل هذه العلوم لمعالجة فلسفة التاريخ يعد اكتشافا عظيما لو حاولنا أن نرمز له برجل واحد وكتاب واحد لكان هذا الرجل هو فيكو وكان الكتاب هو «العلم الجديد» أما عن عنوان الكتاب نفسه فيحتمل أن يكون فيكو قد استوحاه من «الأورجانون الجديد» لفرنسيس بيكون الذي كان له أكبر الأثر عليه، كما يرجح أيضا أن يكون قد استوحاه من عنوان كتاب «محاورات عن العلوم الجديدة» لجاليليو.
ولعل من العوامل التي ساهمت أيضا في نشأة العلم الجديد عند فيكو؛ اطلاعه في شبابه على الكتاب الخامس من طبائع الأشياء للوكريتوس الذي عرف من خلاله كيف عاش الإنسان الوحشي البدائي بغريزته فقط، وكيف كان الإنسان الأول يعيش في كهوف بعيدا عن العقيدة واللغة والقانون ويتناول طعامه من ثمار الأشجار والفواكه ويصطاد الوحوش بالأحجار ويجامع النساء في العراء، وكيف عرف النار لأول مرة من احتكاك الأشجار في العاصفة واستخدامها في طهي طعامه، ثم كيف تأسست المدن والقلاع ونشأ أصل القوانين وأصل العقيدة من الخوف عندما أرعدت السماء وأبرقت.
وقد استفاد فيكو كذلك من آراء شيشرون وأرسطو وأفلاطون في تنظيم المجتمع البشري ولم يعبأ بالفلسفة الأخلاقية عند الأبيقوريين والرواقيين لأنها فلسفات بشر متوحدين، كما نفر من ميتافيزيقا أرسطو واتجه إلى المثل الخالدة عند أفلاطون وتأثر بفلسفته الأخلاقية التي تقوم على مثل الفضيلة والعدالة؛ ولهذا بدأ فيكو يفكر في نظام اجتماعي مثالي يحقق عدالة مثالية، وأشرقت في ذهنه الفكرة الأساسية التي استحوذت عليه وهي فكرة قانون أبدي مثالي يراعى في مجتمع مثالي في ظل العناية الإلهية.
وقد عرف فيكو أيضا عن طريق قراءته لكل من فرنسيس بيكون ولوكريتوس كيف كان الأصل في الحديث هو الإيماءات التي تعبر عن الكلمات، وكيف نشأت الكتابة بالرموز أو الكتابة الهيروغليفية قبل اختراع الحروف الهجائية، واجتمعت كل هذه الخيوط في ذهن فيكو وتبلورت الفكرة الكاملة للعلم الجديد الذي يعد اكتشافا هاما في فترة زمنية لم تتوافر فيها الدراسات العلمية للتاريخ ولا المادة التاريخية الغزيرة ولم يدون التاريخ العالمي وبالرغم من ذلك استطاع أن ينجز شيئين هامين؛ أولهما: أنه أحسن الاستفادة من التقدم الذي طرأ على منهج البحث التحليلي النقدي الذي جاء ثمرة لجهود مؤرخي القرن السابع عشر، ثم تقدم بهذا الأسلوب التحليلي مرحلة أخرى أثبت فيها كيف أن الفكر التاريخي يمكن أن يكون إنشائيا إلى جانب النقد والتحليل، ثم فصل بينه وبين الاعتماد على المصادر المكتوبة محتفظا له بطابعه الأصيل الذي يستطيع عن طريق التحليل العلمي للمادة المكتوبة أن يكشف عن حقائق أتى عليها النسيان؛ ثانيهما: تطويره للأسس الفلسفية المتضمنة في تصويره للأحداث التاريخية إلى الحد الذي يستطيع عنده أن يقوم بهجوم مضاد على الأسس العلمية والفلسفية لمدرسة ديكارت والمطالبة بأساس أعمق وأوسع مدى لنظرية المعرفة منتقدا ما اتسمت به العقيدة الفلسفية القائمة وقتئذ من ضيق وتفكير نظري مجرد.
24
هكذا نكون قد ألممنا إلمامة سريعة بالظروف التاريخية والعوامل الثقافية التي مهدت لاكتشاف مبادئ العلم الجديد الذي يعد البداية الحقيقية لنشأة علم التاريخ على أساس وطيد من التطور الاجتماعي للإنسان، ويبقى علينا الآن أن ننظر في مبادئ هذا العلم الجديد نفسه والأصول والمسلمات التي يقوم عليها.
الفصل الثاني
أصول ومبادئ العلم الجديد
(1) الأصول
تتركز فلسفة فيكو في أهم مؤلفاته «العلم الجديد»، ويتناول القسم الأول منه الجانب النظري من العلم الجديد ويتضمن ثلاثة موضوعات رئيسية: الأصول والمبادئ ثم المنهج، وقد يخلط المرء بين الأصول والمبادئ لاقتراب اللفظين في المعنى، ولكن الواقع أن الأصول تحوي مجموعة من المسلمات أو البديهيات يلتزم بها الباحث أو يفترضها عند دراسته تاريخ تطور الشعوب بصفة عامة والقديمة منها بصفة خاصة؛ فهي القواعد التي يجب أن يقوم عليها هيكل البناء التاريخي.
أما المبادئ فهي التي اكتشفها العلم الجديد في كل المجتمعات البشرية وتتمثل - كما سنوضح في الجزء الخاص بها - في ثلاثة: الدين، الزواج، دفن الموتى. وأما عن المنهج فقد حدد فيكو منهج علم التاريخ بالنسبة لمناهج العلوم الأخرى كالرياضيات والعلوم الطبيعية لاختلافه عن كل منهما وإن لم يكن التاريخ بعيدا كل البعد عن العلوم الطبيعية؛ لذا كان المنهج الذي سار عليه هو المنهج الاستقرائي الذي سنتحدث عنه بالتفصيل فيما بعد؛ إذ حاول - كما أشرنا في الفصل السابق - أن يقوم في التاريخ بدور بيكون في العلوم الطبيعية، وحاول أن يدرس عالم الأمم من خلال البديهيات أو المسلمات التي تتألف منها هذه الأصول وابتداء من تلك المبادئ وباستخدام هذا المنهج ليقيم صرح البناء التاريخي.
لقد حاول فيكو وضع أصول للعلم الجديد، متشبها من الناحية الشكلية بطريقة إقليدس في وضع أصول علم الهندسة، وقدم مجموعة من المسلمات الفلسفية واللغوية يبلغ عددها مائة وأربع عشرة مسلمة تنطوي على مجموعة من المصادرات والتعريفات، وتتعدد موضوعات هذه المسلمات وتتشعب وتتسم بالتكرار وتتداخل وتتشابك أحيانا ويشوبها الغموض أحيانا أخرى، وربما كان هذا الغموض سببا من أسباب عدم فهم فيكو في عصره وإغفاله فترة زمنية طويلة بعد ذلك. وإذا كان قد تم اكتشافه في القرن التاسع عشر، فإن الاهتمام الحقيقي به لم يبدأ بصورة علمية جادة إلا في القرن العشرين. ونظرا لتكرار المسلمات وتعدد موضوعاتها وتشابكها سنحاول تصنيفها في مجموعات رئيسية تبعا للموضوعات، كما سنحاول وضع عناوين مناسبة لها، والتزاما بالأمانة العلمية سنقدم مسلمات هذه الأصول كما وردت في النص الأصلي وبنفس أرقامها - وإن لم يكن بنفس الترتيب إذ اقتضى الأمر في مواضع قليلة بعض التغيير في ترتيب المسلمات - ثم نقوم بالتعليق عليها في الفصول التالية التي تعد تطبيقا لها، وعلى الرغم من كثرة المسلمات وتنوعها إلا أنها تتناول بعض الأفكار الرئيسية الهامة التي يكاد فيكو أن يؤكدها في كل سطر من سطور مؤلفه، وهي الأفكار التي تدور حولها فلسفته بأكملها، أهم هذه الأفكار أن الإنسان هو صانع تاريخه وأنه لا يستطيع أن يعرف إلا ما يصنعه بنفسه، وهذه هي الفكرة الرئيسية التي تقوم عليها نظرية المعرفة عنده، وتقابل هذه الفكرة فكرة أخرى رئيسية لا تقل عنها أهمية وهي فكرة العناية الإلهية التي وجهت البشر بطريقة غير مباشرة؛ فالعلم الجديد يدرس الطبيعة البشرية المشتركة للأمم في ضوء العناية الإلهية، ويكشف عن أصول التنظيمات الدينية وغير الدينية بين الأمم الأممية، وقد كانت البداية التاريخية بداية شعرية؛ فالأشعار والأساطير كانت سجلا مدنيا لتاريخ الأمم والشعوب، والعلم الجديد يدرس تاريخ الأفكار البشرية ليجد في النهاية أن هناك تاريخا مثاليا أبديا مرت به كل الشعوب - كل على حدة - في مرحلة نشأتها ونموها وتطورها ونضوجها ثم تدهورها وسقوطها.
تأثر فيكو تأثرا كبيرا بما قال به المصريون القدماء من وجود ثلاث مراحل للتاريخ هي المرحلة الإلهية وما تتميز به من لغة سرية مقدسة؛ والمرحلة البطولية وما تتميز به من لغة رمزية؛ والمرحلة البشرية وما تتميز به من لغة شعبية وهي لغة الرسائل. أضف إلى هذا اهتمامه بالاشتقاقات اللغوية - وليس هذا بغريب عليه وهو عالم اللغويات - وكيف تطورت اللغات إلى لهجات وتطور الشعر إلى النثر، وكانت المراحل التي مر بها هذا التطور هي الشواهد التاريخية على عادات العصور الأولى، كانت هذه هي أهم الأفكار الرئيسية التي تناولها فيكو في مسلمات علمه الجديد وإن لم تكن كل أفكاره؛ لأننا سنتعرض لها بالتفصيل في سياق هذا الفصل. ولنبدأ حديثنا عن الأصول بمجموعة المسلمات التي تتعلق بمعوقات البحث التاريخي في رأي فيكو، وتتناول الأوهام والأخطاء التي وقعت فيها الشعوب كما وقع فيها الباحثون وأصبح من الضروري التخلص منها. (1-1) أوهام الشعوب والباحثين
تأثر فيكو ببيكون فيما ذكره في الجزء الأول من كتابه «الأورجانون الجديد» عن أوهام الفكر، فاعتبر أن المؤرخين عرضة لأوهام مماثلة حصرها في أربعة وانتقد فيها الآراء القديمة عن مبادئ التاريخ البشري، وهذه الأوهام أو الأخطاء وقعت فيها أمم كاملة كما وقع فيها العلماء والباحثون؛ إذ تصوروا البدايات الأولى للبشرية على ضوء حياتهم وثقافتهم وعصرهم المستنير، وكان من الطبيعي أن يقع كلاهما في الخطأ والوهم، وفي هذا المعنى قدم المسلمات التالية في خصائص العقل البشري وهي المسلمات التي ترتب عليها وقوع كل من الشعوب والباحثين في الخطأ: «العقل الإنساني يجعل من نفسه مقياسا للحكم على الأشياء جميعا كلما ضل في الجهل» (مسلمة 1). «حكم العقل البشري على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه» (مسلمة 2). «وقعت الأمم في الخطأ عندما تصور كل منها - كما يقول المؤرخ ديدروس الصقلي - أن تاريخ العالم بدأ مع بداية تاريخ شعبه وأمته، وأنها سبقت جميع الأمم في اكتشاف أسباب الراحة والترف للإنسان» (مسلمة 3). «وقع الباحثون في نفس الخطأ عندما بالغوا في تصوير الحكمة الفذة لبعض الشعوب القديمة»
1 (مسلمة 4).
وقد وقع - على حد زعم فيكو - كل من الكلدانيين والسكيثيين والمصريين والصينيين في هذا الوهم، ولا يستثنى من ذلك غير الشعب اليهودي لأنه شعب منقطع الصلة بالشعوب الأخرى؛ فالتاريخ العبري، كما يقول التاريخ المقدس، أحدث عهدا من التاريخ القديم، وقد استثنى فيكو التاريخ المقدس من دائرة علمه الجديد، وربما لجأ إلى هذا تجنبا لمشاكل كثيرة كان من الممكن أن يتعرض لها لو طرح التاريخ المقدس على مائدة النقد التاريخي، وهنا يجب ألا نتجاهل الظروف التي عاش فيها؛ فقد كان عصره هو عصر محاكم التفتيش والاستبداد الديني.
وقع الباحثون أيضا في نفس الخطأ عندما ضخموا أقوال زرادشت وحكمة هرمس مثلث الحكمة، والأشعار الأورفية المنسوبة لأورفيوس، والأبيات الذهبية المنسوبة لفيثاغورس وبالغوا في قيمتها أكثر مما تستحق، ويصدق هذا أيضا على محاولة العلماء استكناه الأسرار الصوفية في اللغة الهيروغليفية القديمة واستخراج الرموز الفلسفية من الأساطير اليونانية. (1-2) الفلسفة وفقه اللغة
يؤكد فيكو على وظيفة الفلسفة ورسالتها في خدمة الجنس البشري، وهنا يظهر تأثره بمثالية أفلاطون؛ إذ سمح للفلاسفة السياسيين وخصوصا الأفلاطونيين بالانضمام إلى مدرسة علمه الجديد، ويرجع ذلك في رأيه إلى أمور ثلاثة: اعترافهم بالعناية الإلهية، الاعتدال في الانفعالات البشرية والإيمان بخلود الروح وهي - كما سنرى فيما بعد - المبادئ الثلاثة للعلم الجديد. وعلى هذا استبعد فيكو الرواقيين لأنهم يميتون الجسد ويحاربون اللذة، كما استبعد الأبيقوريين لأنهم يعتبرون الإحساس هو المعيار، وكلا الاتجاهين في رأيه خاطئ لأن الرواقيين ربطوا أنفسهم بأغلال القدر، كما أن الأبيقوريين تركوا أنفسهم للمصادفة وزعموا أن الروح الإنسانية تموت مع الجسد. نعود إلى الفلسفة والدور الهام الذي تقوم به لتوجيه الشعوب لما هو أفضل فنجد المسلمات التالية: «يجب أن تساهم الفلسفة في الأخذ بيد الإنسان وتوجيهه عندما يضعف ويسقط» (مسلمة 5). «تنظر الفلسفة إلى الإنسان باعتبار ما ينبغي أن يكون عليه؛ بحيث تنفع القلة الضئيلة من الناس، وهم أولئك الذين يتمنون أن يعيشوا في جمهورية أفلاطون» (مسلمة 6).
ويضع فيكو التشريع في مقابل الفلسفة. فإذا كانت الفلسفة تنظر إلى الإنسان كما ينبغي أن يكون، فإن التشريع ينظر إلى الإنسان كما هو كائن في الواقع ويحول رذائله إلى فضائل. إن التشريع يصنع السعادة المدنية من الرذائل التي كان يمكن أن تدمر الجنس البشري؛ فالإنسان قادر على أن يحول غرائزه وانفعالاته الطبيعية إلى فضائل اجتماعية لأنه يملك حرية الاختيار، كما يتضح من المسلمة الآتية: «ينظر التشريع للإنسان في واقعه بحيث يصبح نافعا للمجتمع البشري، وهو يحول القسوة والبخل والجشع، وهي الرذائل الثلاث التي تدفع الجنس البشري بأسره، إلى فضائل تقوم عليها الطبقات العسكرية والتجارية والحاكمة، وبهذا يدعم قوة المجتمعات وثرواتها وحكمتها»
2 (مسلمة 7).
ويميز فيكو بين الوعي أو الضمير وبين العلم أو المعرفة؛ فالأول يطلب اليقين المؤكد ووسيلته في البحث عنه هي فقه اللغة، والثاني يطلب الحق ووسيلته الفلسفة، والعلم الجديد يجمع بين الفلسفة وفقه اللغة ويطلب تضامن علماء اللغة والفلاسفة لتحقيقه. ومفهوم علم اللغة لا يقتصر على مفهوم علماء اللغة والنحو وإنما يتسع للمؤرخين والنقاد الذين عكفوا على دراسة لغات الناس وأعمالهم سواء في ملاحظة عاداتهم وشرائعهم التي يتبعونها في بلادهم، أو في حروبهم وسلامهم وأحلافهم وتجارتهم وأسفارهم إلى الخارج.
ويؤكد فيكو أنه إذا كان الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة فإنهم لم يدركوا إلا نصف هذه الحقيقة لأنهم أهملوا الرجوع إلى بحوث علماء اللغة، وعلماء اللغة بدورهم لم يبلغوا إلا نصف اليقين لأنهم لم يلجئوا إلى تأملات الفلاسفة ليضفوا مسحة الحقيقة على بحوثهم الواقعية، ولو أنهم فعلوا ذلك لكانوا أكثر نفعا لمجتمعاتهم ولسبقوا فيكو نفسه في تصور العلم الجديد، والمسلمات الآتية تعبر عن أفكاره عن المعرفة الإنسانية: «إن الذين لا يستطيعون التوصل للحقيقة يحرصون على البحث عن اليقين في الواقع، فكلما عجزوا عن إشباع عقولهم بالمعرفة والعلم اتجهت إرادتهم على أقل تقدير إلى الوعي بكل ما هو يقيني مباشر من أحداث وعادات وقوانين ومؤسسات اجتماعية» (مسلمة 9). «الفلسفة تتأمل العقل لمعرفة الحقيقة، أما علم اللغة فيرتكز على الوعي باليقين، وهو الوعي الذي يأتي من الاختيار الحر للإنسان» (مسلمة 10).
ويرى فيكو أن ما يؤكد حرية الإنسان هو إحساس البشر بمصالحهم، وهذا الإحساس مشترك بين الجنس البشري كله: «لما كانت حرية الإنسان بطبيعتها غامضة وغير محددة، فإن الذي يؤكدها ويحددها هو الإحساس المشترك بين الناس بحاجاتهم ومصالحهم، وهما المنبعان الأساسيان للقانون الطبيعي للشعوب» (مسلمة 11). «إن الحس العام أو المشترك هو حكم بغير تفكير يشترك فيه أفراد طبقة كاملة أو شعب بأسره أو أمة أو الجنس البشري كله»
3 (مسلمة 12). (1-3) القانون الطبيعي للشعوب
يؤكد فيكو نشأة الحس المشترك للجنس البشري كمعيار علمته العناية الإلهية للشعوب ليحدد اليقين في قانونها الطبيعي، وتصل الشعوب لهذا اليقين بالتعرف على وجوه الاتفاق الأساسية التي تتضمن فيما بينها - بالرغم من اختلافها في التفاصيل - احترام هذا القانون، ويحسم فيكو الجدل القديم بين أصحاب القانون الطبيعي والقائلين بأن القانون اجتماعي؛ فالقانون الطبيعي للشعوب نشأ عن العرف أو العادة ولم يفرض بالقانون، ومحافظة الشعوب على عاداتها أعطى هذه العادات شكل القوانين؛ لأنه ليس هناك شيء أحب إلى البشر من الاعتزاز بعاداتهم. وفي هذا الشأن يستشهد فيكو بعبارة «لديو كاسيوس» تقول: «إن العادة تشبه الملك، والقانون يشبه الطاغية» (مسلمة 104)؛ فالشعوب بطبيعتها ترفض القانون الذي يفرضه الطاغية أو أية قوة خارجية، ولكنها بطبيعة الحال تحتفظ بالقانون الذي فرضته على نفسها؛ لذا كان القانون الطبيعي للشعوب هو قانون فرضته الشعوب على نفسها من خلال عاداتها وتقاليدها وأعرافها.
والطبيعة البشرية التي نشأت عنها هذه الأعراف طبيعة اجتماعية، وبهذا حسم فيكو الخلاف بين القائلين بأن القانون كائن في الطبيعة أي طبيعي، وبين القائلين بأنه كائن في العادات الاجتماعية، وعبر عن هذا بالمسلمة التالية: «إن الجنس البشري كان منذ بدايته الأولى يحيا حياة اجتماعية؛ فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته» (مسلمة 8).
ويرى فيكو أنه لكي نتناول مذهبا أو نظرية بالدراسة يجب أن نتتبع البداية الأولى لنشأتها كما يقول في مسلمته: «يجب أن تبدأ المذاهب والنظريات من حيث تبدأ الموضوعات التي تتناولها» (مسلمة 106).
فالقانون الطبيعي للشعوب نشأ بطريقة طبيعية وبدائية لدى كل الشعوب مع جهل كل منها بالآخر، وعرف القانون الطبيعي فيما بعد نتيجة للحروب والسفارات والأحلاف والتجارة، كما عرف أن له أساسا مشتركا في الجنس البشري بأكمله، كما تقول هذه المسلمات: «إن نشأة الأفكار المتشابهة عند شعوب مختلفة لا يعرف بعضها بعضا، لا بد أن يكون لها أساس مشترك من الحقيقة» (مسلمة 13). «تنشأ التنظيمات الاجتماعية نشأة طبيعية فطرية مع البشر رغم أنها تختلف أحيانا في التفاصيل طبقا للزمان والظروف» (مسلمة 14). «ترجع طبيعة التنظيمات الاجتماعية وخصائصها إلى أسلوب نشأتها ومولدها وزمن هذه النشأة وظروفها»
4 (مسلمة 15).
ويستبعد فيكو كل الأفكار القديمة المتعلقة بالقانون الطبيعي، والتي جعلت أصحابها يعتقدون أنه انطلق من إحدى الأمم الأولى ثم انتقل إلى الأمم الأخرى، هذا الخطأ وقع فيه المصريون القدماء والإغريق في ادعائهم - على حد قوله - أنهم نشروا الحضارة في العالم، وكان نتيجة هذا الخطأ أن أطلق الخيال عنانه بالقول إن قانون الألواح الاثني عشر انتقل إلى روما من اليونان، ولو كان الأمر كذلك لكان هذا القانون مدنيا ووصل للشعوب الأخرى عن طريق الاتفاقيات البشرية، ولم يكن قانونا طبيعيا ينظم بواسطة العناية الإلهية في كل الشعوب على حدة مع عادات البشر أنفسهم: «القانون الطبيعي للأمم يسير جنبا إلى جنب مع عادات الشعوب وتقاليدها بدون أن تتخذ أي أمة أمة أخرى نموذجا لها ودون أي عمد أو تفكير طبقا للحس المشترك بين البشر» (مسلمة 105).
بذلك يعارض فيكو القانون الطبيعي لفلاسفة القرن السابع عشر - كما أشرنا في الفصل السابق - بالقانون الطبيعي للشعوب، ويرى فيكو أن من هذه الطبيعة المشتركة للأمم ينبع قاموس عقلي مشترك بين كل الأمم ممثلا في التراث الشعبي، فاللغات الشعبية - قبل تطورها - شاهد حي على عادات الشعوب الأولى، واللغات وحدها - وخاصة الشعر - قد حفظت عادات الشعوب الأولى وتقاليدها، مثلما حفظت أشعار هوميروس عادات وتقاليد الشعب الإغريقي، وحفظ قانون الألواح الاثني عشر عادات وتقاليد الشعب الروماني؛ فالتراث الشعبي له الفضل في حفظ التاريخ مثلما حفظ التاريخ البطولي لروما، ويؤكد فيكو أن دراسة الحكم والأمثال الشعبية لدى الشعوب الأولى قد أثبتت أن للتراث الشعبي أساسا مشتركا لدى كل الشعوب المبكرة، وفي هذا الصدد يقدم فيكو هذه المسلمات: «الإرث الشعبي له أسس مشتركة بفضلها ظهرت التقاليد للوجود واحتفظت بها شعوب كاملة لفترات طويلة من الزمن» (مسلمة 16). «ينبغي أن تكون اللغات الشعبية شواهد عظيمة الشأن عن العادات القديمة التي كانت تمارسها الشعوب في الوقت الذي نشأت فيه هذه اللغات» (مسلمة 17). «إن لغة أمة قديمة حافظت على نفسها كلغة سائدة قبل أن تتطور ينبغي أن تكون شاهدا كبيرا على عادات العصور الأولى» (مسلمة 18). «لو لم يكن قانون الألواح الاثني عشر هو سجل عادات الشعوب اللاتينية لما دونوها في ألواح برونزية ولما اهتموا بها كل هذا الاهتمام الديني وحفظه التشريع الروماني، هذا القانون دليل على القانون الطبيعي للشعوب اللاتينية» (مسلمة 19). «إذا سلمنا بأن قصيدتي هوميروس (الإلياذة والأوديسة) تقدمان تاريخا مدينا للعادات الإغريقية القديمة، فإنهما ستكونان منجمين عظيمين للقانون الطبيعي للأمم الإغريقية.» (مسلمة 20). «عجل الفلاسفة الإغريق بمسار أمتهم في الوقت الذي عاشت فيه أمتهم الإغريقية في المرحلة البربرية المتوحشة، ومنها سرعان ما تقدموا لمرحلة أرقى منها وهي مرحلة التفكير الدقيق بينما حافظوا على أساطيرهم في كل من المرحلة الإلهية والبطولية، وفي الجانب الآخر نشأت وتطورت عادات الرومان سريعا مغفلين تاريخ الآلهة، لكنهم احتفظوا في أقوالهم الشعبية بالتاريخ البطولي» (مسلمة 21). «يجب أن يكون في طبيعة المؤسسات البشرية لغة عقلية مشتركة بين كل الشعوب تشكل جوهر الأشياء العلمية في الحياة الاجتماعية وتعبر عن مظاهر تكيفهم مع الأشياء ويظهر هذا في الأمثال والحكم الشعبية»
5 (مسلمة 22). (1-4) أصل الجنس البشري
يقدم فيكو مجموعة من المسلمات التي تتناول أصل الجنس البشري والتي اعتمد فيها اعتمادا كبيرا على التاريخ المقدس؛ ولذلك نجده يفرق بين دين العبرانيين الذي أسسه الله ودين الوثنيين القائم على الكهانة، كما نراه يقيم الدليل على أن أصل الجنس البشري ينقسم إلى قسمين؛ أولهما: قسم قائم على الكائنات الخرافية وهي الأمم الأممية؛ وثانيهما: قسم قائم على منزلة إنسانية أرفع قدرا يمثلها العبرانيون. وهذه التفرقة تأتي في رأيه نتيجة التعليم البوهيمي للجانب الأول والتعليم الإنساني للجانب الثاني؛ لذلك رفض التفسير الخرافي الذي قدمه الفلاسفة للعمالقة ذوي الأجسام الضخمة وأخذ بتفسير تاسيتوس وقيصر للعمالقة الجرمان بأنها ترجع للتربية البربرية لأولادهم، وهذه مسلمات فيكو عن أقدم أنواع التاريخ: «التاريخ المقدس أقدم من كل التواريخ الدنيوية التي انحدرت إلينا لأنه يروي بالتفصيل عن الحالة الطبيعية التي عاش فيها البشر في ظل آباء الأسر لفترة تزيد على ثمانمائة سنة، أي أنه يروي عن حالة الأسر التي نشأت منها الشعوب والمدن في وقت لاحق كما يتفق على هذا كل المنظرين السياسيين» (مسلمة 23). «الإله الحق هو الذي أسس الديانة العبرية على أساس تحريم الكهانة التي انطلقت منها كل الأمم الأممية» (مسلمة 24). «التاريخ الطبيعي - كما بينت لنا الأساطير - أثبت الفيضان الذي غطى الأرض» (مسلمة 25). «قدم الفلاسفة للعمالقة ذوي الأجسام الضخمة والبشعة تفسيرا خرافيا» (مسلمة 26). «بدأ التاريخ اليوناني - وتاريخ كل الأمم الأممية ما عدا الرومان - بدأ بالطوفان والكائنات الخرافية»
6 (مسلمة 27). (1-5) قانون المراحل الثلاث لتطور الأمم
أخذ فيكو فكرة قانون تطور الأمم من المصريين القدماء في تصورهم لتطور التاريخ عبر مراحل ثلاث: المرحلة الإلهية، المرحلة البطولية، المرحلة البشرية. وتصاحب كل مرحلة لغة خاصة بها؛ فاللغة الهيروغليفية أو السرية المقدسة - كما عند المصريين القدماء - هي لغة المرحلة الإلهية، واللغة الرمزية - كما في أشعار هوميروس - هي لغة المرحلة البطولية، واللغة الشعبية - كما في لغة الرسائل - هي لغة المرحلة البشرية، وبعد دراسة فيكو لحضارات الشعوب القديمة أكد أن قانون المراحل الثلاث يمكن اعتباره مسلمة من مسلمات العقل البشري، فهو حقيقة تاريخية أكدها استقراؤه للتاريخ.
7 «انحدرت إلينا من العصور المصرية القديمة فكرتان؛ إحداهما أن المصريين القدماء لخصوا تاريخ العالم السابق في ثلاث مراحل؛ المرحلة الإلهية، المرحلة البطولية، والمرحلة البشرية ، أما الفكرة الأخرى فتقول إنه كانت هناك أثناء هذه المراحل ثلاث لغات وهي الهيروغليفية أو السرية القديمة، واللغة الرمزية وهي خاصة بالمرحلة البطولية، واللغة الشعبية أو لغة الرسائل وهي تعبر عن المرحلة البشرية وتقوم على علامات أو إشارات اصطلاحية للاتصال وقضاء الحاجات المشتركة» (مسلمة 28).
ثم يؤكد فيكو المراحل التاريخية الثلاث التي تبدأ بالمرحلة الدينية، ويوضح حقيقة هامة هي أن كل الشعوب قامت على أساس الدين وأن التاريخ بدأ بداية دينية، فكانت المرحلة الأولى من مراحل تطور التاريخ هي المرحلة الدينية وفيها نشأ الشعر الديني. ويستشهد فيكو على هذا ببضع فقرات من ملحمتي هوميروس فكانت هذه المسلمة: «أشار شاعر الإلياذة والأوديسة في خمسة مواضع من ملحمتيه إلى لغة أكثر قدما يدعوها اللغة الإلهية أو لغة الآلهة» (مسلمة 29).
ومن المعروف أن لغة هوميروس كانت لغة بطولية، وأن شعره من قبيل الشعر البطولي؛ فالشعوب الأولى كانت شعوبا دينية أسقطت رغباتها وعواطفها وحاجاتها الطبيعية والأخلاقية على أسماء الآلهة كما توضح هذه المسلمة التي يستشهد فيها فيكو بالمؤرخ الروماني فارو: «اجتهد المؤرخ الروماني فارو
Varro (116-27ق.م.) في جمع 30 ألف اسم للآلهة تلبي الحاجات الطبيعية والأخلاقية للبشر كما تصور الحياة الاجتماعية في العصور المبكرة»
8 (مسلمة 30).
ويتتبع فيكو نشأة المرحلة الدينية عند البشر الأولين مبينا أن الخوف هو المسئول الأول عن إيجاد الآلهة على الأرض، ويربط هذه النشأة بضعف القدرة على التفكير في طفولة البشرية؛ فالدين - وهو أول مبادئ العلم الجديد - يلقي الضوء على نشأة التاريخ البشري والتنظيمات الاجتماعية . فعندما تتوحش الشعوب ولا تقوم لقوانينها قائمة تلجأ إلى قوة أعلى منها وليس هناك ما هو أسمى من الله؛ ومعنى هذا أنه كلما توحش البشر نتيجة للحروب المشتعلة بينهم بحيث لا تقوم لقوانينهم قائمة فإن الوسيلة الوحيدة لترويضهم هي الدين، والعناية الإلهية هي التي هدت هؤلاء المتوحشين إلى إنسانيتهم وتكوين دولهم، وذلك بأن أيقظت فيهم تصورا غامضا للألوهية، وقد كان جهل هؤلاء المتوحشين هو المسئول عن نسبة الألوهية لكائنات أخرى، والجهل خاصية مشتركة بين الشعوب الأولى، فأسقط الإنسان الأول طبيعته الخاصة على طبيعة الأشياء التي يجهلها، ونشأت الميتافيزيقا الشعبية من جهل الإنسان الأول بالطبيعة، ونتج الجهل من ضعف القدرة على التفكير فأطلق الخيال عنانه ونشأ الشعر الديني الذي أضفى العاطفة على الأشياء الجامدة، ومن الجهل تنشأ الدهشة وحب الاستطلاع وهما أصل المعرفة. ومن خصائص العقل البشري أن يتجه للخرافة عندما يشعر بالخوف، وهذه الخرافة تثير الرعب، فكانت بداية الوثنية والتضحية بالقرابين وتقديم ضحايا بشرية وارتباط هذا بالعقائد الوحشية عند البشر المتوحشين الأول، وها هي ذي مسلمات فيكو التي ذكرها في هذا الصدد: «إذا نما أي شعب أينما كان - في ظل جيوش عاتية حيث لا تجد القوانين الإنسانية أي مكان لها - كانت القوة الوحيدة هي اللجوء إلى الدين» (مسلمة 31). «عندما يجهل الإنسان طبيعة الأشياء يجعل من نفسه مقياس كل شيء» (مسلمة 32). «تصور الجهلاء للطبيعة هو بمثابة ميتافيزيقا شعبية يحاولون بها أن ينسبوا للإرادة الإلهية أسباب الأشياء التي يجهلونها دون أن يذكروا الوسائل التي تستعين بها الإرادة الإلهية» (مسلمة 33). «عندما يصاب العقل بالخوف يميل إلى الخرافة، وهذه خاصة من خصائص العقل البشري» (مسلمة 34). «الدهشة ابنة الجهل» (مسلمة 35). «كلما ضعفت القدرة على التفكير ازداد الخيال قوة» (مسلمة 36). «هدف الشعر هو إضفاء الحس والعاطفة على الأشياء الجامدة» (مسلمة 37). «هناك نص كلاسيكي عن أصل الشرك يقول: إن البشر الأوائل أطلقوا أسماء الآلهة على فضائل متميزة إعجابا بهم وتقربا لهم لما يملكونه من قوة» (مسلمة 38). «إن حب الاستطلاع - وهو صفة طبيعية موروثة في الإنسان - هو ابن الجهل وأبو العلم أو المعرفة، فعندما توقظ الدهشة عقولنا عند رؤية أي ظاهرة طبيعية نسأل مباشرة: ماذا يعني هذا؟» (مسلمة 39). «إن الساحرات يفعلن أشياء تثير الرعب، وهن يمتلئن بالخوف مما يقمن به من خرافات فتظهر قسوتهن إلى حد التطرف في تمزيق الأطفال لممارسة سحرهن»
9 (مسلمة 40).
هكذا نرى من المسلمات السابقة أن الدين نشأ نشأة طبيعية فطرية مع الإنسان؛ فالخوف هو أول من خلق الآلهة على الأرض، والإنسان هو صانع الدين مثلما هو صانع تاريخه، ولا ندري إذا كانت هذه الأفكار التي انتهى إليها فيكو من بحثه في النشأة الطبيعية للإنسان قد فرضت نفسها عليه فلم يستطع أن يغير فيها، أم أنه انتبه إلى خطورتها فغلفها بكثير من الغموض نظرا للظروف السياسية والدينية التي عاشها.
10 (1-6) الميثولوجيا التاريخية
ثم يقدم فيكو مجموعة من المسلمات عن البداية التاريخية للمجتمع البشري، وهي بداية مستمدة من الميثولوجيا التاريخية واختلاط الأساطير القديمة بالدين كأسطورة الخلق والفيضان ونشأة الكون لدى الشعوب القديمة. حدد فيكو البداية التاريخية بالطوفان وأقامها على افتراض أن الأجناس الكافرة لأولاد نوح الثلاثة سقطوا في المرحلة الوحشية وطافوا غابات الأرض الواسعة مع الوحوش الضارية وأصبحوا عمالقة، ثم أرعدت السماء بعد الطوفان فشعر العمالقة بالخوف، وتصوروا أن هذا الرعد تعبير عن غضب الإله من حياتهم البهيمية وممارستهم للجماع في العراء فآووا إلى الكهوف وألجأهم الخوف من الإله الذي دعوه جوبيتر إلى الكهوف. وهنالك بدأ أول شكل من المساكن البدائية الثابتة ومعها نشأت العادات والسلوك الديني الذي يحدد سلوك كل فرد إزاء الآخرين كما ينظم الزواج من واحدة.
لم تكن هناك من قوة إلا قوة الدين التي سادت فترة حكم الآلهة، وتبعتها المرحلة البطولية عند الشعوب الأولى فتصورت هذه الشعوب تصورا خاطئا أن الأبطال من أصل إلهي - كما صورت الأساطير القديمة أن هرقل هو ابن جوبيتر - مما يؤكد فكرة فيكو أن الأمم لا يمكن أن تقوم أو تنشأ بدون دين، أي بدون هذا الشعور الفطري الذي تنطوي عليه الطبيعة البشرية، فكل الأمم الأممية لديها آلهة خاصة بها مما يؤكد المسلمة التي تنص على أن الأفكار المشتركة تنشأ بين شعوب لا تعرف بعضها بعضا، وهذا يتضح في المسلمات التالية عن نشأة الميثولوجيا التاريخية: «نحن نفترض - وهذا افتراض معقول - أن مياه الفيضان تسربت منذ مئات السنين إلى الأرض وغمرتها» (مسلمة 41). «قذف جوبيتر - وكل الأمم الأممية لديها جوبيتر - سهمه فصرع كل العمالقة» (مسلمة 42). «كل الأمم لديها هرقل، ابن جوبيتر»
11 (مسلمة 43).
ثم يؤكد فيكو أن البشر الأولين في هذه المرحلة الدينية كانوا شعراء لاهوتيين، وأن الشعراء كانوا بمثابة المؤرخين الأول للشعوب البدائية، فكان شعرهم سجلا للأحداث التاريخية في عصرهم وكانت البداية التاريخية مزيجا من التاريخ والأساطير: «كان حكماء اليونان القدامى شعراء لاهوتيين، وقد انتشروا بغير شك قبل الشعراء البطوليين مثلما كان جوبيتر أبا لهرقل» (مسلمة 44). «يميل البشر بطبيعتهم للاحتفاظ بذكرى القوانين والنظم التي تربطهم بمجتمعاتهم» (مسلمة 45). «التاريخ البربري كله كان خرافيا في بدايته، والشعر هو الذي سجل هذه البداية» (مسلمة 46).
فالتاريخ القديم نوع من اللاهوت، ولكن بعد فترة طويلة تغيرت العادات وتغير تبعا لذلك تفسير الأساطير وفقدت معناها الأصلي وانغمست في عصور الفساد حتى في العصر السابق لهوميروس. ولكي تبرر هذه الشعوب عاداتها السيئة ألصقت هذه الصفات بالآلهة فتشوهت بذلك الأساطير، وهذا ما حدث للكاهن والمؤرخ المصري مانيتو
Mantho
12
عندما فسر كل التاريخ المصري وترجمه وهذبه إلى لاهوت طبيعي. (1-7) الحكمة الشعرية
يؤكد فيكو على شاعرية الشعوب الأولى ويوضح كيف كان البشر الأولون شعراء بالفطرة، ويشبه الشعراء بالأطفال فكلاهما لديه خيال قوي وكلاهما يفكر من خلال تصورات خيالية، لم يكن الجنس البشري في طفولته قادرا على تكوين تصور واضح للأشياء، تماما كالأطفال العاجزين عن التجريد؛ لذلك بدأت المعرفة البشرية بالحس ولم تبدأ بالعقل، وتكونت الجمل الشعرية عن طريق الأحاسيس العاطفية، ثم تكونت بعد ذلك الجمل الفلسفية عن طريق التفكير والعقل أو المقولات العقلية؛ ولذلك كانت أكثر اتجاها نحو العام وأقرب إلى الحقيقة، أضف إلى هذا أن كل الفنون الضرورية والنافعة أبدعت في العصور الشعرية قبل مجيء الفلاسفة. ويرى فيكو أن لدى العامة نزعة طبيعية لخلق الأساطير على نحو مناسب، وهذه عادة متأصلة لدى أي شعب؛ فهو يبتكر لكل إنسان مشهور حكايات تلائم ما جرى له في تلك الظروف.
ويستنتج من هذا ملاحظة هامة تتصل بالنظرية الشعرية؛ فالشعراء قد رسموا صورا ونماذج شعرية بالتصور الخيالي صدقتها الشعوب ونسبت إليها بطولات خارقة وإن كانت في الواقع المادي بعيدة عن الحقيقة التاريخية، والآن نتابع المسلمات التي يثبت فيكو من خلالها الميل الفطري للعقل البشري لخلق الأساطير وإبداع الشعر: «يميل العقل البشري إلى كل ما فيه وحدة ونظام» (مسلمة 47). «من طبيعة الأطفال أن أفكارهم عن الرجال والنساء والأشياء التي عرفوها في طفولتهم يقيسون عليها كل الأشياء والرجال والنساء الذين عرفوهم بعد ذلك على أساس المشابهة» (مسلمة 48). «نسب المصريون إلى هرمس مثلث الحكمة كل الاختراعات النافعة والضرورية للحياة الإنسانية» (مسلمة 49). «إن الشعوب الأولى لديها خيال قوي وكان هذا أساس الخيالات الشعرية عند البشر الأولين» (مسلمة 50). «الشعراء شعراء بالفطرة لا بالصنعة» (مسلمة 51). «يتفوق الأطفال في التقليد ليسلوا أنفسهم حتى يصبحوا قادرين على الفهم» (مسلمة 52). «كان تفكير البشر الأولين غير دقيق، وكانوا يعتمدون على الشعور قبل أن يبدءوا في التفكير بعقل واضح» (مسلمة 53). «إن الأساطير الأولى كانت تلائم الشعوب في طبيعتها وعواطفها وعاداتها» (مسلمة 54). «هناك نص كلاسيكي يقول بأن النظرية اللاهوتية للمصريين القدماء كانت مزيجا من التاريخ والأساطير، فنشأت الأجيال بعد ذلك تخجل منها، ولكن بالتدريج ترجمت إلى معنى صوفي» (مسلمة 55). «إن المؤلفين القدامى من شرقيين ومصريين وإغريق ولاتين، وحتى في عودة البربرية ممثلة في اللغات الأوروبية للعصور الوسطى، كانوا شعراء»
13 (مسلمة 56).
ويرى فيكو أن مبادئ اللغات والحروف تكمن في حقيقة أن الأمم الأممية الأولى كانت شعوبا شاعرية وذلك بحكم الضرورة الطبيعية. وهو يؤكد أن هذا هو المفتاح الأساسي للعلم الجديد؛ لأننا مع تمدن طبيعتنا في العصر الحديث لا نستطيع أن نتخيل ولا نستطيع أن نفهم الطبيعة الشعرية للشعوب الأولى إلا بعناء مضن؛ فالبشر الأولون كانوا يتحدثون بالأساطير والحكايات الخرافية، وكانت الأمم الأولى مفتقرة إلى القدرات العقلية، فمن الطبيعي أن تكون عواطفها جياشة ومشاعرها قوية، وهناك مصدران لكل تعبير شعري: الفقر في اللغة، والحاجة إلى التفسير والإفهام. وتطور اللغات يسير جنبا إلى جنب مع تطور المجتمعات البشرية، ففي عصر الآلهة كانت اللغة خرساء تعبر بالأفعال والأشياء نفسها التي ترتبط بعلاقات طبيعية بالأفكار التي كانوا يحاولون التعبير عنها، ثم بدأت الشعوب تتلعثم بالغناء الذي درب ألسنتهم على النطق، فكان النطق بكلمات من مقاطع واحدة. أما في عصر الأبطال فقد ظهرت اللغة الشعرية التي اعتمدت على الاستعارات والتشبيهات والمقارنات والاستعانة بالصور الحسية والوصف الطبيعي للأشياء.
14
هكذا نجد أن التطور الطبيعي للتنظيمات البشرية جعل اللغة تبدأ بالشعر ثم تستقر في النثر، وهذا ما يشهد عليه تاريخ الشعراء القدامى وتطور الأوزان الشعرية من الأوزان البطيئة إلى الأوزان السريعة، غير أن التطور قد جعل اللغة في العصر البشري تستخدم كلمات تواضع عليها الناس؛ فهي اللغة التي صاغوها بإرادتهم وعبرت عن التحالفات الشعبية والحكومات الملكية على السواء، وهي كذلك اللغة التي ثبت الشعب فيها معاني القوانين التي تسري على النبلاء مثلما تسري على العامة من الناس بعد أن كان النبلاء قديما، في الأمم الأممية، يحتفظون بالقوانين في لغة سرية كشيء مقدس، وكان هذا سببا طبيعيا لسرية القوانين لدى أعضاء مجلس الشيوخ الروماني إلى أن قامت الحريات الشعبية.
ويوضح فيكو كيف أن الأفكار واللغات تطورت في خطوات متشابهة، وأن الأمم بدأت بلغة شعرية ثم جاءت اللغة النثرية بعد ذلك، كما سيتضح في المسلمتين 61، 62، وفيكو لا يلقي الضوء على بدايات اللغات وحدها بل على بدايات الحروف التي يئس علم اللغة القديم من العثور عليها؛ إذ اعتقد علماء اللغة أن اللغات كانت أسبق في الوجود من الحروف، بينما الواقع أن الحروف واللغات توءمان ولدا وسارا معا بسرعة عبر المراحل الثلاث. ويهتم فيكو اهتماما بالغا بدراسة أتيمولوجيا (اشتقاق) اللغات (أي دراسة الكلمة وتاريخها) كما سيتضح في مسلمة 65 وكما سنرى في الفصول التالية، ونتابع قراءة المسلمات عن تطور اللغات فنجده يقول فيها: «اللغة الخرساء تعبر بالأفعال والإيماءات والأشياء نفسها التي ترتبط بعلاقات طبيعية بالأفكار التي يحاول البشر التعبير عنها» (مسلمة 57). «اللغة الخرساء تعبر بالغناء عن أصوات ليس لها شكل والتلعثم بالغناء يعلم ألسنتهم (أي البشر) النطق» (مسلمة 58). «يعبر البشر بالأغنية عن عواطفهم الجياشة كما نلاحظ في حالات الحزن العميق الفرح» (مسلمة 59). «يجب أن تبدأ اللغات بكلمات من مقاطع واحدة» (مسلمة 60). «القصيدة البطولية هي أقدم أشكال القصيدة، والسبوندي هو أبطؤها وسنرى أن القصيدة البطولية كانت أصلا من البحر السبوندي»
15 (مسلمة 61). «القصيدة العمبقية تكون أقرب إلى النثر، والبحر العروضي يكون أسرع على نحو ما وضعه هوراس
Horace » (مسلمة 62).
وتتطور الأفكار في خطوات مشابهة لتطور اللغات؛ فقد بدأ كلاهما بالحس وتكشف هذه الأفكار عن أنواع التنظيمات البشرية وتطورها، بل ويعد العلم الجديد هو تاريخ الأفكار البشرية - على حد تعبير فيكو نفسه - كما تؤكد ذلك المسلمات التالية: «يميل العقل البشري بطبيعته لأن يرى نفسه مجردا من المضمون ليفهم نفسه بالتفكير العقلي المجرد» (مسلمة 63). «نوع الأفكار لا بد أن يتبعه نوع المؤسسات الاجتماعية أو الأنماط السلوكية» (مسلمة 64). «تتابعت النظم الاجتماعية على هذا النظام فبدأت بالغابات ثم الأكواخ ثم القرى والمدن وأخيرا الأكاديميات العلمية»
16 (مسلمة 65).
وهذا التتابع للمؤسسات البشرية يعد نموذجا لتاريخ تطور معاني الكلمات في اللغات المختلفة، فنلاحظ أن معظم كلمات اللغة اللاتينية ذات أصول مشتقة من الحياة في الغابات أو الريف، ونأخذ على سبيل المثال كلمة
Lex
التي كان معناها في البداية قطف أو جمع شجر البلوط ثم اشتق منها كلمة
ilex
وهي شجرة البلوط، وتطورت الكلمة في الحياة الريفية فأصبح معناها مجموعة من الخضروات، وفي فترة لاحقة وقبل أن تكتشف الحروف العادية اقتضت الطبيعة المدنية استعمالها بمعنى مجموعة من المواطنين أو البرلمان العام أو مجلس شعبي عام؛ لأنها تعني التجمع نفسه، وأخيرا كانت كلمة
legere
تعني تجميع حروف الكتابة بجانب بعضها، أي تجميع الحروف في كلمات وتجميع الكلمات في جمل، وهذا ما تم في الأكاديميات العلمية التي كانت آخر شكل من أشكال تطور التنظيمات البشرية ويمثل قمة التطور، ثم يرتد هذا التطور ويتردى في الانحلال إلى أن يسقط. (1-8) التاريخ المثالي الأبدي
ينتهي فيكو إلى وضع مبادئ تاريخ مثالي أبدي مرت به كل أمة في نشأتها وبنائها وتطورها ونضوجها ثم تدهورها وسقوطها، أي أن هذا التاريخ الأبدي يتتبع كيف نشأت الأمة، وكيف تطورت أشكال الحكم فيها ونضجت ثم كيف تدهورت بالتدريج وسقطت. ونظرية التاريخ المثالي الأبدي هي لب فلسفة فيكو التاريخية وهي النظرية التي قام عليها مذهبه التاريخي. وسوف نتناول هذه النظرية بالتقييم في الباب الثالث، ونكتفي في هذا المكان بتتبع كيف نشأت المجتمعات البشرية الأولى من الحاجات الضرورية للإنسان، ثم كيف اتجه الإنسان إلى كل ما هو نافع، ثم أخذ يلتمس الراحة وبدأ يسعى وراء الملذات، ثم انغمس في الترف إلى حد التدهور إلى أن سقطت التنظيمات البشرية.
ويقرر فيكو مبدأ سياسيا هاما وهو أن نشأة التنظيمات السياسية ترجع لطبيعة الشعوب بحيث توافق هذه التنظيمات طبيعة الشعوب المحكومة؛ ولهذا تطورت أشكال الحكم لدى الأجناس البشرية الأولى ومرت بمراحل ست أو أنواع ستة: النوع الأول (السيكلوب) كان ضروريا في المرحلة الأسرية وضرورة وجود فرد واحد يخضع له الآخرون. النوع الثاني الذي يتصف بالزهو والغرور (مثل أخيل) كان ضروريا لبناء النظم الأرستقراطية على قاعدة النظام الأسري. النوع الثالث الذي يتصف بالشجاعة (مثل أرستيدس) كان ضروريا لفتح الطريق للحرية الشعبية. النوع الرابع (مثل الإسكندر وقيصر) لإقامة ملكيات أو إمبراطوريات جديدة. النوع الخامس (مثل تيبرس) كان ضروريا لإقرار هذه الإمبراطوريات واستقرارها. النوع السادس (مثل نيرون وكاليجولا) لتدميرها ... ويلخص فيكو مبادئ التاريخ المثالي في المسلمات التالية: «شعر البشر الأولون بالحاجات الضرورية فبحثوا عن الأدوات النافعة، ثم اتجهوا إلى أساليب الراحة، ثم انغمسوا في الترف ليسعدوا أنفسهم، وأخيرا أصابهم الجنون فضيعوا ثروتهم وفقدوا جوهرهم الحقيقي» (مسلمة 66). «كانت طبيعة الشعوب الأولى في البداية قاسية وتدرجت من الخشونة إلى الاعتدال والرقة وأخيرا إلى الانغماس في اللذات أو التحلل» (مسلمة 67). «ظهرت الأجناس البشرية الأولى في أشكال غريبة (مثل السيكلوب) ثم أجناس تتصف بالزهو والغرور (مثل أخيل) ثم الشجاعة (مثل أرستيدس) ثم أجناس حققت نصرا شعبيا ومجدا حقيقيا (مثل الإسكندر وقيصر) ثم أجناس يغلب عليها طابع التأمل (مثل تيبرس) وأخيرا الانغماس في الملذات والجنون (مثل نيرون وكاليجولا)» (مسلمة 68). «يجب أن تتكيف الحكومات أو تطابق وتوافق طبيعة المحكومين»
17 (مسلمة 69).
ويفسر فيكو نشأة نظم الحكم في الشعوب الأولى مبتدئا بالنظم الملكية وهي أول شكل من أشكال الحكم في العالم، فبعد أن استقر الجنس البشري في الأرض واحترف الناس الزراعة وكونوا الأسر، وأصبح لهم طقوس عبادة وإله يعبدونه. كان آباء الأسر هم الملوك والحكماء الذين يتلقون التكهنات من الآلهة ويبلغونها لأسرهم وهذا ما تؤكده المسلمات التالية: «بدأت كل الأمم بطقوس العبادة، أي عبادة إله معين، وكان آباء الأسر هم الحكماء المطلعون على نبوءات الآلهة، وكانوا يبلغون أسرهم بالقوانين الإلهية.» (مسلمة 72) «يقضي التراث الشعبي بأن أول من حكم العالم ملوك» (مسلمة 73). «إن الشعوب تنتخب أكثر الناس جدارة» (مسلمة 74). «إن الملوك في العصور الأولى كانوا حكماء؛ ولذا اشتاق أفلاطون إلى العصور القديمة التي كان فيها الفلاسفة ملوكا أو كان الملوك فلاسفة» (مسلمة 75). «إن الشكل الأول لكل حكومات العالم القديم كانت حكومات ملكية»
18 (مسلمة 76).
ثم يقدم فيكو مجموعة من المسلمات التي تقوم على افتراض أساسي لتفسير نشأة التجمعات البشرية
Commonwealths ؛ فبعد أن طاف العمالقة كما ذكرنا في غابات الأرض الواسعة وأرعدت السماء لأول مرة بعد الطوفان، لجأ بعض العمالقة إلى الكهوف ودفعهم الخوف من الإله إلى نظام الزواج من امرأة واحدة، وكونوا أسرا واستقروا في الأرض وزرعوها وظل باقي العمالقة في تجوالهم البهيمي خارجين عن القانون، وبعد مرور حقبة طويلة من الزمن لجأ هؤلاء العمالقة إلى الأراضي المزروعة لآباء الأسر لطلب الحماية والاستقرار، فاتخذهم الآباء كأتباع أو عبيد للأرض يفلحونها. وبمرور الزمن بدأ هؤلاء العبيد في التمرد، فتحالف الآباء ووحدوا أنفسهم في تنظيمات لمواجهة عبيد الأرض الثائرين، وأقروا لهم بنوع من الإقطاع الريفي كسبا لطاعتهم، وسمى رؤساء التنظيمات أنفسهم ملوكا وواجهوا هؤلاء العبيد المتمردين، وأصبحت السلطة العائلية لآباء الأسر - التي لا يمكن أن نفهمها إلا على أنها كانت نوعا من إقطاعات النبلاء - خاضعة للقوى السياسية لهذه التنظيمات الحاكمة. وأصبحت التجمعات البشرية أرستقراطية من تلقاء نفسها؛ إذ نشأ النظام الأرستقراطي عن ضرورة ملحة هي الضرورة التي فرضها عبيد الأرض على آباء الأسر، ويقدم فيكو هذا الفرض لتفسير نشأة التجمعات البشرية، ويدعونا إلى التسليم بأنه صحيح لأنه فرض بسيط وطبيعي، ولأن الآثار السياسية المترتبة عليه لا حد لها، وإذا لم نسلم به فلن نفهم كيف نشأت سلطة الدولة من سلطة أخرى ولا كيف تمخضت السلطة الإقطاعية العامة عن الإقطاع الخاص، ولا كيف تألفت الجماعة من تنظيم يضم عددا قليلا يصدر أوامره وأغلبية من العامة تخضع لهذه الأوامر. ولنقرأ الآن المسلمات التي تتناول نشأة التجمعات البشرية: «يجب أن نسلم أن بعض الناس الخارجين عن القانون انسحب منهم مجموعة من الأقوياء وكونوا أسرا وزرعوا الأرض، وبعد فترة طويلة من الزمن جاء باقي الخارجين عن القانون ليعيشوا في نفس الأرض المزروعة لآباء الأسر» (مسلمة 70). «العادات الفطرية لا تتغير كلها دفعة واحدة، وإنما تتغير تدريجيا وتستغرق فترات طويلة من الزمن» (مسلمة 71). «إن أسماء الأسر ترجع إلى عبيد الأرض الذين أطلقوا على الأسر أسماءها» (مسلمة 78). «لا يمكن أن نتصور قيام اتحادات قبل وصول أولئك اللاجئين الذين جاءوا للآباء لكي ينقذوا حياتهم وتعهدوا بزراعة الأرض ردا لهذا الصنيع»
19 (مسلمة 79).
هكذا نشأ المجتمع الأرستقراطي الإقطاعي ومنح النبلاء إقطاعات من الأرض كانت أول قانون زراعي في العالم، وانقسم المجتمع إلى طبقتين طبقة نبلاء وطبقة عبيد، وأقسم النبلاء على العداء الأبدي للعامة فنشب الصراع الطبقي. وكان النبلاء هم الأبطال المحاربون ولهم وحدهم شرف البطولة، كما كانوا حريصين دائما على ألا تنال العامة هذا الشرف. ويوضح فيكو كيف ينشب الصراع البطولي في الحكومات الأرستقراطية التي كانت تفتقر إلى القانون المدني الذي ينظم العلاقات بين الأفراد، وهذا يبين قسوة النبلاء تجاه العامة مما يتجلى بوضوح في التاريخ الروماني حيث كانوا يلقون بهم في أهوال الحروب ويغرقونهم في الديون والفوائد ويضربونهم بالسياط على أجسادهم العارية فيدفعون الثمن سخرة في العمل. وتحليل فيكو للصراع الطبقي يقوم على أمور ثلاثة : طموح طبقة العامة للمشاركة في الحقوق المدنية والقوانين التي كان يتمتع بها الآباء؛ إصرار الآباء على الاحتفاظ بهذه الحقوق داخل طبقتهم؛
20
حكمة المشرعين في تفسير تلك القوانين ومد منفعتها شيئا فشيئا وتعديلها لما يستجد من حالات أخرى. وهذه هي المسلمات عن نشأة النظام الأرستقراطي والنظام الإقطاعي كضرورة تطلبتها الحياة المدنية: «كان طبيعيا أن يتجه المجتمع البشري بعد ذلك للنظام الإقطاعي الذي يقوم على المقايضة؛ لأنهم رأوا فيه أفضل المنافع والفوائد التي يتطلعون إليها في الحياة المدنية» (مسلمة 80). «من صفات الأقوياء أن ما كسبوه بالقوة لا يتخلون عنه بسهولة أو لا يترددون في الدفاع عنه، وإنما يتخلون عن جزء منه عندما تقتضي الضرورة وبالتدريج وفي أضيق الحدود الممكنة» (مسلمة 81). «كل الشعوب القديمة كان لها أتباع أو عبيد للأرض» (مسلمة 82). «إن قانون الإقطاع الريفي (الذي يقر للعبيد بجزء من الأرض) هو القانون الزراعي الأول في العالم؛ لأننا لا نستطيع على الإطلاق أن نتصور نظاما آخر يعطي أقل من هذا القدر» (مسلمة 83).
ويستدل فيكو على صحة رأيه بنص هام من كتاب السياسة لأرسطو، يتحدث فيه عن أشكال الدول ويذكر الممالك البطولية التي كان فيها الملوك يطبقون القوانين في الداخل ويقودون الحروب في الخارج، كما كانوا في نفس الوقت هم رؤساء الكهنة في الطقوس الدينية. «من كتاب السياسة لأرسطو: إن الجماعات القديمة لم يكن لديها قوانين لمعاقبة العدوان على الأشخاص، أي لم يكن لديها قانون يحمي الأشخاص من الظلم الواقع عليهم، لقد كان هذا هو أسلوب الشعوب البربرية؛ لأن الشعوب في بدايتها كانت في حالة توحش ولم تستطع بعد أن تنظم عاداتها تنظيما قانونيا» (مسلمة 85). «نص آخر ورد في سياسة أرسطو يقول: إن الحكومات القديمة تبين أن النبلاء يقسمون على أن يكونوا أعداء دائمين لعامة الناس» (مسلمة 86). «إن الحكومات الأرستقراطية لا تميل للحروب لكيلا تجعل العامة جنودا محاربة» (مسلمة 87). «حافظت الحكومات الأرستقراطية على ثروة النبلاء لأن هذه الثروة عنصر من عناصر قوة هذه الطبقة» (مسلمة 88). «الشرف هو أسمى وأنبل الحوافز للشجاعة في الحروب» (مسلمة 89). «لا بد للشعوب في أوقات الحرب أن تستبسل أو أن تسلك سلوك الأبطال إذا أرادت أن تنال الشرف في أوقات السلام» (مسلمة 90). «إن صراع الطبقات من أجل الحصول على نفس الحقوق من أقوى العوامل على تقوية الدول» (مسلمة 91). «إن الضعفاء يريدون القوانين، والأقوياء يقاومونها، وأصحاب الطموح يشجعونها ليكسبوا أتباعا لهم» (مسلمة 92).
ويستمر الصراع الطبقي وتظل العامة تتطلع للمساواة في الحقوق المدنية وحقوق الشرف مع طبقة النبلاء إلى أن يضطر النبلاء للخضوع لسلطة القانون، فتتكون الجمهوريات الشعبية الحرة وتقوم المساواة بين النبلاء والعامة في الحقوق المدنية، وتبدأ العامة في سن القوانين ثم تضع نفسها فوق القانون فتسود الفوضى ويعم الاستبداد والطغيان وتنهار نظم الحكم الشعبية فيضطر كل من النبلاء والعامة إلى الخضوع لسلطة رجل واحد ينصب نفسه ملكا وتعود نظم الحكم الملكية، ويصور فيكو هذا في المسلمات التالية: «كان الطريق مفتوحا أمام العامة لإشباع نهمها في الحصول على حقوق الشرف والمناصب الكبيرة؛ لذلك نشأت الحروب الأهلية في الداخل والحروب العدوانية في الخارج» (مسلمة 93). «تزداد الحرية الطبيعية شراسة كلما دافع الفرد عن ملكيته الشخصية» (مسلمة 94).
ويستشهد فيكو بالتاريخ الروماني في تصوير الصراع الطبقي وتطور نظم الحكم فيه (مسلمة 95): «إن الناس تتطلع للمساواة وترفض حالة الخضوع، هكذا كان سلوك طبقة العامة في الحكومات الأرستقراطية الرومانية التي تحولت بفضل هذا السلوك إلى جمهوريات شعبية حرة، ثم حاول الأفراد أن يتفوقوا على بعضهم البعض ففسدت الجمهوريات الشعبية وتحولت إلى جمهوريات يتسلط عليها بعض الأفراد. وأخيرا حاولت العامة أن تخضع القوانين لسيطرتها فنشأت الفوضى، وهذه الحالة هي أسوأ حالات الطغيان إذ يكثر عدد الطغاة، وعند هذا تشعر العامة ببؤسها فتسترد وعيها وتحاول أن تنقذ نفسها بالخضوع لسيطرة فرد واحد، وفي هذه الحالة يسود القانون الملكي الطبيعي الذي حاول به تاسيتوس أن يبرر الملكية الرومانية تحت سيطرة أغسطس.» ويجمل فيكو هذا الصراع مرة أخرى في (مسلمة 96) فيقول: «بفضل الحرية الطبيعية التي لا تخضع لقانون تحلل النبلاء من كل الالتزامات والقيود عندما بدأ تأسيس المجتمعات الأولى على أساس أسري، فنشأت الحكومات الأرستقراطية التي كانوا هم سادتها، ثم اضطر النبلاء أن يتساووا مع العامة في الأعباء والقوانين بعد أن أجبرهم العامة على الخضوع لسلطة القانون. وعلى هذا استقر وضع النبلاء في الجمهوريات الشعبية، ولكنهم مالوا بصورة طبيعية إلى الخضوع لسلطة رجل واحد لكي يضمنوا لأنفسهم حياة مريحة وكان هذا هو حالهم في ظل الملكية.»
21
ولا شك أننا نلاحظ في مسلمة 94 نوعا من التنبؤ بما قاله روسو والاشتراكيون الأوائل وما أكده ماركس بعد ذلك من أن الملكية الخاصة هي أصل الشراسة والعدوان والاستعباد، أي تتحول الحرية الطبيعية في الإنسان إلى شراسة كلما مس أحد أملاكه الشخصية. (1-9) أثر الجغرافيا في تأسيس الشعوب
استعان فيكو بعلم الجغرافيا لدراسة الطبيعة المشتركة للأمم ليبين كيف أن العامل الجغرافي له أثر كبير في تأسيس الشعوب؛ إذ عاش البشر في البداية داخل الجبال ثم انتقلوا إلى السفوح والسهول وأخيرا عاشوا على شواطئ البحار. ويستشهد فيكو بنص من أفلاطون يؤيد به صحة رأيه ويوضح أن البشر في كل العصور يبدءون حياتهم داخل الجبال ثم بالتدريج ينتشرون في السهول. ويستدل كذلك بأمثلة من التاريخ القديم عن تأسيس مدينة صور داخل البلاد، ثم نقلها إلى شاطئ البحر إلى أن جاء الإسكندر ونقلها إلى اليابسة، ومن هذا المنطلق واعتمادا على التاريخ العبري يبرهن فيكو على قدم الشعب اليهودي الذي أسسه نوح في بلاد ما بين الرافدين وأبعد بلاد العالم المأهول بالسكان بعيدا عن البحر؛ ولذلك فهم أقدم الشعوب، ويحاول فيكو أن يثبت صحة هذا بتأكيده أنه قد تأسست هناك أول دولة ملكية من الآشوريين التي حكمت الكلدانيين الذين نشأ بينهم الحكماء الأوائل في العالم ومنهم زرادشت.
ولا يفوتنا أن نأخذ على فيكو هذه الغلطة التاريخية التي وقع فيها؛ لأن أول حكومة ملكية ظهرت في العالم نشأت في ظل الحضارة المصرية القديمة كما أثبتت الحفريات في القرن التاسع عشر، وإن كنا نلتمس له العذر لأن علم الحفريات لم يتقدم ويزدهر إلا في القرن التاسع عشر؛ ولذا لم تتوفر الدراسات الكافية - في عصره - عن الحضارات القديمة. ولنتابع المسلمات لنرى أثر العامل الجغرافي في تأسيس الشعوب. «عاش البشر - بعد الطوفان - فوق الجبال ثم نزلوا للسفوح، وبعد عصور طويلة وجدوا في أنفسهم الشجاعة للاقتراب من شواطئ البحار» (مسلمة 97). «هناك فقرة لأفلاطون
22
يقول فيها: إن البشر بعد الطوفان المحلي (أوجيجن وديكلبينوت) عاشوا في كهوف فوق الجبال، وهؤلاء هم العمالقة السيكلوب الذين يتعرف أفلاطون عن طريقهم على أول رؤساء الأسر الذين ظهروا في العالم، ثم انحدروا على جانبي الجبال وأخيرا نزلوا للسهول» (مسلمة 98). «يقول التراث الشعبي إن صور أسست داخل البلاد ثم نقلت إلى ساحل البحر الفينيقي وانتقلت بعد ذلك إلى جزيرة قريبة إلى أن نقلها الإسكندر الأكبر إلى اليابسة»
23 (مسلمة 99).
واستنادا إلى علم الجغرافيا أيضا يفسر فيكو أسباب هجرة الشعوب تحت حكم الضرورة كالتجارة وكسب العيش وتحقيق الثروة ... إلخ. لقد حاول أن يوضح كيف ضلت سلالة أبناء نوح الثلاثة في حياة رعوية بهيمية؛ إذ أرغمتهم الضرورة على الهرب من الوحوش الكاسرة بحثا عن الماء والغذاء وملاحقة النساء، ثم وجدوا أنفسهم مشتتين على الأرض بعد أن أرعدت السماء لأول مرة بعد الطوفان. ولو أن هذه الأمم الأممية حافظت على إنسانيتها مثل الشعب اليهودي لبقوا مثله في قارة آسيا الممتدة الواسعة، ولكن الضرورة الملحة هي التي أرغمتهم على الهجرة، وهجرة الشعوب تثبتها المستعمرات كالتي أنشأها الإغريق على ساحل أيونيا أو على الساحل الجنوبي في إيطاليا والمستعمرات الرومانية المتأخرة ... إلخ. ويمكننا بهذا أن نتتبع تاريخ الشعوب التي أسست مستعمرات في بلاد غريبة على فترات تاريخية متتالية. وفيكو كعالم لغويات يستدل على ذلك من اشتقاق بعض الكلمات والأسماء من أصول أجنبية مختلفة عن جذورها الأصلية، فعلى سبيل المثال سميت نابولي في البداية بكلمة
Sirena
مما يدل على أن السريان أو الفينيقيين (أول بحارة في العالم) هم أول من أسس فيها مستعمرة تجارية، ثم تغير الاسم إلى
وهي كلمة إغريقية من العصر البطولي، ثم سميت أخيرا
Neapolis
وهي كلمة من اللغة الإغريقية الشعبية تعني المدينة الجديدة، مما يدل على أن الإغريق قد وصلوا إليها ليقيموا علاقات تجارية معها.
ويرى فيكو أن الشعوب المغلقة على نفسها لا بد أن تفتح إما بواسطة غزو خارجي أو بالتجارة مع الأجانب، وهو يضرب أمثلة على ذلك من التاريخ القديم عندما فتح بسماتيك مصر للكاريبيين والأيونيين الإغريق، ومن العصر الحديث عندما فتح الصينيون بلادهم للتجارة مع الغرب، ونتابع الآن مسلمات فيكو في هجرة الشعوب. «تحت ضغط ضرورات الحياة تخلى الإنسان عن أرضه، التي هي بالطبع عزيزة عليه، ولكنه تركها مضطرا ليشبع نهمه في تحقيق الغنى عن طريق التجارة، أو ليحافظ على ما كسبه» (مسلمة 100). «كان الفينيقيون هم أول بحارة في العالم القديم» (مسلمة 101). «كانت الأمم في المرحلة البربرية مغلقة على نفسها، فإما أن تفتح من الخارج بواسطة الحروب أو تفتح طواعية للتجارة مع الأجانب» (مسلمة 102). «الفرض الذي يجب التسليم به هو أن مستعمرة إغريقية أقيمت على شواطئ اللاتيوم، ثم انتزعها الرومان ودمروها وظلت هذه المستعمرة مدفونة في ظلام العصور القديمة. وإذا لم نسلم بهذا فلن نفهم ما يحكيه التاريخ الروماني عن شخصيات مثل هرقل أو عن الأركاديين والفريجيين في منطقة لاتيوم، ولن نفهم ملاحظة تاسيتوس
24
في حولياته بأن حروف الهجاء الرومانية تشبه الحروف اليونانية القديمة»
25 (مسلمة 103). (1-10) تطور القوانين مع تطور العقل البشري
ثم يذكر فيكو مجموعة من المسلمات عن تسلسل نسب الآلهة، ويؤكد أن العشائر الأولى للمجتمع البشري أو الأمم الأولى نشأت قبل المدن الكبرى؛ ولهذه الأمم الصغيرة آلهتها الخاصة بها وكانت تدعى آلهة آباء الأسر. وبعد ظهور المدن نشأت الأمم الكبيرة وكان لها أيضا آلهتها. ومن تتبع فيكو لتسلسل نسب الآلهة أثبت أن عددهم اثنا عشر إلها في كل الأمم الأممية: «نشأت الأمم الأولى قبل إنشاء المدن وكانت تسمى بيوت النبلاء القديمة، ومن هذه الأمم الأولى أو العشائر الصغيرة كون رومولوس مجلس الشيوخ» (مسلمة 107). «وفقا للتقسيم السابق، هناك آلهة كانوا آباء الأسر في الأمم الأولى قبل تأسيس المدن، ووفقا للثيوجونيا الطبيعية فإن عدد الآلهة في كل الأمم الأممية كان يبلغ اثني عشر إلها»
26 (مسلمة 108).
ثم يتعرض فيكو لمجموعة من المسلمات التي يقدم فيها آراءه عن القانون المدني والقانون الطبيعي؛ فالقانون الطبيعي أسسته الشعوب من خلال عاداتها الطبيعية والبسيطة، ثم أضفى الفلاسفة على القانون الطبيعي صورة أكمل عن طريق العقل، أي أنهم تمموا بالعقل ما بدأته الأمم الأممية بالعادة والعرف، ولكن الفلاسفة لم يظهروا إلا بعد ألفي سنة من نشأة الأمم الأممية.
ويؤكد فيكو أن العناية الإلهية هي التي حددت القانون الطبيعي للشعوب؛ لأن الأمم عاشت قرونا طويلة وهي عاجزة عن فهم الحق وعن فهم فكرة القانون الطبيعي التي وضحها الفلاسفة فيما بعد. وسمحت العناية الإلهية بأن تتمسك الأمم بقوانينها المدنية، بل أن تتمسك بحرفية هذه القوانين مهما ثبتت قسوتها عند تطبيقها، وقد حرصت العناية الإلهية بهذا على أن تحافظ على وجود الأمم وبقائها وهذا ما أغفله - في رأي فيكو - فقهاء القانون الطبيعي؛ ولهذا أخطئوا جميعا في مذاهبهم لأنهم تصوروا أن الأمم الأممية قد فهمت فكرة القانون الطبيعي منذ نشأتها الأولى دون أن يدركوا أن هذه الفكرة لم تتضح بشكل كامل إلا بعد تطور العقل البشري وبعد ظهور الفلاسفة لدى هذه الأمم بعد ألفي سنة من نشأتها فأخذوا يبلورون فكرة القانون الطبيعي بشكل كامل عن طريق العقل. والقانون المدني وضعه الأذكياء من البشر الذين صاغوا المنفعة صيغة قانونية؛ ولذلك فهذا القانون لا يفهمه إلا قلة من البشر من ذوي المعرفة والذكاء، أما الشعوب ذات الأفكار المحدودة فقد فهمت القانون على أنه الالتزام الشديد بالصياغة الدقيقة للكلمات التي وضعها الحكماء طبقا لما هو ضروري لحفظ الجنس البشري. وهذا ما تعبر عنه المسلمات التالية: «البشر ذوو الأفكار المحدودة يفهمون القانون على أنه ما تعبر عنه الكلمات» (مسلمة 109). «النص الذي ذكره أولبيان
Ulpian
عن مفهوم القانون المدني لا يعرفه إلا قلة من الناس من ذوي الخبرة والمعرفة والذكاء، وهؤلاء يستطيعون الحكم على ما هو ضروري للحفاظ على المجتمع البشري، أي أن القانون المدني ليس قانونا طبيعيا» (مسلمة 110). «يقين القوانين يظل غامضا بالنسبة للعقل ولا تسنده إلا سلطة التقاليد ويتعذر على العقل أن يفهمه؛ ولهذا فإن القوانين تطبق مهما كانت صارمة لاستنادها إلى سلطة التقاليد» (مسلمة 111). «إن الأذكياء من البشر يعتقدون أن ما تمليه المنفعة هو القانون» (مسلمة 122). «الجانب الحق من القوانين نوع من الضوء الذي يضفيه العقل الطبيعي عليها؛ لذلك كثيرا ما يستعمل المشرعون كلمة حق مرادفة لكلمة عدل» (مسلمة 113). «إن القانون الطبيعي في نظر العقل البشري المتطور هو في الواقع تطبيق للحكمة على المنفعة العملية؛ لأن الحكمة بمعناها الأشمل ليست إلا علم استخدام الأشياء وفق طبيعتها»
27 (مسلمة 114).
كانت هذه هي مسلمات العلم الجديد التي قدمها فيكو والتي يجب أن يسلم بها كل باحث في عالم الأمم لتكون الأساس العلمي والنظري في بناء الهيكل التاريخي، أو بمعنى آخر هي صورة العلم الجديد.
ولكن هناك بعض المغالطات التاريخية في هذه المسلمات، وقد أوضحنا منها في ثنايا هذا الفصل الغلطة التاريخية الخاصة بنشأة النظم الملكية في العالم وكيف أنها بدأت في مصر، ومنها أيضا أن التاريخ بدأ بالطوفان، فهل هذه هي البداية التاريخية الحقة؟ من المؤكد أن بداية التاريخ البشري كانت قبل هذا الزمان، ولكن لم تتوفر المعلومات التاريخية عن هذه الفترة وبالتالي فهو تاريخ مجهول؛ لذلك بدأ فيكو التاريخ من الطوفان لكونه واقعة تاريخية منها يستطيع أن يجمع الخيوط حول بداية التاريخ البشري من الأساطير والتراث الشعبي ونشأة اللغات.
من الواضح تأثر فيكو بأفلاطون في بحثه عن نظام أبدي دائم للأشياء؛ فقد قال فيكو بتاريخ مثالي أبدي يحكم مسار الأمم في مولدها وتقدمها ونضجها ثم تدهورها وسقوطها. ويرى برييه أن الأمر عند فيكو ليس كما هو عند كوندورسيه وكونت مسألة قانون يصوغ تقدما أو تطورا لا محدودا للبشرية في مجموعها، وإنما هو مسألة قانون مثالي تشارك فيه كل أمة مستقلة عن الأمة الأخرى على مدى تطورها؛ فالتاريخ الروماني من العصور الأسطورية الملكية حتى نهاية الإمبراطورية على يد البرابرة مثل على هذا الكل المتكامل، وهو مثال لتاريخ أي أمة بحيث إن مراحله المتتابعة يمكن أن توجد في أي أمة أخرى، أي أن الزمان يسير في شكل دوري يدور ثم يعود على نفسه ليبدأ التاريخ من جديد مع كل أمة، وهنا يردد فيكو النظرة المألوفة عند كل من أفلاطون وأرسطو والرواقيين الذين كانت لديهم نفس الفكرة عن الزمان.
28 (2) مبادئ العلم الجديد
يضع فيكو مبادئ علمه الجديد مفترضا عدم وجود كتب على الإطلاق، رافضا كل ما قدمه علماء اللغة والفلاسفة من أفكار بدت له مشوشة ومضطربة لسببين: (أ)
غرور الباحثين الذين يتصورون أن كل ما يعرفونه كان معروفا منذ بداية العالم؛ ولهذا لا نستطيع أن نلجأ إلى أبحاث الفلاسفة فحسب. (ب)
غرور الشعوب التي يتصور كل منها أن تاريخ العالم بدأ مع بداية تاريخ شعبه وأمته؛ ولذلك لا نستطيع الاعتماد على ما كتبه علماء اللغة وحدهم عن تاريخ هذه الشعوب.
ولكن وسط الظلام والغموض الذي يكتنف الشعوب القديمة يشرق نور الأبدية، إن العالم التاريخي من صنع البشر، وهذه هي الفكرة الرئيسية في فلسفة فيكو. والتاريخ ليس من صنع القدر ولكن من صنع العقل ولهذا فلا بد أن نجد مبادئ التاريخ في تحولات عقلنا البشري نفسه، ويتعجب فيكو تعجبا شديدا من اتجاه كل الفلاسفة الجادين لدراسة العالم المادي الطبيعي الذي هو من صنع الله وهو وحده القادر على معرفته معرفة تامة، بينما أهملوا البحث في عالم التاريخ البشري وكانوا كالعين التي ترى كل شيء خارجها وتحتاج لمرآة لترى نفسها.
ولما كان الإنسان هو صانع التاريخ فلا بد أن تكون هناك تنظيمات أساسية وافق عليها كل البشر، ومن هذه التنظيمات ستخرج المبادئ العامة الخالدة التي وجدت في كل الشعوب. هذه المبادئ الأساسية التي يراها فيكو تتلخص في ثلاثة: الدين أو العقيدة، الزواج وما يرتبط به من تحكم في الانفعالات، دفن الموتى وما يرتبط به من خلود الروح البشرية.
تتبع فيكو أصول النظم الاجتماعية للأمم وردها إلى هذه المبادئ الثلاثة محاولا أن يبين أن بقاء الحضارة متضمن فيها أو نابع منها، ثم استخرج من هذه النظم الثلاثة سائر النظم الحضارية المتطورة. لقد لاحظ أن كل الشعوب، بربرية كانت أو مدنية، لها عادات بشرية ثابتة بالرغم من تباعدها في المكان والزمان؛ فهي جميعا تتفق على ديانة ما، وهي بلا استثناء تحتفل بطقوس الزواج وتدفن موتاها. وحتى الشعوب الموغلة في التوحش نجد لديها الأفعال البشرية التي تحتفي بها وتصاحبها طقوس مقدسة مثل شعائر الدين والزواج ودفن الموتى. اتخذ فيكو من هذه العادات الثلاث مبادئ أساسية لعلمه الجديد واعتبرها الأصل في الحس المشترك بين الشعوب؛ ولذلك ارتفعت في رأيه إلى مرتبة القداسة لأنها هي التي تعصم الشعوب من الارتداد إلى حالة التوحش.
والمبدأ الأول يعارض فيه فيكو بعض الرحالة المحدثين الذين يروون عن شعوب في البرازيل وجنوب أفريقيا ليس لديها أية معرفة عن الله، كما يعارض زعم المفكر الفرنسي بايل
Bayle (1647-1706م) «أن الشعوب يمكنها أن تعيش حياة عادلة بغير حاجة للنور الإلهي.» وقول المؤرخ الهلينستي بوليبيوس (200-120ق.م.): «إنه إذا كان هناك فلاسفة في العالم فهناك عدل مستمد من قوة العقل لا من قوة القوانين ولا حاجة للأديان في العالم.» يعارض فيكو هؤلاء جميعا بقوله إن كل أمة تؤمن بديانة ما، وهناك أربع ديانات هي: العبرانية، والمسيحية، وكلاهما يؤمن بألوهية عقل لا متناه حر أي يؤمن بالله، والأمم الأممية أو الوثنية تؤمن بتعدد الآلهة، وكل إله منها مؤلف من جسم وعقل. وأخيرا الديانة الإسلامية التي تؤمن بإله واحد. وحيثما وجدت الأديان وجدت التشريعات والقوانين التي تنظم المجتمع البشري. ويدلل فيكو على صدق مبدئه بأن الرواقيين والأبيقوريين قد أخفقوا في تصور تشريع قانوني ينظم المجتمع البشري لأن فلسفتهما كانت حتمية وقدرية. وإذا كانت الرواقية تقول بعناية إلهية فهي عناية ترتد إلى «اللوجوس» الكوني الذي يدبر نظام الكون من داخله، ويستمد فيكو الدليل الذي يؤيد حججه من أن التشريع الروماني يجعل من العناية الإلهية تشريعه الأول.
والمبدأ الثاني وهو الزواج وما يرتبط به من انضباط العواطف والتحكم في الانفعالات يؤكد أن جميع الشعوب آمنت بأن الالتقاء بين الرجل والمرأة لا يمكن أن يتم بدون طقوس وإلا عد سلوكا بهيميا منحطا، وانتهاكا للطبيعة البشرية ، وخروجا على القانون.
والمبدأ الثالث والأخير وهو دفن الموتى يؤكده أن ليس هناك شعب لا يدفن موتاه، هذا المبدأ هو الأصل في تأكيد إنسانية الإنسان. ويكفي أن نتصور الجثث البشرية ملقاة على الأرض نهبا للطيور الجارحة والوحوش الكاسرة، ولو افترضنا إمكان هذا لكانت عادة وحشية في مدن خلت من الإنسانية والتحضر. ويستشهد فيكو بقول المؤرخ الروماني «تاسيتوس» (من حوالي 55م إلى حوالي 120م) أن هناك اعتقادا ساد الأمم الأممية وهو اعتقادهم بأن أرواح الموتى الذين لم يتم دفنهم تبقى قلقة هائمة حول أجسادها ؛ فالأرواح إذن لا تموت بموت الأجساد؛ لذلك ارتبط مبدأ دفن الموتى بخلود الروح البشرية وأصبح تعبيرا عن وحدة الجنس البشري.
بهذه المبادئ يكون فيكو قد قدم الجانب النظري من فلسفته التاريخية متضمنا عناصر العلم الجديد وأصوله، ولا شك أن مبادئ العلم الجديد هي المبادئ التي تبين حدود العقل البشري وتتلخص كما ذكرنا فيما يأتي: الدين، الزواج، دفن الموتى. فإذا أضفنا إليها المعيار الذي يستخدمه العلم الجديد وهو أن القاعدة التي تقوم عليها الحياة الاجتماعية هي ما يتفق جميع البشر أو معظمهم على أنه عدل وصواب، كانت تلك المبادئ كما قلنا تعبيرا عن حدود العقل البشري، ومن يتعدى هذه الحدود فهو يتعدى الحدود البشرية. (3) المنهج
يؤكد الباحثون أن أهمية فيكو ترجع إلى المنهج أكثر مما ترجع إلى المذهب؛ فقد حدد القواعد التي يجب اتباعها لدراسة أصول التنظيمات الاجتماعية البشرية، وإذا كان قد عارض المنهج الرياضي لديكارت إلا أنه لم يرفضه لذاته ولكن رفض تطبيقه في مجال التاريخ، وحدد منهج علم التاريخ بالنسبة لمنهجي الرياضيات والعلوم الطبيعية، ولم يكن تحديد فيكو لمنهج علم التاريخ أو موضوعه وليد نظرة نقدية لمناهج وموضوعات العلوم الأخرى فحسب، بل أسهمت عدة علوم في تشكيل نظرته إلى منهج علم التاريخ وموضوعه أهمها دراسته للغويات؛ فالاشتقاقات اللغوية تكشف عن أسلوب الحياة والتفكير لدى شعب ما، والتعرف على طريقة تفكير شعب ما أو أسلوب حياته يستلزم دراسة اللغة وتتبع التطور الذي طرأ عليها خلال عصور التاريخ . ولقد أفاد من الفلسفة نزعتها الكلية الشمولية؛ فالمظاهر المختلفة للحياة الاجتماعية في مرحلة ما من مراحل التاريخ إنما تتداخل وتتشابك وتشكل نموذجا مترابطا ترابطا باطنيا؛ ومن ثم ينبغي دراستها بنظرة فلسفة شمولية.
ويعتمد فيكو في منهجه على مسلمته الأساسية «يجب أن يبدأ الموضوع من حيث تبدأ المادة التي يتناولها» ولهذا يجب أن نعود مع علماء اللغة والفلاسفة إلى البدايات الأولى للإنسانية عندما كانت في حالة توحش، أي يجب التوفيق بين فقه اللغة والفلسفة؛ لذلك يقيم منهجه على الأدلة الفلسفية والأدلة اللغوية معا، ويبدأ بالأدلة الفلسفية ثم يتبعها بالأدلة اللغوية لتكون أدلة واقعية تؤيد الأدلة التي اهتدى إليها بالتأمل والتفكير. وتنقسم الأدلة الفلسفية إلى أدلة لاهوتية وأدلة منطقية، ويبدأ بالأولى فيؤكد ضرورة البدء من فكرة الإله التي لم يفتقر إليها الإنسان الوحشي الذي لم تكن هناك وسيلة للحد من توحشه أو ترويضه إلا فكرة الخوف من إله معين. هذه الفكرة تبين أن الإنسان سقط في اليأس وتطلع إلى قوة أعلى منه لتنقذه، ولا توجد قوة أسمى من الطبيعة سوى الله. ولقد كان هذا هو النور الذي ألقته العناية الإلهية على جميع البشر، أي أن أفكار الإنسان الأول كانت مصحوبة بالاضطراب والانفعال، وفكرة الألوهية هي التي أضفت على تفكيره الطابع الإنساني وحولت انفعالاته الحيوانية إلى أفكار بشرية؛ لذلك يجب أن نبدأ من الميتافيزيقا الشعبية التي نجدها عند الشعراء القدامى لنجد كيف أن فكرة الألوهية كانت قوة دافعة لحرية الإرادة البشرية ومكنتها من التحكم في انفعالات الجسد وحركاته.
وإذن فالفكرة الجوهرية التي تحدد منهج البحث عند فيكو وتجعل منه الرائد الحق للأبحاث التاريخية الحديثة هي ضرورة التوفيق بين فقه اللغة وبين الفلسفة، أي أنه يبرهن بالمقابلة والموازنة - كما يقول برييه في كتابه تاريخ الفلسفة
29 - على الأسانيد المستمدة من الأمم المختلفة (من مصر وبلاد اليونان وروما على سبيل المثال) ووحدة قانون التطور في كل أمة من هذه الأمم. ويضيف برييه أنه إذا كان فلاسفة العقل لا يعترفون بشيء واحد بين البشر سوى العقل الذي يفترضون أنه مشترك بين الجميع وأن ما هو خيال وانفعالات فهو سبب الفرقة بين البشر، فإنهم ينقلون هذا العقل عن طريق الفكر إلى فجر البشرية لعجزهم عن تكوين فكرة عن الأشياء البعيدة والمجهولة؛ من ثم يتصورونها على نمط الأشكال التي يعرفونها. وقد حاول فيكو أن يقلب هذه الآراء معتمدا على فقه اللغة؛ وذلك لكي يثبت أن بين البشر وحدة لا تقوم على العقل؛ بل أن هناك حسا مشتركا أو حكما بغير تأمل يمكن أن نجده عند كل الطبقات وكل الشعوب بل والجنس البشري بأكمله؛ فالأفكار الواحدة تنشأ في نفس الوقت عند شعوب بأكملها يجهل بعضها البعض، وهناك قوانين واحدة أو مشتركة بين الأمم لا تنبع من العقل.
ويؤكد منهج العلم الجديد دور العناية الإلهية كحقيقة تاريخية؛ فتطور الإنسان والمجتمع يكشف عن منطق يعلو على الوعي والرغبات الفردية، كما يؤكد وجود عقل مدبر هو العناية الإلهية، وهي في رأي فيكو لا تعمل بقوة القوانين وإنما تعمل من خلال عادات البشر وتقاليدهم؛ فالبشر بحكم طبيعتهم الإنسانية يسعون دائما إلى مصلحتهم الخاصة، وعندما عرف الإنسان الزواج حرص على مصلحته في نفس الوقت الذي حرص فيه على مصلحة أسرته. وكذلك كان شأنه في التنظيمات الأخرى التي تتجاوز الأسرة كالمجتمع بمعناه الضيق والمجتمع البشري بمعناه الواسع. لقد وجهته العناية الإلهية دون أن يشعر إلى هذه التنظيمات الاجتماعية.
ويميز فيكو بين نوعين من العناية الإلهية: (أ) العناية الإلهية المتعالية المباشرة التي عبرت عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة، وهذه مقصورة على الشعب المختار. (ب) العناية الإلهية الباطنة أو الكامنة في التاريخ التي تعمل وفق قوانين موحدة وتستخدم وسائل طبيعية وبسيطة مثل العادات البشرية نفسها وهي ما كانت تمتلكه كل الأمم الأممية، ويتعارض النوع الأول (المباشر المتعالي) مع فاعلية البشر؛ فهي هنا قد صنعت تاريخ البشر عن طريق الرسالات السماوية، أما النوع الثاني فهو لا يتعارض مع الفاعلية البشرية التي اتبعت وسائل بسيطة وطبيعية كالعادات البشرية، وإن كانت العناية الإلهية هي التي توجهه أيضا ولكن بطريق غير مباشر. لقد تركت البشر يتبعون قوانين موحدة ويستخدمون وسائل بسيطة فكانت أفعالهم البشرية هي التي تصنع التاريخ وتضفي معنى على التاريخ، ويقابل هذا التعارض. (أ) استثناء التاريخ العبري المسيحي من نطاق الدائرة التي يختص بها العلم الجديد. (ب) تصور عالم الأمم باعتبار أن له أصولا عديدة مستقلة بحيث يتمثل أو يتجسد في كل أمة نفس التاريخ المثالي الأبدي.
ويزعم فيكو أنه لم يلجأ إلى فكرة العناية الإلهية ليبرر إمكان قيام العلم الجديد، وإنما هو افتراض أساسي يقوم عليه هذا العلم كما هو أحد وجوهه الرئيسية، بحيث أمكنه أن يصف العلم الجديد بأنه «لاهوت عقلي مدني عن العناية الإلهية.» ويهمنا هنا في حديثنا عن منهج العلم الجديد أن نتبين كيف طبق فيكو منهجه اللغوي واستفاد منه في تحليل فكرة العناية الإلهية؛ فهو يوجه أنظارنا إلى معنى الألوهية
Divinitas
الذي يدل من ناحية اشتقاقه الأصلي على معنيين: (أ) الاطلاع على الغيب الكامن في المستقبل. (ب) والاطلاع على الأسرار الخفية في الضمائر؛ فالعناية الإلهية وجهت البشر دون علمهم بل على الرغم منهم إلى حفظ المجتمع البشري وتأسيس التنظيمات الاجتماعية.
كانت هذه هي الأدلة اللاهوتية التي يكملها فيكو بأدلة أخرى منطقية أولها: أن البحث في أصول التنظيمات البشرية في عالم الأمم سواء أكانت دينية أو غير دينية يجب أن يتوقف عند بداياته الأولى ويحدد الأصول التي لا توجد أصول أسبق منها. وثانيها: تفسير طبيعة التنظيمات البشرية عن طريق التحليل الدقيق لأفكار البشر وخاصة أفكارهم عما هو ضروري ونافع للحياة الاجتماعية البشرية؛ لأن الضرورة والمنفعة هما المصدران الأساسيان للقانون الطبيعي للأمم؛ ولهذا يحلو لفيكو أن يصف علمه الجديد بأنه تاريخ الأفكار البشرية أو ميتافيزيقا العقل الإنساني. وقد بدأ هذا التاريخ أو بدأت هذه الميتافيزيقا العقلية عندما بدأ البشر يفكرون بطريقة إنسانية لا عندما بدأ الفلاسفة يفكرون في أصول البشر.
ولا بد أن نلاحظ هنا أن فيكو قد توصل لمبادئه عن طريق استقراء الحس البشري المشترك الذي أدى إلى التنظيمات البشرية ولم يعتمد على كتابات المؤرخين والفلاسفة الذين يقدر أنهم ظهروا بعد تأسيس الأمم الأممية بألفي سنة على الأقل. وقد حرص منهج العلم الجديد على تحديد جغرافية الأفكار البشرية وتاريخها لكي يكون هذا التاريخ يقينيا، كما طبق أسلوبا نقديا جديدا تناول به مؤسسي الشعوب الأولى. ومعيار هذا النقد وفقا للمسلمة الثانية عشر هو أن العناية الإلهية هي التي علمت كل الشعوب الحس المشترك بينها جميعا.
وهكذا يصور العلم الجديد التاريخ المثالي الأبدي عبر الزمان، هذا التاريخ الذي تسير بمقتضاه تواريخ كل الشعوب من نشأتها وتطورها ونضوجها إلى تدهورها ثم سقوطها. والمبدأ الأول الثابت يفترض أن الإنسان هو الذي صنع عالم الأمم، وأن التاريخ يكون أكثر يقينا عندما يرويه صانع الأحداث نفسها، وهكذا ينطبق على هذا العلم ما ينطبق على علم الهندسة وهو أنه يقوم على أساس ما وضعه من مبادئ. ومع ذلك فإن التاريخ بمفهوم العلم الجديد أكثر واقعية من علم الهندسة؛ لأن التنظيمات الاجتماعية والأحداث الإنسانية أكثر واقعية من النقط والخطوط والسطوح والأشكال، والواقع أن هذه الفكرة البسيطة الرائعة تعتمد على نظرية فيكو في المعرفة، وهذه النظرية البسيطة بدورها تؤكد أننا لا نعرف أو لا نعلم إلا ما نصنعه نحن بأنفسنا.
كانت هذه هي الأدلة الفلسفية التي لا بد أن تسبق الأدلة اللغوية، أما هذه الأخيرة فتقوم على عدة نقاط: تتفق الأساطير، من ناحية، مع التنظيمات التي يدرسها العلم الجديد اتفاقا مباشرا وطبيعيا، وسيكشف العلم الجديد أن الأساطير تواريخ مدنية للشعوب التي كانت بطبيعتها شعوبا شاعرية، كما تتفق الأساليب والتعبيرات البطولية من ناحية أخرى مع هذه التنظيمات. ويتعهد العلم الجديد بدراسة هذه التعبيرات البطولية بكل ما تحمله من صدق في الإحساس ومن خصائص التعبير. وقد استفاد فيكو، كما يقول كولنجوود
30
في كتابه فكرة التاريخ، من الخرافات والأساطير. ذلك لأن آلهة الديانات القديمة تمثل في صورة نصف شاعرية صرح الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء الذين صوروا آلهتهم هذا التصوير، وقد كانت الأساطير هي الأسلوب الذي اتخذته العقلية البدائية التخيلية للتعبير عن أشياء كانت العقلية المفكرة تلجأ إلى التعبير عنها في صياغة القوانين المدنية والأخلاقية، ومع ذلك فهو لا يسلم بصدق هذه الروايات تسليما حرفيا وإنما يعدها استذكارا لسلسلة من الحقائق المختلطة ببعضها البعض.
وتتفق التنظيمات مع اشتقاقات اللغات الأصلية، فالعلم الجديد يدرس الكلمات من حيث دلالتها على تاريخ التنظيمات الاجتماعية بحيث يبدأ بمعانيها الأصلية ويتتبع تطورها الطبيعي. وهنا يلتزم فيكو بالأفكار التي شرحها في الأصول في المسلمتين 64، 65 وتنص المسلمة الأولى - وهي تكفي وحدها لتأكيد نزعته المثالية - على أن نوع الأفكار لا بد أن يتبعه نوع المؤسسات الاجتماعية أو الأنماط السلوكية. وتنص المسلمة الثانية على أن تتابع النظم الاجتماعية على هذا النظام يعد نموذجا لتاريخ تطور معاني الكلمات في اللغات المختلفة. فالملاحظ أن معظم كلمات اللغة اللاتينية ذات أصول مشتقة من الحياة في الغابات، ثم تطورت في الحياة الريفية، وأخيرا اقتضت الطبيعة المدنية تطورا آخر في استعمال اللغة. ومعنى هذا كله أن فيكو قد التزم بالأفكار التي يسير بمقتضاها تطور تاريخ اللغات.
وقد قام العلم الجديد بفحص «القاموس العقلي» للتنظيمات الاجتماعية للبشر، وهذه التنظيمات كما أكدت الأصول واحدة في جوهرها عند كل الأمم وإن تعددت أشكال التعبير اللغوي (كما تنص على ذلك مسلمة 22: يجب أن يكون في طبيعة المؤسسات البشرية لغة عقلية مشتركة بين كل الشعوب تشكل جوهر الأشياء العملية في الحياة الاجتماعية وتعبر عن مظاهر تكيفهم مع الأشياء، ويظهر هذا في الأمثال والحكم الشعبية).
والعلم الجديد يميز الحق من الباطل عن طريق دراسته للمأثورات الشعبية التي بقيت ثابتة خلال أزمان طويلة وعند شعوب بأكملها مما يدل على أنها تصدر عن مصدر حقيقي مشترك؛ فالآثار المتبقية من العصور القديمة (وهي التي لم يلتفت إليها العلم حتى عهد فيكو ولم ينتفع بها لأنها كانت متناثرة ومشوهة) سوف تلقي أضواء هامة إذا التفت العلماء إليها ونسقوها ووضعوها في مكانها وجمعوا أجزاءها المبعثرة. وهنا يتضح اهتمام فيكو بعلم الآثار الذي لم يكن قد اتضحت معالمه بعد ولم يزدهر إلا في القرن التاسع عشر. إن البحث في أصول التنظيمات الاجتماعية هو الذي سيثبت أنها هي الأسباب الضرورية التي نجمت عنها كل الأحداث التاريخية أو ترتبت عليها.
ويرى فيكو أن الأدلة اللغوية تكشف لنا بطريقة واقعية عما كشفه لنا التأمل الفكري في التاريخ، فبحثه اللغوي في أصل التنظيمات الاجتماعية سيؤيد بطريقة طبيعية ما توصل إليه من قبل بطريقة فكرية وفلسفية، وبذلك يحقق صدق منهج بيكون الذي عبر عنه بكلمة «فكر وانظر» أي أن الدراسة اللغوية ستقدم أدلة واقعية تؤيد الأدلة الفلسفية التي اهتدي إليها بالتفكير.
والواقع أن قيمة منهج فيكو تتجلى في أنه شق طريقا جديدا لم يسبقه إليه أحد؛ فهو لا يبحث في وثائق الماضي إلا عما يمكن أن تقدمه لنا من تاريخ الذين صنعوها ومعتقداتهم. وقد كان منهجه منذ البداية منهجا متكاملا لأنه يدرس تاريخ البشرية دراسة استقرائية - كاستقراء بيكون للطبيعة - كما يبحث مراحل تطوره بدلا من تأليف فروض مصطنعة عنه. والمادة التي يستخدمها فيكو في هذا الاستقراء عن الماضي البعيد هي التراث الأسطوري الشعبي الذي يسجل - مهما كانت أشكاله ومهما حرف الواقع - التاريخ القديم للشعوب؛ ولهذا نراه يرجع للأشعار القديمة مثل أشعار هوميروس والتشريعات البدائية مثل قانون الألواح الاثني عشر. ومهما يكن من رأي فيكو في أصالة هذه المادة فيجب أن ننتبه للروح التي اختارها بها وكيف أن تفكيره يعد من هذه الناحية تفكيرا متقدما على التأملات المجردة في عصر النهضة؛ إذ أسقط من حسابه كل الوثائق التي يصور المؤرخون في القرن السادس عشر أنها تكشف لنا عن التاريخ القديم كالتنبؤات الكلدانية والقصائد الأورفية والأبيات الذهبية المنسوبة لفيثاغورس، ولعل مما يكشف عن أصالة تفكير فيكو أنه تسلح بفكرة مؤداها أن أصول التاريخ البشري قليلة وغامضة وفظة؛ ولهذا رفض علما مزعوما مكونا من ألغاز، كما رفض المنهج الرمزي الذي يفسر الأساطير ليستخرج منها تاريخ العقل.
الباب الثاني
قانون التطور
الفصل الأول
قانون تطور الأمم
يتناول هذا الفصل قانون تطور الأمم الذي توج به فيكو كتابه الضخم «العلم الجديد» الذي صدرت الطبعة الأولى منه عام 1725م، ولكن بداية ظهور هذا القانون ترجع إلى ما قبل العلم الجديد بسنوات طويلة؛ فقد ظهر للمرة الأولى في الخطبة الافتتاحية التي ألقاها فيكو عام 1708م ونشرت في كتاب عام 1709م تحت عنوان «مناهج الدراسة في عصرنا». وفي هذا الكتاب يعرض فيكو آراءه عن التربية، فيقول بوجود قانون للتطور النفسي يرتقي بفضله الفرد خلال سلسلة من المراحل تحددها الطبيعة بصورة ثابتة، هذه المراحل توازي سلسلة أخرى ثابتة من المراحل الحضارية اجتازها الجنس البشري خلال تطوره من الطفولة إلى الشباب ومن الحياة البدائية إلى حياة التمدن. ومعنى هذا أن الفرد الواحد يلخص في صورة مصغرة عملية تطور النوع بأكمله. ويعتقد فيكو أن التربية ينبغي أن تقوم على هذا النظام الطبيعي للمراحل، ويدافع - قبل روسو - عن ضرورة أن تكون التربية مطابقة للطبيعة. والواقع أن أهمية هذه الفكرة لا تقتصر على سبقها لفكرة التربية الطبيعية كما عرضها روسو في كتابه المعروف «إميل أو التربية»، وإنما تعود أهميتها إلى أن فيكو لم يقصرها على مجال التربية وحده وإنما تجاوزها إلى رؤيته الفلسفية للتاريخ، وهي الرؤية التي تفتحت زهورها وآتت ثمارها في العلم الجديد.
وبغض النظر عن آرائه التربوية التي تعتمد على إدراك نفسية الطفل (وتعد كما يقول بعض الباحثين رائدة علم نفس الطفل الذي أصبح علما مستقلا منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر) فإن هذه الآراء تلقي الضوء على نظريته في المعرفة التي تلخصها هذه العبارة اللاتينية
Verum ipsum factum (الحق هو العمل نفسه) وهو المعيار المعرفي الذي وضعه فيكو عن قصد في مقابل المعيار الديكارتي المعروف عن الحقيقة، وهي الأفكار الواضحة المتميزة.
ولعل هذه العبارة، كما يقول كروتشه، تحتوي على بذور نظريته المتكاملة في المعرفة، فنحن لا نحصل على المعرفة الحقة إلا إذا قام نفس الشخص بالتفكير والفعل معا، والإنسان صانع تاريخه يمكنه أن يعرفه، كما أنه لا يعرفه إلا لأنه صانعه. وغني عن الذكر أن هذه الفكرة المحورية ترتكز عليها النزعة التاريخية
Historicism
1
التي يعد فيكو أحد روادها، كما تعد العبارة - التي أشرنا إليها - بداية دفاع فيكو عن المنهج التأليفي أو البنائي وبداية هجومه على المنهج التحليلي الرياضي عند ديكارت وأتباعه وعلى الأفكار الفطرية الديكارتية التي انتقدها وذهب إلى أنها لا تكون معرفتنا الحقيقية مهما كانت واضحة ومتميزة، كما أشرنا في الفصل الأول من الباب الأول من هذا البحث. وتوضح هذه العبارة أيضا أننا لا نفهم فكرة إلا إذا صنعناها بأنفسنا؛ ومن ثم لا يفهم البشر تاريخهم إلا لأنهم هم صانعوه، أما الطبيعة فيعرفها الله وحده معرفة كاملة لأنه هو الذي خلقها.
من هنا نشأت فكرة قانون التطور الذي كان في البداية قانونا للتطور النفسي في العملية التربوية، ثم اختمر في ذهن فيكو فأصبح قانونا لتطور الأمم بعد أن نمت هذه البذور الأولى وتفتحت في شكل نظرية متكاملة للمعرفة قدمها في كتابه «الحكمة الإيطالية القديمة» عام 1710م، وأشار لها في الفصلين الأول والثالث من هذا الكتاب الذي عبر فيه عن نزعته الإنسانية. ولا عجب في هذا فهو فيلسوف التاريخ الإنساني الذي لم يصنعه الإنسان بعقله وحده بل بقلبه وحسه وعاطفته وعمله وواقعه البشري المتفرد المعقد.
2
وقد ظهرت فكرة العلم الجديد لأول مرة في أحد فصول مؤلف فيكو «القانون العالمي» تحت اسم «محاولة عن العلم الجديد» وهو الذي صدر الجزء الأول منه عام 1720م كما أشرنا من قبل في الفصل الأول من الباب الأول لهذا البحث، وأخيرا ظهر العلم الجديد في طبعته الأولى 1725م وأفرد فيكو الكتاب الرابع منه لقانون التطور وهو ما سنعرض له الآن. اعتمد فيكو في هذا الجزء على القانون الروماني اعتمادا كبيرا وكتب باستفاضة في هذا الشأن (فقد كان يشغل منصب أستاذ للقانون الروماني بجامعة نابولي كما أشرنا من قبل)، ووصل اهتمامه بالقانون إلى حد القول بأن الفلسفة نشأت عن القانون بصفة عامة، على نحو ما سنرى في سياق هذا الفصل الذي سيكشف لنا أيضا كيف سبق فيكو بعض فلاسفة التاريخ وعلماء الاجتماع في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومنهم على سبيل المثال أوجست كونت في قانونه المعروف عن تطور الشعوب (قانون الأحوال الثلاثة) وكيف مهد له.
انتهى فيكو من دراسته للحضارات القديمة - وخاصة اليونانية والرومانية وبعض الحضارات الشرقية - إلى قانون يحكم تطور الشعوب؛ فالأمم في تطورها تتقدم وترتقي من الهمجية إلى الأديان، ثم تنتقل إلى الخضوع للقوانين والحكومات، حتى تصل إلى مرحلة التعامل الإنساني في حياة اجتماعية منظمة. وكل الشعوب تمر بالتاريخ المثالي الأبدي في نشأتها وتطورها ونضجها ثم تدهورها وسقوطها.
هذه الدورة التاريخية التي تمر بها كل أمة تتعاقب في مراحل ثلاث، وهذه المراحل الثلاث هي القانون الذي انتهى إليه فيكو واستقاه من التاريخ المصري القديم كما اعترف بذلك في أكثر من موضع؛ بل إنه اعتبر هذا القانون - الذي وضعه المصريون لشرح تاريخ العالم قبلهم - بديهية من بديهيات العقل التي يجب التسليم بها منذ البداية، فكانت المسلمة رقم 28 ومجمل هذه المسلمة أن تاريخ البشرية يمر بثلاث مراحل رئيسية هي المرحلة الإلهية، والمرحلة البطولية ثم المرحلة البشرية.
فالمرحلة الإلهية تتصف بالتأليه واعتبار كل ما في العالم ملكا للآلهة، والحكومة نفسها إلهية لها إرادة آمرة ناهية، وهي تختار من يمثلها على الأرض وكان الحكم الاستبدادي فيها بيد الكهنة الذين يمثلون رجال الدين ويدعون أنهم يحكمون بمقتضى قوانين إلهية يتلقونها عن طريق النبوءات والتكهنات، وفي هذا العصر الإلهي سيطرت الخرافة والأساطير على الفكر، وساد الخوف الذي كان الدافع الأول للإنسان لتصوره للآلهة عن طريق المخيلة، وكانت اللغة في هذا العصر لغة رمزية سرية كاللغة الهيروغليفية.
أما المرحلة البطولية فهي مرحلة أنصاف الآلهة من البشر الذين يزعمون أنهم ينحدرون من أصل إلهي لينظر إليهم نظرة التقديس والتأليه. وقد سمي عصرهم بعصر الأبطال، وكان هؤلاء الأبطال هم آباء الأسر الذين لهم الحق المطلق على أفراد أسرهم كحق الحياة والموت وحق البيع والشراء. وقد خطت البشرية في هذا العصر البطولي خطوة إلى الأمام فتحررت من استعباد الآلهة وانتقلت إلى استعباد الإنسان لغيره من بني جنسه. أما اللغة فكانت لغة شعرية تتغنى بالبطولة والشجاعة التي اتسم بها العصر كله.
وأخيرا تأتي المرحلة البشرية فنجد المساواة في الحقوق أمام القانون وحصول كل إنسان على حقوقه الطبيعية المشروعة في ظل حكومات ديمقراطية شعبية حققت المساواة بين طبقة النبلاء وطبقة العامة واعترفت بحق هذه الطبقة الأخيرة في المشاركة في نظام الحكم، وكانت اللغة في هذا العصر الأخير لغة شعبية غلب عليها النثر.
ذلك باختصار هو قانون تطور الأمم. ولقد قام فيكو بالتدليل على صدقه في كل ما يتعلق بحياة الشعوب والطبائع الثلاث التي تسودها وما يتبعها من عادات ثلاث، وبفضل هذه العادات تلاحظ ثلاثة أنواع مختلفة من القانون الطبيعي للأمم وما يتبع هذا القانون من تنظيم المراحل المدنية، فكانت الحكومات الثلاث وما يقابلها من لغات ثلاث، وتشكلت ثلاثة أنواع من الرموز، كما كانت هناك ثلاثة أنواع من التشريع والسلطة والعقل والأحكام.
وسوف نتتبع الآن بالتفصيل تطبيق فيكو لقانون التطور على كل هذه المجالات. (1) أنواع الطبائع الثلاثة
لا بد أن نذكر في البداية أن كلمة
Nature
عند فيكو تدل على معناها الأصلي في اللغة اللاتينية وهو المعنى الحيوي المتعلق بالأصل والميلاد والنشأة، وقد كانت الطبيعة الأولى دينية تتمثل في الشعراء اللاهوتيين الذين كانوا هم الحكماء الأوائل للأمم الأممية. هذه الطبيعة تزداد قوة في مرحلة ضعف التفكير العقلي وينشط فيها الخيال، وهي في الوقت نفسه طبيعة شعرية، وقد تأسست الأمم الأممية في هذه المرحلة على الدين وعبادة الآلهة التي خلقتها الأمم بنفسها. أما الطبيعة الثانية فهي بطولية، حيث اعتقد الأبطال أنهم من أصل إلهي وأنهم يتلقون النبوءات من الآلهة، وجعلوا أنفسهم نبلاء مسيطرين على العمالقة العاقلين الذين دفعهم البرد القارص للبحث عن النجاة في أماكن مسكونة فلجئوا إلى النبلاء الذين عاملوهم معاملة العبيد. وأما الطبيعة الثالثة فهي بشرية أو إنسانية وتتميز بالعقل والتواضع والشعور بالواجب ومعرفة قوانين الوعي والضمير.
3
وتولدت من هذه الطبائع «أنواع العادات الثلاث»؛ كانت العادات الأولى ممتزجة بالدين والتقوى، وكانت العادات الثانية منفعلة غضوبا تتمثل في عادات البطل سريع الغضب مثل أخيل، وأما العادات الثالثة فتتسم بالإحساس بالواجب ويتعلمها كل فرد بدافع من شعوره بالواجب الاجتماعي.
ومن هذه العادات تشكلت «أنواع القانون الطبيعي الثلاثة»؛ فالقانون الأول ديني إذ لم تكن هناك وسيلة لترويض البشرية الأولى في حالة توحشها إلا الدين؛ ولهذا كانت الآلهة في هذه المرحلة هي التي تقود الشعوب، وكانت القوانين تبعا لذلك قوانين إلهية. والقانون الثاني بطولي وهو قانون القوة التي يتسلح بها الأبطال، ولكن الدين يحكم هذا القانون بطريق النبوءات الإلهية حيث لا مجال لقوانين بشرية. أما القانون الثالث فهو إنساني نشأ عن تطور العقل البشري. ومن القانون الطبيعي للأمم - الذي وضعته العناية الإلهية بصورة طبيعية من خلال العادات والأعراف البشرية - نشأت كل النظم الاجتماعية وتكونت الحياة المدنية في الشعوب الأولى فكانت «الأنواع الثلاثة من الحكومات».
كانت الحكومات الأولى دينية إذ اعتقد البشر أن كل شيء يحكمه الآلهة، وكانت النبوءات والتكهنات هي التنظيمات الأولى في العصور القديمة، أما الحكومات الثانية فكانت بطولية أو أرستقراطية تغلب عليها القوة، هذه الحكومات ميزت بين النبلاء الذين انحدروا من أصل إلهي ولهم كل الحقوق المدنية المكفولة للطبقات الحاكمة، وبين العامة الذين يعتبرون من أصل متوحش لا يسمح لهم بالاستمتاع بالحرية الطبيعية، ثم أصبحت الحكومات الثالثة حكومات بشرية تميزت بالمساواة في العقل، الذي هو الميزة الطبيعية للإنسان؛ ولهذا أصبح الجميع متساوين أمام القانون.
4
ويقابل هذه الحكومات «الأنواع الثلاثة من اللغات»؛ فقد كانت اللغة من النوع الأول لغة دينية، وهي لغة صامتة خرساء، أي لغة مقدسة تصاحب المرحلة الدينية الأولى وتتم بها الطقوس ويطلقون عليها اللغة السرية المقدسة. وقد تمثل هذا النوع من اللغات عند المصريين القدماء في اللغة الهيروغليفية. أما اللغة من النوع الثاني فكانت هي اللغة الرمزية التي قامت على الصور والاستعارات، وهي لغة الشعارات البطولية التي عاشت في ظل النظم العسكرية. وأخيرا يأتي النوع الثالث من اللغات وهي لغة الحديث المنطوق الذي تستعمله كل الشعوب الآن كما هي لغة الرسائل والحياة اليومية.
ويصاحب هذه اللغات «الأنواع الثلاثة من الحروف»
Character
فقد كانت الحروف الأولى رموزا دينية مقدسة استعملتها كل الشعوب في بداية تاريخها؛ إذ كان الناس يفكرون بمفاهيم عامة أو كليات خيالية أملتها بالفطرة طبيعة العقل البشري التي تميل إلى كل ما فيه وحدة واطراد. ولما كان البشر في تلك الفترة من حياتهم عاجزين عن التجريد المنطقي؛ فقد وصلوا إلى تلك الكليات الشعرية عن طريق التخيل، وقد ردوا المفاهيم الكلية الشعرية إلى أنواع تخص كل جنس مثلما يردون لجوبيتر كل ما يتعلق بالنبوءات، ولجونو (هيرا زوجة زيوس عند الإغريق) كل ما يتعلق بأمور الزواج ... وهكذا. أما النوع الثاني من الحروف أو الرموز فهي الحروف أو الرموز البطولية، وهي كذلك كليات متخيلة ردوا إليها الأنواع المختلفة للأشياء البطولية، مثلما نسبوا لأخيل كل أفعال الشجاعة، ولأوديسيوس كل حيل البشر في المهارة والبراعة والمكر. وقد أصبحت هذه الأجناس الخيالية - بعد أن تعلم العقل البشري كيف يجرد الأشكال والخصائص من الموضوعات - أجناسا عقلية مهدت الطريق للفلاسفة وللتفكير الفلسفي. وأخيرا اخترعت الحروف الشعبية التي سارت جنبا إلى جنب مع اللغات الشعبية، وكانت هذه اللغات الشعبية تتألف من كلمات، والكلمات نفسها أجناس عامة للجزئيات التي استعملتها اللغات البطولية في المرحلة السابقة. ويقدم فيكو مثلا على ذلك من هذه الجملة «إن الدم يغلي في قلبي
The blood boils in my heart » مثل هذه العبارة التي كانت تنتمي للعصر البطولي تحولت في العصر الشعبي إلى عبارة مباشرة فأصبحت «إنني أشعر بالغضب
I am angry » هكذا تطورت اللغة، ومع التطور أصبحت للعامة السيطرة على اللغات والحروف. وهذه السيطرة اقتضت من الشعوب الحرة أن تكون سيدة قوانينها؛ لأنهم يفرضون القوانين التي يريدون أن يجبروا الأقوياء على مراعاتها، وهذه السيادة على الحروف واللغات الشعبية تتضمن - بحكم الحياة المدنية - سبق الحكومات الشعبية الحرة على الملكيات.
5
تبع هذا «أنواع ثلاثة من التشريع»؛ فقد كان النوع الأول حكمة إلهية أو علما ينصب على فهم الأسرار الإلهية التي تعبر عنها نبوءات الكهنة، وكان الحكماء الذين يفهمون هذه النبوءات هم الشعراء اللاهوتيون - وهم أنفسهم أول حكماء العالم الأممي القديم - وكانوا يسمون العارفين بالأسرار
mystai
وقد ترجمها الشاعر الروماني هوراس بالمترجمين عن الآلهة أو المفسرين لأقوالهم. هكذا كان المعنى الأول للترجمة (أو التفسير والشرح) وهو
interpretari
متصلا بذلك التشريع القديم وهو فعل اشتق - في رأي فيكو - من فعل آخر هو
interpatrari
أي الدخول في مجتمع الآباء؛ إذ كان الآلهة يسمون في ذلك الحين بالآباء. كان هذا النوع من التشريع لا يقيس العدالة إلا بمقياس الطقوس الإلهية المهيبة؛ ومن ثم احتفظ الرومان بنوع من التبجيل لمواد التشريع
actus legitimi
أو الأفعال التشريعية، كما احتفظوا في قوانينهم بتعبيرات توحي بتبجيل الطقوس الدينية مثل
iustae nuptiae
للزيجات الشرعية
iustum testamentum
أو الوصية الشرعية.
أما النوع الثاني فهو التشريع البطولي الذي كان يلتزم الحيطة في استخدام كلمات معينة. وتمثله حكمة أوديسيوس الذي كان يحصل على كل ما يطلبه وفي الوقت نفسه يراعي الدقة في استخدام كلماته، وكذلك قامت شهرة المشرعين الرومان على ما يسمى
Cavere
أي على عنايتهم الشديدة في صياغة الكلمات صياغة دقيقة، ولم يكن تعبيرهم عن الالتزام بالقوانين
respondere
إلا نوعا من التحذير لعملائهم بألا يقدموا قضاياهم إلى ساحة القضاء إلا في صيغة دقيقة تستوجب الشروع في تنفيذها؛ بحيث لا يستطيع القاضي أن يؤجلها أو يسحبها. وقد حذا أساتذة القانون - في عودة العصور البربرية - حذو الرومان في اللجوء إلى الحيطة الشديدة والعناية الدقيقة بصيغهم القانونية للعقود والوصايا والدعاوي.
وأما النوع الثالث والأخير فهو التشريع البشري الذي ينظر إلى صدق الوقائع نفسها ثم يكيف القاعدة القانونية بما يتطابق معها حتى تتحقق المساواة بين الناس. وهذا النوع من التشريع تراعيه الحكومات الشعبية والحكومات الملكية على السواء، وذلك كله مصداقا لمسلمات فيكو السابقة (رقم 9-111-113) التي أوردها في عناصر العلم الجديد من أن الشعوب في حالة نقص المعرفة إنما تبحث عما هو يقيني يرضي إرادتها ومشاعرها، أما في حالة الاستنارة والعلم فإنها تبحث عما هو حق؛ فاليقين
Certum
تستنده سلطة آلهة أو أبطال؛ لهذا كان الناس ملزمين بتنفيذه، أما الحق فهو يستضيء بنور العقل؛ لذلك كان الحق
Verum
عند المشرعين يساوي العدل.
ويتبع التشريع بأنواعه الثلاثة بأنواع ثلاثة من السلطة؛ فالسلطة الدينية مستمدة من الحكومات الإلهية التي سادت في عصر الأسر حيث سيطر الاعتقاد بأن الملكية هي ملكية الآلهة؛ والسلطة البطولية تعتمد على قوانين لها جلالها، وقد ساد هذا في عصر الأرستقراطيات البطولية التي تجسدت فيها السلطة في المجالس التشريعية الحاكمة؛ أما السلطة البشرية فتعتمد على ثقة الشعوب في أصحاب الخبرة وذوي البصيرة، وقد ساد هذا في عصر الديمقراطية الشعبية عندما أصبحت سلطة مجلس الشيوخ بمثابة حارس للقوانين، وأصبح الشعب هو المشرع الحقيقي للقوانين، واقتصرت سلطة المجلس على إصدار هذه القوانين وصياغتها في صورة رسمية.
ثم يقول فيكو «بثلاثة أنواع من العقل»؛ فالعقل الإلهي لا يعرف عنه البشر سوى ما كشفه لهم الإله. ومن البشر من استطاع أن يتوصل للعقل الإلهي بالمناجاة الداخلية، ثم كانت المناجاة الخارجية عن طريق الرسل، وكانت النبوءات والتكهنات لدى الأمم بمثابة رسائل دينية آتية من الآلهة، ثم يأتي العقل البطولي الذي تعبر عنه مجالس الشيوخ البطولية التي كانت تحدد الأسس العقلية التي تقوم عليها الدولة. وهذه الأسس كما حددها المشرع أولبيان
Ulpian
6
ليست معروفة لكل البشر، وإنما هي مقصورة على فئة قليلة خبيرة بشئون الحكم لتحديد ما هو ضروري لحفظ الجنس البشري. وأخيرا نجد العقل الطبيعي في عصر الحرية الشعبية وتطور الملكيات، وهو العصر الذي أصبح فيه المواطن يشارك في الثروة العامة، وأصبحت المنافع الشخصية قليلة وتحولت إلى المساواة بالآخرين، أي أن تطابق المصلحة الشخصية مع المصلحة العامة (وهو ما يسمى بالمساواة الطبيعية) قد ساعد على تطور المجتمعات الأولى من الفظاظة البدائية إلى التمدن.
ويذكر فيكو أن هذه الأنواع الثلاثة من العقل يمكن أن تكون أساسا لتاريخ القانون الروماني طبقا لمسلمته الأساسية التي تقول: «إن الحكومات يجب أن تطابق طبيعة المحكومين.» ويفسر فيكو طبقا لهذه المسلمة الأسباب الكامنة وراء تطبيق التشريع القديم لقانون الألواح الاثني عشر
7
بكل الصرامة المعروفة عنه، وكيف اتجهت القوانين الرومانية من الصرامة إلى الرفق واللين ثم إلى المساواة الطبيعية. كما يفسر فيكو هذه الصرامة التي يتميز بها القانون الروماني بأنها ترجع إلى عادات تولدت عن طبيعة النبلاء، وأن هذه العادات نفسها نشأت عنها أشكال الدولة التي طبقت القانون بدورها تطبيقا صارما.
ففي العصور الوحشية المتطرفة التي مرت بها البشرية الأولى، وعندما كان الدين هو الوسيلة الوحيدة القادرة على ترويض البشر، دبرت العناية الإلهية أن يعيشوا في ظل الحكومات الدينية وأن تقدس القوانين، مما أدى إلى اعتبار هذه القوانين أسرارا خفية عن جماهير الناس. وقد كانت القوانين في حكومات الآباء بطبيعة الحال من هذا النوع، وكانت تصونها طقوس مقدسة تتكلم بلغة خرساء. وكانت هذه الطقوس بدورها ضرورية لعقول البشر البسيطة في ذلك الحين من أجل تبادل المنافع بينهم - باستعمال إشارات صامتة - ثم جاءت الحكومات البشرية للدول الأرستقراطية وكان من الطبيعي أن تواصل تطبيق العادات الدينية وأن تحافظ على الطابع الديني والسري للقوانين؛ لأن هذا الطابع السري هو روح الحكومات الأرستقراطية وحياتها.
ومعنى هذا أن طبقة الحكومات الأرستقراطية كان يهمها أن تحافظ على سرية القوانين وقداستها حتى تضمن ولاء العامة لهذه القوانين التي تكون جزءا كبيرا من السلطة المدنية. ولما جاء عصر الحكومات الشعبية - وهو عصر المساواة الطبيعية أو المساواة المدنية - تطورت اللغات والآداب الشعبية التي تفوقت فيها جماهير الناس جنبا إلى جنب مع تطور الحكومات. وقد دونت القوانين بهذه اللغات الشعبية التي جردتها من السرية التي كانت لها قديما وجعلت عاما ما كان سريا. وقد أثر هذا على التنظيمات المدنية في ظل الحكومات الملكية التي حرص فيها الملوك على تنفيذ القوانين على أساس المساواة الطبيعية، وبهذا جعلوا الأقوياء والضعفاء متساوين أمام القانون، وهو أمر لم يكن من الممكن أن تطبقه غير الحكومات المدنية، على حين أن المساواة المدنية أو مبررات قيام الدولة لم يكن ليفهمها سوى عدد قليل من الحكماء الذين لديهم خبرة بفن الحكم وإدارة شئون الدولة.
8
ثم كانت «الأنواع الثلاثة من الأحكام»؛ كانت الأحكام دينية في المرحلة الأسرية؛ إذ كانت السلطة المدنية لا يحكمها قانون، فكان آباء الأسر يلجئون إلى الآلهة لتساعدهم على حل بعض القضايا. وكانت الحلول تصل إليهم على صورة نبوءات ينساق بها الكهنة أو الكاهنات المقدسات في المعابد، وبذلك كانت الأحكام الأولى إلهية يحافظ عليها الآلهة لأن التنظيمات الأولى كانت دينية؛ ولذلك أيضا يعاقب من يعتدي عليها من قبل الآلهة. وهذا هو السبب الذي جعل الإغريق يعتبرون المجرمين خارجين على الآلهة فيعاقبونهم عقابا قاسيا ويزعمون أنه عقاب إلهي، وهو الذي جعل الحروب البطولية كذلك حروبا من أجل الدين. وقد كان القانون الروماني يعامل العبيد كأشياء لا حياة فيها لا كبشر لأنهم اعتبروهم بلا آلهة. وقد سادت هذه الأحكام الدينية طوال الفترة البربرية لكل الشعوب ثم استمرت لفترة طويلة في الحكومات البطولية. ونأتي بعد ذلك إلى الأحكام العادية المستمدة من القوانين الإلهية، وهي أحكام تتميز بالدقة الشديدة في الصياغة اللفظية إلى حد أن من يسقط فصلة أو كلمة من صيغة الدعوى تسقط قضيته، كما عبر عن ذلك التشريع الروماني القديم، وقد كانت هذه هي مرحلة الأرستقراطية البطولية التي أطلق فيها الأبطال ألقاب الآلهة على أنفسهم لاعتقادهم أنهم من أصل إلهي، وأخيرا نصل إلى الأحكام الإنسانية التي كان الحاكم فيها يصدق الوقائع التي تساندها القوانين كما تلائم أوامر الضمير، وكان هذا بفضل الحكومات الشعبية وكرم الملوك الذين كانوا يفاخرون دائما بأنهم في أحكامهم فوق القوانين، وأنهم لا يخضعون لأحد إلا لله ولضميرهم، وما يزال بعض هذه الأحكام يطبق في العصور الحديثة.
هكذا نجد أن فيكو يؤكد الدورات الثلاث للتاريخ بأن هناك ثلاث مراحل من العصور التاريخية، وهي العصور الإلهية والبطولية والبشرية التي يقابلها ثلاث مراحل تشريعية، وأن هذه القوانين أو التشريعات بدأت بالقوانين الإلهية ثم البطولية وكانت تتميز بالصرامة الشديدة. ثم بدأت هذه الصرامة تخف وطأتها مع تطور العصور التاريخية لتلائم التطور الذي لحق بالتقاليد والحكومات مثلما حدث لقانون الألواح الاثني عشر عندما خفف المشرعون من حدته في مرحلة المساواة الطبيعية أي المرحلة البشرية؛ حيث تطورت العادات وتغيرت التقاليد البشرية في كل عصر إلى أن وصلت للمرحلة البشرية التي بدأت مع الحريات الشعبية، وكان هذا هو القانون الطبيعي للأمم الذي علمته العناية الإلهية للشعوب.
هذه العصور التاريخية هي النظام الأبدي الثابت الدائم الذي يجري عليه تعاقب التنظيمات البشرية الاجتماعية، ويستدل فيكو على هذه العصور بمزيد من البراهين الأرستقراطية البطولية ليثبت تطور التاريخ في الزمان ؛ فقد تطورت النظم الأرستقراطية من ضرورة «حماية حدود الحقول» لوضع حد للفوضى في المرحلة الوحشية، فتحددت حدود الحقوق بالاتفاق بين البشر، وكان هذا الاتفاق موضع احترام في زمن لم تكن فيه قوة مسلحة وبالتالي لم تكن هناك سلطة قانون مدني، وتطورت الأمور بعد ذلك فبدئ في ظل الحكومات الدينية بوضع حدود للأسر ثم العشائر ثم الشعوب والأمم، وعاش العمالقة حياة مستقلة كل منهم مع زوجته وأولاده في كهفه الخاص، لا يتدخل أحدهم في شئون الآخر ويقتلون بوحشية أي فرد يقتحم حدود الآخر، واستمرت هذه العادة وظهرت واضحة في الحكومات البطولية التي تم فيها الاستيلاء على الأراضي أو انتزاعها حتى توقف الاختلاط بالعشائر البدائية الأخرى فتحددت حدود الشعوب. وفي المدن البطولية أصبحت الأراضي خاضعة لسيادة الأبطال حيث كان لهم الحق في استقطاع أراض معفاة تماما من الديون والضرائب (وهذا ما يسمى
quiritary ownership ) وبالإضافة إلى هذا النوع من الملكية وضع الأبطال أيديهم على أراض زعموا أنها وصلت إليهم عن طريق الآلهة (وهو ما يسمى بالملكية المدنية
civil ownership ) وسوف نتناول بالتفصيل أنواع الملكية الثلاثة التي سادت في المدن البطولية أثناء عرضنا للسياسة الشعرية في الفصل التالي.
ويواصل فيكو سرد براهينه على العصور التاريخية من خلال تطور الخصائص البطولية، فبعد أن قام الأبطال بحماية الحدود ثم الحقول والأملاك كان لا بد من حماية التنظيمات البطولية لضمان بقاء نظم الحكم البطولية، وتعد حماية التنظيمات خاصية طبيعية في الحكومات الأرستقراطية التي كانت ترغب في المحافظة على الإرث والثروة داخل طبقة النبلاء لتكسب هذه الطبقة مزيدا من القوة. وعندما بدأ الجنس البشري الاستقرار في كل مكان، ونتيجة لدخول العامة من الشعب في علاقات زواج فيما بينهم، تسربت الثروة من بيوت النبلاء وأصبح للعامة حق إبرام عقود الزواج وممارسة طقوسه بعدما كانوا يعاملون كالعبيد المجردين من أمثال هذه الحقوق.
9
وفازت العامة بحقوقها من النبلاء كحق ملكية الحقول التي منحها النبلاء إياهم بمقتضى قانون الألواح الاثني عشر، ولكن لم تتجاوز ملكيتهم لهذه الحقول ملكية المحاصيل الزراعية (ويسمى هذا النوع من الملكية
bonitary ownership ) وهذا ما سوف نعرضه بالتفصيل في السياسة الشعرية من الفصل التالي. غير أن العامة ظلوا غرباء ليس لهم حق المواطنة وليس لهم حق توريث أرضهم لعشائرهم ولا حق الزواج من طبقة النبلاء. وبقي هذا هو حالهم في المدن البطولية ثم تغير هذا الحال بعدما حصل العامة على كافة حقوقهم المدنية في عصر الحريات الشعبية وأصبحوا على قدم المساواة مع النبلاء.
وأخيرا نأتي إلى «حماية القوانين» التي كانت خاصية تميز الأرستقراطية البطولية. والواقع أنها بدأت منذ العصور الدينية التي سادتها القوانين الإلهية المقدسة أو السرية - التي كانت تقام لها احتفالات مقدسة وطقوس خاصة - إلى أن جاءت الأرستقراطية البطولية فاشتدت الصرامة في حماية القوانين - مثل حماية الرومان لقانون الألواح الاثني عشر - وأصبحت هي الوسيلة الوحيدة لضمان خضوع العامة لطبقة الأشراف. هكذا احتفظ النبلاء كما رأينا بسرية القوانين، ويثبت فيكو رأيه بشواهد من التاريخ الروماني حيث كان علم تفسير القوانين مقصورا على أعضاء مجلس الشيوخ الذي يتكون من طبقة النبلاء في الحكومات الأرستقراطية البطولية، وكان النبلاء يقومون بدور الكهنة في المحافظة على سرية القوانين وقدسيتها لأنها الفئة القليلة الخبيرة بفن الحكم، كما أوضحنا ذلك في كلامنا عن العقل البطولي، ثم جاءت الحكومات الشعبية وشاركت العامة في وضع القوانين.
ويذكر فيكو أدلة أخرى تثبت المسار الطبيعي لحياة الشعوب ومروره بالمراحل التاريخية الثلاث. وطبقا لمسلمة فيكو التي تنص على أن العادات الفطرية لا تتغير كلها دفعة واحدة ولكن تتغير بالتدريج وتستغرق فترات طويلة من الزمن (مسلمة 71)، فإنه لا توجد حدود فاصلة بين المراحل التاريخية الثلاث ولكن هناك امتزاج طبيعي بينها، فنجد في كل مرحلة أثرا للمرحلة التي سبقتها، والدليل على هذا أن الآباء عندما انتقلوا من حياة التوحش الأولى إلى الحياة البشرية احتفظوا في ظل الحكومات الدينية بقدر كبير من وحشيتهم وقسوتهم. ولما تكونت الحكومات الأرستقراطية الأولى بقيت السلطات الفردية في أيدي آباء الأسر على النحو الذي كانت عليه في الحالة الطبيعية السابقة، وهكذا نشأت نظم الحكم الأرستقراطية الأولى محتفظة بقدر كبير من السلطات الأسرية ، وعندما تحولت هذه الحكومات الأرستقراطية إلى حكومات شعبية تصورت الشعوب أن الحكام هم الذين يحمونهم وتركت لهم مقاليد الحكم، وهكذا كانت الحكومات الشعبية بطبيعتها حكومات حرة تديرها قلة من الأرستقراطية، ثم تطور الأمر فاستغل هؤلاء الحكام سلطاتهم لتحقيق مصالحهم الخاصة، وكان حرص الشعوب الحرة على مصالحها ومنافعها الخاصة دافعا لها على أن تترك حريتها الشعبية نهبا لطموح أولئك الحكام، فنشأت الخلافات والفتن والحروب الأهلية التي دمرت الأمم الحرة وعجلت بقيام نظم الحكم الملكية.
10
ثم يتابع فيكو نشأة الحكم الملكي (وهو أفضل أشكال الحكم في رأيه) ويتصور أن هناك قانونا ملكيا دائما ينشأ بصورة طبيعية بحيث تستقر الأمم في ظل الحكم الملكي، هذا الشكل الملكي عرفته الشعوب الرومانية وتعرفت فيه على شخص أوغسطس مؤسس النظام الملكي الروماني.
وعلى الرغم مما أصاب هذا القانون من سوء الفهم، فإن المشرعين الرومان قد فهموه فهما صحيحا. ويكفي أن
11
قد وصفه وصفا دقيقا في هذه العبارة الموجزة «لقد تأسست الملكيات عندما فرضتها التنظيمات نفسها.» هذا القانون الملكي الطبيعي الدائم يقوم على أساس المنفعة الطبيعية الدائمة، ولما كان الناس في الحكومات الشعبية الحرة يسعون لتحقيق مصالحهم الخاصة حتى ولو كان في ذلك دماء شعوبهم، فلا بد أن يبرز رجل واحد ينقذهم من هذا الدمار ويقبض على كل المصالح في يده بقوة السلاح، ويترك لرعاياه حرية السعي وراء شئونهم الخاصة على ألا يتدخلوا في السياسة العامة. ويعطي فيكو بعض الأمثلة لهذا من حوليات تاسيتوس على ما حدث بعد موت أوغسطس وبعض القياصرة الذين جاءوا بعده؛ فقد تباكى الناس على الحريات المفقودة، وشكوا من غربتهم في بلادهم. ويعتقد فيكو أن الحكومات الملكية حكومات حرة، وأن الناس تقف في صف ملوكها مما يجعل الحكم شعبيا؛ فالقوانين التي يصدرها الملوك تحقق المساواة بين الرعايا، والنظم الملكية تؤمن الناس على حياتهم وتخلصهم من اضطهاد المتسلطين والطامعين في السلطة. هذا فضلا عن أن الملوك يحرصون على إرضاء شعوبهم وتحقيق ضروريات حياتهم والتمتع بحرياتهم الطبيعية. وأخيرا فإن الملوك يسخون سخاء عظيما على كل من يستحق التكريم من رعاياهم. ومن هذا كله ينتهي فيكو إلى أن شكل الحكم الملكي هو أنسب أشكال الحكم للطبيعة البشرية وأقربها إلى العقل الإنساني المتطور.
12
ويستطرد فيكو في سرد أدلة أخرى تثبت المسار الطبيعي لحياة الشعوب كالعقوبات والحروب ونظام الأعداد؛ فالعقوبات في عصر الأسر كانت تتمثل في وحشية السيكلوب، واستمرت في ظل الحكومات الأرستقراطية مثل قوانين إسبرطة التي حكم عليها كل من أفلاطون وأرسطو بالوحشية والقسوة، وأخيرا خفت العقوبات فصارت معتدلة في ظل الحكومات الشعبية لأنها بطبيعتها حكومات تميل إلى التعاطف الإنساني وحلت الرحمة محل القسوة. ولقد كانت الحروب البربرية للعصور البطولية تعني دمار المدن المهزومة واستسلام العدو ليصبح قطيعا أو جماعات من العمال المتناثرين في الأرض الزراعية لغرس حقول الشعوب المنتصرة
13
إلى أن جاءت الحكومات الشعبية فسلبت المهزومين القانون الذي ساد حياة الأمم البطولية بحرمانهم من تنظيماتهم المدنية مثل الاحتفال بطقوس الزواج والسلطة الأبوية وحق الملكية والوراثة ... إلخ وأخيرا جاء الحكم الملكي وتضاءل القانون البطولي الذي طبق في الدولة المحتلة لأن الملوك أرادوا أن يجعلوا رعاياهم جميعا متساوين أمام القانون، وكان هدف النظم الملكية هو جعل العالم مدينة واحدة وهذا ما حاوله الإسكندر الأكبر. على سبيل المثال.
أما عن نظام الأعداد التي هي أبسط الأشكال التجريدية، فإنها تطابق في نظام تركيبها نظام التنظيمات الاجتماعية البشرية. لقد بدأت الحكومات بحكم الفرد في الأسرة، ثم كان حكم فئة قليلة من الأفراد في الحكومات الأرستقراطية البطولية، ثم كان حكم الأغلبية أو الكل في الحكومات الشعبية وأخيرا رجعت الملكيات المدنية مرة أخرى إلى حكم الفرد. ولا يمكن حسب طبيعة نظام الأعداد تصور نظام أنسب في ترتيبه من النظام الذي يبدأ بالواحد، فالقليل، فالكثير ثم ينتهي بالكل بحيث تحتفظ القلة والكثرة والكل - كل حسب طبيعته - بمبدأ الواحد، وذلك على نحو ما بين أرسطو أن الأعداد تتكون من وحدات غير منقسمة وأننا بعد أن نتجاوز الكل لا بد أن نبدأ من جديد بالواحد.
وهكذا فإن البشرية تنحصر بين الملكيات الأسرية والملكيات المدنية.
14
وقد حاول فيكو أن يبرز خصائص التنظيمات الاجتماعية وكيف تدرجت من الوحشية والقسوة إلى الرقة والاعتدال، وبذلك يثبت المسار الطبيعي الذي قطعته كل الأمم الأممية. وهو يؤكد أن التنظيمات الاجتماعية تتابعت بهذا الترتيب؛ الحكومات الدينية، فالحكومات البطولية، فالحكومات الشعبية الحرة ثم الملكيات. ويعتمد فيكو في كل هذه التنظيمات على التشريع والقانون إلى حد أنه جعله الأساس الذي نشأت منه الفلسفة كما ذكرنا من قبل. فمن حكمة صولون التي نصح بها الأثينيين «اعرف نفسك.» نشأت نظم الحكم الشعبية، ومن هذه النظم نشأت القوانين ومن القوانين نشأت الفلسفة.
وربما يرى البعض في هذا حجة على ما قاله بوليبيوس
15
من أنه إذا وجد الفلاسفة في العالم فلن تكون هناك حاجة إلى الأديان. ويعارض فيكو هذا الرأي ويقول: إنه لو لم توجد الأديان ومن ثم نظم الحكم الشعبية لما وجد الفلاسفة في هذا العالم، ولو لم تهد العناية الإلهية البشر إلى تأسيس نظمهم الإنسانية لما عرفوا شيئا عن العلم أو الفضيلة؛ ففي العصور البشرية التي نشأت فيها نظم الحكم الشعبية ومن بعدها الملكيات نشأ الالتزام بالقانون بضمان التعهدات اللفظية التي تحولت فيما بعد إلى عقود واتفاقيات ذات صيغ مكتوبة.
وينتهي فيكو في هذا المجال إلى أن الإنسان بطبيعته لا يخرج عن أن يكون عقلا وجسدا ولغة، واللغة تتوسط العقل والجسد، وهكذا الأمر بالنسبة لما هو عدل؛ فقد بدأ اليقين في العصور الصامتة مع الجسد وذلك حين كان الإنسان يؤكد شيئا عن طريق الإيماءات والإشارات في العصور الصامتة، وبعد أن اخترعت اللغات المنطوقة تأكدت أفكار الحق بصيغ لغوية ملفوظة. وأخيرا وبعد أن تطور العقل البشري تطورا تاما عبر عن أفكاره عن الحق والعدل كما حددها العقل نفسه بعد تعمق الظروف التفصيلية المحيطة بالوقائع المختلفة فتطورت الأفكار نفسها مع تطور العقل.
16
كان هذا هو القانون الذي يحكم تطور الشعوب والأمم والذي استخلصه فيكو من دراساته للبدايات الأولى للحضارتين اليونانية والرومانية. وسنفرد الفصل التالي لهذه الدراسات لنرى كيف نشأ التاريخ البشري وكيف تطور، وكيف كانت النشأة التاريخية نشأة شعرية سماها فيكو الحكمة الشعرية. وإذا كان لنا أن نعقب في هذا الموضع بكلمة قصيرة عن قانون تطور الأمم فإننا نقول إن فيكو قد اعتمد على القانون الروماني اعتمادا كبيرا كما رأينا، واستشهد بالكثير من نصوصه ومواده خاصة في نظام الملكية والوراثة وتحديد الوريث في الوصية ... إلخ، وتابع بالتفصيل تطور القوانين، ولقد بالغ فيكو مبالغة شديدة في الاستشهاد بالقانون الروماني إلى الحد الذي يستحيل معه متابعة أفكاره ما لم يكن الباحث على دراية كاملة بالتاريخ الروماني وإلمام واف بالقانون الروماني أيضا، بل إن اهتمام فيكو بالقانون الروماني قد بلغ حدا أبعد من هذا في محاولته البحث عن قوانين مشابهة لهذا القانون - كقانون الألواح الاثني عشر - في بعض الحضارات الأخرى مثال ألمانيا وفرنسا.
لهذه الأسباب لا يستطيع الباحث أن يضع يده بسهولة على قانون تطور الأمم؛ إذ يتحتم عليه أن يستخلصه من ثنايا التفاصيل الكثيرة التي تكاد تضيع فيها المعالم الرئيسية لفلسفة فيكو في التاريخ. وقد حاولنا في هذا الفصل أن نستخلص قانون تطور الإنسانية في التاريخ من شوائب التفاصيل التي علقت به واستبعاد الكثير من الحواشي التي لا تمس الأفكار الأساسية للعلم الجديد، وسنعود بإذن الله إلى هذه المسألة وغيرها من المسائل في خاتمة البحث.
الفصل الثاني
مسار الأمم في ضوء الحكمة الشعرية
(1) المسار الأول للأمم
الحكمة الشعرية هي عنوان الكتاب الثاني من العلم الجديد، وهو الجزء الذي أفرده فيكو لمناقشة كيف أن مؤسسي الشعوب والنظم البشرية كانوا في الأصل شعراء مثل هوميروس، وحكماء كالمشرعين الذين أسسوا المدن الإغريقية مثل إسبرطة، ولا يشك فيكو في أن هؤلاء المؤسسين كانوا شعراء وحكماء بشكل ما، ولكن أي نوع من الحكمة كان عند هؤلاء الأقدمين؟ لقد كانت حكمتهم عملية جعلتهم يوجدون النظم الاجتماعية البشرية، وهذا هو مفتاح العلم الجديد الذي اكتشفه فيكو والذي حاول أن يثبت فيه أن حكمة القدماء كانت شعبية ولم تكن فلسفية، شعرية لا عقلية، عملية لا نظرية. كان الأولون من شعوب الأمم الأممية أبناء الجنس البشري يخلقون أشياء مطابقة لأفكارهم ، ولكن هذا الخلق يختلف عن الخلق الإلهي اختلافا متناهيا لأن الخلق البشري كان بالخيال المادي.
كانت الحكمة الشعرية هي البداية الفجة للعلوم والفنون كما كانت أيضا أصل جميع العلوم والفنون. ويؤكد العلم الجديد أن الأمم الأممية كانوا شعراء يتحدثون برموز شعرية، ويعرف فيكو الحكمة بأنها استعداد طبيعي أو ملكة عقلية تهيمن على كل ألوان المعرفة التي تؤلف ما يسمى بالإنسانية؛ فالإنسان بما هو إنسان يتألف من عقل وروح أي عقل وإرادة. ووظيفة الحكمة أن تحقق هذين الجانبين في الإنسان؛ فالعقل يهتدي إلى معرفة التنظيمات العليا، وعن طريق هذا العقل تختار الروح أفضل هذه التنظيمات. وأسمى التنظيمات هي التي تكشف عن عظمة الله وتحرص على خير الجنس البشري؛ فالنظم الأولى هي النظم الدينية، والثانية هي النظم الدنيوية، والحكمة تعلمنا معرفة التنظيمات الدينية لكي ترشد التنظيمات الدنيوية للخير الأسمى للبشر. بدأت الحكمة لدى الشعوب الأولى بالتنبؤ؛ فالحكمة القديمة كانت حكمة الكهان والعرافين، والحكماء الأوائل للشعوب القديمة كانوا شعراء لاهوتيين، وجدير بالذكر أن فيكو يميز بين ثلاثة أنواع من اللاهوت: «لاهوت شعري للشعراء اللاهوتيين، وهو بمثابة لاهوت مدني في كل الشعوب الأولى»؛ «ولاهوت طبيعي أو ميتافيزيقي ويرجع للفلاسفة»؛ «ولاهوت مسيحي وهو مزيج من اللاهوت المدني واللاهوت الطبيعي».
انعكست الحكمة الشعرية على كل علوم البشر، وظل معنى الحكمة هو معرفة الأشياء الطبيعية والإلهية أي الميتافيزيقا. وعلى هذا فالميتافيزيقا كانت لصالح الجنس البشري الذي تتوقف المحافظة عليه على الإيمان بإله يعنى بالبشر. وقد كانت الحكمة عند هوميروس هي معرفة الخير والشر، ثم كانت الحكمة عند العبرانيين والمسيحيين بعد ذلك هي العلم بالأشياء الأبدية التي يوحي بها الله، وهذا المعنى متصل بالمعنى القديم للألوهية أي يتصل بالتنبؤ، وانعكست الحكمة الشعرية كذلك على كل علوم البشر، فلما كانت الميتافيزيقا هي العلم الأسمى الذي تتفرع منه العلوم الثانوية الأخرى، وكانت حكمة القدماء هي حكمة الشعراء اللاهوتيين الذين كانوا الحكماء الأوائل للشعوب القديمة، وكانت الأصول الأولى للأشياء بحكم طبيعتها أصولا فطرية فجة، فلا بد لكل هذه الأسباب أن نرجع بدايات الحكمة الشعرية إلى نوع فطري من الميتافيزيقا؛ فالحكمة الشعرية نشأت من الميتافيزيقا الفجة، ومن جذر هذه الميتافيزيقا الفطرية نشأ فرع يحمل علوم المنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة، كما نشأ فرع آخر يحمل علم الفيزياء وهي أم علم وصف الكون وعلم الفلك. وهذا الأخير يضفي اليقين على علمين آخرين نشآ عنه هما علم التاريخ وعلم الجغرافيا، وغني عن الذكر أن العلوم السابقة كلها تتصف في تلك المرحلة بالصفة الشعرية.
ومن هنا نرى بوضوح كيف تصور مؤسسو النزعة الإنسانية للشعوب الأولى، كيف تصوروا الآلهة عن طريق الميتافيزيقا أي اللاهوت الطبيعي، وكيف اخترعوا اللغات عن طريق منطقهم، وكيف خلقوا أبطالهم عن طريق تصورهم لعلم الأخلاق، وكيف أسسوا الأسر عن طريق تصورهم للاقتصاد، ومدنهم عن طريق مفهومهم للسياسة، وكيف تصوروا بدايات الأشياء جميعا على أنها بدايات إلهية عن طريق مفهومهم لعلم الطبيعة، كما تصوروا أنفسهم كبشر من خلال تصورهم لعلم طبيعة الإنسان وأوجدوا لأنفسهم عالما بأسره من الآلهة عن طريق تصورهم للكون، ثم كيف أثر عليهم مفهومهم عن علم الفلك بحيث جعلهم ينقلون الكواكب من الأرض إلى السماء، ويحددون البدايات الزمنية عن طريق ما سموه بعلم التأريخ، وأخيرا كيف وصف الإغريق، على سبيل المثال، العالم كله وكأنه يقع داخل بلادهم مما يدل على تأثير مفهوم الجغرافيا على هذا التصور. بهذا يصبح العلم الجديد تاريخا لأفكار البشر وعاداتهم وأعمالهم، ومن هذه العناصر الثلاثة تكونت مبادئ التاريخ البشري التي هي مبادئ التاريخ العالمي التي يعتقد فيكو أنها كانت مفتقدة حتى اكتشفها بنفسه.
ويقدم فيكو في كتابه لوحة تاريخية لأهم وقائع التاريخ منذ خلق العالم معتمدا على التوراة؛ فقد انحدر مؤسسو الشعوب الأولى من سلالة حام ويافث وسام الذين رفضوا ديانة نوح الحقة فضلوا في الأرض وعاشوا حياة حيوانية في الغابات الواسعة الكثيفة التي غطت الأرض بعد الطوفان. وتضخمت أجسامهم فأصبحوا عمالقة، وهؤلاء العمالقة كانوا على نوعين؛ بعضهم شعر بالخوف من الظواهر الجوية كالبرق والرعد واعتبروها غضبا من الإله على حياتهم البهيمية، فبدءوا يستقرون في كهوف ويحترفون الزراعة ويمتلكون الأرض، وبذلك كونوا طبقة الأبطال الذين سمي عصر العمالقة على اسمهم؛ وظل البعض الآخر على تشرده وحين أسرهم أسياد الأرض كانوا بمثابة عبيد للأرض يفلحونها، بينما احتفظ العبرانيون الذين قبلوا دين نوح بقوامهم البشري السوي الذي ارتد إليه أبناء العمالقة بالتدريج.
وتتمثل الحكمة الشعرية في أساطير كل أمة، والشعر هو لغة التعبير عن هذه الحكمة؛ لأن الشعوب الأولى ذات طبيعة شاعرية. لقد بدأ تاريخ كل الشعوب بداية خرافية؛ فنجد أن الحكماء لدى اليونان هم الشعراء اللاهوتيون. ثم جاء الفلاسفة وجعلوا من تاريخ آلهتهم فلسفة. مثلما حول مانيتو كل التاريخ الخرافي في مصر إلى لاهوت طبيعي سامي، وكان ذلك نتيجة أسباب خمسة لدى الإغريق والمصريين القدماء: إجلال الدين الذي تأسست عليه كل الشعوب القديمة. أن هذا العالم المدني قد نظم تنظيما حكيما بحيث لا يمكن أن يقوم إلا على حكمة تفوق حكمة البشر. أن هذه الخرافات الدينية التي يدعمها احترام الدين والحكمة الإلهية؛ يسرت للفلاسفة أن يبحثوا في أمور متعالية. تمكن الفلاسفة من شرح أفكارهم باستخدام التعبيرات التي تلقوها عن الشعراء، ووجد الفلاسفة في هذه الخرافات الدينية ما دعم تأملاتهم، أي أنهم استمدوا من السلطة الدينية تأييدا لأفكارهم. ومما سبق يتضح أن ما أحس به الشعراء إحساسا ساذجا وعبروا عنه بالحكمة الشعبية قد فهمه الفلاسفة وعبروا عنه بالحكمة المستورة أو السرية بحيث يمكن القول إن الشعراء يعبرون عن حواس الجنس البشري بينما كان الفلاسفة يمثلون
1
عقله. وهذا يثبت ما قاله أرسطو في كتاب «النفس» عن الإنسان الفرد ويمكن أن يصدق على الجنس البشري كله «لا شيء في العقل إلا وسبقه وجود في الحس.» أي أن العقل البشري لا يفهم أي شيء ما لم يكن لديه انطباع حسي سابق عنه.
إن السمة الأساسية في تفكير فيكو هي بغير شك ذلك الجهد الذي بذله لإثبات أن كل العلاقات الاجتماعية كانت في أحد العصور قائمة على معتقدات ترجع إلى الخيال، وكذلك محاولته لإثبات أن هذا يدل على وجود قانون إلهي لولاه لما تمكنت البشرية حتى من البقاء على قيد الحياة؛ لأن الخوف الذي يثيره الخيال القوي الذي أوجد عالم الآلهة يمكنه أن يكبح عنف الشهوات؛ فالعقل عند البشر مرحلة متأخرة في مسار تطورهم. (1-1) الميتافيزيقا الشعرية
إن الميتافيزيقا هي العلم الأسمى الذي تتفرع عنه العلوم الثانوية، ويأخذ فيكو على الفلاسفة وعلماء اللغة أنهم لم يبدءوا بحوثهم من حكمة الشعوب القديمة، وهو في هذا متسق مع مسلمته التي تقول بوجوب أن يبدأ الموضوع من حيث تبدأ المادة التي يتناولها، أي كان عليهم أن يبدءوا من الميتافيزيقا، ولا بد في رأيه أن تكون الحكمة الشعرية قد بدأت لا من ميتافيزيقا عقلية بل من ميتافيزيقا شعورية خيالية؛ حيث كان لدى البشر الأولين إحساس قوي وخيال خصب واسع كما تمثل في الشعر، وهو ملكة فطرية ولدت الشعوب الأولى مزودة به، وكان شعرهم في البداية دينيا لأنهم كانوا ينسبون كل علل الأشياء التي يحسونها ويعجبون بها إلى كون العلل آلهة، وفي الوقت نفسه يعطون للأشياء التي تثير دهشتهم وجودا ماديا يتلاءم مع أفكارهم تماما كما يفعل الأطفال فيضفون الحياة على أشياء غير حية. ثم يشرح فيكو كيف أن الشعوب الأولى خلقت الآلهة عن طريق الميتافيزيقا أو اللاهوت الطبيعي، وكيف تصوروا أول أسطورة دينية، أن التفكير الأسطوري أمر طبيعي في المراحل المبكرة من تطور المجتمعات، فعندما أبرقت السماء وأرعدت لأول مرة بعد الطوفان خاف العمالقة واندهشوا، وهم الذين ضلوا في الغابات الواسعة مع الوحوش الضارية ورفعوا أعينهم للسماء وشعروا بالخوف منها، ولما كان من طبيعة العقل البشري أن «يسقط» ذاته على الأشياء التي يجهلها، وكان هؤلاء العمالقة بطبيعتهم مجرد أجساد قوية، فقد تصوروا السماء على شاكلتهم كجسد حي كبير ودعوها جوبيتر
Jove (زيوس
Zeus
عند الإغريق) وهو الإله الأكبر الذي يخبرهم بتعليماته وتحذيراته عن طريق رعده وصواعقه. ومن هنا بدأ حب الاستطلاع الطبيعي الذي هو ابن الجهل وأبو المعرفة والذي ينير العقل البشري. ومن هنا أيضا نشأت أول خرافة دينية لدى البشر الأولين، وتأسست الكهانة التي أطلق عليها الإغريق اسم اللاهوت أو لغة الآلهة، وبهذا يفسر فيكو ما سبق أن ذكره في أصول العلم الجديد، وهو أن الخوف أول من خلق الآلهة على الأرض. هكذا ولد جوبيتر في الشعر كشخصية خيالية إلهية خلقها الشعراء اللاهوتيون بأنفسهم واعتقدوا فيها وخافوها ثم بجلوها وعبدوها ونسبوا إليها كل التكهنات والنبوءات؛ فالبشر الأولون الذين أسسوا الأمم الأممية الأولى كانوا يفكرون بالأحاسيس والخيال والأساطير؛ لأن عقولهم كانت عاجزة عن التجريد، ومن هنا كان عجز القوى العقلية البشرية هو الأصل في نشأة شعر أكثر رقيا وسموا من الذي أتى به الفلاسفة بعد ذلك، وهذا الاكتشاف لأصل الشعر كما يرى فيكو يفند الرأي القائل بأن الحكمة الفذة للقدماء بدأت مع الفلاسفة.
يحدد فيكو المعالم الرئيسية لعلمه الجديد على النحو التالي:
تعتبر العناية الإلهية هي الافتراض الذي يقوم عليه العلم الجديد؛ فقد اهتدى إليها البشر الأولون عندما يئس الإنسان البدائي من مساعدة الطبيعة فاتجه إلى قوى أسمى، وليس هناك ما هو أسمى من الله. لقد لاحظ هذا الإنسان أن العناية الإلهية تحرص على خير الجنس البشري. لذلك فإن هذا العلم الجديد هو لاهوت عقلي مدني يبين دور العناية الإلهية في حياة البشر. لقد حرص فيكو على تأكيد دور العناية الإلهية في كتابه «العلم الجديد»، بل لقد حرص على تذكير القارئ به حتى في المواضع التي لا تقتضي ذكرها، فهل فكرة العناية الإلهية فكرة ضرورية حقا في فهم العلم الجديد أم أن من الممكن طرحها والاستغناء عنها دون أن يتأثر هيكل هذا العلم ومضمونه؟ هذا ما سوف نناقشه في الباب الثالث من البحث.
ويواصل فيكو حديثه عن ثاني معالم هذا العلم فيؤكد أن السلطة كانت مرتبطة منذ البداية بالملكية أو التملك؛ فالسلطة التي بدأت بداية دينية يأتي معناها الأصلي من الملكية (فكلمة
authority
في الإنجليزية ونظيراتها في اللغات الهندو أوروبية؛ مشتقة من الكلمة اللاتينية
auctor
وتعني صاحب حق أو مالكا كما استعملت بهذا المعنى في قانون الألواح الاثني عشر) وكانت تطلق على جوبيتر في البداية لتعني أنه مالك البشر والمتحكم فيهم بوصفه مالك الآلهة والبشر على السواء، وتبع هذه السلطة الإلهية سلطة بشرية تمثلت في التمرس على حرية الإرادة البشرية في التحكم في حركات الجسد وتوجيهها للأفضل، ومثال ذلك تحول العمالقة من ذوي العادات الوحشية إلى عادات أفضل عندما استقروا داخل كهوف، والسلطة البشرية تبعها سلطة القانون الطبيعي عندما استقر العمالقة وأصبحوا مالكين للأرض ومن ثم حكامها.
ثم يتناول فيكو النقد الفلسفي الذي نما مع تاريخ الأفكار والذي يلقي الضوء على البحث في أصل الآلهة، فكما أكد فيكو في مسلماته أن عدد الآلهة في كل الأمم الأممية هو اثنا عشر إلها ابتداء من جوبيتر، وهذا يعني اثنتي عشرة دورة زمنية نشأت فيها الأساطير، فالثيوجونيا الطبيعية (تسلسل نسب الآلهة) تعطينا لوحة زمنية عقلية للتاريخ الشعري لمدة لا تقل عن تسعمائة عام قبل التاريخ الشعبي الذي جاء بعد المرحلة البطولية.
وينتقل إلى القانون الطبيعي للأمم وأصحابه جروسيوس وسيلدن وبافندروف الذين كان يجب أن يبدءوا من البدايات الأولى للأمم حيث يبدأ الموضوع الذي يعالجونه، ولكن الثلاثة - في رأي فيكو - وقعوا في الخطأ وبدءوا بالعصور المتأخرة لشعوب متحضرة نشأ فيها الفلاسفة كما بدءوا من الفكرة الكاملة للعدل؛ لذلك يعالج فيكو فكرة القانون من منطلق الاشتقاق اللغوي لهذه الكلمة التي تؤكد النشأة الدينية للقانون؛ فكلمة
ius
أي قانون مشتقة من كلمة
ious
وتعني جوبيتر في اللغة اللاتينية القديمة. وعندما نشأت فكرة جوبيتر في عقول مؤسسي الشعوب الأولى نشأ معها العلم الإلهي، وعلى أساسه نشأت التنظيمات الدينية التي تولدت عنها كل التنظيمات الدنيوية، ومن هذين النوعين من التنظيمات نشأ التشريع.
وأخيرا ينتقل فيكو إلى مبادئ التاريخ العالمي الذي بدأ منذ اللحظة الأولى للتنظيمات البشرية لدى الشعوب مع أولى المراحل الثلاث في العالم وهي المرحلة الإلهية حيث الأساطير التي روى فيها الشعراء بصدق عن الطوفان العام والعمالقة، وهذه الأساطير هي بدايات التاريخ العالمي الذي عجز الباحثون المتأخرون عن معرفته لعدم قدرتهم على الدخول في عقول مؤسسي الأمم الأممية وعدم فهم خيالهم وكيف كانوا يفكرون؛ ولذلك يعتقد فيكو أن التاريخ العالمي يفتقد إلى البداية لافتقاره إلى الزمن العقلي للتاريخ الشعري.
2 (1-2) المنطق الشعري
من الطبيعي بعد كل ما قلناه أن يؤكد فيكو أهمية اللغة؛ فهي تعكس مظاهر الحياة الاجتماعية للشعوب وتكشف عن الحياة العقلية ونوعية الأفكار المنتشرة فيها. وإذا كانت الشعوب الأولى قد أوجدت عالم الآلهة من الميتافيزيقا أو اللاهوت الطبيعي وتصور الشعراء اللاهوتيون الأجسام بوصفها جواهر إلهية، فإنها قد اخترعت اللغات من المنطق الشعري. اهتم فيكو - كما رأينا على الصفحات السابقة - بالاشتقاقات اللغوية التي تكشف عن أصول الكلمات؛ فأصل كلمة منطق كانت
Logos
وكلمة
Mythos
في اليونانية تعني الأسطورة، والبشر في العصور الأولى ، كما يؤكد أفلاطون، كان حديثهم الطبيعي والصادق هو الأسطورة، ثم تطور معنى كلمة الأسطورة لتعني الفكرة. وكان من خاصية العصور الدينية الأولى أن تعلق أهمية كبرى على التأمل والتفكير أكثر من الخطابة أو الحديث؛ لأن اللغة في أزمنة الصمت الأولى التي مرت بها الأمم كانت لغة خرساء أو كانت لغة الإشارات والإيماءات والأشياء الطبيعية التي لها علاقة بالأفكار التي يعبر عنها، وهي اللغة التي قال عنها سترابو
3
إنها وجدت قبل اللغة المنطوقة. وطبقا للمسلمة التي تنص على أن الخيال يزداد قوة كلما ضعفت القدرة على التفكير، أضفى الشعراء الأوائل العاطفة والحس على أشياء غير حية عن طريق المجازات والرموز وأساليب البيان، وأوضح أشكال المجاز هي الاستعارة؛ فكل استعارة هي حكاية خرافية مختصرة وهذا يدل على العصر الذي ظهرت فيه الاستعارات في اللغات، وظهور الاستعارة في اللغة يتيح لنا الفرصة للحكم على هذا العصر، وقد وجد في كل اللغات أن الاستعارات مستمدة من الجسد البشري وأجزائه ومن الأحاسيس والعواطف البشرية. فمثلا ترمز الرأس للقمة والكتفان للثقل والفم للأشياء المفتوحة والقلب للمركز والجسد للأرض ... إلخ. وهذا يثبت مسلمة فيكو التي تقول: إن الإنسان عندما يضل في الجهل يجعل من نفسه مقياس كل شيء.
يفرق فيكو بين الميتافيزيقا العقلية التي تقول إن الإنسان يحصل على الأشياء ويستوعبها عن طريق فهمها، بينما تقول الميتافيزيقا الخيالية إن الإنسان عندما لا يفهم يضفي نفسه على الأشياء ويصبح هو الأشياء نفسها عن طريق اندماجه فيها. وفي رأي فيكو أن المنطق الشعري للشعوب الأولى نشأ من هذه الميتافيزيقا الخيالية وهو منطق المجاز والاستعارة، الذي نشأ عن عجز الشعراء الأول عن تجريد الأشكال والخصائص الأساسية في الأشياء، وتحولت الصور المجازية إلى استعارات عندما رفعت الجزئيات إلى مصاف الكليات، وكذلك لم ينشأ فن السخرية إلا في العصور العقلية المتأخرة لأنها نوع من الكذب الذي يكتسي قناع الحقيقة. وهذا يدل على مبدأ هام من مبادئ التنظيمات البشرية يؤكد الأصل الشعري، وهو أن الأمميين الأوائل كانوا في بساطة الأطفال الذين هم صادقون بطبيعتهم، فلم تكن الخرافات الأولى تدعي الكذب، وكانوا يعتقدون أن حكاياتهم حكايات حقيقية وصادقة،
4
كذلك نشأ فن المسوخ والتحولات الشعرية من هذه الطبيعة البشرية الأولى وهي عدم القدرة على تجريد الصور والخصائص الشعرية من الموضوعات. هكذا كانت كل المجازات أشكالا ضرورية للتعبير عند الشعوب الشاعرية الأولى، ثم أصبحت رمزية عندما نمت القدرة على التجريد مع تطور العقل البشري، أي عندما اخترعت الكلمات التي تدل على أشكال مجردة بمقارنة علاقة أجزائها وكلياتها. ويؤكد فيكو خطأ اللغويين الأول في زعمهم أن النثر حديث طبيعي والشعر غير طبيعي، وأن النثر أسبق في الوجود من الشعر. وهو يعارض هذا الرأي - كما سنرى في السطور التالية - ويحاول إثبات أن الشعوب الأولى كانت شعوبا شاعرية وبالتالي بدأت اللغة بداية شعرية، بل ذهب إلى أبعد من هذا فوضع نظرية في نشأة اللغات والحروف.
إن مسألة البحث في أصل اللغات غير مطروحة في العصر الحديث لأنها أصبحت مسألة ميتافيزيقية انتهى العلماء إلى صعوبة حسمها بصورة نهائية، وقد اجتهد فيكو نفسه في إثبات أن اللغة بدأت شعرا وأثر هذا على آراء الرومانتيكيين في القرن التاسع عشر، وبالرغم من أن نظريته يشك الآن في قيمتها العلمية إلا أنها أثرت فترة طويلة على بحوث العلماء عن أصل اللغة، وهي تستحق على كل حال أن نذكرها بشيء من التفصيل؛ لأنها جزء هام من تطبيقه لقانون تطور الأمم في ثلاث مراحل، وأيا كان الرأي في القيمة العلمية لنظرية فيكو عن أصل اللغات والحروف فلا يمكن إنكار قيمتها التاريخية.
يقدم فيكو نظريته في نشأة اللغات ويعارض الباحثين الذين يقولون إن أصل الحروف منفصل عن أصل اللغات؛ فهو يرى أن الحروف واللغات مرتبطان بالطبيعة، فإذا كانت الحروف قد تشكلت لتعبر عن الأصوات المنطوقة بدلا من الإشارات فقد وجدت عند كل الشعوب، ولكن إخفاق الباحثين وجهلهم ببداية اللغات والحروف جعلهم يخفقون أيضا في معرفة الطبيعة الشعرية للشعوب الأولى، وكيف تحدثوا بالأساطير وكتبوا بالكتابة السرية والرمزية الهيروغليفية. ويرى فيكو أن الفلسفة يجب أن تتبنى هذه المبادئ في دراستها للأفكار الإنسانية. كما يجب أيضا أن تكون مبادئ علم اللغة في دراسته للكلمات البشرية؛ لذلك يجب التسليم بهذه المبادئ التي يراها فيكو ضرورية لفهم هذه الشعوب الموغلة في القدم، وهي أن البشر الأولين في الأمم الأممية يتصورون الأفكار بتخيل أن لها جواهر حية وصامتة، وأنهم يعبرون عن أنفسهم بلغة مشتقة من البيئة الطبيعة أي البيئة الجغرافية التي لها تأثير قوي على لغات الشعوب وعاداتهم.
ننتقل إلى نشأة المراحل الثلاث للغات فنجد فيكو يطبق فكرته الرئيسية التي أخذها عن المصريين القدماء عن مرور العالم بثلاثة عصور وارتباط هذه العصور بثلاثة أنواع من اللغات هي الهيروغليفية (أي الإلهية المقدسة وهي خاصة بالعصر الإلهي) ثم اللغة البطولية (وهي اللغة الرمزية التي توافق عصر الأبطال) وأخيرا لغة الرسائل (التي استخدمها البشر فيما بينهم لقضاء حاجاتهم). ويثبت فيكو أن هذه اللغات الثلاث كانت موجودة أيضا في الفكر اليوناني، ويستشهد بنصوص من هوميروس في ملحمتيه الإلياذة والأوديسة، فهناك نص في الإلياذة يؤكد أن «نسطور» عاش ثلاثة أجيال من البشر تحدثوا بثلاث لغات.
5
واللغة الإلهية المقدسة (الهيروغليفية) تحدثت بها كل الشعوب القديمة. ويورد فيكو بعض الأمثلة لشعوب تحدثت بها قديما مثل المصريين والأثيوبيين في أفريقيا والكلدانيين والسكيثيين في الشرق ... إلخ وبعض الشعوب ما زال يتحدث بها حتى الآن مثل الصين. ويعارض فيكو بهذا رأيا ينسبه للمصريين القدماء بأن الهيروغليفية لغة اخترعها الفلاسفة ليخفوا فيها غموض حكمتهم السرية المقتصرة على فئة قليلة، ويدلل فيكو على صدق رأيه بنصوص من الإلياذة والأوديسة يؤكد فيها هوميروس أن هناك لغة أقدم من لغته (التي كانت بلا شك لغة بطولية) دعاها لغة الآلهة. هذه اللغة الإلهية سواء عند اليونان أو الرومان تطابق اللغة الهيروغليفية عند المصريين، والنوع الثاني من الحديث الذي يطابق المرحلة البطولية كان حديثا رمزيا يستخدم ما أطلق عليه هوميروس
Sémata
6 (أي العلامات والرموز)، ففي المرحلة الإلهية كانت الشعوب الأولى تتكلم بالرموز، ثم تتابعت الاستعارات والمجازات وكل وسائل التعبير الشعري التي مر بها الحديث المنطوق إلى أن كان حديث الرسائل الذي نشأ بين العامة في الشعوب البطولية وهي لغة خاصة بالعصر البشري.
أما عن نشأة الحروف الشعبية فيرجعها فيكو إلى الرموز الرياضية والفلكية للكلدانيين، وقد استعمل الفينيقيون هذه الرموز الكلدانية كرموز للأعمال التجارية، ثم انتقلت إلى الإغريق عن طريق الشواطئ الإغريقية قبل عصر هوميروس، وأخذ الإغريق هذه الأشكال الهندسية لتمثل الأصوات المنطوقة المختلفة ثم شكلوها إلى حروف ذات طابع شعبي وأتموها، وقد تبناها الإغريق لتشابهها مع حروفهم اليونانية القديمة، كما يؤكد تاسيتوس ذلك، والدليل على هذا أن اليونان استعملوا - لفترة طويلة - الحروف الكبيرة لتعبر عن الأعداد. واختلاف اللغات الشعبية باختلاف الشعوب يرجع لحقيقة أساسية هي اختلاف مناخ الشعوب مما نشأ عنه اختلاف في العادات. ومن اختلاف الطبيعة والعادات نشأت لغات مختلفة، فكل شعب نظر إلى ضرورات الحياة البشرية من وجهة نظر مختلفة؛ لذلك نشأت عادات عالمية وظهر هذا كمثال واضح في الأمثال والحكم الشعبية التي عبرت عن مضمون واحد بأساليب مختلفة لدى شعوب مختلفة.
يواصل فيكو نظريته في نشأة اللغات والحروف ويفسر كيف تشكلت ثلاثة أنواع من اللغات والحروف في ضوء مبدأ هام هو أن الآلهة والأبطال والبشر بدءوا في آن واحد (لأنهم كانوا بشرا تخيلوا الآلهة واعتقدوا أن طبيعتهم البطولية مزيج من الطبيعة الإلهية والبشرية) لذلك بدأت اللغات الثلاث في آن واحد، وكان في كل منها حروف تطورت معها وبدأت بثلاث اختلافات هامة: أن لغة الآلهة كانت صامتة تماما لا تحتوي إلا على نطق هزيل، أما لغة الأبطال فهي مزيج متساو من اللغة المنطوقة والصامتة، وأخيرا تأتي لغة البشر وهي بأكملها لغة منطوقة؛ لذلك كانت اللغة الإلهية في البدايات مضطربة إلى أبعد حد، وهذا سبب قوي في غموض الخرافات. ففي الوقت الذي تشكلت فيه فكرة جوبيتر كشخصية دينية (وهذه أول فكرة بشرية نشأت في العالم الأممي) بدأت اللغة المنطوقة تتطور عن طريق تسمية الأشياء أو الأفعال بمحاكاة أصواتها
onomatopoeia ؛ لذا كانت أسماء جوبيتر في اللغات القديمة تحاكي صوت الرعد ووميض الضوء وصوت احتراق النار، وتكونت الكلمات البشرية بعد ذلك من صيغة التعجب والدهشة، ونشأت أصوات منطوقة بدافع من الانفعالات القوية. فعندما نزلت أول صاعقة من السماء وأيقظت الدهشة في البشر كان ميلاد أول صوت بشري معبرا عنه بلفظ
pa
ثم ضعفت إلى
pape ، ومن هذا التعجب جاء اشتقاق لقب جوبيتر «أب البشر والآلهة» حيث كان الآلهة يدعون آباء والآلهات أمهات، وربما جاء من هذه الصيحة الأصل الاشتقاقي للفعل
patrare
بمعنى يعمل أو يصنع وهي صفة الله الصانع كما وردت في الكتاب المقدس.
7
هكذا نجد أن نظرية فيكو في نشأة اللغات والحروف تعتمد اعتمادا كليا على اشتقاق الكلمات من صرخات الإنسان الأول نتيجة تعجبه من الظواهر الطبيعية، وهو يتابع نظريته في نشأة اللغات فيقر أنها بدأت بكلمات من مقطع واحد، فتشكلت الضمائر من مقطع واحد وكذلك حروف الجر والوصل، ثم تشكلت الأسماء أيضا من مقطع واحد، ويدرج فيكو أمثلة من اللغة اللاتينية في قائمة كبيرة من الأسماء اللاتينية التي بدأت في الحياة الرعوية واستمرت في الحياة الريفية ثم حياة المدينة الأولى، وقد أفرد لهذه الأمثلة فصلا كاملا من الطبعة الأولى للعلم الجديد يعد نموذجا للباحثين في أصل اللغات المختلفة. وأخيرا تشكلت الأفعال التي سبقتها نشأة الأسماء كما يحدث لدى الأطفال، فهم دائما يعبرون عن الأسماء ويتركون الأفعال إلى أن يصبحوا قادرين على الفهم، وكذلك كانت طفولة البشرية؛ لأن معرفة الأفعال تتطلب معرفة زمنية بالماضي والمستقبل وهما مقياس للحاضر الذي لا يقسم، حتى الفلاسفة أنفسهم وجدوا صعوبة في فهم الحاضر؛ لذلك جاء فهم الأفعال وتشكيلها في مرحلة متأخرة، وكانت في صيغة أوامر تتكون من مقطع واحد يصدرها الآباء لأسرهم وأطفالهم مثل قف، اذهب، قل، اعمل ... وهكذا.
8
هذه النظرية في نشأة اللغات تؤكد مبادئ الطبيعة البشرية العامة وتتطابق أيضا مع مسلمة فيكو الأساسية التي تنص على وجوب أن تبدأ اللغات بكلمات من مقاطع واحدة. وقد نشأت اللغات من مقاطع واحدة نتيجة لفقر اللغة في بداية البشرية، ثم انتقلت إلى بناء جمل مركبة مع تطور اللغات بتطور العقل البشري. وجدير بالذكر في هذا الصدد أن الأبحاث الحديثة لعلماء اللغة أثبتت خطأ هذا الرأي، فهناك لغات تتكون من مقاطع واحدة - مثل اللغة الصينية على سبيل المثال - ومع ذلك فهي لغات غنية بالمفردات، هكذا نشأ الأسلوب الشعري - في رأي فيكو - من فقر اللغة والحاجة إلى التعبير فكان الاستطراد، والعكس (أي التغيير في الوضع الشعري للكلمة وقد نشأ من صعوبة استكمال العبارة بالأفعال التي تكونت في المرحلة الأخيرة) والإيقاع، والأغنية والشعر. ثم ظهر الأسلوب النثري بعد ذلك عن طريق الخطباء مثل جورجياس لدى الإغريق وشيشرون لدى الرومان. وبهذا يكون الأسلوب الشعري قد نشأ قبل الأسلوب النثري مثلما نشأت التصورات الخيالية (الأساطير) قبل التصورات العقلية (الفلسفة).
ويؤكد فيكو أن اللغات بدأت بالغناء اعتمادا على خاصية طبيعية لدى البشر، وهي أن الإنسان ينطق الأصوات المتحركة أولا لسهولتها ثم ينطق الأصوات الساكنة. ويشهد على ذلك الإدغام الموجود في غناء الشعوب الأولى؛ فالإنسان الأول عبر عن عواطفه وانفعالاته بصوت مرتفع، وعندما يرتفع صوت الإنسان عاليا يتحول بطبيعة الحال إلى الإدغام والغناء. وغناء الشعوب نشأ عن صعوبة النطق في البداية؛ لأن أعضاء النطق لم تكن قد تطورت تطورا كافيا. ومما يؤكد أن اللغات بدأت بالغناء أن كتاب النثر الإغريق والرومان قبل جوجياس وشيشرون استخدموا إيقاعات تكاد تكون إيقاعات شعرية خالصة وكأن نثرهم قد أعد للغناء. هكذا بدأت الأمم الأممية بالشعر، وليس أدل على ذلك من أن بحور الشعر ازدادت سرعة واقترابا من النثر بقدر ما أصبحت قدرة الأولين على النطق أسرع، أي ازداد الإيقاع الشعري سرعة مع النمو العقلي ونمو أعضاء النطق فانتقلت البحور شيئا فشيئا من البحر «السبوندي» إلى البحر «الدكيتلي» إلى البحر «اليامبي» حتى اقترب هذا البحر الأخير من النثر. وقد نشأت أبيات الشعر الأولى عند الشعوب مع لغة الأبطال وعصرهم. والتاريخ يؤيد هذه الفكرة إذ يقرر أن نبوءات العرافين والعرافات كانت أقدم اللغات جميعا. ومن المعلوم أن الكهنة والعرافين قد وجدوا في كل الشعوب، ومن المأثور أيضا أنهم كانوا ينطقون بشعر بطولي وأن النبوءات كانت تأتي في شعر بطولي ذي أوزان سداسية . ويشير فيكو إلى الأدب العبري والعربي؛ فالعبرانيون بدءوا بالشعر البطولي بدليل أن سفر أيوب وهو أقدم من أسفار موسى قد كتب في البداية على صورة شعر بطولي. أما العرب فقد حافظوا على تراثهم الشعري عن طريق الرواية الشفهية وذلك قبل أن يعرفوا الكتابة والتدوين. ونقش المصريون القدماء أخبار موتاهم شعرا في أعمدة، كما أن الآشوريين والسريان قد بدءوا كلامهم شعرا، ولا شك أن مؤسسي الحياة الإغريقية كانوا هم الشعراء اللاهوتيين الذين كانوا أبطالا. ونفس الشيء يقال عن آباء اللغة اللاتينية
Salii
وقد كانوا شعراء مقدسين، وفي هذا يقول شيشرون إن الأطفال تعلموا قانون الألواح الاثني عشر بطريق الغناء.
9
ويستخلص فيكو من هذا أن جميع الشعوب البربرية قديمة أو حديثة حفظت تاريخها الأول في صورة شعرية، ومعنى هذا أن الشعوب الأولى كانوا شعراء. وهناك خاصية مشتركة في كل اللغات الأولى وهي أنها جميعا - كما ذكرنا - قد بدأت بالأسماء ثم تشكلت الأفعال فيما بعد. وهذا يثبت خطأ اللغويين الذين قالوا إن الحديث النثري سابق على الحديث الشعري. واستمر الخطاب الشعري لفترة طويلة في الدورة التاريخية. وهذا يوضح أمورا هامة تتعلق بالعصور القديمة مثل عادات هذه الشعوب وتقاليدها والحكم والأمثال والقوانين والتنظيمات الاجتماعية. فطبقا لمسلمة فيكو التي تقول بميل العقل البشري إلى كل ما فيه وحدة ونظام نجد لدى عامة البشر نزعة طبيعية لخلق شخصيات شعرية بالتصور الخيالي، مثلما نسب الإغريق لصولون الحكمة الشعبية وعدوه من الحكماء السبعة لأنه حث العامة على المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية مع النبلاء. كذلك فعل الرومان مع روميلوس فنسبوا له كل القوانين المتعلقة بالطبقات الاجتماعية، والمصريون القدماء مع هرميس مثلث الحكمة، كما حدث نفس الشيء مع زرادشت في الشرق وكونفوشيوس في الصين.
ومع نشأة اللغات نشأ التشريع أيضا نشأة دينية مع الأوامر والنواهي الدينية، فكانت التشريعات الأولى في شكل نبوءات إلهية، ثم كان اختراع الرموز والأسماء والحروف ضرورة تتطلبها تحديد الملكية الشخصية لآباء الأسر التي تفرعت منها العديد من الأسر. ومما يشهد على هذا أن المعنى الأصلي لكلمة
ius (وهي تعني القانون في اللغة اللاتينية) كانت تعني قبل كل شيء لحوم الضحايا التي تقدم لكبير الآلهة، ثم أصبحت تعني سلطة التملك حيث إن كل شيء ملك لجوبيتر. لقد كانت السلطة في أصلها تعني الملكية - كما سبق أن عرضنا ذلك في الميتافيزيقا الشعرية - وقد عبر شيشرون عن هذا في خطبة قال فيها: إنها تعني الملكية المطلقة الحرة من كل دين.
10
وكان حق الملكية هو حق الأقوى المتصرف تصرفا كليا في ملكه؛ لأن الحق كان مرادفا للقوة في العصور الأولى من تاريخ العالم. وكان حق الملكية في البداية وقفا على آباء الأسر.
وأخيرا نشأ منطق المتعلمين الذي يبدأ من المحسوس الجزئي ومن الحالات الخاصة لكي يصل إلى التعميمات والكليات مع تطور العقل البشري. ويضرب فيكو لذلك مثلا على طفولة العقل البشري التي تشبه طفولة الإنسان؛ فالطفل قادر على التقليد والمحاكاة لأن خياله وحسه يتميزان بالحيوية ويرتبطان بالمحسوسات؛ لهذا كانت الفنون أسبق من الفلسفة، كما كانت الفلسفات أسبق من العلوم. ويقدم فيكو بعض الأمثلة من تطور العقل البشري اليوناني فيقول إن أيسوب
Aesop
11
الذي سبق الحكماء السبعة كان يعلم الناس بالحكمة والمثل لأنه فيما يقول فيكو كان يحيا في العصر الشعري ويفكر من خلال الحالات الجزئية المحسوسة التي تقنع عامة الناس أكثر مما يقنعهم التفكير العقلي. ثم جاء سقراط بعد أيسوب فأدخل الجدل واستخدم الاستقراء في جمع الأحوال الجزئية للتوصل منها إلى المبادئ العامة . وهكذا تفوقت أثينا في عهد سقراط وأفلاطون في جميع الفنون وازدهر فيها الشعر والخطابة والتاريخ كما ازدهرت الموسيقى والرسم والنحت والعمارة. وكل هذا دليل على أنها كانت لا تزال في حالة التفكير الاستقرائي بالأمثلة والحالات الجزئية. ثم جاء أرسطو بمنهجه ومنطقه الصوري الاستنباطي وخصوصا القياس الذي يستدل من الكلي على الجزئي، أي الذي يستنبط الحالة الجزئية من القضية الكلية بدلا من الجمع بين الجزئيات للحصول على الكليات، ولكن هذا المنهج فيما يزعم فيكو لم يفد الجنس البشري أية فائدة؛ ولهذا كان فرنسيس بيكون على حق عندما دعا في كتابه «الأورجانون الجديد» إلى المنطق الاستقرائي وأكد أهميته.
12 (1-3) الأخلاق الشعرية
نشأت الأخلاق الشعرية لدى الأمم الأممية من فكرة الخوف من الإله، وهذه الفكرة ليس مصدرها العقل بل الأحاسيس والانفعالات؛ فالعمالقة الذين خافوا رعد السماء بدءوا يغيرون من عاداتهم الوحشية كالجماع في العراء واكتسبوا عادات أخرى، فأخذوا يختبئون في الكهوف ويشعرون بالخجل - الذي وصفه سقراط بأنه مظهر الفضيلة
13 - ومن ثم نشأ نظام الزواج من امرأة واحدة، وانبثقت الفضائل الأخلاقية من الدين الذي نشأ بدوره من فكرة أساسية لدى الأمم الأممية وهي الخوف من كبير الآلهة. لقد نشأ نظام الزواج - كما ذكرنا من قبل - من فكرة الألوهية. ففي هذه العصور الأولى نجد أن الدين علم الناس الذكاء ليفهموا نبوءات جوبيتر، وعلمهم أن يكونوا عادلين تجاه الإله وتجاه بعضهم البعض، وأن يكونوا متعففين بحيث يكتفي الرجل بامرأة واحدة طوال عمره، وعلمهم أن يكونوا أقوياء كما علمهم كرم النفس. ولم تكن اللذة هي قانون العصور الأولى كما يدعي بعض الكتاب؛ لأن عصر الشعراء اللاهوتيين هذا لم يجد متعة إلا فيما هو نافع ومفيد.
14
ولكن فيكو يرى أن فضائل ذلك العصر الأول كانت مزيجا من التدين والقسوة والوحشية. وهذه الأخلاق نفسها التي تمتزج فيها الخرافة بالقسوة هي التي انحدر منها تقليد التضحية بالبشر وتقديمهم قرابين للآلهة. ويؤكد فيكو أن هذا العصر الأول للشعوب الأممية كان أبعد ما يكون عن البراءة؛ فقد كان عصر التعصب للخرافات، ولكنه يؤكد في النهاية أن الألوهية هي التي حدت من حالة التوحش الأولى. وإذا كان فيكو يزعم أن تقليد التضحية بالبشر وتقديمهم قرابين للآلهة كان تقليدا لدى جميع الأمم الأممية، فإن هذا الرأي ليس صحيحا؛ لأن هناك العديد من الحضارات لم تكن لديها هذه العادة ومنها الحضارة المصرية القديمة.
أما عن الأخلاق في العصر البطولي فقد عرضها فيكو في الفصل الثامن من السياسة الشعرية. وهو في هذا العرض يواصل تأكيده أن هذه الأخلاق البطولية كانت مختلفة تمام الاختلاف عما تخيله الفلاسفة المتأخرون عنها متأثرين بعلمهم وحكمتهم عندما تصوروا مثلا نوعا من العدالة السقراطية لم يكن له وجود، كما تصوروا مجدا نسبوه لكل من أحسنوا للجنس البشري، وتخيلوا أنهم خالدون وكأنما كانت مهمة كل الملوك والأبطال القدماء هي إسعاد الفقراء الذين يمثلون الغالبية العظمى من السكان في كل مدينة أو أمة! ويوضح فيكو على ضوء أمثلة يستقيها من هوميروس ومن الأساطير القديمة؛ أن الأبطال القدماء كانوا أفظاظا قساة القلوب، وأن تربيتهم لأبنائهم بلغت الغاية من الغلظة والبشاعة. ويكفي أن شخصية أخيل - أعظم أبطال الإغريق - كما يخبرنا عنه هوميروس تكشف عن ثلاث خصائص تعارض الأفكار الثلاثة التي تصورها الفلاسفة المتأخرون عن أخلاق الأبطال. ونبدأ بالعدالة فنرى كيف أن هيكتور - البطل الطروادي - اقترح على أخيل أن يقوم المنتصر في الحرب بدفن المهزوم، ولكن أخيل ينسى المصير البشري المحتوم ويشمخ بأنفه على بطل مثله ويجيبه هذه الإجابة الوحشية: «متى تحالف الناس مع الأسود وأين كان الذئاب متفاهمين مع الحملان، إذا قتلتك فسوف أربط جسدك العاري في عربتي وأجره ثلاثة أيام حول أسوار طروادة ثم أقدم جسدك لكلاب صيدي لتأكله.»
15
وهذا ما فعله أخيل بالفعل عندما قتل هيكتور حتى افتداه أبوه العجوز ودفنه بنفسه. أما عن المجد الذي وصفهم به الفلاسفة والعلماء المتأخرون فإن أخيل نفسه يعتبر أن الآلهة والبشر قد عاملوه معاملة سيئة، ويطلب من زيوس أن يرد له اعتباره وشرفه، بل إنه يسحب رجاله وسفنه من جيش الإغريق وبذلك يعرض مواطنيه لمذبحة كبيرة، وكل هذا لأن أجاممنون خطف منه حبيبته. هكذا انتقم من مواطنيه بل أحس بالشماتة في المذبحة التي وقعت لجيش الإغريق ولم يعبأ بمجد الوطن. أما عن رغبة القدماء في الخلود فلم تكن كذلك صحيحة؛ فالأوديسة تروي لنا أن أوديسيوس سأل أخيل إن كان سعيدا في العالم السفلي فأجابه قائلا: «إنه يفضل أن يكون عبدا حقيرا في أرض الأحياء على أن يكون ملكا متوجا في عالم الموتى.»
16
ويتهكم فيكو على تلك الأخلاق البطولية التي كانت هي أخلاق البطل الذي تغنى به هوميروس وجعله مثلا أعلى للفضيلة البطولية. وأقصى ما يقال فيها أنها أخلاق الفرسان المتجولين والمغرورين في العصور البربرية الجديدة.
ثم ينتقل فيكو إلى العصر البطولي الروماني فنجد نفس الشيء ينطبق على فضائل الأبطال ابتداء من نهاية الملكية إلى نهاية الحرب القرطاجية الثانية وهو العصر الذي قال عنه المؤرخ ليفيوس (59ق.م. إلى 17م) إنه لم يوجد عصر مثله أنتج مثل ما أنتج من الفضائل. ولا داعي لأن نذكر الأمثلة العديدة فكلها تدل على أن أبطال الرومان كانوا يرتكبون أفظع الجرائم من حرق وصلب وإعدام ... إلخ باسم الحرية والشرف العسكري ومجد روما. ويتساءل فيكو ماذا فعلوا في سبيل إسعاد العامة؟ لقد أثقلوا كاهلهم بالديون وأغرقوهم في الحروب وحكموا عليهم بالحياة في سجون النبلاء وحرموهم كل القوانين التي ترفعهم فوق مرتبة العبيد. وقد تكرر نفس الشيء في إسبرطة بلد أبطال الإغريق التي حكم على ملكها العظيم أجيس
Agis
بالشنق لمجرد إشاعة رويت عنه. ولا شك أن التاريخ الروماني مع تاريخ إسبرطة يقدمان أمثلة أخرى مذهلة عن أخلاق الأبطال «وتواضعهم» وعدالتهم «ورحمتهم».
17
أما عن أخلاق الأبطال في تربية أولادهم فلا نرى بنا حاجة لذكر الأمثلة التي تدل على ما وصلت إليه من القسوة والغلظة بحيث كان الآباء يضربون أبناءهم حتى الموت لمجرد ضعف طارئ أو إخلال بسيط في النظام العسكري. كل هذا ارتبط بنظام الحكم الذي كان بطبيعته أرستقراطيا يتألف من الحكام الأقوياء كما كان الوطن حكرا على آباء الأسر وهم الأبطال النبلاء.
ثم ينتقل فيكو بعد ذلك إلى عرض الأخلاق البشرية التي يمر عليها للأسف مرورا سريعا. فبعد قيام النظم المدنية أصبح النظام البطولي بكل عاداته وقوانينه ومؤسساته مستحيلا، وظهرت نظم الحكم الشعبية والملكية التي أكد فيكو أكثر من مرة أنها (خصوصا الملكية) أكثر إنسانية.
18
ففي ظل الملكيات يكون الأبطال هم أولئك الذين يضحون بأنفسهم في سبيل مجد الملوك وعظمتهم، كما يسمى البطل بطلا لأنه يهب حياته في سبيل العدالة وخير البشرية. ومع ذلك يحترس فيكو فلا يبالغ في فضائل الأخلاق الإنسانية وإنما يؤكد أن مثل هذا البطل الإنساني ينشأ من طبيعة الحياة المدنية التي تقوم (كما أكد في مسلمة رقم 80) على مبدأ المنفعة قبل كل شيء وخصوصا في ظل النظام الإقطاعي. وهكذا ينتهي فيكو إلى أن الأخلاق البشرية قائمة على مبدأ المنفعة المتبادلة، وربما يكون قد تأثر في هذا بنظرة هوبز المتشائمة. (1-4) الاقتصاد الشعري
إن المجتمعات البشرية الأولى تأسست بناء على نظام اقتصادي معين، ويبين فيكو بوضوح كيف تكونت الأسر الأولى في العصور المبكرة على أساس اقتصادي؛ فقد أدرك الأبطال بالأحاسيس البشرية حقيقتين هما: التربية الروحية والتربية الجسدية. أما عن التربية الروحية فقد بدأت بطريقة معينة تشكل الروح الإنسانية التي كانت مغمورة في أجسام العمالقة الضخمة، فكان الآباء البطوليون هم حكماء البشر في الحكمة الشعبية، وكانوا بدورهم كهنة لهم حق تقديم القرابين للآلهة لتلقي النبوءات، وهم حاملو القوانين الإلهية لأسرهم فكانوا ملوك المرحلة البطولية. وهنا يقرب فيكو بين عالم الطبيعة وعالم البشر، أي أن حيوانات العالم الأول تصبح بشرا في عالم الأمم؛ فهؤلاء العمالقة كانوا يحتاجون إلى قوة إلهية لتحويلهم من حالة التوحش إلى الحالة البشرية. والحقيقة الأخرى التي قام عليها نظام الأسرة هي كما ذكرنا التربية الجسدية؛ فقد بدأ الآباء تشكيل الجسد البشري من أجسام أبنائهم العمالقة غير المتجانسة. هؤلاء العمالقة الذين ضلوا في الأرض وطاردوا النساء واخترقوا الغابات هربا من الوحوش الضارية، بدءوا يتجمعون من خلال بحثهم عن الطعام والماء وبدءوا يستقرون مع نسائهم في البداية في كهوف ثم في أكواخ قريبة من منابع المياه. ومع استقرار الأبطال في أراض محددة بدأت الزراعة وبدأ الاقتصاد الأسري من الوراثة، أي أن يورث الآباء أبناءهم كل ما يملكون من مساكن وأراض حول منابع المياه ويورثوهم مزارعين لفلاحة الحقول.
19
وكان الأقوياء من البشر يؤسسون مدنهم فوق قمم الجبال حيث الجو الصحي والمواقع الطبيعية القوية. ثم أسسوا مدنا قريبة من منابع المياه الدائمة التي منها نشأت أول جماعات ذات تنظيم مشترك. ومن تجمع العائلات والأسر حول منابع المياه بدأ التزاوج بين هذه الأسر لأن الزواج الأول تم بين رجل وامرأة كانا يشتركان في نفس المياه والنار، ويستشهد فيكو على ذلك ببعض العادات والتقاليد المصاحبة لطقوس الزواج في معظم الشعوب التي كانت تستخدم فيها النار والمياه. وكان الزواج هو النوع الأول من الصداقة في العالم؛ فكلمة الصداقة في اليونانية
مشتقة من أصل كلمة حب
.
20
هذه التنظيمات أوجدتها العناية الإلهية من خلال العادات البشرية لا من خلال القوانين لتدفع البشرية المبكرة الدفعة الأولى نحو اكتمال إنسانيتها، فكان ترويض العمالقة على الحياة البشرية بدافع من العقيدة والرغبة الطبيعية في بقاء الجنس البشري.
وتكون المجتمع الأسري الذي كان أول شكل من أشكال المجتمع البشري، ولكن المجتمع بالمعنى التام - الذي يقوم على مبدأ المنفعة - لم يبدأ إلا بظهور طبقة العبيد التي تكونت من العمالقة العصاة الذين استمروا في اختلاطهم البهيمي بالأشياء والنساء واضطرتهم قسوة الظروف الطبيعية إلى التماس النجاة في أماكن مسكونة فلجئوا إلى أراضي مجتمع الأسر؛ طلبا للحماية، وأصبحوا بمثابة عمال أو عبيد لدى الأبطال. عاش هؤلاء العمالقة حياة العبودية وأطلق عليهم اسم الأتباع
Clientes
إذ كان أولاد الأبطال وحدهم الأحرار. بهذا تشكل المجتمع من طبقتين: الأبطال الذين يمثلون طبقة النبلاء، والأتباع وهم العبيد الذين يحرثون الأرض ويزرعونها. وبهذا التنظيم الزراعي ظهر أول مجتمع إقطاعي في العصور الأولى. فطبقة النبلاء قامت على النظام الزراعي، لا عند الشعوب البربرية القديمة فحسب؛ بل كذلك في العصور البربرية الثانية، ثم تأسست المستعمرات البطولية والمدن التي كانت في الأصل أماكن مقدسة لجأ إليها البشر بحثا عن الأمان مثلما أسس كادموس مدينة طيبة أقدم مدينة يونانية، وكما أسس روميلوس مدينة روما ... إلخ.
أما عن المعاملات الاقتصادية فكانت المقايضة هي قانون الاقتصاد عن الأمم الأممية التي كانت تشغلها ضرورات الحياة ولم تكن تعرف التعاقد فلم يلجئوا إلى المال في معاملاتهم الاقتصادية بل إلى نظام المقايضة. وكان القول بمثابة تعهد أو التزام بنقل الملكية كما أكد ذلك قانون الألواح الاثني عشر. ونستخلص من طبيعة هذه التنظيمات البشرية الحقائق التالية: «أن نظام المقايضة لم يكن مقصورا على البيع والشراء فقط بل امتد إلى مقايضة الأراضي ليتم تبادل المحاصيل المختلفة.» «ولم يكن نظام تأجير المنازل معروفا بل كان ملاك الأراضي يؤجرون أراضيهم للبناء.» «وكان تأجير الأرض قائما على حق الاستزراع وهو ما يسمى باللاتينية
Clientela (أي حق الاستزراع) ومن ثم فإن كلمة
Clientes (أي أصحاب الحق في الاستزراع) جاء من كلمة
Clientes (أي الحارثين الزراعيين).» «لم يعرف نظام المشاركة في هذه العصور وكذلك لم يعرف نظام التوكيل أو التفويض، أي أن القاعدة التي كان يقوم عليها القانون المدني القديم هي «لا يصح للإنسان أن يحصل على شيء بواسطة شخص غير خاضع لسيطرته».»
21
وهكذا كانت صورة الاقتصاد في العصور الأولى التي لم تكن لديها قوانين مدنية بل بدأ القانون بداية أسطورية. ونلاحظ في الختام أن فيكو لم يطبق قانونه على المرحلة الثالثة من مراحل التطور وهي المرحلة البشرية؛ فقد تناول النظام الاقتصادي في المرحلة الأولى ثم أفاض في الحديث عن الاقتصاد البطولي الذي يمثل المرحلة الثانية، ولكنه مر مرورا سريعا على المرحلة الثالثة التي افتقرت إلى التطبيق والأمثلة، ولم يعتمد على أمثلة واقعية غير الأمثلة التي استقاها من هوميروس وغيره. والواقع أن أهمية النظام الاقتصادي عند فيكو ترجع إلى أنه يعد أساسا للسلطة السياسية، وهذا ما سنعرضه بالتفصيل في السطور التالية: (1-5) السياسة الشعرية
حشد فيكو مجموعة هائلة من الأمثلة التي استمدها من الأساطير اليونانية والرومانية ليدلل على نشأة النظام السياسي في العصور المبكرة، كما تعرض بالتفصيل لجوانب دقيقة من هذه الأساطير ... وقد حاولنا أن نستخلص العناصر الأساسية التي تتصل بتطبيق قانون تطور الأمم على الحياة السياسية في الشعوب الأولى، كما حاولنا تهذيب هذا الفصل باستبعاد التفاصيل الجانبية التي أفرط فيكو في سردها لاستخلاص المعالم الأساسية للحياة السياسية وكيف قامت على أساس اقتصادي.
رأينا في الاقتصاد الشعري كيف تكونت الأسر واتحدت وكونت المدن التي تألفت من طبقتين: طبقة النبلاء وهم الأبطال وطبقة العبيد أو الأتباع الذين لم يكن لهم حق إلا في ضرورات الحياة. وكان نظام الحكم في تلك العصور لآباء الأسر بمقتضى السلطة الأبوية حيث كان لهؤلاء الآباء حق السيطرة على حياة أبنائهم، ثم تحرر الأبناء من هذه السلطة الأبوية بعد موت آبائهم. وفي الجانب الآخر واصل العبيد مرحلة العبودية إلى أن مرت حقبة طويلة من الزمن وبدأ العبيد في التمرد على النبلاء للمطالبة بالمساواة معهم في الحقوق. وهذا التطور التاريخي يثبت مسلمة فيكو الأساسية التي تنص على أن الإنسان بطبيعته يتوق إلى الحرية، فكانت ثورة العبيد ضد الأبطال. من هنا نشأت الحكومات، فتحت ضغط الضرورة وجد النبلاء أنفسهم في صفوف مسلحة وتحالفات مشتركة ضد المتمردين من العبيد فتكونت بذلك النظم الأرستقراطية. ويستدل فيكو على تطور نظم الحكم من الأساطير اليونانية والرومانية القديمة. فقد كان الحكم في المرحلة الأسرية حكما ملكيا مثلما كان جوبيتر ملك الآلهة والبشر، ثم كان ميلاد مينرفا
Minerva (أثينا عند الإغريق) من رأس أبيها إيذانا بتغيير نظام الحكم الملكي في دولة الأسرة إلى نظام الحكم الأرستقراطي في دولة المدينة. وقد كان هذا النظام هو المفضل لدى الإغريق والرومان؛ لذلك أطلق الشعراء اللاهوتيون على كل من أثينا ومينرفا اسم إلهة الحكمة.
22
وكانت مينرفا تعني النظم الأرستقراطية المسلحة. وقد أكد هوميروس ذلك في أشعاره عندما صور لنا كيف قذفت مينرفا مارس (إله الحرب عند الرومان) بحجر أثناء صراعهما (وقد كان مارس شخصية ترمز للعامة التي تخدم الأبطال في الحروب) لقد كان صراع مينرفا ومارس تعبيرا عن صراع النبلاء والعامة. كذلك يشير أرسطو في نص ذكره فيكو أكثر من مرة إلى أن النبلاء أقسموا على العداء الأبدي للعامة.
لعل أهم ما قدمه فيكو في السياسة الشعرية هو تحليله الدقيق والعميق للصراع الطبقي الذي يشكل هيكل المجتمعات البشرية عندما شعر النبلاء بالحاجة إلى الآخرين لخدمتهم، واضطروا لاسترضاء العبيد العصاة فأرسلوا لهم السفراء مع أول قانون زراعي في العالم. وبمقتضى هذا القانون منحوا هؤلاء التابعين إقطاعات من الأرض، ولكن بشرط أن ترد هذه الأرض مرة أخرى إلى النبلاء إذ لم يكن لهؤلاء العبيد حق المواطنة، ثم كان القانون الزراعي الثاني الذي منحه النبلاء للعامة من خلال قانون الألواح الاثني عشر، فحصل العبيد على ملكية مؤقتة للأراضي لأنهم ظلوا محرومين من الملكية المدنية، ولم يكن لهم حق توريث أراضيهم ولا الحق في عمل وصية، فكان من الضروري أن تعود الأرض مرة أخرى للنبلاء. ثم بدأ العامة بعد ذلك يطالبون بحق المواطنة التي حصلوا عليها وإن ظلوا كذلك محرومين من الدخول في علاقات زوجية مع طبقة النبلاء. هكذا نشأت المجتمعات الأولى نشأة أرستقراطية إقطاعية لأن كل المجتمعات البشرية لا بد أن تقوم على مبادئ إقطاعية دائمة، وهذه المبادئ قامت على أساس ثلاثة أنواع من الملكية تتطابق مع ثلاث فئات من البشر؛ النوع الأول يسمى
Bonitary ownership
وهو نوع من الملكية يقوم على أساس الهبة أي أراض ممنوحة للعامة، ولا تتجاوز ملكيتهم ملكية المحاصيل؛ أما النوع الثاني فيسمى
Quiritary ownership
وهي ملكية النبلاء الأبطال لإقطاعات مسلحة لأن الممالك البطولية كانت كهنوتية، كما أن الأبطال مثلهم مثل الكهنة كان لهم حق استقطاع أراض معفاة تماما من الديون أو الضرائب العامة والخاصة، فعندما وحد الأبطال أنفسهم في صفوف مسلحة وتكونت نظم الحكم البطولية أصبحت الأراضي خاضعة لسيادتهم على أساس أنهم وحدهم هم الأحرار، فالحرية كانت مقصورة على ملاك الأراضي فقط؛ وأخيرا نصل إلى النوع الثالث الذي يسمى
Civil ownership
أي الملكية المدنية، وهي ملكية كاملة. فعندما تكونت المدن البطولية بسط الأبطال سلطانهم على الأراضي التي زعموا أنها وصلت إليهم عن طريق الآلهة، وأضافت السلطة الحاكمة إلى ألقابها عبارات تدل على أنهم تملكوا أراضيهم بفضل الآلهة وعنايتهم. من هنا يرى فيكو أنه لو سقط الإيمان بالآلهة أو العناية الإلهية لسقطت كل نظم الأبطال؛ إذ إن كل أشكال التدين من الوثنية إلى اليهودية، فالمسيحية وأخيرا الإسلام تؤمن بالعناية الإلهية
23
هكذا استمد الأبطال قوتهم من ملكية الأراضي التي تحيط بالمدن، وقام النظام الإقطاعي على حماية القوي للضعيف؛ لذا يقسم النبلاء بالآلهة ويقسم العامة بالأبطال. وفي ظل هذا النظام الإقطاعي كان من حق الملوك الأبطال (وهم السلطة الإلهية الحاكمة التي أسست المدن) أن يتصرفوا في الرعايا سواء في أشخاصهم أو ممتلكاتهم، وكان من حقهم أيضا أن يفرضوا عليهم ما شاءوا من الضرائب .
ويقدم فيكو من الحضارة الرومانية والحضارة المصرية القديمة بعض الأمثلة التي تدل على وجود هذه المبادئ الإقطاعية في كل المجتمعات القديمة؛ فقد عرف الرومان أن التجمعات البشرية أو الحكومات نشأت من هذه المبادئ الخالدة التي حددت الملكية، وإذا لم يكونوا قد أدركوا ذلك بالعقل فقد أدركوه بالحدس؛ إذ كانوا يضعون أيديهم على الأراضي بمقتضى هذه الصيغة: «أعلن أن هذه الأراضي ملكي بحق أنني مواطن صاحب حقوق كاملة.» (أي
Quirites
أو حق المواطنة) بهذه الصيغة كانوا يقيمون الدعوى المدنية للدفاع عن حق ملكية الأرض كاملة بما عليها من مزارع وبشر ... إلخ؛ لذا خلقوا شخصية الإله ميركوري
Mercury (هيرمس عند الإغريق) وهو حامل القوانين ورسول الآلهة وتصوروه رسولا مجنحا. وكانت أجنحته تدل على النظم البطولية وعصاه تدل على السيطرة على الأراضي والحقول، وهو الذي ينظم الرعية تحت سيطرة الأبطال. أما عند المصريين القدماء فقد كان الإله «توت» ومعه الثعابين رمز الأرض المزروعة وفي يده صولجان يرمز إلى أن الحكم للكهنة، وعلى رأسه قلنسوة ترمز لسيطرة الكهنة على الأرض.
هكذا كانت طبيعة التنظيمات الاجتماعية البشرية الأولى التي تأسست فيها المدن على الحكم الأرستقراطي الإقطاعي حيث الصراع الدائم بين النبلاء والعامة، فلم يكن للعامة حق المواطنة باعتبارهم أجانب أو أغرابا، وليس من حق الغريب أن يمنح لقب المواطنة. وبهذا تعرضوا لنوع من الحرمان ولم يكن لهم الحق في المشاركة في التنظيمات الدينية ولا حق الاحتفال بطقوس الزواج، وعاشوا أشبه بالضيوف والأغراب في المدن البطولية، فلا عجب أن كان العامة حريصين على تغيير شكل الحكومات لتغيير الوضع الطبقي. أما النبلاء في الجانب الآخر فكانوا يتصورون أنهم مقربون من الآلهة ولهم حق الاحتفال بطقوس الزواج ودفن الموتى واحتكار القوانين والأراضي والنظم العسكرية؛ ولهذا كانوا حريصين على المحافظة على هذا الوضع.
24
وقد صورت الشعوب هذا الصراع في أساطيرها التي حفظها التاريخ؛ فكلمة
nomos
اليونانية تعني قانونا زراعيا لأن القانون الأول كان قانونا زراعيا، وكان الأبطال - كما أكد هوميروس - هم «رعاة الشعوب» كما خلقت الشعوب شخصيات بطولية تؤكد مبادئ هذه السياسة الشعرية مثل
Mercury
الذي كان رمز اتحاد الآباء البطوليين، وشخصية مينرفا التي كانت ترمز للحكم الأرستقراطي الإقطاعي في دولة المدينة وأن السيادة العليا لآباء الأسر، وشخصية هرقل وصراعه مع أنتيوس
Antaeus
الذي يرمز لانتصار الأبطال على العامة المتمردين.
25
كذلك خلقت شخصية نبتون (إله البحر عند الرومان) من صفة أساسية ملازمة للعصر البطولي وهي القرصنة البحرية (كما أكدها هوميروس في الأوديسة أثناء عودة أوديسيوس إلى إيثاكا) وهي عادة تخلصت منها المدن التي تدرجت في سلم الحضارة. هكذا رسمت الأساطير صورة الحياة السياسية في المدن البطولية وانتهت حكمة الشعراء اللاهوتيين - وهم حكماء المرحلة البطولية الإغريقية - (مثل أورفيوس
Orpheus
وأمفيون
Amphion
ولينوس
Linus
وغيرهم) إلى التغني بقوة الآلهة ونبوءاتها لكي يظل العامة خاضعين للنظم البطولية وليضمنوا ولاءهم للنبلاء، ولكن العامة لم تكف عن التمرد لأنهم هم وحدهم القادرون على تغيير شكل الحكومات من أرستقراطية إقطاعية إلى ديمقراطية شعبية، وبذلك يكون التطور قد بلغ آخر مرحلة من مراحل الثورة الاجتماعية ودخل في عصر البشرية والحرية الشعبية التي تطورت في ظلها نظم الحكم وأنشئ نظام الضرائب التي تدفع للخزانة العامة لمواجهة تكاليف الحروب. وأصبح من حق العامة أيضا إصدار التشريعات والقوانين التي كانت وقفا على النبلاء فقط، وانقسمت تنظيمات المجتمع إلى مجالس مختلفة يرعى كل منها الطبقة التي يمثلها وهي مجالس الشيوخ والملوك العامة.
هكذا نجد أن النظام الاقتصادي هو أساس النظام السياسي عند فيكو، ونلمح عنده رؤية نفاذة عن أهمية النظام الاقتصادي في نشأة السلطة السياسية. وهذا ما قامت عليه الماركسية في جعلها النظام الاقتصادي هو البنية التحتية التي تقوم عليها البنية الفوقية من فلسفة وفن ودين وسياسة وقانون ... إلخ، فهل يمكن القول بأن فيكو (الذي عاش بين منتصف القرن السابع عشر والثامن عشر) سابق على الماركسية؟ هذا ما سوف نتناوله في الباب الأخير. (1-6) الفيزيقا الشعرية
هي الفرع الآخر من الحكمة؛ فقد كانت الميتافيزيقا هي الفرع الأول الذي نشأت عنه علوم المنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة. وتشمل الفيزيقا علمي الكونيات والفلك. وينشأ عن هذا الأخير علما التأريخ والجغرافيا. نشأت الفيزيقا من حالة الاختلاط والعماء
Chaos
على النحو الذي نشأ عليه عالم الأمم بأسره؛ فقد اعتبر العلماء أن هذا الاختلاط هو أصل الأشياء الطبيعية التي لم تتشكل بعد. ولما أرعدت السماء بعد الطوفان وتولدت الألوهية تحولت الانفعالات الحيوانية للإنسان الأول إلى أفكار بشرية علمته التحكم في انفعالاته وحركات جسده.
من هنا نشأت الفيزيقا نشأة دينية. وجاء الشعراء اللاهوتيون ليقولوا بالعناصر الأربعة المقدسة وهي الهواء الذي انطلقت فيه سهام جوبيتر
Jove
والماء الذي كان ينابيع دائمة التفت حولها التنظيمات البطولية وكانت تمثله الإلهة ديانا
Diana
ثم النار ويمثلها إله النار
Vulcan
الذي أنار بها الغابات، وأخيرا الأرض المزروعة وآلهتها سبيل
Cybele . وكان لهذه العناصر طقوس إلهية وأضفى الشعراء اللاهوتيون عليها الحياة والإحساس
26
وجاء علماء الطبيعة في العصور البشرية فدرسوا هذه العناصر الأربعة المكونة للعالم المادي.
ولكن لعل أهم ما في الطبيعة هو تأمل الطبيعة البشرية. وقد رأينا فيما سبق كيف أن مؤسسي الأمم الأممية استطاعوا تحويل العقول الوحشية إلى عقول بشرية. ثم درست وظائف الأعضاء البشرية، وكيف أن وظائف الروح تنحصر في الرأس والصدر والقلب ووظيفة كل منها؛ فالرأس وظيفته المعرفة والإدراك، وتتضمن الخيال والذاكرة ... إلخ، وعلى الرغم من أن فيكو حشد حديثه عن الفيزيقا الشعرية بتفاصيل كثيرة عن وظائف الأعضاء البشرية، فإننا نستشف منه بصورة غير مباشرة أن دراسة الجسد البشري بأجزائه المختلفة قد مر أيضا بمراحل متعاقبة ابتداء من عصر الآلهة إلى العصر البطولي حتى العصر البشري. (1-7) الكونيات الشعرية
كانت الفيزيقا كما رأينا إلهية في نشأتها الأولى وكذلك الحال في وصف الكون، وهنا يؤكد فيكو كما أكد في الفيزيقا الشعرية أن نظرة البشر إلى الكون أو الطبيعة كانت نظرة إلهية بحيث تصدق العبارة المشهورة التي رددها بعض الفلاسفة السابقين على سقراط وهي أن «كل شيء مملوء بالآلهة» (وقد نسب إلى طاليس أنه قالها عن الماء ...) وجاء وصف الشعراء اللاهوتيين للكون على اعتبار أن له طبيعة إلهية شأنه شأن كل شيء تخيلوه، فكانت السماء هي الموضوع الأول لتأملهم لأن الأشياء السماوية تعني الأشياء السامية أو الموضوعات الدينية المقدسة.
تخيل الشعراء أن السماء غير بعيدة عن قمم الجبال. ويؤكد هوميروس هذا في ملحمتيه حيث إن أبطالهما كانوا يتخيلون أن الآلهة تسكن قمة جبل الألب. ومن هذه السماء حكم الآلهة الأرض، ومن السماء جاءت العدالة على الأرض عن طريق الأبطال الذين أقاموا العدل بين البشر بالقانون الزراعي الأول، ومن السماء هبطت الأجنحة
27
التي تعني التنظيمات البطولية، ومن السماء أيضا سرق بروميثوس النار من الشمس. ثم تخيل الشعراء اللاهوتيون آلهة العالم السفلي وكان أولهم الماء ويدعى أسطقس
Styx
28
الذي يقسم به الآلهة. كما كان وصفهم للكون سواء ما كان منه علويا أو سفليا فهو مملوء بالآلهة. بذلك انقسم هذا العالم الشعري أو الكونيات الشعرية إلى ثلاث ممالك؛ الأولى مملكة جوبيتر في السماء؛ والثانية مملكة زحل
Saturn
على الأرض؛ والثالثة مملكة العالم السفلي التي يحكمها
وهو إله الثروات البطولية (وهي من ذهب أو من الحبوب لأن ثروات الشعوب القديمة كانت تقوم على المحاصيل). وهكذا تكون عالم الشعراء اللاهوتيين - كما سبق أن ذكرنا - من أربعة عناصر اعتبرها علماء الطبيعة فيما بعد عناصر طبيعية وهي الهواء (عنصر
Jove ) والنار (عنصر
Vulcan ) والأرض (عنصر
Cybele ) والماء (عنصر
Diana ). والغريب أنه لم يسم عنصر الماء باسم نبتون
Neptune
29
ولعل السبب في هذا أن الشعراء لم يعرفوه إلا فيما بعد، وأن الأمم الأممية لم تبلغ شواطئ البحار إلا في وقت متأخر. لقد كان كل بحر يمتد وراء الأفق يسمونه محيطا، وكل أرض يحيط بها تسمى جزيرة. وهذا هو الأصل فيما قال به الجغرافيون في مرحلة متأخرة من أن الأرض بأكملها تشبه جزيرة كبيرة يحيط بها البحر أو المحيط.
وأخيرا توصل الشعراء إلى كلمة العالم
30
التي أطلقوها على كل منحنى أو منحدر، ثم فهموا من ذلك أن الأرض والسماء كرويتان وأن هناك خطا يصل من كل نقطة في محيط هذه الدائرة إلى كل نقطة أخرى. إن المحيط هو الذي يبلل اليابسة على كل الشواطئ لأن مجموع الأشياء (وهو ما نسميه العالم) يحفل بأشياء حسية رائعة متنوعة.
ومن عقوبات الآلهة في العالم السفلي استفاد الفلاسفة - كما يرى فيكو - من هذه الخرافات في تأملاتهم الميتافيزيقية والأخلاقية؛ فقد لجأ أفلاطون إلى هذه الخرافات ليفهم العقوبات الثلاث - التي يستطيع الآلهة وحدهم إنزالها بالبشر - وهي النسيان والعار وتأنيب الضمير، وليؤكد أن طريق التطهر هو السبيل الوحيد للوصول إلى طريق الوحدة، أي اتحاد الإنسان بالله عن طريق التأمل في المثل الأبدية. (1-8) الفلك الشعري
عندما بدأت العقول البشرية تتطور واستمر البشر في تأمل السماء وانتظار النبوءات تصوروا أن السموات ازدادت ارتفاعا كما ازداد معها الأبطال والآلهة سموا. ويؤكد فيكو آراءه في الفلك الشعري ببعض الملاحظات اللغوية التي يلجأ إليها على عادته في معظم شروحه. وأول هذه الملاحظات هو أن الكلدانيين هم الذين أرسوا الأسس الأولى لعلم الفلك. والثانية أن الفينيقيين نقلوا من الكلدانيين إلى المصريين استخدام الربعية.
31
وأخيرا أن الفينيقيين - بعد أن تعلموا من الكلدانيين - قد نقلوا أسرار النجوم إلى الإغريق. وقد كان تصور هذه الشعوب لعلم الفلك الشعري تصورا دينيا قائما على حقيقتين أساسيتين؛ أولاهما حقيقة اجتماعية كانت سائدة لدى كل الشعوب الأولى وهي الحذر الشديد من قبول آلهة غريبة؛ والحقيقة الأخرى طبيعية تسبب فيها الخداع البصري؛ إذ تبدو لنا الكواكب السيارة أكبر من النجوم الثابتة؛ ولهذا نسبت الأمم الأولى الآلهة إلى الكواكب السيارة بينما نسبت الأبطال إلى مجموعة النجوم الثابتة. وقد بدأت مبادئ الفلك عند كل الشعوب الأممية بداية واحدة انطلاقا من هاتين الحقيقتين. وإذا كان علم الفلك قد بدأ عند الكلدانيين ونقله الفينيقيون إلى المصريين ثم إلى الإغريق، فإن هذه الشعوب كانت تسلم من قبل بهاتين الحقيقتين؛ ولذلك لم يكن من الصعب عليهم أن يتقبلوا ما نقل إليهم من حقائق علم الفلك. وكأن هذه الشعوب قد كتبت في السماء تاريخ آلهتها وأبطالها، وكأنها أرادت تسجيل أعمالهم مفعمة بالحكمة والأسرار من ناحية، وبالشجاعة والبطولة من ناحية أخرى. ومجمل القول أن التأثيرات التي نسبت للكواكب والنجوم على الحياة الأرضية كان الأصل فيها هو خصائص الآلهة والأبطال والأعمال التي أنجزوها على الأرض.
إن النظرة الشعرية إلى السماء لم تكن تفسر حركات الكواكب والنجوم وتأثيراتها من خلال العلل والأسباب الطبيعية بل من خلال صفات الآلهة والأبطال وأعمالهم، ولا بد أن الناس قد تعلموا فيما بعد كيف ينظرون بالتدريج إلى السماء نظرة علمية محايدة، وكيف يفسرون بالعلل الطبيعية ما كان أجدادهم يفسرونه بأسباب إلهية، ولعل هذا هو مضمون الجزء الذي لم يكتبه فيكو عن الفلك في المرحلة البشرية، ولو أن فيكو طبق قانونه في هذا الجزء وكتب عن الفلك في المرحلة البشرية لكان من المرجح أن يشيد بالتفسير الطبيعي والعلمي الذي جاء في المرحلة البشرية.
وإن كنا نميل إلى الظن بأنه لو كان قد كتب هذا الجزء لما أغفل ما تحدث عنه من تداخل المراحل بعضها مع بعض؛ إذ إن المعروف أن علم الفلك في عصر النهضة وحتى إسحاق نيوتن لم يخل من وجود رواسب من التفسيرات الفلسفية والصوفية القديمة. (1-9) التأريخ الشعري
انعكست نظرة الشعراء اللاهوتيين للفلك على التأريخ الشعري لتحديد البدايات الزمنية. ويؤكد فيكو أن اسم إله الزراعة ساتورن
Saturnus (وهو خرونوس
Chronos
أو الزمان عند الإغريق) مشتق من
Satus
أي الحرث أو الغرس، وهذا يدل على أن الشعوب القديمة كانت شعوبا زراعية تحسب السنوات بمواسم حصاد الحبوب؛ فعبارة «لقد حصدنا ثلاث مرات.» تعني لقد مرت ثلاث سنوات.
32
وقد نسب إلى هرقل أنه مؤسس المهرجانات الأولمبية التي تعتبر عند الإغريق وحدة قياس المراحل الزمنية، وهرقل أيضا هو الذي أشعل النار - كما تحكي الأساطير - في الغابات لكي يمهد الأرض للحرث والحصاد اللذين كانت تحسب بهما الأعوام.
ويؤكد فيكو أيضا أن الثيوجونيا أو أنساب الآلهة تساعدنا على تحديد المراحل المتتالية في عصر الآلهة، وهي مراحل تطابق بعض الضرورات أو المنافع الأساسية للجنس البشري وكانت أصولها جميعا أصولا دينية. فعصر الآلهة لا بد أن يكون في رأي فيكو قد استمر على الأقل 900 سنة ابتداء من ظهور الآلهة المتنوعين عند الأمم الأممية، أي ابتداء من الوقت الذي بدأت فيه السموات ترعد بعد الطوفان. وقد ظهر في هذه الفترة اثنا عشر إلها بداية من جوبيتر
Jove
وقسموا هذا العصر إلى اثني عشر عصرا أصغر وأكدوا بذلك مراحل التأريخ الشعري. كذلك حددوا بداية التاريخ العالمي الذي بدأ في الشرق وإن لم يبدأ بمملكة نينوى. ولما كانت الملكية هي آخر أشكال الحكم المدني فلا بد أن تكون ممالك الشرق مثل آشور ومصر قد مرت بالمراحل المتتالية من النظم الإلهية والبطولية حتى وصلت إلى النظم الشعبية الحرة لكي تبلغ في النهاية النظام الملكي.
33
ويرى فيكو أن الأمر لم يخل من وقوع المؤرخين الإغريق في أخطاء كثيرة عند تحديد العصور، فوضعوا عصورا قبل أوانها أو بعده، وتصوروا عصورا مملوءة بالأحداث والوقائع وأخرى خالية منها مع أن الحقيقة كانت على العكس من ذلك؛ فقد حشدوا عصر الأبطال - الذي استمر في رأي فيكو مائتي سنة - حشدوه بأحداث ووقائع تنتمي لعصر الآلهة. ثم إنهم وحدوا بين عصور كان ينبغي أن يفصل بينها وذلك خشية أن يبدو الأمر كما لو كان الإغريق قد انتقلوا خلال حياة أورفيوس من مرحلة الوحوش المفترسة إلى مرحلة الحرب الطروادية. وأخيرا ينتقد فيكو مؤرخي الإغريق فيقول إنهم قسموا عصورا كان ينبغي أن توحد، فوضعوا المستعمرات الإغريقية في إيطاليا وصقلية بعد مرحلة الأبطال بثلاثمائة سنة مع أن هذه المستعمرات لم تنشأ إلا نتيجة لرحلات أولئك الأبطال أنفسهم. (1-10) الجغرافيا البشرية
طبقا للمسلمة الأساسية التي تنص على أن العقل البشري يحكم على الأمور المجهولة والبعيدة على أساس الأمور المألوفة له والقريبة منه، بدأت الجغرافيا الشعرية من الأفكار المحدودة داخل حدود الإغريق. ولقد أثبت الجغرافيون القدامى حقيقة هامة هي أن الأمم القديمة كانت عندما تهاجر تطلق أسماء بلادها الأصلية على الأراضي الجديدة مثل أسماء الأنهار والجبال والجزر ... إلخ؛ لذلك نجد أن الإغريق أطلقوا اسم آسيا أو الهند على الشرق، وعلى الغرب اسم أوروبا أو هيسبريا، وعلى الشمال ثراقيا أو سكيثيا، وعلى الجنوب ليبيا أو موريتانيا. والأسماء التي أطلقت على هذا العالم الصغير أطلقت فيما بعد على مناطق العالم لما لاحظه اليونان من تشابه بينها. وعندما انتشر الإغريق في العالم، من خلال رحلاتهم المختلفة، نشروا معهم حكايات حرب طروادة وأسماء الإغريق والطرواديين، وما يسري على الجغرافيا الشعرية الإغريقية يسري أيضا على الجغرافيا الشعرية عند الرومان؛ فالفتوحات الرومانية هي التي مدت اسم إيطاليا على إيطاليا المعروفة اليوم بأبعادها الحالية.
وتأكيدا لمبادئ هذه الجغرافيا الشعرية يدلل فيكو عليها بأن كثيرا من الأفكار والشخصيات الإغريقية انتقل إلى منطقة اللاتيوم، وذلك طبقا لمسلمته الأساسية أن هناك مستعمرة إغريقية على سواحل اللاتيوم، ويثبت تاسيتوس ذلك بأن الحروف اللاتينية هي نفسها الحروف الإغريقية المبكرة قبل تطورها. وهكذا انتقلت أسماء أبطال الإغريق مثل هرقل وإيفاندر وأينياس ... إلخ إلى اللاتين الذين تبنوها واستبدلوا بها أسماء أبطالهم الأصليين، وهنا يذكر فيكو ملحوظة هامة عن عادات الشعوب، وهي أن الشعوب في عصور بربريتها تعتز بعاداتها وأبطالها، ولكنها في حالة تمدنها تنسب نفسها إلى أصول أجنبية مثلما استبدل الرومان هرقل البطل الإغريقي باسم مؤسسهم الأصلي فيديوس
Fidius .
تعقيب
حاول فيكو في الحكمة الشعرية إثبات النشأة الشعرية للشعوب الأولى، فأكد أن التاريخ بدأ بداية شعرية - كما بينا في مطلع هذا الفصل - فكان الشعراء أول من تغنى بأحداث التاريخ، ولأن الحكمة الشعرية هي الأصل في كل العلوم والفنون فقد اهتم فيكو بنشأة هذه العلوم، ولكن تطبيقه لقانون التطور لم يكن دقيقا في كل المواضع، كما في الفصول التي كتبها عن الفيزيقا والكونيات والفلك والتأريخ والجغرافيا؛ إذ حشدها بتفاصيل كثيرة من الأساطير اليونانية والرومانية التي أضاعت المعالم الرئيسية لفكرته، وانصب اهتمام فيكو في هذه الفصول على كيفية نشأة هذه العلوم نشأة دينية وهو ما يطابق المرحلة الأولى من مراحل تطور التاريخ، ولم يهتم بتطبيق القانون على المرحلتين البطولية والبشرية بحيث يمكن القول بأن العلم الجديد علم لم يكتمل بعد، وأن فيكو أسسه ووضع مبادئه وأرسى منهجه وترك للأجيال القادمة مهمة تطبيقه كل على حضارته.
وفي الجانب الآخر اهتم فيكو بتطبيق قانون التطور في الفصول الخاصة بالميتافيزيقا والمنطق والأخلاق والاقتصاد والسياسة، وقدم فصلا جيدا عن المنطق الشعري، ووضع نظرية هامة وطريفة في تطور اللغات والحروف أكدها بالتحليلات اللغوية للشعوب الأولى، وكما قدم تحليلا لبنية الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع البشري، فقد قدم أيضا تحليلا للصراع الطبقي الذي نشأت عنه المجتمعات البشرية الأولى، وفي هذا سبق للماركسية كما سنرى في الباب الأخير من هذا البحث.
وقد انتهى فيكو إلى أن الحكمة الشعرية كانت أساسا لكل العلوم والفنون، وأنها تطورت جنبا إلى جنب مع تطور المجتمعات وتطور العقل البشري، فبدأت بداية دينية ثم بطولية وانتهت إلى حكمة بشرية ألا وهي حكمة الفلاسفة؛ فالحكمة الشعبية قد بدأت - مع الشعراء اللاهوتيين الأول - بالأساطير والحكايات الخرافية. ومعنى هذا أنها لم تكن حكمة فلسفية كما انتهى إلى ذلك بعض الباحثين الذين مجدوها وارتفعوا بها فقالوا بالحكمة الفذة للقدماء؛ إذ إن الأمم الأولى (كما أكد فيكو وكما بينا في هذا الفصل) صورت في قصصها الخيالية وأساطيرها بدايات العلوم في صورة خشنة وبلغة الحواس المباشرة إلى أن جاء العلماء بدراساتهم المتخصصة وتناولوا تلك الأساطير والحكايات تناولا عقليا، ومن هذا كله ننتهي إلى أن الشعراء اللاهوتيين كانوا يمثلون حواس الحكمة البشرية كما كان الفلاسفة يمثلون عقلها.
34
هكذا كانت حكمة هوميروس التي اهتم بها فيكو اهتماما خاصا وأفرد لها كتابا من كتب «العلم الجديد» حاول فيه اكتشاف حقيقة شخصية هوميروس التي اختلفت حولها آراء الباحثين، وسواء كانت هذه الشخصية حقيقة تاريخية أو أسطورية فإنها عبرت عن الشخصية اليونانية أو هي مثال للعقلية اليونانية؛ ولذلك وصفه أفلاطون وأرسطو بأنه مؤسس المدنية الإغريقية محاولين إثبات أن حكمة هوميروس هي من قبيل الحكمة الفلسفية المستورة. وحاول فيكو أن يثبت خطأ هذا الرأي ويبرهن على رأيه بشواهد من ملحمتي هوميروس (الإلياذة والأوديسة) ليثبت أنه ليس فيلسوفا وأن حكمته ليست من نوع الحكمة الفلسفية، ولكنها حكمة شعرية؛ لأنها في الأصل حكمة شعبية مستمدة من البيئة اليونانية، وما كان هوميروس إلا مترجما لعادات وصفات هذه البيئة، كما أن شعره شعر بطولي لأنه عاش في عصر بطولي له صفات معينة؛ لذلك جاءت الإلياذة تحمل كل صفات المجتمع البطولي ممثلا في شخصية أخيل، وليست حكمة هوميروس بالحكمة الفلسفية كما يزعم أفلاطون وأرسطو ؛ لأنه كان رجلا بسيطا من عامة الشعب وأشعاره لم يظهر فيها أي أثر للعقل، ويتضح هذا في الإلياذة حيث تتصرف شخصيات هوميروس مدفوعة بعواطفها ولا تفكر تفكيرا عقلانيا، وهو بذلك يعبر عن صفات المجتمع اليوناني وأفراده في ذلك الحين.
وكما يقول لونجينوس
Longinus
35 - أحد الباحثين في شخصية هوميروس - إن هومر ألف الإلياذة في شبابه عندما كان الإغريق مدفوعين بعواطفهم القوية ورغباتهم؛ لذا جاءت الإلياذة معبرة عن هذه الصفات في شخصية أخيل الذي كان متقلب المزاج، مثلما حدث له عندما استقبل بريام الذي جاء ليفتدي جثة ابنه هيكتور فاستقبله أخيل في خيمته على العشاء، ولكن حين تفوه الأب الحزين بجملة صغيرة لم تعجب أخيل سرعان ما انقلب مزاجه ونسي تماما القوانين المقدسة لحسن الضيافة ولم يشفق على رجل مسن حزين على ابنه فاندفع يهدده بقطع رأسه. ولم يغفر أخيل الأذى الذي لحقه من أجاممنون فراح يطلب الدمار لكل الإغريق على يد هيكتور، ورفض الاشتراك في حرب طروادة ولم يثنه عن قراره سوى مقتل صديقه، هنا فقط استجاب لعواطفه الجياشة فقرر دخول الحرب للانتقام. أما الأوديسة فقد ألفها هوميروس - كما يقول لونجينوس - في شيخوخته عندما تطورت العقلية اليونانية، فجاءت شخصية أوديسيوس معبرة عن هذه الصفات الجديدة؛ إذ كان أخيل هو بطل الشجاعة والعنف والاندفاع وهي صفات البطولة وصفات الشباب أيضا، وكان أوديسيوس بطل الحكمة البطولية وهي صفة الشيخوخة، ويبرهن فيكو على أن أشعار هوميروس تناولت عادات الشعوب الإغريقية ومنها بعض العادات الوحشية التي سادت هذه الشعوب البربرية مثل استعمال الأبطال للسهام السامة في الحروب (مثلما ذهب أوديسيوس إلى
Ephyra
بحثا عن أعشاب سامة). من هذه العادات أيضا ترك جثث قتلى المعارك للنسور والوحوش. ويسخط بعض الباحثين على تشبيهات هوميروس التي تتسم بالفظاظة والوحشية، ولكن فيكو يرى أن هذا كان ضروريا لهوميروس لكي يفهم العامة المتوحشة الطباع. ومع ذلك فبلوغه مثل هذا النجاح لم يكن عن طريق رموز العقل المهذب والمتمدن أو بأي نوع من الفلسفة. بل كان أسلوب الوحشية الذي استعمله في وصفه للمعارك الدامية والتطرف في سفك الدماء مما كان سببا في سمو الإلياذة على وجه الخصوص، وهذه الضراوة والوحشية والعنف واضطراب العواطف من صفات الطبيعة البطولية كما رأينا في الحكمة الشعرية، وهي صفات بشر لم تنضج قدراتهم العقلية بعد؛ ولهذا ينكر فيكو على هوميروس أي نوع من الحكمة الفلسفية. (2) عودة مسار الأمم
انتقلت الأمم في العصور المبكرة من العصور الدينية إلى العصور البطولية ثم إلى العصور البشرية، وبذلك يكون فيكو قد طبق قانون التطور على الحقب التاريخية القديمة، والآن إلى أي حد نجح في تطبيق هذا القانون على التنظيمات البشرية للأمم عند نهضتها من جديد وهو ما يسميه بالمسار الثاني للشعوب الذي أفرد له آخر فصول العلم الجديد ليؤكد أن هناك تقابلا بين العصور البربرية الأولى والعصور البربرية الثانية؟ تعود الدورات التاريخية مرة أخرى بصورة أكثر تقدما لتسير الشعوب في نفس المسار، ولكنها لا تبدأ من نفس النقطة الأولى بل من نقطة أكثر تقدما؛ فالتاريخ البشرى لا يعيد نفسه وإنما يسير دائما نحو التقدم. وقد انتهى تطور الأمم في الدورة التاريخية الأولى إلى العصر البشري الذي كان يحمل في ثناياه بذور فنائه؛ لأن التطور في هذا العصر انغمس في الترف واللذات والانحلال وضعف الإيمان بالأديان وفساد الحكومات، وفي مثل هذه الظروف تتعرض الأمم إما لغزو خارجي أو سيادة الفوضى والهمجية وتقع فريسة بربرية جديدة يرى فيكو أنها كانت أكثر ظلاما من الأولى.
لقد وجهت العناية الإلهية - التي تعمل على خير الجنس البشري - التنظيمات البشرية للأمم، ثم كشف الله - كما يقول فيكو - عن حقيقة الديانة المسيحية وسمح بميلاد نظام جديد كي تستقر الديانة الحقة طبقا للنظام الطبيعي للتنظيمات البشرية نفسها. وبهذا التدبير الخالد عادت العصور الدينية التي كان فيها الملوك الكاثوليك حماة للديانة المسيحية واحتفظوا بلقب الجلالة الملكية المقدسة. أسس الملوك المسيحيون الأوائل نظما دينية عسكرية ضد الآريين والعرب المسلمين ومعارضي الديانة المسيحية. وعادت الحروب الدينية فكان الصليب يعلو تيجان الملوك الذين اتخذوا منه شعارا في حروبهم فأطلقوا عليها اسم الحروب الصليبية. ومثلما كان من شروط الاستسلام في العصور البربرية الأولى أن يفقد المهزومون كل تنظيماتهم الدينية والدنيوية، حدث أيضا أن تنازل المهزومون عن تنظيماتهم الاجتماعية للمنتصرين في العصور البربرية الثانية.
في هذه العصور عادت كل خصائص العصور الدينية الأولى، فعادت اللغة الرمزية مرة أخرى، وبدأت الشعوب البربرية ابتداء من القرن الخامس الميلادي تغمر أوروبا وآسيا وأفريقيا (مثلما حدث مع سقوط الإمبراطورية الرومانية) وحرصت الشعوب المنتصرة على ألا تفهمها الشعوب المهزومة فدونت وثائقها باللغة اللاتينية التي لا يفهمها إلا قلة قليلة من النبلاء هم في نفس الوقت يمثلون رجال الكنيسة، فلم توجد وثائق باللغة العامية مثلما حدث في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وألمانيا؛ لذلك عادت اللغة الرمزية. في هذه العصور المظلمة اتصلت الشعوب ببعضها البعض بلغة صامتة لقلة الحروف العامية وندرة استعمالها، فكانت الرموز التي تؤكد الملكية وتحددها، ووجدت رموز لكل أسرة تعني حقوق السيادة على منازلهم ومقابرهم وحقولهم وقطيعهم.
36
وكانت هناك عودة لأعمال القرصنة التي تمثل شعار النبالة، كما عادت الأحكام الدينية للعالم الأول ومنها المبارزات وأشكال الثأر والانتقام، كانت حروب العصور البربرية الثانية - كما كانت في البربرية الأولى - حروبا من أجل الدين عادت معها المقدسات الأولى للعالم القديم التي من خلالها تأسست المدن، فعندما انتشر السلب والعنف والقتل - وهي أخلاق ذلك العصر - لم تقم للقوانين البشرية قائمة، فكانت القوانين الإلهية هي الملاذ الوحيد طبقا لمسلمة فيكو: «كلما توحش البشر نتيجة الحروب بينهم بحيث لا تقوم لقوانينهم قائمة فإن الوسيلة الوحيدة لترويضهم هي الدين.» ومع سيادة أخلاق العنف والقوة والوحشية تسود حالة من الذعر والخوف فيلجأ البشر إلى آباء الكنيسة ليضعوا أنفسهم وأسرهم وميراثهم تحت حمايتهم. ومن هذا الخضوع وهذه الحماية تكونت العناصر الأساسية لمبادئ الإقطاع التي ظهرت في العصر البطولي الذي تلا العصر الديني.
يقابل فيكو بين العصر الهوميري
37
الإغريقي والعصور الوسطى الأوروبية في الدورة التاريخية الثانية أو المسار الثاني للشعوب كما يسميه. وقد انقسم المجتمع في ذلك العصر إلى طبقتين: النبلاء (وهم الذين كان يطلق عليهم لقب الأبطال في العصور القديمة ) والأتباع، وكان هذا التقسيم نتيجة التمييز بين طبيعتين متعارضتين؛ طبيعة بطولية وطبيعة بشرية. ويستشهد فيكو بالاشتقاقات اللغوية لبعض الكلمات التي استخدمت في هذا العصر؛ فكلمة الأتباع أي
Homines
تعني البشر، ويرجع أصل هذه الكلمة إلى لفظين استخدما في ظل النظام الإقطاعي وهما
homagium & hominium
ولهما نفس المعنى؛ فلفظ
hominium
يعادل
hominis dominum
أي ملكية البارون لأتباعه، ولفظ
homagium
يعادل
dominis agium
أي حق البارون في اصطحاب أتباعه حيثما كان، وهذا اللفظ الأخير ترجم إلى اللغة اللاتينية بكلمة
obsequium
وتعني الإخلاص والولاء الذي يقسمه الأتباع للبارون، وكانت نفس الكلمة عند الرومان القدماء تعني الخدمة العسكرية التي يؤديها عامة الرومان في الحروب لصالح النبلاء،
38
هكذا كان الحال في العصر البطولي الأول حيث أسس روميلوس روما على نظام الأتباع عندما امتدت حمايته إلى الفلاحين الأجراء الذين لجئوا إليه ومنحهم إقطاعات ريفية، فكان القانون الزراعي الأول الذي منح الأتباع جزءا من الأرض ليتكسبوا منها، ثم القانون الزراعي الثاني الذي نص عليه قانون الألواح الاثني عشر إلى أن تحولت الإقطاعات الريفية إلى إقطاعات مدنية.
39
وقد كان من الطبيعي أن يعود المجتمع البشري مرة أخرى إلى النظام الإقطاعي لما وجد فيه من منافع ومكاسب تتطلبها الحياة المدنية، فعاد إقطاع العالم الأول متخذا بداية جديدة، ويستشهد فيكو مرة أخرى - مستعينا بعلم اللغة والاشتقاقات اللغوية لأصول بعض الكلمات - على عودة النظام الإقطاعي في الدورة البطولية الثانية مثل كلمة
Opera
وتعني العمل اليومي للفلاح بدون أي حق في المواطنة ، وكلمة
herd
اللاتينية وتعني قطيع العمال أو قطيع الخدم حيث كان ينظر للأتباع على أنهم قطيع من البشر، وكذلك كلمة
servitum
وتعنى خدمة؛ فقد كان الأتباع ملزمين بخدمة مجد النبلاء
40 (وقد أطلق على أمراء الإقطاع اسم نبلاء مثلما أطلق عليهم شعراء اليونان قديما اسم الأبطال) بذلك عاد نظام العبيد
41
فكلمة
Vassal
اكتسبت المعنى القديم لكلمة
Clienteles
وأقسم العبيد على خدمة النبلاء في الحروب فكانوا يعتبرون أصدقاءهم وأعداءهم أصدقاء سيد الأرض وأعداءه، وصاحب هذا عودة النبلاء إلى نظام سجن العبيد، فمن يتخلف عن دفع الضرائب للنبيل يحق له سجنه أو عقابه.
ومع العصر البطولي بكل ما له من سمات عاد نظام الملكية بنوعيها؛ الملكية المباشرة
dominium directum
والملكية النافعة
dominium utile
وهما يطابقان نوعي الملكية عند الرومان. فالنوع الأول وهو الملكية المباشرة يطابق نظام ال
quiritary ownership
عند الرومان وهو ملكية الأبطال لإقطاعات مسلحة؛ لأن المالك البطولية كانت كهنوتية وللأبطال حق استقطاع أراض معفاة من الضرائب والديون، والنوع الثاني وهو الملكية النافعة يطابق نظام
bonitary ownership
وهو نوع من الملكية يقوم على أساس الهبة أي أراض ممنوحة للعامة، ولا تتجاوز ملكيتهم ملكية المحاصيل كما سبق ذكر أنواع الملكية، ويستعين فيكو بفقه اللغة ليتعرف على العلاقة التي تربط السيد بالتابع - في الدورة البطولية الثانية - من خلال الاشتقاقات اللغوية لكلمات ثلاث؛ وهي كلمة
directus
التي تؤكد أن حق التمليك كان يعهد للعامة من المالك المباشر وهو السيد صاحب الأرض؛ وكلمة
laudimia
وهي الضريبة أو المال الذي يدفعه التابع لسيده بعد أن أعطاه الأخير تصريحا
Laudatio
بزراعة الأرض. وكان ذلك نوعا من العرف يتم بالتراضي، ولكن في حالات أخرى كان لا بد من الفصل فيها بالقرار القضائي، وهو ما يؤكده استعمال كلمة
Lodo
التي كانت تعني في البداية القرار القضائي ثم أصبحت تعني قرار الفصل في نزاع معين.
42
كان هناك عودة أيضا إلى القانون الروماني فعاد ما يسمى في التشريع الروماني القديم بال
Cavissae
أي التحفظ والدقة الشديدة في صياغة الكلمات - وهو ما سبق الحديث عنه في الأنواع الثلاثة للتشريع - ثم اختصرت هذه الكلمة إلى
caussae
وأطلق عليها في العصر البطولي الجديد
Cautelae
من نفس الأصل اللاتيني، وحذا أساتذة القانون في العصور الوسطى الأوروبية حذو الرومان في التزام الدقة في الصياغة القانونية للعقود والدعاوى والوصايا، وبلغ التشابه إلى حد التشابه في الأخطاء التي وقع فيها كل من المشرعين الرومان القدماء وأساتذة القانون في العصور الوسطى الأوروبية؛ فقد غابت أصول القانون الروماني عن أولئك المشرعين القدماء بعد أن اختفى التمييز بين أنواع الملكية المختلفة في ظل الحريات الشعبية والملكية حتى إن المشرعين في العصور المتأخرة لم ينتبهوا إليها؛ فالعلماء المفسرون للقانون الروماني في عصر النزعة الإنسانية يصرون على إنكار اعتراف القانون الروماني القديم بنوعي المليكة المباشرة والنافعة، وقد ضللهم اختلاف الأسماء كما أخفقوا في فهم التشابه بين الأنظمة نفسها. كذلك غابت قوانين الإقطاع المبكرة عن أذهان أساتذة القانون في العصر البربري الثاني.
43
وفي هذا العصر الأخير عادت ملكية الأراضي بحق المواطنة بمقتضى قانون
Quirites
على نحو ما كان عليه الحال في القانون الإقطاعي للعصر البربري الأول حيث كان هذا النوع من الملكية يعني ملكية النبلاء لإقطاعات مسلحة. كذلك كانت الأراضي الإقطاعية في البربرية الجديدة تدعى «حقوق أصحاب الحراب» - فالنبلاء وحدهم هم السادة الملاك
auctores - لتمييزهم عن أراض أخرى تسمى «أراضي العبيد»، وهي الأراضي التي استولى عليها العامة من السادة الأبطال في عصر الحريات الشعبية. ومثلما كان مجلس الشيوخ في العصر البربري الأول يتألف من الأبطال، كانت البرلمانات الأولى في أوروبا تتألف من البارونات والنبلاء والأمراء، الملوك على رأس البرلمان والنبلاء وكلاء مفوضون عن الملك في المجالس والمحاكمات القضائية كما يشهد بذلك تاريخ فرنسا.
ويعود فيكو مرة أخرى إلى نفي الرأي القائل ببراءة العصور الأولى فيقول إن علماء القانون المتأخرين استسلموا لهذا الرأي الزائف، كما استسلم بعض فلاسفة السياسة لرأي أرسطو القائل بأن الأمم القديمة لم تكن لديها قوانين لمعاقبة جرائم الأشخاص. وقد وقع تاسيتوس قديما في هذا الخطأ في الحوليات عندما ذكر أن البشر في الأمم القديمة السابقة على نشأة المدن كانوا يعيشون عيشة آدم في حال من البراءة المطلقة. وينفي فيكو هذا الرأي ويثبت خطأ السابقين لأن فعل القتل معروف منذ العصور المبكرة ولكنه لم يكن يعد جريمة إلا في حالة قتل الآباء، أما قتل العبيد فلا يعد جريمة؛ فالمجتمع في هذه العصور الأولى ينقسم إلى: مواطنين (وهم الآباء أو الأبطال) وعبيد، وكان قتل المواطن جريمة تسمى
أي قتل الأب ويعد فعلا عدائيا موجها للوطن كله، بينما قتل العبيد لا يعد جريمة؛ فالعبد إما أن يقتل من قبل سيده وهذا ليس جريمة لأن العبد ملك لسيده وله عليه حق الموت، وإما أن يقتل العبد من قبل شخص آخر ومثل هذه الحالة أيضا لا تعد جريمة بل يعوض سيده عنه لأنه مالكه. ويؤكد فيكو أن هذا ما زال يحدث في بعض البلدان في العصور البربرية الثانية مثل بولندا، ولاتوانيا، والسويد والدانمارك، ولكن في عصر الحريات الشعبية أصبح قتل الإنسان جريمة سواء أكان هذا الإنسان نبيلا أو عبدا.
ويستمر فيكو في بيان تشابه سمات العصور البطولية الأولى والثانية، فكما كانت المبادئ الأبدية للنظام الإقطاعي وراء نشأة نظم الحكم في الحكومات الأولى، كما نشأ القانون الروماني من النظام الإقطاعي الذي ساد في إقليم لاتيوم، كذلك نشأت أيضا نظم الحكم الملكية في أوروبا الحديثة من المبادئ الأبدية للنظام الإقطاعي، فكانت القضايا الخاصة بالأراضي الإقطاعية تناقش في البرلمانات؛ ومن ثم نشأت العادات الإقطاعية - التي تعد من أقدم العادات في أوروبا - والتي تؤكد أن القانون الطبيعي للأمم نشأ عن تلك العادات البشرية التي سادت في ظل النظام الإقطاعي. ولقد شاهد فيكو بنفسه أثرا من آثار البربرية الثانية ممثلا في المجلس المقدس لمدينة نابولي؛ إذ كان رئيس هذا المجلس يلقب باسم الملك المقدس، كما كان أعضاؤه جنودا لأن النبلاء في البربرية الثانية كانوا وحدهم الجنود المحاربين، أما العامة فكانوا يخدمون في الحروب على نحو ما كان يحدث في البربرية الأولى سواء مما ذكره هوميروس أو ما نعرفه من التاريخ الروماني القديم.
ومع نشأة المدارس والجامعات في إيطاليا وانتشار تعليم القانون الروماني وخاصة تلك القوانين التي احتوتها مدونة جوستنيان وقامت على القانون الطبيعي للبشر، تهيأت العقول لقبول قانون المساواة الطبيعية الذي يجعل الشعب والنبلاء على السواء متساوين في الحقوق المدنية كما هم متساوون في الطبيعية البشرية، وكما حدث في البربرية الأولى عندما تسربت القوانين إلى العامة فانهارت سلطة النبلاء تدريجيا، حدث نفس الشيء في ممالك أوروبا في العصور البربرية الثانية مع انتشار التعليم ودراسة القوانين في الجامعات، فانتقل الحكم في هذه الممالك من الحكم الأرستقراطي إلى الحكومات الشعبية الحرة لكي تنتهي أخيرا إلى النظم الملكية الكاملة وهما مرحلتا العصر البشري، وهذان الشكلان الأخيران من أشكال الدولة يسمحان بالانتقال من أحدهما إلى الآخر، ولكن العودة من أحدهما إلى النظام الأرستقراطي هو أمر مستحيل لا تسمح به الطبيعة البشرية المدنية. فعندما تصل الشعوب إلى نظم الحكم الشعبية الحرة ومنها إلى الملكية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ترتد مرة أخرى إلى النظام الأرستقراطي، وهذا ما أثبتته الشواهد التاريخية كما حدث مثلا عندما ذبح ديون
Dion
44
بطريقة بربرية حين حاول أن يعيد الأرستقراطية مرة أخرى، كذلك ما حدث للفيثاغوريين من إعدام وحرق بسبب محاولاتهم إعادة النظام الأرستقراطي. إن العامة عندما يبلغ بهم الوعي إلى إدراك المساواة المدنية مع النبلاء يرفضون تماما أن يكونوا دونهم في الحقوق، ويرى فيكو أن بعض النظم الأرستقراطية القليلة التي كانت لا تزال موجودة في عصره تضطر لبذل قصارى جهدها لإرضاء العامة للمحافظة على هذا الوضع الطبقي.
ولا بد أن نلاحظ هنا أن الزمن الذي عاش فيه فيكو كان عصر بشرية جديدة انتشرت بين كل الأمم، وأن عددا قليلا من الملوك العظام كان يحكم عالم الشعوب، وإذا كانت قد بقيت هناك بقية من الشعوب البربرية فمرجع ذلك إلى أن النظم الملكية لهذه الشعوب قد استمرت بفضل الحكمة الشعبية الكامنة في ديانتها وبسبب طبائع شعوبها المضطربة غير المتوازنة، ومن أمثلة النظم التي عاصرها فيكو نجد النظام القيصري في روسيا الذي ظل يعيش في المرحلة الدينية، كذلك خان التتار الذي يحكم شعبا مخنثا - كما يصفه فيكو - أو أنثوي الطبيعة، وأيضا نجاشي الحبشة وملوك فارس ومراكش الأقوياء الذين يحكمون في رأي فيكو شعوبا قبلية ضعيفة ومشتتة ما زالت تعيش المرحلة الدينية. أما في المناطق المعتدلة حيث تسود الطبائع المتوازنة فالأمر مختلف، ففي الشرق الأقصى تعيش اليابان المرحلة البطولية حيث يمارس إمبراطور اليابان حكما عسكريا قاسيا شبيها بحكم الرومان في زمن الحرب القرطاجية؛ لذلك فما زالت اليابان تحتفظ بقدر كبير من طبيعة الحكم البطولي، ويرجع فيكو سبب احتفاظ بعض الشعوب بالمرحلة البطولية إلى أن حكامهم لم يقتنعوا بأن لرعاياهم نفس طبيعتهم البشرية ونفس الحقوق المدنية. ولا بد أن نشير هنا إلى أن المجتمعات البشرية كما يراها فيكو - لا تتقدم دفعة واحدة ولا تسير الأمم جميعها نحو التقدم في آن واحد، بل تمر كل أمة بمراحل التطور التاريخي منفصلة عن الأمم الأخرى، فهل نستطيع أن نقول إن تحليل فيكو أو نظرته للمجتمعات البشرية المتنوعة يختلف عن نظرة فلاسفة عصر التنوير لفكرة تقدم الأمم؟ هذا ما سوف نناقشه في الباب الأخير من البحث، ولكن نكتفي الآن بالقول إن فيكو قد أثبت أن بعض الأمم ما زالت تعيش في المرحلة الدينية وبعضها الآخر يعيش في المرحلة البطولية في الوقت الذي تعيش فيه أوروبا في المرحلة الإنسانية بفضل الديانة المسيحية، وتتمتع بالنظم والحكومات الملكية التي تزدهر فيها العادات والتقاليد الإنسانية؛ فالفكرة النقية الكاملة عن الله - التي جاءت بها المسيحية - حثت على الإحسان والتسامح مع كل البشر، كما أن شعوبا مثل السويد والدانمارك وبولندا وإنجلترا تتمتع بالدستور والحكم الملكي الذي يرى فيه فيكو أفضل نظم الحكم. وفي هذا الجزء من العالم - أي أوروبا - توجد أيضا نظم الحكم الشعبية التي لا نظير لها في العالم، وقد بعثت في ظل هذه النظم - وبحكم الضرورة والمنفعة - الاتحادات والأحلاف التي قامت نظائرها قديما بين المدن الإغريقية لمواجهة خطر الفرس ثم الخطر الروماني. بعثت هذه الاتحادات والأحلاف بين الولايات والمدن الحرة المختلفة في سويسرا وألمانيا وهولندا، وهي آخر شكل من أشكال الحكومات المدنية، ولكن هل تعد نظم الحكم الشعبية والنظم الملكية وحدهما آخر أشكال الحكومات؟ يعتبر فيكو أن النظم الأرستقراطية أيضا تمثل العصر البشري ومن الممكن أن تكون هي آخر شكل من أشكال نظم الحكم. ويؤكد أنه إذا كان في أوروبا خمسة نظم أرستقراطية للحكم فقط، كالتي توجد في البندقية
Venice
وجنوه
Genoa
ولوكا
Lucca
في إيطاليا وراجوسا
Ragusa
في دالماتيا
Dalmatia (شبه جزيرة البلقان) ونورمبرج
Nuremberg
في ألمانيا، إلا أن روح الإنسانية تتجلى في كل ما يحقق سعادة الجسم والعقل بفضل الديانة المسيحية أو الحقائق السامية التي تستوعب أنضج فلسفات الشعوب.
45
وهناك بعض الشعوب التي كان من الممكن أن تسير في مسار التطور الطبيعي لو لم تعقها بعض العقبات التي حالت بينها وبين التطور. فإذا عبرنا المحيط للعالم الجديد رأينا أنه كان من الممكن للهنود الأمريكيين أن يسيروا في المسار الطبيعي للشعوب لو لم يكتشفهم الأوروبيون. وقديما فشلت كل من المدن الثلاث قرطاجة
Carthage ،
46
كابوا
Capua
47
ونومانتا
Numantia
48 - وهي المدن التي تصدت للتوسع الروماني - فشلت في تحقيق هذا المسار للنظم البشرية؛ فالقرطاجيون قد عاقهم عن ذلك عنفهم الفطري، وأهالي كابوا منعهم اعتدال المناخ والخصوبة المعروفة عن منطقة كابوا، أما أهالي نومانتيا فسحقهم القهر الروماني على يد اسكبيو، ولم يقدم فيكو تبريرا مقنعا أو علميا لإخفاق هذه المدن في تحقيق المسار الطبيعي للشعوب، بل لم يوضح الأسباب التي ذكرها توضيحا كافيا لجعل هذه الأسباب معقولة ومفهومة، ولكنه اهتم ببيان أن الرومان لم تعقهم مثل هذه العقبات فتابعوا مسار التطور تهديهم العناية الإلهية من خلال الحكمة الشعبية، ومروا بالأشكال الثلاثة للحكومات المدنية وانتقلوا إلى كل شكل منها بصورة طبيعية. فكانت المرحلة الدينية في عصر تأليه آباء الأسر، والمرحلة البطولية في عصر الأبطال عندما نشب الصراع بينهم وبين العامة فنشأت الحكومات الأرستقراطية التي احتفظ بها الرومان حتى صدور قوانين بابليان وباتليان، ومنح العامة نفس حقوق الأبطال المدنية فكانت الحكومات الشعبية الحرة التي بقيت حتى عصر أغسطس فعادت الحكومة الملكية التي تمسك بها الرومان حتى انهار هذا النظام بفعل الأسباب الداخلية والخارجية التي حطمته، وسقطت روما بعد الغزو البربري للإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي فنشأ عصر بربري جديد وعادت الدورات التاريخية تسير مسارها من جديد، فتمثلت المرحلة الدينية في العصر المسيحي كما أوضحنا في بداية هذا الفصل، ثم العصر البطولي في العصور الوسطى الأوروبية الذي تميز بعودة النظام الإقطاعي والحكومات الأرستقراطية وأخلاق الفروسية والبسالة والولاء والطاعة إلى أن كانت المرحلة البشرية.
واستشهاد فيكو بالتاريخ اليوناني والروماني - كما يؤكد بنفسه - ليس الهدف منه سرد التاريخ الخاص لهذه الشعوب وعاداتها وتقاليدها وقوانينها، ولكن الهدف هو إلقاء الضوء على التاريخ المثالي الذي يعبر عن القوانين الأبدية التي تحكم أعمال جميع الأمم والتي ستظل تحكم كل تواريخ الشعوب في نشأتها وتطورها ونضجها ثم انحلالها وتدهورها وسقوطها. فهناك جوهر واحد وراء تنوع وتطور أشكال الحكومات هو القانون المثالي الذي يحكم أعمال البشر وتاريخ الأمم إلى أبد الآبدين. هذا القانون المثالي الأبدي يحكم مسار الشعوب منذ بداية نشأتها ونمو نظم الحكم فيها وتطورها حتى تبلغ ذروة نضجها. وعندما تنغمس في الترف يكون انحلالها وتدهورها وفسادها فتنهار النظم الحرة وتعم الفوضى. وهي مرحلة تتردى فيها الشعوب وتسقط في هاوية الأنانية. عندئذ تتدخل العناية الإلهية التي تعمل دائما على خير الجنس البشري - بإحدى وسائلها الثلاث لإنقاذ مسار الشعوب:
أولا: ترتب العناية الإلهية ظهور رجل قوي من أفراد الشعب ينصب نفسه ملكا ويجمع في يده كل التنظيمات والقوانين بقوة السلاح ويضع حدا للفوضى ويؤسس الملكية. وينحصر دور الملك في تحقيق العدالة والمساواة الطبيعية بين الناس وضمان حرية الدين، مثلما فعل أغسطس مؤسس الملكية في روما. ثانيا: إذا تعذر ظهور رجل قوي في الداخل تبحث العناية الإلهية عن العلاج في الخارج بغزو من شعب أفضل وأقوى يستولي على هذه الشعوب بقوة السلاح؛ لأنه عندما تصل الشعوب إلى مرحلة الترف تقع فريسة رذائل كثيرة كالجشع والبخل والحسد والغرور والتخنث، وتقرر العناية الإلهية أنهم أصبحوا عبيدا لشهواتهم فيصبحون خاضعين لأمم أفضل وأقوى منهم فتحتهم بقوة السلاح وجعلتهم ولايات خاضعة لهم. وهنا يؤكد فيكو حقيقتين: (أ) أن من لم يستطع أن يحكم نفسه بنفسه فعليه أن يسلم زمام أموره لمن هو أقدر منه على الحكم. (ب) أن العالم لا يحكمه إلا الأصلح والأكفأ بحكم طبيعته. ثالثا: إذا تعفنت نظم الحكم المدنية وتغلغل الفساد في هذه الشعوب فلم تستطع أن تتفق على ملك يحكمها من الداخل ولم يتفق لها أن يغزوها شعب أفضل من الخارج تلجأ العناية الإلهية - في هذه الحالة القصوى - إلى دوائها الأخير وهو الفناء؛ فأمثال هذه الشعوب قد انحدر بها الترف إلى هاوية الميوعة والطراوة أو بالأحرى إلى الغرور الذي يبلغ أقصى درجاته، فتثور الشعوب وتندفع بغضب وعنف لأقل الأسباب، ويعيش الناس كالوحوش المفترسة متوحدين في أعماقهم رغم تزاحمهم ، وتتردى الشعوب في هاوية الفردية بحيث لا يعود أحد يفكر إلا في مصلحته الخاصة ولا يكاد اثنان يتفقان على شيء لأن كلا منهما لا يتبع إلا شهواته؛ لهذه الأسباب جميعا تقضي العناية الإلهية بأن تسقط هذه الشعوب فريسة الحروب الأهلية وأن يحيلوا مدنهم إلى غابات ثم يجعلوا من الغابات كهوفا وجحورا يلجئون إليها. ويقع المجتمع البشري فريسة بربرية جديدة أفظع وأقسى من بربرية الحواس؛ لأنها بربرية ذوي عقول ماكرة وخبيثة. حقا كان البشر في البربرية الأولى متوحشين ولكن توحشهم كان أكثر شهامة وكرما، أما في ظل البربرية الجديدة فإن الناس تحيا في ظل وحشية حقيرة منحطة يكيد فيها الفرد لأقرب أصدقائه تحت ستار الكلمات والقبلات الناعمة. عندئذ تطبق العناية الإلهية دواءها الأخير بأن تفني الوحوش الشريرة بعضها البعض، وتبقى قلة من البشر يعيشون في وفرة من الضروريات اللازمة للحياة، وتصبح هذه القلة اجتماعية وترتد إلى البساطة الأولى وتتكفل العناية الإلهية بأن تعيد إليهم قيم الورع والتقوى والصدق والإخلاص وهي الأسس الطبيعية للعدالة، كما تنعم عليهم بمختلف أنواع النعم والجمال الذي يتصف به النظام الإلهي.
49
تعقيب
بنهاية الباب الثاني نكون قد استعرضنا فلسفة التاريخ عند فيكو بكل ما تشمله من أصول ومبادئ ومنهج. وقد رأينا كيف استخلص قانون تطور الأمم من خلال دراسته للحضارة اليونانية والرومانية القديمة، وهو قانون الأحوال الثلاثة لتطور الأمم بشكل دوري حلزوني؛ فالتاريخ لا يعيد نفسه بل يأتي دائما بجديد. ولعل الفكرة المحورية التي قامت عليها فلسفة التاريخ عند فيكو هي أن الإنسان صانع تاريخه، ونستطيع أن نقول إنه بهذه الفكرة وضع بذور فلسفة العمل؛ فالإنسان لا يعرف إلا ما يصنع، وهي نفس الفكرة التي تقوم عليها نظريته في المعرفة، وهي أن المعرفة تساوي العمل. وهي كذلك الفكرة التي عارض بها ديكارت كما أسلفنا القول؛ فالمجتمع البشري بكل ما فيه من نظم من صنع البشر أنفسهم، وبهذا يختلف فيكو عن أصحاب النظريات العقلية في نشأة النظم وطبيعتها، ويؤكد أنها من وضع بشر كانوا أشبه بالوحوش الآدمية ثم وصلوا إلى بشريتهم عن طريق تأسيس هذه النظم. من هنا يجب الاهتمام بالأصول الواقعية لهذه النظم التي كانت السبب في أن تصبح المخلوقات البشرية بشرا حقيقيين، بينما يهتم أصحاب النظريات العقلية بتأكيد دور العقل ويبدءون من الإنسان الناضج المفكر بعقله.
وعندما يرجع فيكو بالتاريخ إلى بداياته مع بشر صنعوا نظمهم الاجتماعية بأنفسهم، نستطيع أن نقول إن هناك مقابلة بين فيكو وأرسطو في تصورهما النشوئي عن الطبيعة والإنسان. فهذا الأخير حيوان يصبح إنسانا عندما يعيش في المدينة. وهذا يقابل عند فيكو عالم الطبيعة وعالم البشر لأن حيوانات العالم الأول تصبح بشرا في عالم الأمم وبفضله، أي أن فيكو لا يختلف عن أرسطو الذي يوحد بين طبيعة الشيء وغايته عندما يتطور وينضج؛ فطبيعة نشأة الأمم عند فيكو تقابل تصور أرسطو الغائي عن نشأة دولة المدينة التي تنشأ من الحاجات الحيوية الأولية. وعلى هذا فالإنسان مدني بطبعه، ولكن موضع الخلاف بينهما هو أن فيكو يقول بالعناية الإلهية التي وجهت البشر عن طريق عاداتهم البسيطة وانفعالاتهم الطبيعية لحفظ الجنش البشري، إلا أن البشر صنعوا عالم الأمم وبنوه دون أن يعرفوا خطة العناية الإلهية الكامنة وراءه؛ لذا استثنى فيكو التراث العبري والمسيحي من دائرة علمه الجديد لتدخل العناية الإلهية فيه تدخلا مباشرا عبرت فيه عن نفسها في أعمال تاريخية خاصة وفريدة. ويميز فيكو بين هذه العناية الأخيرة وبين العناية الإلهية الكامنة في التاريخ والتي وجهت البشر بطريق غير مباشر للخروج من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية الإنسانية، فهنا لا تتعارض العناية الإلهية مع فاعلية البشر في صنع التنظيمات البشرية، بل تركت الأمم تصنع تاريخها بنفسها من خلال عاداتها وتنظيماتها الاجتماعية، وبذلك لم يقدم فيكو تاريخا لاهوتيا كنسيا بل قدم تاريخا واقعيا مستندا على الآثار والمأثورات الشعبية والمخلفات والفنون التي تركتها الشعوب الأولى.
بيد أن هناك سؤالا يطرح نفسه: هل نجح فيكو في تطبيق قانون التطور على الأمم عند نهضتها مرة أخرى من جديد؟ لقد قدم فيكو دراسة مستفيضة لأصول المجتمع البشري من منظور الحضارة اليونانية والرومانية، وقام بتحليل دقيق للمجتمعات البشرية الأولى مستندا إلى البحث في أصول التنظيمات الاجتماعية البشرية والأساطير القديمة للشعوب وما ينطوي عليه البحث في أصول اللغات من كشف عن عادات هذه الشعوب وتقاليدها، ولكنه لم يبحث الدورة التاريخية الثانية بمثل هذه الدقة فتناولها تناولا سريعا، بل جانبه الصواب أحيانا في حكمه على نفسية الشعوب. ويبدو أنه اعتمد على تقارير الرحالة والمبشرين فلم تخل أحكامه على بعض الشعوب من تعميمات باطلة مثل قوله هذا شعب بطبيعته كسول ... وهذا شعب مخنث ... ومع ذلك فهو يعد رائدا لعلم نفس الشعوب الذي تطور فيما بعد وأصبح علما مستقلا على يدي فلهلم فونت
W. Wundt
لذلك لا نستطيع أن نقول إن فيكو وفق تماما في تطبيق قانون التطور على المسار الثاني للأمم، وربما يكون مرجع ذلك إلى أن هذه الفترة التاريخية معروفة ومدونة؛ لذا اهتم اهتماما خاصا بالمسار الأول للأمم لإلقاء الضوء على هذه الحقبة التاريخية التي يكتنفها الغموض بسبب نقص الوثائق وبالتالي فهي تاريخ غير مدون. ويكفي فيكو أنه وضع الأسس النظرية والمبادئ النظرية التي يهتدي بها الباحثون في علم التاريخ. وعلى الأجيال التالية مهمة التطبيق؛ فقد تصور فيكو العلم الجديد في شكل نموذج مثالي كامل في فكرته، ولكنه لم يطبقه كما قلنا بصورة كاملة، بل أكد أنه علم قابل للتطور ومتروك للأجيال والعصور التالية أن تطوره وتلائم بين كشوفها وملاحظاتها التي ستستجد في عالم الأمم وبين قوانين هذا النموذج؛ ولهذا فالعلم الجديد كامل من حيث مبادئه وعلى الباحثين في المستقبل أن يستكملوه كما اعترف فيكو نفسه بذلك.
يؤكد فيكو في أكثر من موضع من العلم الجديد أن نظم الحكم الملكية هي أكمل أشكال الحكم، وأنه إذا سارت الأمم في مسار التطور الطبيعي وبلغت المرحلة البشرية وقامت نظم الحكم الشعبية فلا بد أن تفسد هذه النظم الحرة كما أوضحنا، وبهذا ينتهي المسار الطبيعي للتطور في رأيه إلى النظم الملكية! وهنا يجب أن نشير إلى أن فيكو عاش في ظل حكومة ملكية في نابولي؛ وبالتالي فهناك أحد احتمالين ؛ إما أن النظام الملكي في نابولي كان عادلا وحكيما في عصر فيكو فجعله يؤمن به إيمانا لا يحيد عنه؛ أو أن هذا النظام الملكي كان قاسيا ومستبدا فجاء رأي فيكو هذا خشية بطش ملوك نابولي الظالمين.
هكذا نكون قد قدمنا التصور الكامل للتاريخ عند فيكو مع تطبيقاته في مختلف التنظيمات البشرية من تنظيمات سياسية واقتصادية ولغة وقانون وشعر ... إلخ، ويتعين علينا الآن أن نلقي نظرة نقد وتحليل وتقييم لهذه المادة الكثيفة من خلال نظرية المعرفة التاريخية، وأن نفحص الأسس النظرية للنسق العلمي للتاريخ عنده ونتناول بشيء من التفصيل نظريته في المعرفة التاريخية ونظريته عن التاريخ المثالي الأبدي التي تعد في نظر الكثير من الباحثين هي النسق العلمي أو البناء النظري القبلي الذي يقوم عليه التاريخ البشري. وبعد أن ننتهي من هذا النقد والتحليل أو التقييم نختتم البحث بإلقاء نظرة على تأثير فيكو على فلسفة التاريخ وفلاسفتها سواء في عصره أو في العصور التالية، مكتفين بأبرز معالم هذا التأثير وأهم الفلاسفة الذين يحتمل أن يكون قد تأثروا به وخصوصا أولئك الذين قالوا بخضوع التاريخ لقوانين تحدد مساره.
الباب الثالث
المعرفة التاريخية وأثرها
الفصل الأول
نظرية المعرفة التاريخية
(1) مبدأ المعرفة
كان القرن السابع عشر هو عصر المذاهب الفلسفية الكبرى؛ فقد وقف معظم فلاسفة هذه المذاهب موقفا نقديا من فلاسفة الماضي رافضين الدخول معهم في حوار حقيقي؛ إذ يبدو أن الثقة بالمعرفة الجديدة جعلت كلا من الفلاسفة والعلماء على السواء يقللون من شأن المعرفة القديمة. أضف إلى هذا أن المذاهب العقلية التي سادت في هذا القرن لم تملك القدرة على فهم المادة التاريخية بحيث يمكن القول بأنه عصر لا تاريخي، وباختفاء الوعي التاريخي لدى فلاسفة هذا القرن بدأ الصدع في الفكر الحديث؛ انهارت المعرفة القديمة، وأقيمت مذاهب فكرية عقلية شامخة، بينما نجد المهتمين بالتاريخ بعيدين عن فكرة المذهب ورافضين لها. هكذا بدأ هذا الصراع الكبير بين المعرفة التاريخية والمعرفة المذهبية، وهو يدل على عجز هذه المذاهب الجديدة عن استيعاب المعرفة التاريخية أو الإحساس بها في تفردها ونوعيتها وحيويتها. ومع ذلك فإن ميدان التاريخ يتسع ويمتد ويزداد ثراء، وتنمو المعرفة التاريخية وتبقى كالظل المصاحب للفكر المذهبي الذي يسير في طريقه ويتوصل إلى معارف جديدة ويبني مذاهب شامخة.
ومع مجيء القرن الثامن عشر تأتي دلالة محاولة فيكو في علمه الجديد عن الطبيعة المشتركة للأمم؛ فهو في جوهره محاولة لوضع مذهب تاريخي شامخ، لا هو مجرد تصنيف تأريخي، ولا هو مجرد إدراج للمعرفة التاريخية تحت التاريخ الديني المقدس، وإنما يريد أن يقدم صورة تاريخ مثالي خالد تسير طبقا له تواريخ كل الأمم في الزمان، ومهمة هذا المسار أن يعرف الشعوب في أصولها وتقدمها وازدهارها وسقوطها، وأن يتتبع المسار التاريخي من البربرية إلى الحضارة، والمهم أنه ينظر إلى التاريخ على أنه هو تاريخ الإنسان وتاريخ عقلنا البشري، وبهذا يعرف الضرورة التاريخية التي بمقتضاها كان من المحتم أن يحدث شيء في الماضي ومن المحتم أن يحدث شيء في الحاضر والمستقبل، وقبل أن نتحدث عن طبيعة المعرفة التاريخية عند فيكو نود أن نقف أولا عند تصوره للمعرفة بوجه عام.
وضع فيكو مبدأ جديدا للمعرفة لمعارضة النزعة العقلية الديكارتية وأتباعها الذين نظروا إلى التاريخ كمجموعة من الحقائق المضطربة وسلسلة من الحكايات السخيفة، وهاجم الأسس الثلاثة التي استند إليها ديكارت؛ فقد عارض الكوجيتو الشهير كمبدأ لليقين، ورأى أن الفعل الإنساني لا الوعي الذاتي هو مبدأ اليقين في علم التاريخ، ونقد أدلة وجود الله التي تستند إلى معرفة أولية سابقة على التجربة وعد هذا تطاولا على الذات الإلهية، كما عارض اليقين الرياضي كمعيار للوضوح والبداهة وبالتالي كمعيار للحقيقة.
1
ومن هذه المعارضة للنزعة العقلية قدم فيكو نظرية في المعرفة تقوم على مذهبه في الحقيقة، وهي أن الحق والفعل مترادفان
Verum et Factum Convertuntur
فالشرط الضروري لمعرفة أي شيء معرفة حقيقية هو أن يكون العارف قد صنعه بنفسه ويكون لديه اليقين بهذا المعنى لا بالمعنى الديكارتي «اخلقوا الحقيقة التي تريدون معرفتها. أما أنا فسوف أقوم أثناء التعرف على الحقيقة بصنعها بطريقة لا تدع مجالا للشك فيها ما دمت أنا الذي أنتجتها بنفسي.»
2
ومعنى هذا أننا بإزاء موقف مختلف عن موقف الفلسفة الديكارتية تمام الاختلاف؛ إذ إن التاريخ يتألف من أعمال تصلح أن تكون موضوعا للمعرفة البشرية أكثر من أي موضوع سواه؛ فالمعرفة إذن مرادفة للصنع، والإنسان يعرف حقائق الأشياء عندما يشارك في صنعها بنفسه بحيث تصبح قابلة للمعرفة؛ فالعقل يشارك بفاعليته في تكوين الأشياء، ومعنى هذا أن الحقيقة تبلغ مرتبة اليقين عندما يرويها من صنعها بنفسه. السؤال الآن ما المقصود أن الحقيقة هي ذاتها الشيء الذي يتم فعله؟ حاول رسل أن يجيب على هذا السؤال بقوله لو اختبرنا هذا المبدأ غير التقليدي عن كثب لاستخلصنا منه بعض النتائج الصحيحة كل الصحة على المستوى الإبستمولوجي (المعرفي)؛ ذلك لأن من الصحيح أن الفعل يمكن أن يساعدنا على تحسين معرفتنا، ولا جدال في أن أداء فعل ما بطريقة ذكية يزيد من فهم المرء له. وواضح أن هذا يحدث على أوضح نحو ممكن في ميدان الفعل أو الجهد البشري. إن فيكو لا يجعل من الإنسان مقياسا للأشياء جميعا بالمعنى السفسطائي، بل إن ما يؤكده هو العنصر الفعال الذي يعيد تركيب الوقائع في عملية المعرفة، وهو شيء مختلف كل الاختلاف عن اتخاذ ما يبدو لكل شخص معيارا نهائيا. ومن جهة أخرى فإن تأكيد الفاعلية يتعارض بشدة مع الأفكار الواضحة المتميزة عند العقليين. فعلى حين أن المذهب العقلي يتباعد عن الخيال على أساس أن هذا الأخير مصدر للاضطراب والخلط، فإن فيكو على عكس ذلك يؤكد دوره في عملية الكشف، وهو يرى أننا قبل أن نصل إلى تصورات أو مفاهيم، نفكر في إطار مواقف أقرب إلى الغموض وانعدام التحدد.
3
ونلاحظ في نظرية فيكو للمعرفة جانبين؛ الذاتية والموضوعية أو العقلانية والتجريبية، بمعنى أن هناك نوعا من الجدل بين الفكر والواقع؛ فالإنسان يوجد تنظيماته الاجتماعية، ومن خلال تفكيره في هذه التنظيمات تنبثق تجارب جديدة بتنظيمات جديدة، فتأكيد الذات البشرية مسألة أساسية لأنها هي الذات التي صنعت التاريخ، وإذا كانت صورة التاريخ هي التاريخ المثالي الأبدي فإن مادته من صنع الإنسان. التاريخ إذن إبداع إنساني خالص؛ فقد خلق الله الطبيعة وترك للإنسان الحرية ليعيد صنع العالم التاريخي، بهذا المبدأ يؤكد فيكو - ربما لأول مرة في تاريخ الفلسفة الغربية - مذهب صنع الإنسان لنفسه ويضعه داخل إطار أشمل يبين بصورة قبلية الحدود التي يمكن أن يتم فيها هذا الصنع، فهذه الحدود قد عينتها العناية الإلهية من قبل، كما تحددها أيضا حقيقة أن التنظيمات الاجتماعية وتطور المعرفة كلاهما عملية تبدأ بالإحساس (في الحالة الطبيعية) وتنتقل إلى الخيال (كما في الحالة الشعرية) وتنتهي إلى العقل (وهي الحالة البشرية) فالإنسان إذن ليس مجرد نتاج حتمي للطبيعة، ولكن له حرية صنع نفسه من خلال صنع التنظيمات وتجديدها. والنتائج المترتبة على مذهب فيكو في صنع الإنسان لنفسه بصورة متجددة هي تأكيد الجانب الذاتي والجانب الموضوعي أو الأبدي الذي يتم في إطاره هذا الصنع أو هذا الإبداع البشري المتجدد. وفهم الإنسان لذاته وهو يستعيد العملية التاريخية هو نوع من صنع الذات، وبالرغم من الاختلافات الفردية بين الأفراد والنظم والمجتمعات، فإن العقل الذي يكمن وراءها عقل مشترك يعبر عن طبيعة بشرية واحدة مشتركة، ولولا ذلك ما استطاع عقل إنساني آخر من حضارة أخرى ومجتمع آخر أن يشارك فيه بالفهم أو أن يتواصل معه، فهناك طبيعة مشتركة وحس مشترك بين البشر. والبشر عندما يدرسون الظواهر التاريخية المختلفة من عادات وتقاليد ولغة وفن ودين وقانون وأساطير وشعر، فهم في الواقع يعيدون اكتشاف أنفسهم كما يتعرفون من جديد على إمكانيات طبيعتهم البشرية المختلفة، وهذا نوع من معرفة الذات بل هي في الحقيقة من صنع الذات، ولكن وحدة الطبيعة البشرية التي تسمح بالتواصل بين الأفراد والأمم كما تسمح للمؤرخ أن يتواصل مع الظواهر التاريخية المتنوعة، لا تعني أن الطبيعة البشرية الواحدة هي طبيعة محددة للأبد؛ فالواقع أن فيكو يؤكد دائما أن الظواهر التاريخية قابلة للتغير والتطور والتنوع، وهذا يفسح مجالا للحرية الإنسانية كما يسمح بتفرد الأمم والأفراد وتميزهم، ويتضح هذا إذا نظرنا إلى موضوعات الشعر من حب وحزن وفرح ... إلخ التي هي موضوعات خالدة، لكن كل قصيدة تعبر عن هذا المعنى تعبيرا مختلفا عن الأخرى فكل قصيدة هي نوعية متفردة. فبالرغم من إيمان فيكو بوحدة الطبيعة البشرية فهو يؤكد إمكانية التغير والتجدد داخل كل دورة تاريخية، ودراسة التاريخ تعلم الجنس البشري كيف يصبح إنسانيا وذلك بأن يحيا من جديد المراحل التي عبرتها البشرية حتى وصلت المرحلة التي أمكن فيها القيام بدراسة التاريخ؛ فدراسة التاريخ هي عمل من الأعمال التي يصنع فيها العقل نفسه.
4
وخلاصة نظرية المعرفة عند فيكو أن العقل يعرف نفسه من خلال دراسة الأشكال التي يظهر فيها، فيظهر مثلا في التنظيمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفن والقانون واللغة ... إلخ، أي يتجلى في كل مظاهر الحضارة، وبهذا يعد فيكو أول من قدم نظرية تاريخية عن حقيقة التغير من خلال تفسيره للتاريخ باعتباره عملية عقلية منظمة خلاقة، فمن خلال التاريخ الذي يتألف من أحداث ووقائع ومؤسسات اجتماعية تعبر عن أحوال العقل يصبح هذا العقل نفسه موضوعا للمعرفة، وهنا تكمن المشكلة الرئيسية في الدراسات التاريخية؛ إذ كيف تكون الذات العارفة هي نفسها موضوعا للمعرفة؟ أو بمعنى آخر كيف يمكن لصانع العلم أن يكون هو نفسه موضوعا للعلم؟ للإجابة على هذا لا بد أن نطرق مشكلة أخرى شغلت المفكرين والفلاسفة وتبلورت في السؤال الآتي: هل التاريخ علم؟ (2) علم التاريخ
هل التاريخ علم؟ سؤال أثار الكثير من الجدل واختلفت حوله آراء الفلاسفة على مر العصور بين مؤيد ومعارض، والبعض يرى أنه ليس بعلم بل هو درب من دروب الفن. فهناك علاقة جدلية بين الفن والتاريخ باعتبار الأول مصدرا هاما من مصادر المعرفة التاريخية، ويساعد المؤرخ على كشف الحالة الوجدانية للعصور التاريخية المختلفة، فمما لا شك فيه أن الأشكال التعبيرية المتنوعة للإبداع الفني تعين المؤرخ على إعادة تصوير الماضي وبعث روحه من جديد، خاصة بعد أن اتسع مفهوم التاريخ فلم يعد مقصورا على سير الأبطال والمعارك الحربية، بل يشمل الجوانب الحضارية المختلفة والمتعددة للإنجازات البشرية؛ وبالتالي تعددت مصادر المعرفة التاريخية فلجأ المؤرخ إلى أشكال الإبداع الفني المتنوعة ليجد مادة تاريخية خصبة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن الإنسان هو الموضوع المشترك بين الفن والتاريخ باعتباره مبدعا للفن وأيضا صانعا لأحداث التاريخ، مما جعل رجال الأدب يذهبون إلى أن التاريخ سواء أكان علما أو غير علم فهو بلا ريب فن من الفنون، وأن العلم بالغا ما بلغ لا يعطينا من التاريخ سوى العظام اليابسة، وأنه لا مندوحة من خيال الشاعر إذا أريد نشر تلك العظام وبعث الحياة فيها.
5
وعلى العكس من هذا الرأي يرى بيري أن التاريخ قد عانى من كونه جزءا من الأدب بينما التاريخ علم لا أكثر ولا أقل، وأن وقائعه يمكن أن تدرس موضوعيا كوقائع الجيولوجيا والفلك، أي أن تدرس على أنها أشياء خارج الذات؛ إذ لا يتسنى قيام علم على أساس ذاتي، والوقائع التاريخية يمكن أن تجمع وتصنف وتفسر كما هو الحال في أي علم. والسؤال الآن: إذا كان التاريخ علما فمن أي أنواع العلوم يعتبر التاريخ؟ إنه ليس كالفلك علم معاينة مباشرة، ولا الكيمياء علم تجربة واختبار، ولكنه علم نقد وتحقيق وأقرب العلوم الطبيعية شبها به الجيولوجيا؛ فكما أن الجيولوجي يدرس الأرض كما هي الآن ليعرف كيف صارت إلى حالتها الحاضرة، فكذلك المؤرخ يدرس الآثار المتخلفة عن الماضي ليفسر بواسطتها وبقدر إمكانه ظاهرة الحاضر. وكما أن الجيولوجي يجد مادته الأساسية في نفايات الطبيعة ليثبت التطورات الجيولوجية، فكذلك المؤرخ يعتمد في معرفة الوقائع الماضية على آثار مادية أو سجلات أو تقاليد سلمت مصادفة أو اتفاقا من عوادي الزمن. هذه الآثار والسجلات والتقاليد هي الحقائق المحسوسة الحاضرة التي ينصب عليها عمل المؤرخ، وهي مادة علمه وليست قيمة وهامة لذاتها ولكن لمجرد دلالتها على الوقائع الماضية.
6
هكذا اختلفت الآراء حول ماهية التاريخ؛ هل هو فرع من فروع العلم؟ أم هو فرع من فروع الأدب؟ وظل السؤال والجدل حوله قائما حتى كان القرن الثامن عشر وأحرزت العلوم الطبيعية تقدما كبيرا وانعكس المنهج التجريبي على الدراسات التاريخية، ولكن هناك فريق من الباحثين عارض هذا المنهج ورأى أن التاريخ فرع خاص من فروع المعرفة؛ وبالتالي فمنهجه يختلف تماما عن منهج العلوم الطبيعية، فهذا الأخير عالم تسوده الحتمية والإستاتيكية بينما التاريخ هو عالم الحرية والحركة والديناميكية. ولا يتسع المجال هنا لتتبع آراء المفكرين والفلاسفة عن علم التاريخ، ولكن ما يهمنا في هذا البحث: هل أراد فيكو للتاريخ أن يكون علما على نسق العلوم الطبيعية؟ وإلى أي حد استطاع أن يحقق هذا؟ نعم، أراد فيكو أن يجعل من العلم الجديد علما بشريا على نمط العلوم الطبيعية، وعالج الظواهر البشرية معالجة علمية عندما تناول الوثائق التاريخية بالتحليل والنقد، وكأنه أراد للعلم الجديد أن يؤكد فكرتين أساسيتين؛ الأولى: أن معرفتنا لعالم الظواهر البشرية يمكن أن تكون دقيقة وعلمية تماما كمعرفتنا لظواهر العالم الطبيعي؛ الثانية: أنه علم بشري يقوم على المعرفة التجريبية السابقة لما هو بشري مما يجعل منتجاته أكثر قابلية للفهم والتعقل من أي علم طبيعي.
هاتان الفكرتان تبدوان متعارضتين؛ لذا اختلفت الآراء حول تفسيرهما فذهب بعض الباحثين إلى اعتبار أن قيمة فيكو الحقيقية تكمن في افتراض أن معرفتنا للشئون البشرية من الممكن استنتاجها علميا مما نتج عن ذلك التفسير الوضعي لمذهبه مع تجاهل هؤلاء الباحثين قيام «العلم الجديد» على المعرفة السابقة أي معرفة الماضي باعتباره ظاهرة لن تتكرر ولن تخضع للتجربة، وذهب فريق آخر من الباحثين إلى اعتبار أن قيمة مذهب فيكو تكمن في إدراكه دور المعرفة السابقة في بناء معرفتنا بالشئون البشرية وكان ذلك هو التفسير المثالي. وكلا التفسيرين أخذا على فيكو قوله إنه من الممكن أن يكون الإنسان موضوعا للعلم التجريبي، وقبل أن نكشف عن هذا التعارض، لا بد أن نعرض لمفهوم العلم عند فيكو لا سيما أنه يأخذ مفهوم العلم عن أرسطو فيردد قوله بأن العلم يتعلق بما هو كلي عام وضروري أبدي، كما يؤكد أن العلم الجديد يتضمن تطبيق مفهوم الكلية والضرورة. وقد عرض في المسلمات من الخامسة إلى الخامسة عشرة من أصول العلم الجديد؛ عرض الجوانب الأساسية لمفهوم الإنسان ككائن تاريخي اجتماعي، وهي تجعلنا ننظر لعالم الأمم من ناحية الفكرة الأبدية التي يقوم عليها مصداقا لما يقوم عليه العلم الأرسطي؛ لذا يرى فيكو أن إخفاق المؤرخين الأوائل في أعمالهم يرجع لعدم اعتمادهم على التصور الفلسفي الصحيح للإنسان، وأنهم لو كانوا فعلوا هذا لسبقوه في اكتشاف العلم الجديد. وأكد فيكو علمية التاريخ في إطلاق لفظ العلم على أهم مؤلفاته وكرره في الطبعات الثلاث للكتاب.
السؤال الآن ما دور المعرفة التجريبية السابقة (أي المعرفة بالماضي) في العلم البشري؟ من المعروف أن الماضي لا يمكن أن يكون موضوعا تجريبيا مثل الموضوعات التي تتناولها العلوم التجريبية، فهل معنى هذا أن معرفة الماضي - أي المعرفة التاريخية - يستحيل أن تكون معرفة علمية كما تصور بعض شراح فيكو؟ ثم كيف تصور فيكو أن المعرفة بالأحداث السابقة يمكن أن تكون علما؟ لا بد من الإشارة إلى أن العلم الجديد يعتمد على نوع محدد من الصنع البشري، وأن معرفتنا بهذا الصنع تنطوي على المعرفة بتحولات العقل - كما أشرنا من قبل - وهي معرفة يحققها الإنسان عن طريق نوع من التأمل الذاتي. وإذا كان فيكو قد أخذ على الفلاسفة السابقين أنهم اهتموا بدراسة العالم الطبيعي على الرغم من أن معرفة هذا العالم لا تتيسر إلا لله وحده لأنه هو الذي خلقه، فقد أخذ عليهم كذلك أنهم أهملوا دراسة العالم الإنساني الذي يستطيع البشر أن يعرفوه لأنهم هم الذين صنعوه، ولا بد أن نقف الآن عند ما يقصده بالصنع البشري الذي يمكن أن يؤخذ على معنيين؛ فالبشر يصنعون تاريخهم من خلال أنشطة وتنظيمات وقوانين ... إلى آخر ما يكون مضمون عالمهم التاريخي، أما المعنى الثاني فيقصد به أن المؤرخين من البشر هم الذين يضعون تقريرات تاريخية عن الماضي، ومن الواضح أننا إذا تحدثنا عن الصنع في العلوم الطبيعية فلا بد أن يكون بالمعنى الثاني الذي يشبه عمل المؤرخ؛ لأن العالم في العلوم الطبيعية لا يخلق الظواهر الطبيعية نفسها، وإنما يوجد مفاهيم العلم ونظرياته ومناهجه، وهكذا نصل إلى ما أكده فيكو من قبل وهو استحالة معرفة العالم الطبيعي لأن الله هو الذي خلقه على حين أن معرفة العالم البشري ممكنة؛ لأن الإنسان هو الذي صنع محتوياته؛ ولهذا يستطيع البشر أن يفهموا العالم الذي صنعوه بأنفسهم لأن المبادئ التي قام عليها يمكن إعادة اكتشافها في داخل العقل البشري، أي في نطاق التحولات التي تعرض لعقل من يتأمل ذلك التاريخ الماضي، ولكن ماذا يقصد فيكو بهذه التحولات؟ إنها تتمثل أولا في المبادئ الثلاثة الأساسية التي يقوم عليها تنظيم أي مجتمع بشري وهي الدين والزواج ودفن الموتى، وثانيا في سلسلة المراحل التي يمر بها تطور العقل البشري من الخيال والشعر إلى مرحلة التفكير العقلي، وهذا التتابع ضروري في نشأة كل مرحلة من سابقتها ونشأة المرحلة التابعة لها. والإلمام بهذه التحولات يساعدنا على معرفة الضرورة في التاريخ البشري؛ فالمعرفة التي يتيحها العلم الجديد تقوم على المعرفة السابقة لهذه التحولات في تطورها التاريخي.
هنا يجب أن نذكر نقطة ثالثة لا تقل أهمية عما سبق، وهي أننا نتعرف على هذه التحولات عن طريق التأمل الذاتي،
7
وهو منهج فيكو في دراسة التاريخ ويعتمد على الاستبطان كشكل من أشكال التفكير، ولكن الاستبطان عنده ليس بالمعنى المفهوم في التحليل النفسي، وإنما هو استبطان للذات التاريخية، أي عملية إعادة بناء نقدي للفكر الماضي، ولكي يتأتى هذا لا بد من الاستعانة بعلم اللغة للوصول إلى اليقين ثم تحويل هذا اليقين إلى حقائق ومعرفة عن طريق التفكير الفلسفي.
8
هكذا نرى أن إعادة البناء التاريخي هي بمثابة اكتشاف لتحولات العقل البشري التي لا بد للمؤرخ أن يتمثلها ليعيد بناء موضوع المعرفة بإعادة اكتشاف الذات التاريخية، فهناك تواصل بين الحاضر والماضي يصنعه المؤرخ بخياله الخلاق. والمؤرخ عندما يعيد بناء الماضي، أي يقدم تقريرا تاريخيا عنه، هو في الواقع يمارس نوعا من معرفة ذاته التاريخية كبشر أو كإنسان أثناء تعرفه على ما صنعته ذوات بشرية أخرى في الماضي. وليس معنى هذا أن المسألة أصبحت مسألة ذاتية، بل معناه أن ذات المؤرخ تحاول أن تفهم أسباب تطور الطبيعة البشرية ومراحل تطورها على نحو ما توجد هذه الطبيعة فينا وبقدر ما نستطيع فهمها. وفهمنا لتطور الطبيعة البشرية أو بالأحرى لضرورة تطورها على نحو معين نتيجة لظروف وأسباب محددة هو جزء مما هو بشري، كما جاء في المسلمتين رقم 14 و15 وفيهما يؤكد فيكو نشأة التنظيمات الاجتماعية نشأة طبيعية فطرية، وأن طبيعة هذه التنظيمات وخصائصها ترجع إلى أسلوب نشأتها ومولدها وزمن هذه النشأة وظروفها. وينتهي فيكو إلى أن ما يصنع الطبيعة البشرية هو سيرها بصورة ضرورية في مراحل تطور محددة عبرتها كل أمة، وعندما يستعيد المؤرخ هذه المراحل يستعيد القانون الضروري الذي كون الطبيعة البشرية نفسها، وإعادة بنائه للأحداث السابقة ومعرفته بها ليست معرفة ذاتية لأنه يتعرف على الطبيعة البشرية نفسها التي هو جزء منها ويملك القدرة على فهمها، وهو في النهاية يعرف القوانين الضرورية التي كان لا بد أن يمر بها تطور الطبيعة البشرية، أي أنه في النهاية يعرف ما سماه فيكو بالتاريخ المثالي الأبدي الذي يعبر عن مبادئ تطور الأمم في نشأتها وتطورها ونضجها ثم تدهورها وسقوطها. وهذا التاريخ هو بمثابة نسق نظري أو نظرية للمعرفة التاريخية، ولكن ما ماهية هذه النظرية؟ هل هي نظرية استقرائية على طريقة بيكون؟ أم هي نظرية استنباطية على طريقة ديكارت؟ وما هو مضمون هذه النظرية من الناحية الاجتماعية والتاريخية؟ هذا هو الذي سنعرض له الآن. (3) التاريخ المثالي الأبدي
أثار التاريخ المثالي الأبدي العديد من المشكلات وفسر تفسيرات مختلفة. فما المقصود به على وجه التحديد؟ هل يقصد به الطابع النظري للتاريخ والأساس الفلسفي الذي يرتكز عليه؟ وهل يعني هذا أنه استنبطه من الواقع التاريخي بجوانبه المختلفة؟ أم أنه قد بدأ ببناء هذا التاريخ المثالي بناء نظريا أو قبليا - إذا شئنا استخدام تعبير كانط - ثم حاول بعد ذلك أن يطبقه على الواقع؟ ويزيد الأمر صعوبة أن فيكو يؤيد منذ البداية المنهج الاستقرائي الذي اتبعه بيكون ودعا إليه، فكيف نوفق بين تأييده للمنهج الاستقرائي وبين التاريخ المثالي الذي يوحي لأول وهلة أنه ذو طابع نظري أو استنباطي، وهل جمع فيكو بين المنهجين معا بحيث يتكاملان في رؤيته العلمية للتاريخ؟
علينا الآن أن نبدأ مناقشتنا لهذه المسائل فنبين أن فيكو أكد الطابع النظري لعلمه الجديد، وأنه أراد أن يجعل التاريخ المثالي الأبدي جزءا لا يتجزأ من هذا العلم. ويتضح الجانب النظري في «العلم الجديد» عندما نلقي نظرة على مسلماته وخاصة مسلمة رقم 22 التي قسمت فيها المسلمات العامة إلى مجموعتين؛ فالمجموعة الأولى من 5 إلى 15 تتناول النظريات الفلسفية. ولو راجعنا هذه المسلمات لوجدنا أنها تنظر لعالم الأمم نظرة فكرية مثالية تعتمد على مفهوم العلم كما أخذه فيكو عن أرسطو، وهو أنه علم يتعلق بما هو كلي وأبدي؛ والمجموعة الثانية تضم المسلمات من 16 إلى 22 وهي مسلمات تمدنا بأسس الحق واليقين على حد تعبير فيكو، وتساعدنا على أن نرى هذا العالم في الواقع بعد أن درسناه بالفكر. وفي هذا محاولة لتطبيق المنهج الاستقرائي الذي استخدمه بيكون ونقله من الظواهر الطبيعية إلى التنظيمات البشرية. ويؤكد هذا ما يقوله فيكو نفسه عند مناقشته للعلاقة بين قضايا الفلسفة وقضايا فقه اللغة؛ فالقضايا الأخيرة تساعدنا على أن نرى في الواقع المنظمات التي تأملناها من قبل تأملا فكريا وفقا لمنهج بيكون في التفلسف وهو الذي يعبر عنه في هذه العبارة «فكر وانظر.» وإشارة فيكو إلى هذه العبارة تدل على أنه يؤكد الجانب النظري من منهج بيكون الاستقرائي، بجانب أنها لا تنكر الطابع النظري الاستنباطي للتاريخ المثالي الأبدي، غير أن هذا التاريخ يظل أمرا غامضا لم يتضح بعد بدرجة كافية، فهل يقصد فيكو من فكرة عالم الأمم - كما جاءت في العبارة السابقة - أن يشير إلى نظرياته العامة عن الطبيعة التاريخية والاجتماعية للإنسان، أم أراد أن يشير إلى قوانين تاريخية اجتماعية استقرأها من الواقع التاريخي؟ ويظل الأمر محيرا فهل نفهم من إشارة فيكو إلى فكرة عالم الأمم أنه يبدأ بتحديد الجانب النظري أو القبلي الذي يضم مبادئ التاريخ وقوانينه ونظام حركته ثم يؤيدها بالنظر في الواقع، أم أنه يفعل العكس فيستخلص القوانين التاريخية والاجتماعية التي تتحكم في حركة مسار التاريخ من النظر في الواقع نفسه؟ وباختصار هل هو استنباطي أم استقرائي؟ لا بد أن نرجع إلى مفهوم فيكو عن المنهج لكي نحاول أن نحسم هذه المسألة ونشير إلى هذه العبارة «إن علمنا الجديد في بحثه عن طبائع التنظيمات البشرية ينطلق من التحليل الدقيق للأفكار البشرية عن الضروريات البشرية أو منافع الحياة الاجتماعية، وهما المنبعان الدائمان للقانون الطبيعي للأمم الأممية، بهذا يكون علمنا في جانبه الثاني المهم هو تاريخ الأفكار البشرية.»
9
ومع أن فيكو لم يبين على وجه التحديد إن كان التحليل الذي يقصده هو التحليل الاستقرائي أو الاستنباطي لكن يبدو أنه يقصد المعنى الثاني عندما يؤكد - في فقرة تالية للفقرة السابقة - ما يسميه أسلوب النقد الميتافيزيقي الذي يقدمه علمه الجديد: «لكي نحدد أزمان وأماكن مثل هذا التاريخ - أي متى وأين نشأت هذه الأفكار البشرية - لا بد أن نثبت جغرافيتها وتاريخها، وبذلك نضفي عليه اليقين عن طريق ما يمكن أن يسمى بالتاريخ والجغرافيا الميتافيزيقية. إن علمنا الجديد يقدم نوعا من النقد الميتافيزيقي يتناول به مؤسسي الشعوب الأولى الذين سبقوا الكتابة التاريخية بألف سنة على الأقل، والمعيار الذي يستخدمه نقدنا هو المعيار الذي علمته العناية الإلهية، وهو معيار مشترك بين كل الأمم، وهو الحس المشترك بين جميع أفراد الجنس البشري.»
10
إن فكرة النقد الميتافيزيقي فكرة لا غنى عنها في منهج فيكو، فهذا النقد هو الذي يتناول الظروف أو الشروط التي تحدد نظام تطور الأفكار البشرية، ولعله قد أوضح هذا في تقديمه لفكرة الكتاب، ونكتفي بأن نذكر منها هذا الجزء «يمكننا أن نشير إلى أننا في هذا الكتاب نلجأ إلى منهج نقدي كان مفتقدا فيما سبق لكي يساعدنا على بحث حقيقة مؤسسي هذه الأمم الأممية، وبهذا تأخذ الفلسفة على عاتقها دراسة فقه اللغة بدقة (المقصود بفقه اللغة هو نظرية عن جميع التنظيمات التي تعتمد على الاختيار البشري مثل جميع تواريخ لغات وعادات البشر في الحرب والسلام) وقد كانت الفلسفة تفزع من تناول فقه اللغة بهذه الطريقة وذلك لغموض الأسباب وتنوع النتائج تنوعا لا نهائيا، وبهذا ترده إلى شكل من أشكال العلم عن طريق اكتشافها فيه خطة تاريخ مثالي أبدي مر به في الزمان تاريخ جميع الأمم، فبفضل المبادئ الجديدة لعلم الأساطير التي كشفنا عنها في هذا الكتاب فاعتبرناها نتائج لمبادئ جديدة للشعر (التي كشفنا عنها هنا أيضا) بينا أن الأساطير كانت تواريخ حقيقية وموثوقا بها عن عادات وتقاليد أقدم شعوب اليونان. في المقام الأول كانت أساطير الآلهة تواريخ للأزمان التي اعتقد فيها بشر من البشرية الأممية الموغلة في الهمجية؛ أن جميع التنظيمات الضرورية للجنس البشري كانت عبارة عن آلهة، وأصحاب هذا الشعر كانوا هم البشر الأوائل الذين أسسوا الأمم الأممية عن طريق أساطير الآلهة، وهنا وبواسطة مبادئ هذا النقد الجديد أمكننا أن نتأمل الأزمنة المحددة والظروف الخاصة التي شعر البشر بضرورتها ومنفعتها وخصوصا أولئك البشر الأوائل من العالم الأممي.»
وواضح من هذا النص أن فيكو يقدم منهجا نقديا جديدا يحول فقه اللغة - بالمعنى الواسع الذي وضحه في النص - إلى علم، فهذا النقد الجديد يكتشف الأسباب والنتائج التي كانت غامضة ولم تستطع الفلسفة من قبل أن تكشف عنها، كما أن هذا النقد سيضع هذه الأسباب والنتائج في صورة تاريخ مثالي أبدي مرت به خلال الزمان تواريخ جميع الأمم، أي أن الفلسفة ستجعل من فقه اللغة علما عندما تزوده بمعرفة أسباب التغير التاريخي في شكل تاريخ مثالي خالد، والجزء الثاني من النص يقدم أمثلة من تطبيق هذا النقد الميتافيزيقي الذي اكتشف فيكو بفضله مبادئ علم الأساطير بحيث أوضح أن أساطير الآلهة قد نتجت عن أسلوب في التفكير جعل البشر يصورون أفكارهم عن الضرورات والمنافع البشرية في صورة إلهية، كما أوضح أن هذه الأساطير عن الآلهة والأبطال لم تكن في الواقع إلا تواريخ حقيقية عن الأبطال أنفسهم وعاداتهم وتقاليدهم، وهي شواهد تاريخية تعبر عن القانون الطبيعي للأمم.
والخلاصة أن فقه اللغة يصبح علميا عندما تفسر الشواهد التاريخية على ضوء نظريات عامة عن مبادئ وأسباب هذه الشواهد، وفي نفس الوقت تتضمن هذه النظريات التسليم بأن هذه الشواهد نفسها هي نتاج كائن تاريخي واجتماعي معين، وتعبير عن أفكاره وتصوراته عن الضرورات والحاجات والمنافع، أي تعبير عن طبيعة بشرية مشتركة بين أفراد الجنس البشري وخاضعة لقوانين ومبادئ محددة بلورها في التاريخ المثالي الأبدي.
11
وعلى الرغم من أن نصوص فيكو لا تسمح لنا ببيان موقف محدد يمكن أن نصفه بأنه استنباطي من ناحية أو استقرائي من ناحية أخرى، فيمكن أن نقول إن التاريخ المثالي الأبدي هو نظرية عن الأسباب المحددة لأنواع محددة من الظواهر البشرية، إنها من ناحية نتيجة تفكير فلسفي أو عقلاني بدأ بتقديم الأصول والمسلمات والمبادئ ثم نظر في تاريخ البشر الفعلي لتفسيره على ضوئها، ولكنها من ناحية أخرى لا تهمل النظر في الشواهد التاريخية والاجتماعية ولا تبتعد عن الظواهر العينية بكل ما فيها من تنوع وثراء وتطور. والواقع أننا لا ننصف فيكو إذا وصفنا هذا التاريخ بأنه تاريخ فكري أو نظري مستنبط على الطريقة الديكارتية التحليلية أو الهندسية، أو وصفناه من ناحية أخرى بأنه استقرائي قائم على فحص لغوي - بالمعنى الواسع لهذه الكلمات كما ذكرنا من قبل وبقدر ما أتاحت ظروف تطور العلم في عصر فيكو - وذلك طبقا لمنهج بيكون، وهناك باحثون يؤيدون الرأي الأول مؤكدين أن هذا التاريخ المثالي الفكري هو بناء نظري قبلي تأثر فيه بديكارت على الرغم مما صرح به من معارضته لنظرية المعرفة عند ديكارت ولأفكاره الواضحة المتميزة. وهنالك باحثون آخرون يؤكدون أنه اعتمد على منهج بيكون ونقله - كما قلنا - من الظواهر الطبيعية إلى الظواهر البشرية وإن كان قد أكد الجانب النظري في الاستقراء ربما أكثر مما فعل بيكون نفسه. ويكفي أن نتذكر أن فيكو قدم لعلمه الجديد مجموعة من المسلمات التي حللناها في الفصول السابقة فكان بذلك ديكارتيا أو هندسيا بغير شك. كما يكفي أيضا أن نرجع إلى النصوص العديدة التي تكشف عن طبيعة نظرية المعرفة عنده وتؤكد باستمرار أن الإنسان لا يعرف إلا ما يصنع وأن الواقع الفعلي للتاريخ البشري لا يغيب عنه لحظة واحدة. إن حسم هذه المسألة أمر عسير، ويكفي أن نستشهد أخيرا بالنص المشهور الذي ذكره في المنهج عندما قارن بين علم الهندسة وعلم التاريخ وبين فيه أن الهندسة أيضا يمكن أن تكون علما إنشائيا خلاقا، وأن هندسته للتاريخ البشري في صورة التاريخ المثالي الأبدي أكثر واقعية من علم الهندسة لأننا نتعامل مع أمور بشرية أكثر واقعية من النقط والخطوط والسطوح والأشكال. «يصور علمنا الجديد التاريخ المثالي الأبدي عبر الزمان، وهو الذي تسير بمقتضاه تواريخ كل الشعوب، نشأتها ثم تطورها ونضوجها وتدهورها وأخيرا سقوطها.» والمبدأ الأول الثابت يفترض أن الإنسان بالتأكيد هو الذي صنع عالم الأمم، والتاريخ يكون أكثر يقينا عندما يرويه صانع الأحداث نفسها، وهكذا ينطبق على هذا العلم ما ينطبق على علم الهندسة - وهو أنه يقوم على أساس ما وضعه من مبادئ - ولكن التاريخ بمفهوم العلم الجديد أكثر واقعية من علم الهندسة لأن التنظيمات الاجتماعية والأحداث الإنسانية أكثر واقعية من النقط والخطوط والسطوح والأشكال، وهذا يقوم على نظرية فيكو في المعرفة الخلاقة التي تقوم على الخلق والإيجاد والصنع لا المعرفة التي تقوم على التحليل والنظر، ولعل بيان المضمون الاجتماعي والتاريخي للتاريخ المثالي الأبدي أن يكون أهم بكثير من الإدلاء برأي نهائي في موقف فيكو الذي يتسم بنوع من الازدواجية.
تنطوي نظرية التاريخ المثالي على التأكيد بأن الإنسان محدد من الناحيتين؛ الاجتماعية والتاريخية، فلا بد أن يكون هذا التاريخ الأبدي ذا بعدين؛ البعد التجريبي الذي يتضمن نظام العلاقات الاجتماعية التي يشترط وجودها في أي عصر تاريخي؛ والبعد النظري الذي يتضمن نظرية القوانين التاريخية التي يقوم عليها تطور ذلك المضمون التجريبي. بهذا لا يفصل فيكو الجانب التجريبي عن الجانب الميتافيزيقي، ومع أن هذه مسألة شائكة وغامضة فقد يمكن أن نوضحها قليلا إذا رجعنا إلى تلخيص فيكو نفسه لمضمون التاريخ المثالي الأبدي كما قدمه في الكتاب الرابع تحت عنوان مسار الأمم، حيث نجده يقدم المقولات الميتافيزيقية أو الشروط والمبادئ غير التجريبية التي يقوم عليها هذا المسار. وهو يبدأ بذكر النظريات التاريخية عن الطبائع الثلاث التي تمر بمقتضاها كل أمة بثلاث مراحل متميزة من التطور: «سوف نرى أن الأمم تتطور وفقا لهذا التقسيم (أي إلى عصور الآلهة والأبطال والبشر) عن طريق تسلسل ثابت ومتصل للأسباب والنتائج موجود عند كل أمة من خلال ثلاثة أنواع من الطبيعة البشرية وما يتبعها من عادات ثلاث، وبفضل هذه العادات نلاحظ ثلاثة أنواع مختلفة من القانون الطبيعي للأمم وما يتبع هذا القانون من تنظيم المراحل المدنية، فكانت الحكومات الثلاث وما يقابلها من لغات ثلاث، وتشكلت ثلاثة أنواع من الرموز، كما كانت هناك ثلاثة أنواع من التشريع والسلطة والعقل والأحكام.»
12
إذا تأملنا هذا النص وجدنا أن فيكو يميز بين نموذجين أو نظامين مختلفين؛ فهو في العبارة الأولى من النص يشير إلى نظام تكشف عنه ثلاثة أنواع من الطبيعة البشرية المتحققة في تواريخ كل الأمم، وهذا النظام بطبيعة الحال هو نظام تاريخي أو تطوري
genetic
ويصفه فيكو بأنه نظام سببي أو علي يؤكد شرطا ميتافيزيقيا وهو أن الماضي البشري محدد بشروط تاريخية. وإذا تأملنا بقية الفقرة السابقة وجدنا أن فيكو يشير إلى جانبين من نظام ذي طبيعة مختلفة عن النظام السابق، فهناك سلسلة من العلاقات الاجتماعية القائمة بين أنواع مختلفة من التنظيمات في أي مجتمع، وهنا يؤكد الأساس الميتافيزيقي لنظريته عن الشروط الاجتماعية التي تحدد وجود الإنسان؛ فالعادات والتقاليد التي يمارسها البشر هي الأصل في التنظيمات الاجتماعية، وهذه الممارسات تكشف عن نوع معين من القانون الطبيعي، ومن طبيعة هذا القانون أن يتحدد عن طريق الحس المشترك، أي عن طريق الضرورة والمنفعة التي يحس بها البشر. وهكذا يتوسع فيكو في النظرية التي عرضها في الأصول فيذهب مثلا إلى أن طبيعة الدولة نتيجة مترتبة على طبيعة القانون الطبيعي. كما أن مفهومه عن التنظيمات البشرية يتسع فيستوعب أبعادا جديدة من التنظيم البشري بحيث يشمل اللغة والكتابة والتشريع والسلطة والأحكام والعقل.
أما الجانب الثاني من هذا النظام فهو يؤكد أن أنواع التنظيمات البشرية المختلفة لا بد أن تنشأ عن الطبيعة البشرية، وهو في هذا السياق يشير إلى تحولات العقل البشري، أي إلى أعم وأهم خصائص العقل البشري في أي مرحلة من مراحل تطوره. وهذا هو ما أكده في المسلمتين 14 و15 من وجود تفاعل ضروري بين هذه التحولات وبين التنظيمات البشرية، والنظرية التي قدمها فيكو في المسلمات السابقة تقول ببساطة إن الطبيعة البشرية تتكون من أشكال أساسية من التفكير والشعور، وهذه الأشكال حاضرة أو متمثلة في كل تنظيم داخل أي مجتمع تاريخي أو في أي تنظيم بشري. وهكذا تؤثر الطبيعة البشرية على طبيعة التنظيمات وتلونها بلونها، فمنها تنشأ أنواع معينة من العادات، ومن هذه تنشأ أنواع معينة من القانون الطبيعي، ومن هذه تنشأ أنواع معينة من الدول المدنية ... إلخ. هكذا حاول فيكو أن يضمن تاريخه المثالي الأبدي الأسس الميتافيزيقية والفلسفية العامة والمضمون التجريبي للاجتماع البشري. فمهمة النظرية الميتافيزيقية في علمه هي تنظيم مادة التاريخ المثالي الأبدي؛ ومن ثم تنظيم مادة التاريخ الواقعي كله بحيث نستطيع أن نقول إنه تصور الجانب النظري تصورا قبليا وفعالا في نفس الوقت، على نحو ما نتصور الأسس والشروط المعرفية في فلسفة كانط الميتافيزيقية، فإذا كانت هذه الأسس والشروط قبلية وفعالة في نفس الوقت (إذ لا قيمة لها إلا إذا طبقت بالفعل على الواقع) فإن نظرية فيكو الميتافيزيقية تقوم بدور فعلي وتوجه التاريخ الفعلي وتنظم التجربة الإنسانية، وتطبيقاته في العلم الجديد تشهد على هذا. ويكفي أن نتأمل بعض الفقرات الخاصة بالطبيعة الشعرية للبشر الأولين، فقد كانت هذه الطبيعة شعرية خلاقة تصورت الأشياء المادية في صورة حية بل جسدتها على هيئة آلهة. لقد كانت طبيعة قاسية ووحشية، ولكن البشر في هذه المرحلة كانوا يشعرون بخوف رهيب من الآلهة التي خلقها البشر بأنفسهم. وترتب على هذا أن العادات الأولى كانت كلها ممتزجة بالدين والتقوى كما كان القانون الطبيعي الأول قانونا إلهيا مقدسا لأن البشر اعتقدوا أن حياتهم وحياة كل تنظيماتهم تعتمد على الآلهة لأنهم تصوروا كل شيء في صورة إله أو في صورة شيء أوجده إله. أضف إلى هذا أن الحكومات الأولى كانت إلهية مقدسة أو ثيوقراطية يخضع كل شيء فيها لحكم الآلهة. لقد كان هذا العصر هو عصر التنبؤات وهي أول تنظيمات بشرية معروفة في التاريخ. ولا حاجة بنا أن نعيد ما ذكره فيكو عن لغة هذا العصر ولا عن نوع التشريع الذي ساد فيه، ولا عن نوع السلطات التي حكمت فيه والأحكام
13 ... إلخ.
هذا العرض يلقي الضوء على مفهوم فيكو عن التاريخ المثالي الأبدي؛ إذ يبين كيف ينظم مضمون محدد (وهو العالم الشعري للإنسان الأول) وفقا لنظرية اجتماعية صورية تستجيب هي نفسها لمطالب ميتافيزيقية معينة، وهذا المضمون ينظم وفقا للنموذجين اللذين ميزناهما من قبل، فهو أولا ينظم وفقا لنظريات العلاقات الاجتماعية المحددة (الإيمان بأن الآلهة تتمثل في كل شيء نتجت عنه تنظيمات اجتماعية معينة تمثلت في اللغة والتشريع ونظام الحكم ... إلخ) إن النظام اللاهوتي للحكم عند الإنسان في هذه المرحلة الشعرية يعتمد على تصوره للقانون الطبيعي، وتصوره للقانون الطبيعي يحدده عاداته وهذه بدورها تتحدد برؤيته الأساسية للعالم. أضف إلى هذا كله أن شبكة التنظيمات البشرية بمعناها الواسع تتأثر بالطبيعة البشرية، فملكات التخيل لهذا الإنسان - وهي ملكات بعيدة عن العقلانية - هي الشرط الذي يحدد عادات هذا الإنسان ودينه ومعتقداته، كما تحدد أيضا لغته وتصوره للعدل ولنظامه القانوني بوجه عام، وهي تحقق هذا كله عن طريق سلسلة من العلاقات بطريقة تؤكد أن مكونات العالم البشري مستمدة من طبيعة البشر الذين صنعوا هذا العالم، فإذا تغير البشر وفقا لتصور فيكو عن تطور الإنسان التاريخي وتغيره فإن مضمون العالم الإنساني - لا بنيته - لا بد أن يتغير تبعا لذلك. وهكذا يؤكد فيكو من كل ما سبق أن هناك نوعا من الوحدة التي تؤلف بين التنظيمات البشرية في أي مجتمع تاريخي، ولكنها ليست وحدة منطقية تصورية، بل وحدة تقوم على ملكات البشر الذين صنعوا هذه التنظيمات وأساليب تفكيرهم أو بمعنى آخر تقوم على وحدة الطبيعة البشرية، والدليل على أن هذه الوحدة ليست نظرية عقلية خالصة وإنما هي وحدة طبيعية واقعية هو تطور التنظيمات البشرية عبر مراحل مختلفة، وبعض هذه التنظيمات يظل قائما في مرحلة تالية كان التطور يقتضي اختفاءها. ففي ظل الحكم الإقطاعي تبقى بعض صور الحكم الأرستقراطي، وفي ظل حكم الآباء في العصر الديني تبقى بعض صور الطبيعة الوحشية التي كانت تغلب على هؤلاء الآباء قبل انتقالهم إلى المرحلة الدينية، وفي ظل الحكومات الأرستقراطية بقي لآباء الأسر نفس السلطة المطلقة التي كانوا يتمتعون بها في الحالة الطبيعية الأولى، وهذا يؤكد ما سبق أن قلناه عن أن فيكو كانت لديه بصيرة صادقة بالواقع ولم تستعبده سلطة النظريات. صحيح أنه يتمسك بالبناء النظري بوجه عام ويطبقه على الواقع ويحاول أن يبين على الدوام أن تاريخه المثالي الأبدي تاريخ حقيقي؛ فالواقع الفعلي نفسه لا يغيب عنه لحظة واحدة، كما أنه لا يتردد عن تأكيد اختلاف هذا الواقع الفعلي في مرحلة معينة عن مقتضيات البناء النظري.
14
ومعنى هذا أن مذهبه يتسع في وقت واحد للضرورة النظرية وللإمكان الواقعي التاريخي، فهناك قوانين تحدد نظام تطور الطبيعة البشرية ومبادئها، ولكن الطبيعة البشرية نفسها تتحرك عبر التاريخ حركة قد تخرج من حين إلى آخر، ومن مرحلة إلى أخرى عن ذلك النسق النظري، بل إنه قد فطن إلى هذه الحقيقة وعبر عنها في إحدى مسلماته «العادات الفطرية لا تتغير كلها دفعة واحدة ولكن تدريجيا وتستغرق فترات طويلة من الزمن.» وهذا كله يدعونا أخيرا إلى القول بأن النظر والعمل يتفاعلان في فلسفة فيكو بحيث تبقى مشكلة الازدواجية التي أشرنا إليها مرارا مشكلة قائمة ولا يمكن حسمها لحساب النظر وحده أو العمل وحده. ولعل هذه الازدواجية نفسها أن تكون دليلا على صدق نظرته وعمق إحساسه بالواقع التاريخي الذي لا يكف عن التغير والتطور. فهو واقع يخضع لقوانين وشروط محددة دون أن يستجيب لها بطريقة حسابية وحتمية خالصة.
إن نموذج التطور الذي حدد به فيكو مسار التاريخ ووصفه في نظريته عن التاريخ المثالي الأبدي هو نموذج تخطيط ثلاثي للتطور، فهو يميز بين ثلاثة عصور تعبر عن تاريخ كل أمة أو بين ثلاث طبائع بشرية تحدد هذا التقسيم بحيث يتطور كل نوع من أنواع التنظيمات في ثلاث مراحل عضوية متتالية. ويصف فيكو كل واحد من هذه المراحل بمجموعة من الصفات الأساسية التي تميزها؛ فالطبيعة الأولى شعرية أو خلاقة أو إلهية لأنها طبيعة يقوم فيها الخيال بدور رئيسي ويعتمد على رؤية دينية إلى العالم تؤثر على جميع التنظيمات القائمة فيه. أما الطبيعة الثانية فهي بطولية لأنها تعترف بالقوة وتمجدها وتقيم عليها كل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية. وأخيرا تأتي الطبيعة الثالثة وهي الطبيعة الإنسانية لأن أصحابها يملكون قدرة على التفكير العقلي في الأشياء وفهم طبيعتها الحقيقية. ويتطابق مع هذا التقسيم الثلاثي للطبائع تقسيم ثلاثي آخر للعصور الشعرية والبطولية والإنسانية، وكل عصر من هذه العصور يمثل نسقا من التنظيمات يتطور تطورا حتميا نتيجة للطبيعة البشرية الملازمة لها. وأخيرا فإن كل تنظيم بمفرده في داخل هذه العصور يتطور بدوره تطورا يعبر عن خصائص الطبيعة البشرية في كل مرحلة.
ونكتفي بتقديم مثل واحد يعبر عن تصور فيكو لهذا التخطيط الثلاثي من خلال التاريخ المثالي للقانون الطبيعي؛ فالقانون الأول كان قانونا إلهيا لإيمان البشر بأنهم يعتمدون على الآلهة كما تعتمد عليها كل التنظيمات؛ وذلك لأنهم تصوروا كل شيء في صورة إله أو تصوروا أنه من صنع إله. ثم يأتي بعد ذلك القانون البطولي الذي كان قانون القوة التي يتحكم فيها الدين ويضعها في داخل حدود لا تتعداها حيث تعجز القوانين البشرية عن التحكم فيها؛ فقد كان الدين في هذه المرحلة هو الوسيلة الوحيدة لترويض الطبيعة الوحشية للبشر الأوائل لتعويض عجزهم عن التفكير العقلي. وأخيرا تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة القانون الإنساني الذي يمليه العقل المتطور الناضج. هكذا نرى أن طبيعة القانون تتحدد بطبيعة الإنسان، فهي في المرحلتين الأوليين طبيعة تتسم بعجز العقل، ولكنها تتطور إلى مرحلة ثالثة يتم فيها تطور هذا العقل تطورا كاملا، وبذلك يتغير تصور البشر للقانون الطبيعي مع تغير طبيعتهم. ويتناول فيكو تاريخ القانون الصارم الذي ساد العصرين الأول والثاني والفرق بينه وبين القانون الرحيم الذي ساد العصر الثالث، ثم يزيد الفرق بين هذه القوانين الثلاثة وضوحا فيميز بين قانون يستند إلى السلطة وينفذ بناء على ما فيه من يقين، وبين قانون تمليه المنفعة الخالصة في كل حال. وينبغي أن نلاحظ هنا أن التفرقة التي يقيمها فيكو بين هذه الأنواع المختلفة من القانون تقوم على طبيعة التفكير البشري وتطوره من الإحساس والخيال إلى العقل؛ فالقانون الصارم هو قانون البشر الذين يفتقرون إلى القدرة على التفكير العقلي في طبيعة الأشياء وفي أنفسهم وفي المجتمع والقانون ... إلخ؛ ولهذا فإنهم يعجزون عن تطبيق القانون على ضوء الفهم الحقيقي لطبيعة الأشياء التي يتعلق بها هذا القانون، إنهم يطبقون القانون تطبيقا حرفيا ولهذا فهو قانون قاس ولكنه يقيني، وما دام يفتقر إلى فهم طبيعة القانون فهو لا يطبق إلا عن طريق السلطة التي تدعمه وتفرضه، وهذه السلطة بدورها تعتمد على رؤية دينية أو عقيدة لاهوتية نبعت منها فكرة السلطة نفسها. وهكذا نرى أنه نتاج طبيعة بشرية لم يكتمل فيها تطور العقل. فإذا نظرنا إلى القانون في المرحلة الأخيرة وهو قانون يتصف بالرحمة والإنصاف والعدالة وجدنا أنه يعبر عن الطبيعة البشرية التي اكتمل فيها نمو العقل بحيث أصبح قادرا على فهم طبائع الأشياء، ولم يكن من الممكن أن يبلغ الإنسان مرحلة العقل إلا في مجتمع اكتمل تطوره التاريخي.
وكل هذا يؤكد أن تطور القانون - كتطور غيره من الأنظمة - يعتمد على مبادئ تطور الطبيعة البشرية نفسها، فهذه الطبيعة تنتقل من مرحلة تغلب فيها ملكة الإحساس والتخيل إلى مرحلة تالية تستطيع فيها أن تفهم حاجاتها ومطالبها وأن توجد التنظيمات التي تشبع هذه المطالب والحاجات. وهكذا فإن المبادئ التي توجه التاريخ هي نفس المبادئ التي توجه تطور الطبيعة البشرية، وهذا المثل الذي قدمناه عن تطور القانون يلخص في الواقع نظرية فيكو العلمية عن التاريخ المثالي الأبدي. وقد يبدو أن المبادئ التي تسير الطبيعة البشرية هي مبادئ لم تستمد من حركة التاريخ نفسه وإنما فرضها فيكو على التاريخ. وحجة الشراح الذين يذهبون إلى هذا الرأي هو أنه إذا كان تاريخ التنظيمات البشرية يتحدد بتطور الطبيعة البشرية، فإن هذه الطبيعة لا يمكن هي نفسها أن تتحدد تاريخيا ولا بد أن يحددها مبدأ ميتافيزيقي متعال على التاريخ، ومعنى هذا أن فيكو قد وضع هذه المبادئ أو اكتشفها قبل أن يحاول فهم التاريخ نفسه في حركته الواقعية. وهذا التفسير قد أغرى هؤلاء الشراح بأن يشبهوا نظرية فيكو عن السببية التاريخية بفكرة هيجل عن «دهاء العقل» التي تعتبر أن تطور التاريخ والنظم التاريخية يقوم على ضرورة ميتافيزيقية بحتة، أي على مبدأ متعال يوجه التاريخ من خارجه. وعلى الرغم من التشابه بين تطور الإنسان نحو العقل عند فيكو وتطور العقل عند هيجل، فإن المبادئ التي تحدد تطور الطبيعة البشرية عند فيكو هي مبادئ ذات طبيعة تاريخية اجتماعية. إن هذه الطبيعة البشرية تتطور تتطورا عضويا - وفق النموذج الذي قدمناه - من خلال السياق التاريخي والاجتماعي الذي تتم فيه أفعال البشر. ولا بد من القول بأن التطور التاريخي الاجتماعي لتطور العقل عند فيكو مختلف كل الاختلاف عن تصور هيجل الذي لا شك أنه تصور ميتافيزيقي متعال على التاريخ. ويكفي أن نقول إن الدور الذي يقوم به العقل مختلف تمام الاختلاف عند فيكو عنه عند هيجل، فالعقل المطلق عند هيجل يتطور - كما هو معروف - تطورا ذاتيا نحو الوعي بذاته، أما عند فيكو فهو يتطور إلى حد معين ويتعرض للانتكاس والانحراف عن مساره بحيث يرجع إلى عصر البربرية التي ينتهي إليها «التاريخ المثالي الأبدي» ويعود إلى أساليب التفكير الشعرية أو الخيالية التي مر بها في مرحلة سابقة على مرحلة التفكير العقلي. ولو آمن فيكو أن التاريخ هو نتيجة التطور الذاتي للعقل - كما ذهب هيجل - لكانت عملية التطور بلا نهاية؛ فالعقل عنده لا يتطور إلا داخل ظروف تاريخية اجتماعية محددة يكون مشروطا بها، والدليل على هذا أنه في المرحلة البربرية لا ينتكس لأساليب التفكير السابقة - التي كان قد تجاوزها إلى مرحلة التعقل والفهم - وإنما تنتكس معه تلك التنظيمات الاجتماعية التي عبرت عن مرحلة النضج العقلي (من قانون وسياسة واقتصاد ... إلخ).
نستخلص من هذا أن فيكو لم يتصور العقل كماهية مستقلة، ولم ينسب له أي قدرة ذاتية على التطور، ولم يجعله سببا من أسباب التطور التاريخي، إن العلة الأساسية للتغير الاجتماعي أو التطور التاريخي عنده هي الطبيعة البشرية نفسها كما تتطور في ظروف تاريخية واجتماعية محددة، وهذه الطبيعة البشرية التي ينشأ عنها كل شيء لا توجد منعزلة عن شبكة التنظيمات البشرية التي أوجدتها، فهي ليست شيئا متعاليا على عادات البشر وقوانينهم. والبشر أنفسهم في مرحلة معينة هم التعبير الحي عنها وتاريخهم هو تاريخها. والخلاصة أن نظرية فيكو عن الطبائع الثلاث التي تحدد التاريخ المثالي الأبدي لأي أمة ليست نظرية غير تاريخية ولا مبدأ متعاليا على التاريخ تستنبط منه مبادئ التغير التاريخي. إنه في الحقيقة مبدأ تاريخي يعبر عن نظريته عن التطور التاريخي للتنظيمات البشرية. وفيكو نفسه يؤكد هذا في الفقرة التي مهد بها للتلخيص الذي قدمه عن التاريخ المثالي الأبدي - والتي ذكرناها من قبل - «... سوف نرى أن الأمم تتطور وفقا لهذا التقسيم (أي إلى عصور الآلهة والأبطال والبشر) عن طريق تسلسل ثابت ومتصل للأسباب والنتائج موجود عند كل أمة من خلال ثلاثة أنواع من الطبيعة البشرية.» وواضح من هذه العبارة أنه يوحد بين التطور العلي لأي أمة وبين التطور الثلاثي للطبيعة البشرية، وهذا يستبعد تماما أن تكون الطبيعة البشرية بمعزل عن التسلسل المتصل للأسباب والنتائج.
15
ولعل كل ما ذكرناه من قبل عن الطبيعة البشرية يؤكد أنها تتفاعل مع التنظيمات التي تعبر عن مرحلة معينة بحيث إن هذه التنظيمات تعكس أسلوبها في التفكير والاعتقاد والتقييم، ثم تعود هذه التنظيمات نفسها فتؤثر على الطبيعة البشرية بحيث تنتقل إلى مرحلة جديدة تعبر عنها مرة أخرى بتنظيمات جديدة ... وهكذا. ولو تأملنا عددا من المسلمات التي يضع فيها فيكو المبادئ التطورية للتاريخ المثالي الأبدي، ابتداء من مسلمة رقم 64 إلى مسلمة رقم 68 لوجدناه يقول فيها صراحة: «إن نظام الأفكار يجب أن يتبع نظام التنظيمات، لقد كان هذا هو النظام الذي سارت عليه التنظيمات البشرية: فهي تبدأ بالغابات ثم الأكواخ ثم القرى وبعد ذلك تأتي المدن وأخيرا نصل إلى الأكاديميات.» «إن طبيعة الشعوب تكون في البداية فظة ثم تكون قاسية ثم تميل إلى الرحمة والرقة وأخيرا تتفكك وتتحلل.» «إن البشر يشعرون في البداية بالضرورة ثم يبحثون عن المنفعة، ثم يميلون إلى الراحة وبعد ذلك يستمتعون باللذات وينغمسون - إلى حد الفساد - في الترف وأخيرا يستولي عليهم الجنون ويفقدون جوهرهم.»
ومن هذه النصوص يتبين بصورة واضحة أن الطبيعة البشرية تتطور في إطار السياق التاريخي والاجتماعي وفي داخل التنظيمات الاجتماعية والسياسية ... إلخ التي يوجد فيها البشر أو بالأحرى التي أوجدوها تعبيرا عن طبيعتهم المتطورة. فكل مرحلة من المراحل التي أشار إليها النص هي شرط ضروري للمرحلة التالية لها؛ لأن البشر يكتسبون فيها قدرات أو استعدادات معينة تصبح بدورها شرطا لقيام تنظيماتهم في المرحلة التالية، ومن المستحيل أن تتطور الطبيعة البشرية بمعزل عن هذه التنظيمات، ومجمل القول أن نموذج التطور الذي قدمه فيكو في صورة التاريخ المثالي الأبدي هو في الواقع نظرية علمية تاريخية عن سلسلة محددة من الشروط التي تقوم على أساسها التنظيمات التي لا حياة للإنسان إلا في ظلها ولا حياة له بغيرها. ففي ظل هذه التنظيمات يمكنه أن ينمي ملكاته وقدراته الاجتماعية التي تكون طبيعته البشرية وتحدد طبيعة تطوره التاريخي.
ننتهي من هذا إلى أن التاريخ المثالي الأبدي الذي قدمه فيكو كنظرية علمية في المعرفة التاريخية، يتضمن البناء النظري الميتافيزيقي والمضمون التجريبي معا، وأن تصوره للبناء النظري تصورا قبليا وفعالا في نفس الوقت؛ يشبه إلى حد كبير الشروط القبلية للمعرفة عند كانط؛ لهذا نبه «ياكوبي» في كتابه عن الأمور الإلهية والكشف عنها (عام 1811م) إلى سبق فيكو لكانط في القول بالمبادئ القبلية في المعرفة، وكتب يقول: «إن لب الفلسفة الكانطية هي الحقيقة التي تقول إننا لا نفهم الشيء إلا بقدر ما نستحضر وجوده أمامنا في الفكر أو بقدر ما نوجده في الفهم. وقبل كانط بزمن طويل وفي بداية القرن الثامن عشر كتب فيكو في نابولي يقول إننا في الهندسة نبرهن لأننا نوجد أو نبدع، وقبل أن نبرهن على شيء في الفيزياء لا بد كذلك أن نكون قادرين على الخلق والإبداع، وهكذا فإن الذين يحاولون إثبات وجود الله بطريقة قبلية يجب أن يوجه إليهم تهمة التطفل والتطاول، إن وضوح الحقيقة الميتافيزيقية يشبه وضوح النور الذي لا نعرفه إلا عن طريق الأشياء المعتمة لأننا لا نرى النور نفسه وإنما نرى الأشياء التي تعكسه، إن الأشياء المادية معتمة ولها شكل وحدود وفيها نرى ضوء الحقيقة الميتافيزيقية.»
إن المبدأ الذي تقوم عليه نظرية فيكو في المعرفة يقترب من المبدأ الذي تقوم عليه فلسفة كانط النظرية التي عبر عنها في مقدمة نقد العقل الخالص بقوله: «عندئذ أشرق شعاع من الضوء على جميع دارسي الطبيعة؛ إذ فهموا أن العقل لا يدرك (في الأشياء) إلا ما أنتجه هو وفق خطة من وضعه، وأنه لا بد له أن يشق الطريق أولا بمبادئ أحكامه حسب قوانين ثابتة ثم يضطر الطبيعة اضطرارا أن تجيب عن أسئلته، وأن عليه ألا يدع الطبيعة تسوقه وكأنها تسحبه وراءها بالحبال؛ إذ لولا ذلك لاستحال على الملاحظات العرضية التي لا تتم وفق خطة سابقة مدبرة أن تنتظم في قانون ضروري يسعى إليه العقل ويتطلبه، ولا بد للعقل أن يتقدم إلى الطبيعة وهو يضع في إحدى يديه مبادئه التي يمكنها وحدها أن تجعل من الظواهر المتواترة قوانين صادقة، كما يضع في اليد الأخرى التجربة التي صاغها طبقا لتلك المبادئ العقلية. حقا أن عليه أن يتقدم من الطبيعة لكي يتعلم منها، ولكنه وهو يفعل ذلك لا يكون شأنه شأن التلميذ الذي يصغي لكل ما يشاء المعلم أن يمليه عليه، وإنما يكون مثل القاضي الذي يرغم الشهود على الجواب عن الأسئلة التي يطرحها عليهم.»
16
هنا نستطيع أن نقول إنه إذا كان كانط قد قدم نقدا للعقل الخالص ونقدا للعقل العملي، فإن فيكو قدم نقدا للعقل التاريخي. لقد أراد كانط أن يصل - في مجال المعرفة - إلى مبادئ قبلية تصور أنها ثابتة ونهائية ومقولات مطلقة لا تتغير، بينما نجد القبلي عند فيكو كامنا في التاريخ ويتحقق شيئا فشيئا مع تطور الوعي الإنساني وانتقاله من حالة الطبيعة إلى الحالة الإنسانية، فالقبلي عنده ليس نسقا لأنه يعمل في مجال التاريخ الذي هو بطبعه مجال التغير والصيرورة والحركة الدائمة، ولكن هل القول بهذا التشابه يعني أننا نجد عند فيكو مجرد نموذج مثالي أبدي يوجه التاريخ بحيث يكون بلغة كانط هو الشرط القبلي للتاريخ؟ أم أن هذا النموذج الأبدي مجسد في التاريخ بشكل واقعي حي؟ إننا لا بد أن نتصوره من الزاويتين معا بحيث يكون الأبدي شرطا مسبقا للفعل البشري في التاريخ ويكون التاريخ تجسيدا حيا للأبدي أو للنموذج المثالي الذي حدده فيكو. الطبيعة الإنسانية إذن التي هي علة التطور التاريخي ليست جوهرا ثابتا مطلقا بل طبيعة متغيرة ومتطورة. وكما تضمن التاريخ المثالي الأبدي في داخله فهو لا يعلو على الواقع المتغير. وقد رأينا كيف أن فيكو اختبر صدق مبادئه الضرورية على ضوء الواقع التاريخي، وكما رأينا أن التاريخ الحقيقي للتنظيمات البشرية هو نشأتها من تحولات العقل البشري. ومن تطور هذه التنظيمات يكون هناك دائما مجال للإبداع والابتكار والتغير، فعندما تنهار هذه التنظيمات في آخر مرحلة من مراحل تطورها تعود لتبدأ من جديد، ولكنها لا تعود أبدا بنفس الطريقة. والتاريخ لا يعيد نفسه ولا يتحرك بشكل دائري منتظم وإنما يتحرك بشكل حلزوني لولبي. والدورات التاريخية تأتي دائما بالجديد فتظهر الحروب والثورات من حين لآخر في التاريخ، ولكن كل حرب مخالفة لما قبلها، وكل ثورة فيها الجديد طبقا لما تعلمته البشرية من الماضي. والتطور التاريخي عند فيكو ليس دائما تطورا إلى الأمام. وقد عرضنا في الباب الثاني نصوص فيكو الأصلية عن عودة مسار الأمم، ورأينا أن هناك عصور انهيار وتدهور في مسار التاريخ يعقبها عصور ازدهار من جديد؛ فالبشرية التي تتردى في هاوية البربرية، لا تسقط في نفس البربرية الحسية الأولى بل في بربرية يمكن أن توصف بأنها بربرية عقلية يكون فيها العقل قد فقد مضمونه الحي وأصبح شكلا أجوف. وهذه فكرة مختلفة عن فكرة التقدم كما سادت في عصر التنوير وهو نفس العصر الذي ينتمي إليه فيكو وإن اختلفت نظرته إلى التقدم عن نظرة فلاسفة هذا العصر. ولكي نوضح هذا التباين لا بد أن نلقي الضوء على نشأة هذه الفكرة - فكرة التقدم - في نهاية القرن السابع عشر حتى سادت وانتشرت بين الأغلبية العظمى من فلاسفة القرن الثامن عشر، ولا بد أن نعرف هل كان لدى فيكو تقدم تاريخي بمفهوم ذلك العصر؟ (4) فيكو وفكرة التقدم
في أواخر القرن السابع عشر وطوال القرن الثامن عشر أخذ الفكر الحديث يؤكد ثقته بالأسس العقلية والمنهجية التي عمل على إرسائها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، وتزايد وعيه باختلافه عن الفكر القديم، وبقوته وسلطته في مواجهة القيم التي ظلت حية عبر القرون، وارتفعت الأنساق الفلسفية والرياضية التي تطمح للكمال، وراح كل فيلسوف يبني مذهبا يزيح المذهب السابق عليه ليحتل مكانه، وشعر أقطاب العلم الجديد الشامل بتفوق معرفتهم على معرفة القرون السابقة وباختلاف تصورهم للعلم عن التصور المسيحي والمدرسي له. وهكذا أصبحنا إزاء فكر جديد وعلم جديد يؤكد اختلاف العقل عن الوحي والعلم عن الإيمان. ويبدأ الشك في الوقوف من التصورات المسيحية بوجه عام موقف النقد كما فعل من قبل في مواجهة العلم المدرسي. ويظهر الاعتزاز بالتقدم والتطور، ويصبح الشك الذي مارسه ديكارت من قبل كتمرين على العودة لليقين والإيمان مرانا مستمرا وعملا دائبا يفضح كل ما هو عرضة للشك. وتتعدد طرق البحث الدائب، فبجانب الشكاك والنقاد نجد المؤمنين بالعلم وبالتقدم إيمانا ربما بلغ حد الجنون، فقد بدأت فكرة التقدم في الازدهار من نهاية القرن السابع عشر عندما أعلن فونتنل
Fontenelle (1657-1757م) أنه لا نهاية للتطور البشري.
كل هذه الاتجاهات المتعددة اندرجت تحت عنوان «التنوير»، وهي الصياغة الاجتماعية للنور الفطري الذي تحدث عنه ديكارت وإسبينوزا من قبل، لقد ظل النور الفطري في القرن السابع عشر منهجا للمعرفة وأصبح في القرن الثامن عشر ثورة اجتماعية بعد أن أصبح الفكر موجها للواقع، وطالب فلاسفة النور الفطري بحق الفكر، وطالب فلاسفة التنوير بحق الفكر في توجيه الواقع، وبأن يعيشوا في عالم يحكمه الفكر.
17
وكانت السمات الأساسية للتنوير هي الاعتزاز بالمعرفة، والإيمان بالعقل، والأمل في القادم الجديد، هذا هو الرباط الذي كان يوحد ذلك العصر على الرغم مما ساده من تنوع مجالات المعرفة، فقد ازدحم عصر التنوير بالمتطلعين إلى المعرفة، نذكر منهم على سبيل المثال «ليبنتز» الذي أخذ يسعى في نهم شديد إلى المعرفة الموسوعية ولا يقل عنه «بيير بايل» الفيلسوف الناقد، كذلك جون لوك الطبيب والفيلسوف والمربي والمفكر السياسي، فهو واحد من هؤلاء الموسوعيين أصحاب الجوانب الكثيرة المتعددة. إنهم جميعا قد حاولوا بدرجات متفاوتة من التوفيق أن يوحدوا أشتات معارفهم، ولا يقل عنهم فولتير الذي جمع بين الأدب والفلسفة والتاريخ، وكما تنوعت المعرفة ازداد تنوع العلوم الجزئية وتخصصها خاصة العلوم الطبيعية، لقد نهض الفلك في القرن السابع عشر وبجانبه الفيزياء والميكانيكا والكيمياء، وراح العقل يعزل الأشياء ويحللها ويستخلص تصوراتها المجردة، وإلى جانب الفكر التحليلي سادت روح النقد العصر كله وكثرت محاولات إبراز المتناقضات التي حفلت بها المعرفة القديمة والجديدة.
وينمو في هذا العصر - عصر التنوير - وعي متفائل بالتقدم، سعيد بالمعارف الجديدة المتنامية، ولعل هذا الوعي السعيد المعتز بما توصل إليه من علم ومعرفة، المستبشر بمستقبل الإنسانية العاقلة العالمة، هو أهم ما يميز عصر التنوير، لقد أحس فيه الإنسان بأنه بلغ سن الرشد وجاوز المرحلة التي كانت تفرض فيها الوصاية عليه، وشعر هذا الإنسان بأنه يحيا في عصر يفوق سائر العصور السابقة بما فيه من أنوار.
والإيمان بالنزعة العقلية من أهم ما يميز عصر التنوير، ولعل تمجيد العقل لم يبلغ عند أي مفكر من مفكري هذا العصر مثل ما بلغه عند الفيلسوف الألماني كرستيان فولف (1679-1754م) الذي يرى أن الإنسان لم يتلق من الله شيئا أروع من العقل، ويستحق الإنسان أن يسمى إنسانا بقدر ما تزداد قدرته على استخدام قواه العقلية. ويتفوق «عقل العصر» ونقصد به فولتير على معاصره الألماني في تمجيد العقل وتحرير الوعي، ويتغنى في كتبه بتقدم العلم والفن، ولكن مع ذلك لا يغيب عنه أن السعادة بالتقدم مجاورة للشقاء والآلام التي تسببها حروب العصر واضطراباته «إن الفضل في هذا التقدم كله يرجع لبعض المفكرين والعباقرة المنتشرين بأعدادهم القليلة في مختلف أنحاء أوروبا، وقد ظلوا مجهولين زمنا طويلا وكثيرا ما لاحقهم الاضطهاد. لقد أضاءوا العصر بأنوارهم وعزوه عن آلامه في الوقت الذي كانت فيه الحروب تخربه.» إن السعادة بالمعرفة التي يحسها العقل قد مازجها الشعور بالتناقض والتمزق والشك، يقول فولتير في قاموسه الفلسفي تحت مادة التناقض: «كلما أمعن الإنسان النظر في العالم أدرك أنه مليء بالمتناقضات والغرائب، إن العالم لا يتركب إلا من متناقضات ومن الضروري تخليصه منها.» إن تمجيد العقل والتفاؤل بالتقدم على كل لسان، ومع ذلك تسري نغمة حزينة خاصة حين يتعرض هذا العقل للقيم التقليدية والحقائق الكبرى. يقول فولتير في قاموسه السابق الذكر تحت مادة الروح: «إنني أومن بوجود كائن عاقل، وأومن بوجود الله، أما في كل ما عدا ذلك فإنني أتعثر في الظلام، أسلم اليوم بفكرة، وأشك فيها في الغد، وأنكرها بعد الغد، وفي كل يوم أتعرض للخطأ والضلال، ولقد صارحني جميع الفلاسفة الأمناء بأن حالهم في ذلك لا تختلف عن حالي.»
وعلى الرغم من إيمان فولتير بالتقدم اللامحدود لمستقبل البشرية، إلا أننا نجد عنده أيضا ما يشير إلى انحراف مسار التقدم عندما اعتقد أن المصادفة تتحكم في الأحداث حين لا تكون خاضعة بوعي للعقل الإنساني، وعنصر المصادفة واضح في التشريع «إن كل القوانين تقريبا قد وضعت لمواجهة حاجات عابرة، كالأدوية التي تستعمل عشوائيا فتشفي أحد المرضى وتقتل آخرين.» وتبعا لهذه النظرية، كان من المستطاع انحراف تقدم الإنسانية في أي لحظة واتباعها طريقا مختلفا، ولكن بغض النظر عن أي طريق ستتبعه فإن طبيعة العقل الإنساني كفيلة بأن تحقق تقدما في الحضارة. ويكشف بيري عن طبيعة التقدم عند فولتير فيقول إن قارئ «المقال» وعصر لويس الرابع عشر «ربما شعر بعد قراءته للكتابين بهشاشة التقدم وعشوائيته. فلو صح القول بأن المصادفة تتحكم في الأحداث، أو أن أحداثا عارضة هي التي تتحكم في نهوض الإمبراطوريات وسقوطها وتعاقب الأديان وثورات الدول ومعظم التحولات الكبرى في التاريخ؛ فهل يكون هناك أي أساس مفحم للاعتقاد بأن العقل الإنساني - وهو الذي نسب إليه فولتير تقدم الحضارة - سيسود في المدى الطويل؟ لقد انتظمت الحضارة هنا وهناك فكانت هناك عصور من التقدم السريع، ولكن كيف نستطيع الاطمئنان إلى أن هذه الأحداث ذاتها ليست عابرة أيضا بعد أن جاء التدهور في أعقاب الازدهار، والنكوص في أعقاب التقدم؟ فهل يستطاع القول بأن التاريخ مؤيد للقول بنهوض العقل إلى درجة تحول دون قيام المصادفة بتهديد إرادته؟ وهل يزيد مثل هذا الاستدلال عن مجرد أمل لا تؤيده وقائع التجارب الماضية، إنه مجرد خاطر يتمشى مع روح التنوير.»
18
لقد احتشد العصر بالعديد من فلاسفة التقدم أمثال «تورجو» الذي حاول تتبع مصير الجنس البشري على ضوء فكرة التقدم، واتفق مع فولتير في تصورهما للتقدم التدريجي للبشرية نحو حالة من التنور والمعقولية، وكذلك كوندورسيه الذي وضع تصميما لتاريخ الحضارة على ضوء فكرة التقدم وألف «صورة تاريخية لتقدم العقل البشري» وأكد حدوث تقدم غير محدود وموثوق به في التنور وفي المجتمع، وعمد إلى التفكير في طبيعته واستبصار اتجاهه وتحديد هدفه، وأصر على الكتابة عن التوقعات المنتظرة في المستقبل البعيد، ومضى يثبت أن حركة التقدم لن تعود للوراء قط ما دامت الأرض تشغل مكانتها الحالية في نظام الكون؛ فالتقدم ليس مشروطا بأية شروط سوى بقاء الأرض، فلن يحدث أي نكوص إلى الهمجية.
19
هذا بالإضافة إلى ظهور الموسوعة الفرنسية عام 1750م تحت إشراف ديدرو ودالمبير فجمعت بين دفتيها مفكرين وكتابا يمجدون العقل وينظرون إلى التقدم في المعرفة كمسلمة بديهية، فقامت الموسوعة بتجميع المعرفة الجديدة ومحاربة المعرفة القديمة ورفع رايات التقدم والإيمان بالعقل الشامل.
والجدير بالذكر أن هذه النظرة المتفائلة التي سادت عصر التنوير تمركزت في المجتمع الفرنسي، وتغنى بها فلاسفة التنوير الفرنسيون إبان حكم الملك لويس الرابع عشر حيث الحياة الرغيدة والاستغراق في الترف. ومع ذلك ارتفعت بعض الأصوات المحتجة على فكرة التقدم العقلي؛ فرجال الدين كالعهد بهم لا يخفون سخطهم على العقل، وقد رأينا «باسكال» لا يعترف بسلطته، كما سمعنا لوثر يحكم عليه حكمه القاسي «إن العقل الذي أصابه مس من الشيطان يؤذي الأمور الإلهية أعظم الأذى، وكلما ازداد حظه من العلم والبراعة ازداد ضرره.»
20
هذا بينما نجد الأقلية مثل كانط يبحثون عن حدود المعرفة ويحاولون تعيينها بالدراسة الهادئة لملكات العقل وطاقاته والتوفيق بين هذه الملكات والطاقات. وحاول روسو أن يثبت حدوث نكوص في التاريخ عندما أعلن أنه «تتعرض أرواحنا للفساد في نفس الوقت الذي تتقدم فيه علومنا وفنوننا تجاه الكمال.» والواقع أن قلة ضئيلة من المجتمع الفرنسي هي التي استفادت من تقدم المعرفة وازدياد سيطرة الإنسان على الطبيعة، وكشف روسو عن التباين بين فخامة قصور فرنسا وترف المنعمين وتنور أولئك الذين أتيحت لهم فرصة التعليم، وبين ما تعانيه كتل الفلاحين من جهالة. فلو صح أن هذه الحالة هي ثمرة الحضارة والتقدم فهل تكون هناك أية قيمة لهذا التقدم؟ إن ما يدعى بالتقدم مرادف بلا جدال للنكوص.
هذا بينما لم يتحمس الفكر الإنجليزي لفكرة التقدم ربما لاستقرار الأوضاع السياسية والاجتماعية والرغبة في الحفاظ على هذا الاستقرار، مما جعل المفكرين حذرين في الأخذ بالتقدم، فتجد هيوم يؤكد أن العلم يجب أن يمر بمراحل مختلفة من الطفولة والنضج ثم الكهولة والشيخوخة، وأن يشارك الإنسان في كل هذه الأطوار، وتزدهر العلوم والفنون من حين لآخر ثم تتعرض مرة أخرى للذبول. وإن كانت هذه الحجج لم تحل دون اعترافه بتفوق الحضارة الحديثة على القديمة.
21
وعلى الرغم من كل المحاذير والتحفظات والانتقادات التي أبداها البعض لفكرة التقدم فإن الاكتشافات والاختراعات العلمية الكبرى التي تمت في القرنين السابع عشر والثامن عشر جعلت الثقة في قدرات العقل البشري ثقة مطلقة لا رجوع فيها؛ فهذا التقدم العلمي الهائل جعل الفلاسفة ينظرون إلى فكرة التقدم كضرورة حتمية في التاريخ، وتخيلوا أن بوسعهم أن يحققوا تقدما لا نهائيا في الحضارة؛ وبالتالي بدءوا التخلي عن فكرة الفساد والتدهور. وتمخض عن هذا التقدم تاريخ تخميني افتراضي - ساد في القرن الثامن عشر - يبحث من خلال العقل عن القوانين الطبيعية للتطور وتقدم الجنس البشري ككل. واعتقد مفكرو ذلك العصر أن التقدم ليس شيئا عرضيا ولكنه ضرورة تاريخية. إنه تقدم لا يعتمد، كما عند أوجست كونت، على سجلات الأحداث الفعلية في التاريخ ولكن على استعمال العقل، ولا يفهم إلا من خلال التفكير الديكارتي، وتحولت فكرة التقدم في القرن التاسع عشر إلى نظرية في التطور الاجتماعي، ونظرية في فلسفة التاريخ.
إن مفهوم التقدم في عصر التنوير، كما نجده عند تورجو وكوندورسيه وفولتير وزعماء الثورة الفرنسية وسان سيمون وكونت وغيرهم، مفهوم لا نجده عند فيكو؛ فالتقدم لديهم تقدم علمي يسير في خط مستقيم حاولوا إثباته بطريقة استنباطية عقلية ورياضية، وهو تقدم تنتهي فيه الحروب ويسود السلام. مثل هذه النظرة المتفائلة لفكرة التقدم لا نجدها عند فيكو، وليس التقدم عنده كما هو عند هيجل في تقدم الوعي بالحرية أو في وعي الفكرة بذاتها، وليس كما عند ماركس تقدما نحو مجتمع اشتراكي تذوب فيه الطبقات، وليس كما عند آدم سميث تقدما نحو نتائج سعيدة تحقق الانسجام للأفراد عن طريق نشاطهم وتنافسهم وتحقيقهم لغاياتهم الخاصة، وليس كذلك من نوع التقدم الذي نجده عند اليوتوبيين المثاليين أو الاشتراكيين المثاليين في القرن التاسع عشر، إن التقدم بكل هذه المعاني السابقة ليس موجودا عند فيلسوفنا. ولكن مما لا شك فيه أن مشكلة التقدم كانت من أكثر المشاكل التي تناولها بالدراسة العميقة واهتم بالظروف التي تسبب التقدم العقلي في التاريخ البشري، كما اهتم أيضا بالظروف التي تنحدر به نحو الفساد. فلم يتغن فيكو بفكرة التقدم بل تناولها بالبحث من خلال التاريخ الحي للأمم، وكان أعمق وأكثر أصالة من فكرة التقدم كما جاءت في عصر التنوير وفي القرن التاسع عشر. ويتمثل هذا في مبدأين أساسيين؛ المبدأ الأول أن مفهوم التقدم عند الفلاسفة السابقين هو تقدم يسير في خط واحد في الزمان. ولمحاولة إثبات ضرورة التقدم قاموا بتصنيف الشعوب بشكل عقلاني، فلم يكن لديهم إدراك للتنوع والاختلاف بين الشعوب والأحداث بل وضعوا كل شيء في خط أحادي لإثبات ضرورة التقدم نحو جنس بشري مستنير. فهذا التنوع والاختلاف لم يظهر في أعمال كوندورسيه وكونت وسبنسر وغيرهم ممن قاموا ببناء نظريات تطورية على أساس فكرة التقدم. بينما نجد الأمر مختلفا عند فيكو الذي ركز على هذا التنوع. فقد بحث في التاريخ الفعلي للشعوب وكانت مادة دراسته هي التاريخ الحي. ولم يتناول البشرية كوحدة واحدة بل تناول شعوبا وحضارات مختلفة كما نجد في اللوحة التاريخية وأحداثها وأماكنها وتواريخها مثل العبرانيين والكلدانيين والمصريين والإغريق والرومان وغيرهم، ولم يحصر الجنس البشري في مبدأ الوحدة كما فعل فلاسفة عصر التنوير، ولم ينظر للتقدم كضرورة تاريخية يفرضها تقدم العقل ولكنه أيضا لم ينظر للتاريخ وكأنه خاضع للمصادفة أو الاتفاق العشوائي مثلما قال بعد ذلك رانكه في القرن التاسع عشر. كما أنه لم يقلل من شأن الأحداث ولم يستنكر التعددية، بل بحث من خلال الدارسة المقارنة للسجلات التاريخية والأحداث عن تعميمات علمية. ولا شك أنه وجد لكل شعب شخصيته وفرديته. ومن الدراسة الدقيقة للعديد من تواريخ الشعوب نجد خطا مشتركا للتغير التاريخي من النشأة إلى التطور والتقدم ثم التدهور والسقوط في نزعة بربرية جديدة. تاريخ فيكو إذن ليس أحاديا ولا يسير في خط واحد؛ لأن تعدد الشعوب هو الأساس الذي قام عليه قانون التطور عنده، هنا يتضح عمق نظرة فيكو في الطبيعة البشرية من رؤيته لتواريخ العديد من الشعوب، فغالبا ما نرى السقوط والانهيار كما نرى التقدم والتطور، والتاريخ الفعلي يثبت لنا أن الحضارة الإنسانية لا تسير في خط مستقيم، بل هناك ثغرات وعثرات تسقط فيها البشرية. وهناك عصور تتدهور فيها الحضارة وتسقط ثم تعود لتبدأ من جديد؛ فالتدهور والانهيار مرحلة من مراحل التطور التاريخي، والعناصر العقلية التي سببت التقدم في البداية هي نفسها التي تسبب التدهور.
22
والمبدأ الثاني الذي يوضح الاختلاف بين مفهوم فيكو عن التقدم عنه عند فلاسفة التنوير هو أن التقدم هو غاية التاريخ عند هؤلاء الفلاسفة بحيث أصبح التقدم العلمي رمزا ونموذجا لتقدم الإنسانية وغاية للتاريخ. إننا لا نجد عند فيلسوفنا غاية للتاريخ. ربما يقال إن العناية الإلهية عنده هي غاية التاريخ، ولكننا نقول إن فكرة العناية الإلهية المتعالية التي توجه البشر في الأمم الأممية يمكن حذفها من فكره دون أن تتأثر مبادئه وأفكاره بهذا الحذف. وفي رأينا أن فكرة العناية الإلهية تنطوي على ازدواجية لا يمكن إنكارها، إن فيكو كمسيحي مؤمن يقول بالعناية الإلهية في التاريخ، ولكن ليس عنده رؤية لغاية التاريخ، فلا يمكن أن نتدخل في معرفة الخطة الإلهية في التاريخ لأن هذا يفوق العقل البشري، وهي فكرة لا يمكن البرهنة عليها ولكن لا بد أن نؤمن بها. صحيح أن العناية الإلهية تهدف دائما إلى خير الجنس البشري، إلا أن فيكو لم يحدد هذا الخير على أنه تقدم مستمر نحو الخير، فهناك عوائق في تقدم الحضارة، وهناك حروب ودمار وانهيار تتعرض له البشرية في مسارها التاريخي ثم تعود وتبدأ من جديد. ومن هنا نستطيع أن نقول إن مفهوم فيكو عن التقدم كان أعمق نظرا وأكثر بصيرة بطبيعة الجنس البشري التي يتخللها الصراع والتعارض. والأهم من هذا أنه جعل هذا الصراع هو القوة الديناميكية المحركة للتغير التاريخي، فهو أكثر فهما للطبيعة البشرية من فلاسفة عصر التنوير.
ويحاول بعض الباحثين أن يقابل فكرة العناية الإلهية عند فيكو بفكرة دهاء العقل عند هيجل واليد الخفية عند آدم سميث، ولكنها في الواقع تختلف عنهما. حقا أن العناية الإلهية تحفظ المجتمعات البشرية وتعمل على تطورها، ووسائلها في هذا هي فاعلية العواطف البشرية ورغبات ورذائل الجنس البشري التي تحولها إلى فضائل اجتماعية، وهذه هي المادة نفسها التي استخدمها هيجل عن طريق الفكرة لتصل إلى غاياتها أو نهايتها. فدهاء العقل عند هيجل هو الذي يوجه أفعال الأبطال دون أن يدروا إلى الهدف النهائي عندما تصل الفكرة إلى الوعي بذاتها. واليد الخفية عند آدم سميث تحقق الانسجام والنتائج السعيدة عن طريق نشاط الأفراد الذي يكون الدافع إليه هو العقل، غير أن رؤية فيكو للتاريخ مختلفة؛ فالبشر يحققون إراداتهم لا بالمناهج العقلية ولا بدافع عقلي، ولكن بدافع من المنفعة والحاجة والطموح والرغبة في البقاء والأمان، والحاجة إلى الفهم والتعبير والاتصال والسيادة والطاعة والحب والكراهية والأنشطة الخلاقة التي أوجدت التوتر الاجتماعي الذي شكل حياتهم وأفكارهم وجعلهم يبدعون أشكالا جديدة للحياة الاجتماعية.
التقدم عند فيكو إذن مرحلة متتابعة في حياة كل حضارة مستقلة، إنه تقدم يصل أحيانا إلى أعلى قمم العظمة والقوة، وفي عصور أخرى ينحدر إلى فقدان التضامن البشري واغتراب الأفراد والجماعات وتفكك النسيج الاجتماعي والضعف والتحلل والكارثة. ومراحل هذا النظام تحددها العناية الإلهية لكل مجتمع أممي، لكن ليس هناك غاية نهائية وليس هناك رؤية لمسيرة الجنس البشري كله إلى كمال نهائي.
23
ومع ذلك كله نستطيع أن نقول إن نظرية التعاقب الدوري لمراحل التطور عند فيكو لا تحول دون التقدم، على أن نفهم التقدم - كما ذكرنا من قبل - فهما مختلفا عن فلاسفة التنوير؛ ذلك لأن الدورات التاريخية لا تعود بشكل دائري بل تعود في شكل حلزوني متقدم بحيث يمكن القول بأن إطلاق اسم النظرية الدورية على نظرية فيكو هي تسمية غير دقيقة؛ لأن مفهوم النظرية الدورية يعني أن يعيد التاريخ نفسه وأن يبدأ من نفس البداية التي انطلق منها، ولكن الأمر مختلف عند فيلسوفنا؛ فالتاريخ لا يسير في خط دائري وإنما في شكل حلزوني صاعد بحيث تأتي كل دورة تاريخية بالجديد. ولا حاجة بنا إلى ذكر ما سبق أن فصلناه عن عودة مسار الأمم، ولكن يكفي الإشارة إلى هذا النص الذي ذكره فيكو عن عودة النظام الإقطاعي في العصور الوسطى الأوروبية. «كان من الطبيعي أن يعود المجتمع البشري إلى النظام الإقطاعي لما وجد فيه من منافع ومكاسب تتطلبها الحياة المدنية. عاد إقطاع العالم الأول - متخذا بداية جديدة - من الإقطاعات الريفية التي انتشرت في كل الشعوب القديمة.»
24
ألا يكفي الاعتراف بالتقدم أن تكون المرحلة الإنسانية هي آخر مراحل التطور التاريخي عند فيكو وهي مرحلة مرتبطة بتطور الوعي ونمو العقل؟ صحيح أن هذه المرحلة - بعد أن تبلغ قمة النضج والتطور والازدهار - تضعف وتضمحل وتسقط في البربرية مرة أخرى، ولكنها بربرية تأمل وفكر (حيث ما زالت السيطرة للفكر) تختلف كل الاختلاف عن البربرية الحسية الأولى، ولكن الفكر في هذه المرحلة فكر أجوف لم يعد قادرا على الإبداع والابتكار. والسقوط لا يحمل في طياته إلا العزم على النهوض مرة أخرى من جديد من نقطة أكثر تقدما؛ فالتاريخ لا يعيد نفسه بل يأتي دائما بالجديد، والبربرية المسيحية - على سبيل المثال - تختلف عن البربرية الوثنية الأولى.
هذه النظرة للتقدم إن دلت على شيء فإنما تدل على فهم عميق للطبيعة البشرية المتغيرة على الدوام، حقا أن كل الأمم تهدف إلى الوصول إلى حالة من الرفاهية وتحقيق سبل الراحة والسعادة لأفرادها، ولكن هل يتجه التاريخ بصفة دائمة في الاتجاه الصحيح لتحقيق هذا الهدف؟ إن التاريخ يحقق تقدما إذا سار في الاتجاه الصحيح الذي حدده له البشر. أما إذا ضل الطريق وانحرف عن المسار فلا يكون هناك ثمة تقدم، بل تراجع وارتداد؛ فالتقدم إذن لا يمكن أن يستدل عليه استدلالا عقليا لأنه يخضع لعوامل كثيرة. إننا لا ننكر ما حققه التقدم العلمي والعقلي الهائل من إنجازات عظيمة أفادت الجنس البشري وحققت له الرفاهية ويسرت له سبل الراحة في جوانب كثيرة ومختلفة من حياته، ولكننا من جانب آخر لا نستطيع أن ننكر صدق حدس فيكو في الطبيعة البشرية المتغيرة والمنطوية على الصراع، فلم تنته الحروب من العالم ولم يسد السلام الدائم كما تصور فلاسفة عصر التنوير، والواقع التاريخي يشهد بانفجار الحروب في مناطق متعددة من العالم، وموت آلاف بل ملايين الضحايا الأبرياء من ويلات الحروب. ومما لا شك فيه أنه لو قدر لفلاسفة عصر التنوير أن يشهدوا ويلات الحربين العالميتين لكان لهم رأي آخر ومفهوم آخر عن التقدم اللامحدود للبشرية.
ولهذا نستطيع أن نختتم حديثنا عن التقدم بالقول بأن مفهوم فيكو عنه كان أكثر عمقا واقترابا من الواقع التاريخي، ولو بعث فيكو حيا في أيامنا هذه التي يسودها القلق على الجنس البشري من أخطار حرب نووية تهدده كل لحظة فلربما وصف هذه المرحلة التاريخية التي نعيشها اليوم بأنها مرحلة سقطت فيها البشرية العاقلة المتقدمة في بربرية عقلية جديدة. وربما نستطيع أن نقول أخيرا إن فيكو قد نظر إلى مفهوم التقدم في التاريخ نظرة جدلية قبل اكتشاف قوانين التفكير الجدلي بوقت طويل؛ فقد رأى أن التقدم يمكن أن ينطوي على بذرة التخلف، كما أن الازدهار ينطوي على بذرة الفناء. ولعل هذا أن يكون دليلا على حدس غامض بالروح الجدلية، ولكنه حدس صادق ينم عن بصيرة نافذة بالواقع المتغير والمتطور على الدوام.
الفصل الثاني
أثر فيكو في الفكر الفلسفي الغربي
عرضنا في البابين السابقين منهج فيكو وفلسفته معتمدين على النصوص الأصلية بصورة أساسية، وبخاصة كما جاءت في كتابيه «العلم الجديد» و«السيرة الذاتية». وقد حاولنا أن نقدم الجوانب الأساسية من فلسفته ابتداء من عناصر العلم الجديد ومبادئه ومنهجه إلى ما استخلصه من قانون لتطور الأمم ومحاولة تطبيقه لهذا القانون على الأشكال المختلفة للتنظيمات الاجتماعية في تطورها عبر العصور التاريخية. ثم تناولنا في الفصل السابق نظرية المعرفة التاريخية بالتقييم وإلقاء الضوء على جوانبها المختلفة، وعلينا الآن أن نعرض أثر هذه المعرفة التاريخية في الفكر الفلسفي الغربي وبخاصة لدى فلاسفة التاريخ اللاحقين لفيكو.
ويلاحظ مدى كثافة المادة التي قدمها فيكو لتدعيم آرائه ومدى غناها وامتداد جذورها في علوم وفنون وتنظيمات وأشكال مختلفة تؤلف ما نسميه اليوم باسم الحضارة البشرية. لقد كان العلم الجديد كما تركه فيكو أشبه بغابة كثيفة تنوعت أشجارها وتشعبت مسالكها وتعقدت دروبها بحيث استعصى على معاصريه أن يهتدوا إلى سبل السير فيها؛ ولهذا كان من الطبيعي أن تمر سنوات طويلة وتتعاقب أجيال مختلفة قبل أن يفطن الباحثون إلى أهمية فيكو وعظمة اكتشافه الذي توصل إليه بعد أن ظل محجوبا خلف تلك المادة الغزيرة التي لم يكن من السهل تبين خيوطها ومعالمها الأساسية. ولما كان اكتشاف فيكو على حقيقته قد استغرق زمنا طويلا واشترك فيه عدد لا يحصى من المؤرخين والفلاسفة وعلماء اللغة والاجتماع والأدب ... إلخ، مما يصعب تتبعه بصورة دقيقة، فسوف نكتفي في هذا الفصل ببيان مدى تأثيره على عدد من أصحاب الاتجاهات المتميزة في فلسفة التاريخ والاجتماع مع علمنا بأن البحث الوافي لتأثير فيكو على كل واحد من هؤلاء يحتاج إلى دراسة مستقلة، ومع إدراكنا في الوقت نفسه بأن محاولتنا لبيان هذا التأثير هو نوع من الاجتهاد؛ إذ لم يثبت من كل ما اطلعنا عليه أنه كان تأثيرا مباشرا ومؤكدا اللهم إلا في الحالات النادرة التي اعترف فيها أصحابها بذلك اعترافا صريحا. وسوف نبدأ هذا العرض بالحديث عن تأثيره في وطنه الأصلي ثم نتتبع هذا التأثير على أبرز فلاسفة التاريخ الذين يرجح معظم الباحثين أنهم قد اطلعوا على بعض كتاباته أو أعجبوا بها أو قدموها لقرائهم أو أخذوا منها قليلا أو كثيرا. وسوف نكتفي هنا بالكلام عن تأثير فيكو على كل من هردر وميشليه وكونت وماركس. (1) فيكو في الفكر الإيطالي
لا نستطيع القول بأن تأثير فيكو في عصره كان تأثيرا عميقا؛ فقد عاش مجهولا خارج إيطاليا حتى القرن التاسع عشر، كما لقي التجاهل في إيطاليا نفسها بحيث لم تتعد شهرته حدود نابولي، بل لقد جحدته بلدته ومسقط رأسه فتجاهله كل من أهدى لهم العلم الجديد، وكأنه كان يدفع الثمن الذي لا بد أن يدفعه كل رائد يسبق عصره.
ولا عجب أن يكون مثل هذا المفكر الذي كانت لديه ثروة زاخرة من الأفكار - عجز في نفس الوقت عن عرضها عرضا واضحا منسقا - لا عجب أن يكون رائدا لكثير من الآراء الجريئة التي قدمها بعض المفكرين المتأخرين الذين فاقوه شهرة. ففي القرن الذي تلا وفاته عبر مفكرون آخرون عن أفكار مشابهة لأفكاره تعبيرا أفضل دون أن يذكره أحد؛ إذ جنى عليه غموض أفكاره وصعوبة أسلوبه وغزارة التفاصيل المرهقة التي حشد بها فلسفته؛ ولهذا لم يفطن معظم شراحه إلى أصالة آرائه وتفردها حتى في عصره. وفي هذا المعنى كتب بول هازار يقول: «لو أن إيطاليا قد استمعت إليه، ولو أنها - كما حدث في عصر النهضة - كانت مرشدا لأوروبا، أفما كان مصيرنا العقلي يمكن أن يكون مباينا لحالته الراهنة؟ أجل لو كان الأمر كذلك لما كان أجدادنا أهل القرن الثامن عشر قد صدقوا أن كل ما كان واضحا كان حقا، ولما كانوا صدقوا أن العقل الذي أتى متأخرا، لم يصنع أكثر من أنه جفف نفسنا؛ فقد يكون من الممكن أنهم قد أسفوا على فراديسنا المفقودة، ولم يصدقوا أنه كان ينبغي أن تنار الأرض فوق سطحها، بل لآمنوا على الضد بأن إيضاح الأشياء آت من أعماق الزمن، ولما صدقوا بأننا كنا نتجه نحو مستقبل أفضل، بل آمنوا على الضد بأن الدول كانت خاضعة لتغيرات متعاقبة تخرجها من البربرية إلى المدنية وتعيدها من المدنية إلى البربرية. وبالإجمال لو كان الأمر كذلك لكانت جميع أفكارهم قد انقلبت كإدراكهم للعالم.» ويستطرد بول هازار قائلا: «ينبغي الإعجاب بهذا البطل من أبطال الفكر، هذا العبقري المبتدع، هذا الرجل الذي كان من الممكن أن يمنح نهر العصر مجرى جديدا. عبثا حاول فيكو أن يتجه إلى العلماء وإلى مواطنيه النابوليين، ولكن أوروبا بقيت صماء وأولاها إيطاليا لم تسمع هذه الدعوة ولم تقبل إلا فيما بعد فقط. أما في آونتها فقد ظلت بلا صدى؛ لأن هذا المجدد لم يكن له تلاميذ، ولأن فكره كان بلا عمل، بل إن عشيرته نفسها لم تكن لتستجيب له.»
1
بدأ الاهتمام بفكر فيكو في إيطاليا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، فكان كيوكو
Cuoco
أول المبشرين بفكره في الشمال الإيطالي بعد إخفاق الثورة في نابولي. وقد كانت نتيجة ذلك أن بدأت تظهر سلسلة من طبعات «العلم الجديد». ويبدو أن تأثير هذا الكتاب قد تغلغل إلى وعي المثقفين، فأخذ رواد حركة البعث القومي الإيطالي يهتمون بأفكار فيكو اهتماما خاصا، وتحمس له الديمقراطيون تحمسا شديدا واعتبروه مؤرخ الشعب. وبعد اكتشاف أمته أنه واحد من أعظم المفكرين، أساء بعض المفسرين فهم مذهبه، واختلفت الآراء حول بعض أفكاره بين مؤيد ومعارض وخاصة فيما يتعلق بالأصول الوحشية للأمم الأممية، كما رأى البعض أن تطور المجتمع كما تصوره فيكو بفعل «الدياليكتيك»
2
أو الجدل الداخلي قد عرض البناء الكامل للفكر الكاثوليكي للخطر. أما البعض الآخر فقد رأى أن نظريته في أصل العقيدة نظرية تنتسب للوكريتوس ولا تمت بصلة للمسيحية ، وأن تحليله لشخصية هوميروس والشخصيات البطولية الأخرى يمكن أن يكون مقدمة خطيرة لتحليل شخصية موسى والأنبياء وآباء الكنسية تحليلا يتعارض مع مفهومها الديني.
3
وقد عانت أفكار فيكو من المبالغة التي بلغت أحيانا حد التعسف في تفسيرها، فلم يستطع الفكر الإيطالي في زمانه أن يتحرر من النزعة العقلية السائدة ليفهم أفكاره ككل حي متكامل لا تستعبده الصيغ المجردة الجوفاء التي استعبدت العقليين. وقد بدأ الاهتمام الحقيقي بفلسفة فيكو على يد كروتشه
Croce
وجنتيله
Gentile
ونيكوليني
Nicolini . وكان كروتشه صاحب الفضل الأكبر في إحياء فكره في العقد الأول من القرن العشرين، كما كان له الفضل في ذيوع شهرته خارج إيطاليا. نشر كروتشه كتابه عن فلسفة فيكو سنة 1911م، وهي السنة التي نشر فيها سيرته الذاتية، وقام قبل ذلك بعمل ببلوجرافيا عنه استمرت من عام 1904 إلى 1910م، وقد زعم كروتشه أن فيكو هو مكتشف «علم الإستاطيقا» قبل باومجارتن. وإذا كانت كلمة الإستاطيقا نفسها لم ترد على لسانه فقد نطقت بها آراؤه عن الشعر، وفكرته الرئيسية عن الطبيعة البشرية التي هي بالفطرة طبيعة شاعرية، وإيمانه العميق بأن أول شكل من أشكال التفكير كما ظهر عند الإنسان البدائي كان هو التفكير بالصور الخيالية الشعرية. وقدم كروتشه العلم الجديد كفلسفة للروح، فبعد أن هبط أفلاطون بالشعر وطرد الشعراء من جمهوريته، رفعه فيكو وجعله أساس الروح، بل جعله يمثل مرحلة كاملة من مراحل تطور البشرية.
لقد تحدثنا في فصل سابق عن سوء الحظ الذي لازم فيكو في حياته، ولكن سوء حظه لازمه مرة أخرى بعد مماته عندما اعتبره بعض المفكرين أحد المبشرين بالفاشية، وهذه جناية السياسة وزعمائها على المفكرين حين تتخذ من أفكارهم ستارا تخفي وراءه نزعات الطغيان وفساد الأنظمة وتجرد من سوء تفسير آرائهم سلاحا للاستبداد وتبريرا للظلم، وأغلب الظن أن هؤلاء لم يطلعوا على الكتاب الأصلي واكتفوا بالاطلاع على مصادر ثانوية مما نتج عنه سوء فهم فلسفته؛ لذلك كان لا بد من تحقيق أعمال فيكو تحقيقا علميا من واقع الأصول. وهذا ما فعله «نيكوليني» في إيطاليا ليمهد لدراسة فلسفته دراسة نزيهة بعيدة عن أي غرض في توجيهها طبقا للأهواء الشخصية، وهذا ما فعله أيضا كل من الأستاذين فيش
Fisch
وبرجين
Bergin
في ترجمتهما للعلم الجديد والسيرة الذاتية التي بذلا فيها جهدا واضحا وأضافا لكل منهما مقدمة مستفيضة.
وقبل أن نتعرض لتأثير أفكار فيكو في الفكر الأوروبي خارج إيطاليا نود أن نقول إن فكره وفلسفته يمثلان منجما كبيرا يمكن أن يجد فيه الباحثون ألوانا مختلفة من المعرفة، كما يمكنهم أن يجدوا لديه أسس أفكار متباينة واتجاهات متنوعة. لقد قدم فيكو أفكارا رائدة طورت فيما بعد وأصبحت مذاهب كاملة. وأثار مذهبه قضايا وثيقة الصلة بمشاكل ما زالت موضع نقاش بين المفكرين ولم تحسم حتى يومنا هذا، ومن ذلك مشكلة الجدل القائم حول طبيعة الدراسات الإنسانية بصفة عامة، وطبيعة الدراسات التاريخية بصفة خاصة، والكثير من القضايا المتعلقة بالمناهج التاريخية والاجتماعية. فهناك مثلا من يؤكد تأثيره على المثالية الألمانية، والوضعية الفرنسية، ورواد الأنثروبولوجيا الاجتماعية، والتراث الماركسي، بجانب أثره على الأبحاث الفيلولوجية، وعلى علماء القانون وفقهائه. واهتمامه بالبنية الحضارية في دراسة التاريخ يعد جانبا اهتمت به الفلسفة البنيوية الحديثة، كما كانت له آراء جديدة في القانون الطبيعي والتشريع وعلم اللغة المقارن والأدب والأساطير والإثنولوجيا.
وعلى الرغم من أن فيكو لم يكتشف خارج إيطاليا إلا بعد ما يقرب من قرن من وفاته، وعلى الرغم من إنكار الكثير من الفلاسفة معرفتهم بفلسفته، فقد كشف كل من
Fisch
و
Bergin
النقاب عن معرفة العديد من المفكرين بكتاب «العلم الجديد» واقتناء بعضهم له أثناء زيارتهم لإيطاليا - إذ كانت هذه الأخيرة قبلة المثقفين في ذلك الزمان - أو عن طريق الإهداء. وسنعرض في هذا الفصل أثر فيكو على بعض المفكرين الغربيين، ومن الطبيعي أن نبدأ بالمفكرين الألمان الذين كانوا أول من اكتشفه، كما كانت لغتهم هي أول لغة ينقل إليها كتابه الأساسي عن العلم الجديد. (2) فيكو في الفكر الألماني
كان هامان
4 (1730-1788م) أول مفكر ألماني اكتشف فيكو أثناء بحثه في الاقتصاد السياسي عام 1777م؛ فقد وجد في أحد الكتب الإيطالية إشارة إلى العلم الجديد وظن أنه سيجد في هذا الكتاب ما يبحث عنه في موضوع الاقتصاد، فسعى للحصول على نسخة من فلورنسا، وأثناء تناوله للكتاب وجد أن فقه اللغة هو الطابع الغالب عليه، وقد عبر عن هذا في أحد رسائله لتلميذه هردر (1744-1803م) مؤكدا أنه لم يجد ضالته المنشودة في الاقتصاد بل وجد فقه لغة.
وقد كان جوته - شاعر ألمانيا الأكبر - من الشخصيات الألمانية التي تعرفت على الكتاب في وقت مبكر أيضا حيث أهدى له أحد الأصدقاء الإيطاليين «العلم الجديد» أثناء زيارته لنابولي في مارس 1787م ولكنه لم يبذل جهدا حقيقيا في قراءته، وقد كتب عن فيكو سطورا لا تدل على أنه عرفه على حقيقته أو بذل جهدا في الاطلاع على الكتاب؛ إذ وصفه بأنه مؤلف عميق لا يسبر غوره، وأن رجال القانون في إيطاليا يرجعون إليه بحماس شديد ويعتبرونه أباهم الأكبر. ويبدو أن جوته قد ألقى نظرة خاطفة على الكتاب الذي قدمه له أصدقاؤه الإيطاليون كأنه كنز ثمين وسجل رأيه - في يومياته بتاريخ 5 مارس 1787م من رحلته في إيطاليا - في قوله: «لقد رأيت أنه يحتوي تكهنات عن الخير والعدل الذي سوف يتحقق أو ينبغي أن يتحقق، وهي تكهنات تقوم على تأمل جاد للحياة والتراث، وإنه لمن حسن حظ شعبه أن له أبا كبيرا مثله.» وعاد جوته بالكتاب إلى ألمانيا وأعاره عام 1792م لياكوبي الذي حرص على الحصول على مؤلفات فيكو الأخرى، ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنه اطلع على كتاب فيكو عن «الحكمة الإيطالية القديمة» فوجد فيه فقرة اعتبرها إرهاصا لفلسفة كانط في المعرفة وسبقا في الاهتمام بالجانب القبلي للمعرفة. وقد ترجم ف. أ. فيبر
W. E. Weber
العلم الجديد إلى اللغة الألمانية عام 1822م وطبع مرة أخرى في ميونخ عام 1924م.
هذا بالإضافة إلى أن هردر رحل إلى إيطاليا عام 1789م ومكث في نابولي ثمانية أيام حصل خلالها مادة فلسفته التاريخية - فجمع من الوثائق ما أفاده في إثبات الوقائع التاريخية - أكثر من المادة التي حصلها من زيارته لروما التي استغرقت ما يقرب من ثلاثة أو أربعة شهور. ولنا عند هردر وقفة فمن المرجح أنه قد عرف فيكو قبل الشروع في كتابة مؤلفه «أفكار عن فلسفة تاريخ الجنس البشري» الذي بدأ في كتابته عام 1784م وصدر 1791م، ولكنه لم يذكر فيكو صراحة إلا في كتابه «رسائل عن تنمية النهوض بالنزعة الإنسانية» الذي كتبه فيما بين عامي 1793 و1797م وقد كتب هردر فلسفته التاريخية في كتابين صدر الأول عام 1774م تحت عنوان «فلسفة أخرى للتاريخ» وقدم فيه صورة عقلية لفهم فلسفة التاريخ متجنبا الوثائق التاريخية، وصدر الكتاب الآخر عام 1791م تحت عنوان «أفكار عن فلسفة تاريخ الجنس البشري» حاول فيه أن يقدم فلسفة التاريخ على أساس علمي معتمدا على الوثائق والوقائع التاريخية.
لسنا بصدد عرض أو تقييم لأفكار هردر التاريخية، ولكننا سنعرض لتلك الأفكار التي يمكن أن يكون قد تأثر فيها بأفكار فيكو. مما لا شك فيه أننا لمحنا عند فيكو الرؤية الأنثروبولوجية في تناوله للتاريخ من خلال البحث في أصل الجنس البشري وتطور تنظيماته وعاداته وتقاليده ومعتقداته وتشريعاته ... إلخ، وقد استقى هذه الأصول مما خلفته الشعوب من تراث شعبي وأساطير، وهي المادة التاريخية التي توفرت في عصره، ولكن الدراسات الأنثروبولوجية تطورت بعد ذلك وتشعبت فكانت مادة خصبة قدم هردر من خلالها أنواعا جديدة من البحوث الأنثروبولوجية بعد أن استفاد من الدراسات الغزيرة والمتنوعة التي توفرت في عصره عن أثر البيئة الجغرافية على السلوك والعادات البشرية وأثرها أيضا على مراحل النمو والتطور الإنساني وبالتالي نمو الحضارة وتطورها. وتناول كل من فيكو وهردر ما يسمى الآن بمشكلة الحضارة الإنسانية ابتداء من الأشكال التعبيرية الأولى للمجتمعات البشرية القديمة كاللغة والأسطورة والفنون، وهي مشكلة الأصول التاريخية أو بمعنى آخر مشكلة أصول تكوين المجتمع المدني، فلا بد من العودة إلى هذه الأصول لمحاولة فهم العقول البدائية للبشر الأولين، ولا بد من التعرف على التنظيمات المختلفة التي أسسها الإنسان الأول والتي انتقل بفضلها من حالة البربرية والتوحش إلى مرحلة الإنسانية التي هي هدف التطور التاريخي.
وقد رأينا كيف تناول فيكو الأصول التاريخية وأرجع أشكال التعبير المختلفة إلى أصولها الحسية عند الأمم القديمة، وكيف كشف عن اشتقاقات الكلمات من أصول حسية في حياة البشر الأولين.
5
ونسأل الآن كيف تناول هردر هذه الأصول التاريخية؟ لقد اهتم اهتماما خاصا باللغة وهي أول شكل من أشكال التعبير البشري وقدم أبحاثا في أصل اللغة الألمانية - مثلما قدم فيكو أبحاثا في اللغة اللاتينية ووجه دعوة لكل الشعوب لعمل أبحاث في أصل لغاتها للكشف عن أصولها التاريخية - وأسفرت أبحاث هردر عن تأكيد نتيجة سبق لفيكو أن أكدها وهي أن الشعر هو اللغة الأم التي سبقت النثر، لقد عبر الإنسان الأول عن احتياجاته اليومية بشكل شاعري تلقائي فنشأت الأغاني الشعبية للشعوب القديمة وهي - كما يرى هردر - أول شكل من أشكال التعبير اللغوي. ويرى أن هنالك أيضا شكلا آخر من أشكال التعبير الأولى وهو الأسطورة؛ فقد كانت الشعوب القديمة تتحدث بالشعر وتفكر بالأساطير، ولم تكن الأساطير حكايات خرافية يقول بها الإنسان الأول، بل كانت الأسطورة رمزا يعكس الحياة العقلية والاجتماعية لهؤلاء البشر، فكل الشعوب البدائية في محاولتها لفهم العالم رسمت صورة للكون على هيئة أساطير اصطبغت بلون من ألوان اللاهوت. يترتب على هذا أن العصور التاريخية الأولى لا تفهم بالتحليل العقلي بل بالتعاطف الوجداني، ولا تفهم بالتحليل المنطقي بل بالحدس، ولا بد للمؤرخ أن يكون فنانا يتمتع بالحس التاريخي والخيال الخصب والبصيرة النفاذة ليلتمس طريقه إلى الحياة الداخلية لهذه الشعوب القديمة التي لم تصل بعد إلى مرحلة النمو العقلي؛ لذا حذر هردر - كما سبق وحذر فيكو - المؤرخين من الحكم على العصور التاريخية المبكرة على أساس ثقافة عصرهم، وحثهم على ما سماه بالتعاطف مع هذه العصور ومشاركتهم أفكارهم البدائية مشاركة وجدانية: «ادخل في صميم العصر وفي جغرافيته وتاريخه كله واشعر بأنك تعيش فيه حقا.»
6
وعلى الرغم من انتماء كل من فيكو وهردر إلى عصر التنوير - هذا العصر الذي سادت فيه النزعة العقلية التي بلغت حد إخضاع النصوص الدينية للنقد العقلي - إلا أنهما رفضا النظر إلى الإنسان من جانب واحد أو من حيث هو ملكة واحدة وهي العقل. ففي مقابل هذا العقل توجد ملكة أخرى لا تقل عنه أهمية وهي الخيال، بل والأبعد من ذلك تأكيدهما أن نشأة التنظيمات البشرية كانت بملكة الخيال وحده، وقبل أن تتطور الملكة العقلية. لقد عبر الإنسان الأول عن نفسه من خلال انفعالاته وعواطفه لا عن طريق التفكير العقلي المنطقي: «بما أن العقل المجرد قد أدى وحده إلى مغامرات فاشلة كثيرة، أو لا يحسن أن ندعو إلى نجدته الخيال والشعور والدافع إلى العمل حتى نشرك الإنسان كله بعد أن قصرت حركة الاستنارة موارده على ملكة واحدة؟ إن الإبداع الشعري والفني لا يأتي وحده من أركان النفس المظلمة.»
7
هناك جانب آخر يرجح أن يكون هردر قد تأثر فيه بأفكار فيكو، وهو أن كليهما يقول بالنظرية الدورية في التاريخ. يرى فيكو أن التاريخ يتطور من خلال مراحل ثلاث: المرحلة الإلهية، المرحلة البطولية ثم المرحلة البشرية، كما شرحنا ذلك بالتفصيل في قانون تطور الأمم. ويرى هردر أن التطور التاريخي يمر بمراحل أربع هي نفس المراحل التي يمر بها تطور الفرد وهي: الطفولة، والشباب، والرجولة وأخيرا الشيخوخة، وهذه المراحل الأربع تتتابع بشكل دوري متصل، فكل دورة منها تفضي إلى الأخرى، أي أن التطور لا يسير في خط مستقيم، بل في خط دائري، وهناك تشابه في بعض المراحل التاريخية المتماثلة إلا أنه ليس تشابها مطلقا لأن كل مرحلة لها طابعها المتفرد. ويسير التطور التاريخي دائما نحو التقدم رغم ما تمر به الدورات التاريخية من فترات ضعف وانحلال وسقوط، ولكنها تعود لتبدأ من جديد بصورة أكثر تقدما؛ فالتاريخ لا يعيد نفسه. نلحظ هنا الفارق بين نظرة كل من فيكو وهردر للدورة التاريخية؛ فالدورة عند هردر دورة حيوية على غرار الدورة العضوية، وهو يشبه التطور التاريخي بصورة من الحياة النباتية مثل حياة الشجرة التي تنبت ثم تشب ثم تترعرع ثم تذبل، والدورة لا تنتهي بالانحلال وإنما تبدأ من جديد، فعادة تتساقط البذور من الشجرة عند ضعفها وتبدأ دورة الحياة النباتية من جديد. وهكذا تتوالى الدورات التاريخية عند هردر، بينما لا نرى هذه النظرة الحيوية عند فيكو بما تتسم به هذه النظرة من ضعف. فليس صحيحا لأن الدورة التاريخية تشبه الدورة العضوية النباتية لاختلاف طبيعة كل منهما من ناحية، ومن ناحية أخرى لأن هذا التشبيه يناقض ما قال به هردر عن تقدم التاريخ، فمن الطبيعي عندما تتساقط بذور الشجرة عند ضعفها وتبدأ دورة الحياة النباتية من جديد، من الطبيعي أن تعود هذه الدورة كما كانت تماما وليس فيها جديد لأنها تبدأ من نفس النقطة الأولى وتنتهي إلى نفس النهاية، فالدورة النباتية تعود كما هي ولا تأتي بجديد، وهذا يناقض تماما الدورة التاريخية التي لا تبدأ من نفس البداية ولكن من نقطة أكثر تقدما، فهناك تجدد بصفة دائمة في مجال التاريخ.
ويطبق هردر قانون التطور على تاريخ الحضارات، فيرى أن الشعوب الشرقية القديمة تمثل طفولة الجنس البشري فهم رحل لا يعرفون الاستقرار ولا القانون، ويحترفون الرعي وتسود بينهم السلطة الأبوية والاستبدادية، وتمثل الحضارة المصرية القديمة مرحلة الشباب وقد تميزت بالاستقرار والخضوع للقوانين واحتراف السكان للزراعة، وعاش الفينيقيون في نفس المستوى الحضاري من حيث الانتظام في العمل في البحار، وتواصل البشرية تقدمها وتأتي المرحلة الثالثة من التطور وهي مرحلة الرجولة والنضج الحضاري ويمثلها العصر اليوناني الذي يرتقي بالفكر والحضارة الإنسانية معبرا عنها في فنون تمثلت في ثلاث كلمات: الحياة والإيحاء والحركة. فالفن اليوناني يتطور مع الحياة ويتميز بالحركة لأنه فن يعبر عن حياة كلها أمل وحرية، ثم تأتي المرحلة الرابعة وهي الشيخوخة وتمثلها الحضارة الرومانية حيث استبد الحكام وحققوا انتصارات زائفة واستعبدوا الشعوب المهزومة وانغمسوا في مظاهر الترف إلى أن انهارت وسقطت الإمبراطورية الرومانية، بهذا انتهت دورة من التطور وقام على أنقاضها عالم جديد. وبدأت دورة حياة تبدأ المرحلة الأولى منها من الغزوات البربرية الجرمانية للإمبراطورية الرومانية، ولم تتقدم المعرفة الإنسانية في هذه المرحلة ولكن هردر يعلي من شأنها ويرى أن بفضلها سادت بعض الفضائل مثل الشجاعة والقوة ويقظة الضمير. وتمثل القرون الوسطى الأوروبية المرحلة الثانية وفيها ساد الدين المسيحي وتحول المجتمع إلى مجتمع إقطاعي زراعي، وكانت البطولة والحروب هي الصفات المميزة لهذه المرحلة ويعدها مرحلة إنسانية حية تتميز بالقوة والحركة وتمهد لمرحلة ثالثة هي فترة الإصلاح الديني، وهي الفترة التي ازدهرت فيها الحضارة والعلوم والفنون والآداب - على حد تعبير هردر - ويمثل القرن الثامن عشر المرحلة الرابعة من مراحل التطور وهي الشيخوخة، وفي هذه المرحلة الأخيرة سادت الروح المادية والروح الاستعمارية وعدم احترام القيم الإنسانية؛ فقد تحولت بعض الدول الأوروبية - مثل فرنسا - إلى دول استعمارية، وتحول الرق من استعباد للأفراد إلى استعباد للشعوب
8
وهذا موقف مناقض لعصر التنوير الذي ينتسب إليه هردر، فبينما يرى فلاسفة التنوير أن القرن الثامن عشر هو عصر ازدهار وتقدم لا محدود، يرى هردر أنه عصر أفول وتدهور للحضارة، ولكن ليست هذه هي آخر مراحل التطور فالشيخوخة تبشر دائما بالأمل في ميلاد جديد لأن الدورات التاريخية دائمة التجدد.
وهناك جانب أخير يرجح أن يكون هردر قد تأثر فيه بأفكار فيكو؛ فقد اتفق كلاهما في القول بالعناية الإلهية، ووصف فيكو علمه الجديد بأنه «لاهوت عقلي مدني في العناية الإلهية» كما شرحنا ذلك من قبل في الفصول السابقة وبينا أن العناية الإلهية تتدخل تدخلا غير مباشر في مسيرة الأمم الأممية. ومع أن أقوال هردر عن العناية الإلهية تفتقر بوجه عام إلى الاتساق وتختلف من كتاب إلى آخر، فيمكننا أن نقول بوجه عام إنه يرى أن الله موجود في الطبيعة والتاريخ، وأن الله - الذي يريد دائما خير الجنس البشري - نظم التاريخ تنظيما دقيقا، وأن التاريخ البشري وكذلك التاريخ الطبيعي مظهران على وجود الله «إن الله الذي أبحث عنه في التاريخ لا بد أن يكون هو الله نفسه الموجود في الطبيعة؛ لأن الإنسان ليس إلا جزءا صغيرا من الكل، وتاريخه كتاريخ الدودة نسج من النسيج الذي يعيش فيه.»
9
لقد وضع الإنسان في مقابل الطبيعة، فإذا كان نيوتن استطاع أن يكتشف قوانين العالم الطبيعي فإن العالم الإنساني يحتاج إلى من يكتشفه أيضا، ويبدو هنا أن هردر أسند لنفسه نفس المهمة التي أعلن فيكو أنه سيقوم بها وهي اكتشاف عالم التاريخ، وإذا كان بيكون قد وجه الاهتمام للطبيعة الكونية فإنه أخذ على عاتقه اكتشاف الطبيعة البشرية، وإذا تأملنا كلام هردر نجده يقوم بنفس المهمة وإن استبدل باسم بيكون اسم نيوتن، وبذلك ينقل فكرة التطور الخاضع للقوانين الطبيعية إلى مجال التاريخ الذي يتصوره في صورة «تاريخ طبيعي للقوى والأفعال والدوافع البشرية حسب المكان أو الزمان.»
10
وحد هردر بين العناية الإلهية والتقدم في التاريخ؛ فهي عناية مباطنة للتاريخ ولكنها لا تسيره لأنه يخضع لقوانين حتمية مثله في ذلك مثل العالم الطبيعي، ويعمق هردر فكرة التقدم المألوفة في عصر التنوير تعميقا جدليا ويبين تناقض التطور الاجتماعي مؤكدا قيمة كل عصر تاريخي في ذاته وقيمة إنجازاته الحضارية المتفردة، وتحقيق الإنسانية هو النتيجة التي تتمخض عن هذا التطور الذي يخضع لقوانين ضرورية؛ إذ تنمو هذه الإنسانية عبر التاريخ لتحقيق الغاية النهائية منه وهي إنسانية الجنس البشري، وتتمثل في صورة واقعية تاريخية في زيادة سيطرة الإنسان على الطبيعة وتطور التقنية والعلوم والفنون، وتحرر الإنسان من بعض أشكال الحكم التي تعوق النمو الحر لطاقاته وملكاته الأساسية. هنا يبدو الأمر مختلفا عما ذهب إليه فيكو، فعلى الرغم من قوله بالعناية الإلهية في التاريخ، وعلى الرغم من أن هذه الفكرة يشوبها الغموض، إلا أنه لم يجعلها غاية التاريخ. وقد فرق بين عناية متعالية على التاريخ عند الأمم الأممية، وعناية مباطنة للتاريخ كما في التواريخ المقدسة؛ لذلك استبعد التاريخ المقدس من دائرة بحثه ولا يمكن أن يعد من أصحاب التاريخ الكنسي كبوسويه وأوغسطين، وربما كان استبعاده للتاريخ المقدس ليؤكد بحرية كاملة وبعيدا عن سلطة الكنيسة مبدأه الأساسي وهو أن الإنسان يصنع التاريخ وفي أثناء صنعه له يصنع إنسانيته ويؤكدها؛ فالإنسان هو موضوع التاريخ وهدفه. هذه الفكرة المحورية لا نجدها عند هردر، ومع ذلك لا نريد الآن أن نقطع برأي عن موقفه من العناية الإلهية لعدم اتساق أفكاره في هذه المسألة؛ إذ يتردد في كتاباته بين التأليه ووحدة الوجود والقول بأن الألوهية لا تعدو أن تكون إلا التقنين الذي يسير الطبيعة والتاريخ. وفي النهاية نقول إن هذه بعض الأفكار الرئيسية لفلسفة هردر التاريخية دون الإفراط في التفاصيل لأنها ليست مجال بحثنا، وقد عرضنا فقط لتلك الأفكار التي بدت لنا مشابهة إلى حد كبير لأفكار فيكو، وعلى الرغم من إنكار هردر معرفته بفيكو إلا بعد عشرين عاما من وضعه لفلسفته التاريخية، إلا أن الأستاذين
Bergin & Fisch
11
يؤكدان معرفته له قبل الشروع في كتابة مؤلفه «أفكار عن فلسفة تاريخ الجنس البشري». وعلى الرغم من تأثر هردر بفكر وفلسفة فيكو فما زال هذا التأثر يفتقر حتى الآن إلى الدليل المادي، ومع ذلك فإننا نجد الدليل الفكري في آرائه في التاريخ التي تطابقت وتشابهت إلى حد بعيد مع فلسفة فيكو الذي سبقه على الطريق الذي تصور هردر أنه لم يسبقه أحد في السير عليه. (3) فيكو في الفكر الفرنسي
لو اتجهنا الآن للفكر الفرنسي لوجدنا تأثير فيكو على اثنين من أعلام الفكر الفرنسي وهما المؤرخ الكبير ميشليه، مؤرخ الثورة الفرنسية، ومؤسس الفلسفة الوضعية أوجست كونت (1798-1857م) وقبل أن نتعرض لهما بالتفصيل، نود ألا نغفل ما يرجحه بعض الباحثين من تأثر فيلسوف «روح القوانين» مونتسكيو (1689-1759م) وفيلسوف العودة للطبيعة روسو (1712-1778م) بفيلسوفنا الإيطالي، وإن كان كلاهما لم يذكره صراحة في كتاباته؛ فقد زار الأول إيطاليا عام 1728م وكان كتاب روح القوانين لا زال يتخلق في عقله ولم ير النور بعد، وفي البندقية أخبره صديقه أنطونيو كونتي بأهمية كتاب فيكو وأهم أفكاره الرئيسية وحثه على اقتناء نسخة من الكتاب. وحصل مونتسكيو بالفعل على نسخة من الطبعة الأولى للعلم الجديد وما زالت هذه النسخة موجودة في مكتبة
La Bréde . ولعل التشابه الكبير بين مبادئه وأفكار فيكو في خضوع المجتمع المدني لقوانين قد أقنعت بعض الباحثين أنه لا بد قد اطلع على الكتاب، خاصة في محاولته إخضاع العلوم الإنسانية لقانون محكم في كتابه «روح القوانين»، فضلا عن أن اهتمامه بالبيئة الجغرافية والبيئة الاجتماعية وما تشمله من عادات وتقاليد، وتنظيمات سياسية واقتصادية ودين وقانون وأخلاق، كعوامل مؤثرة في نشأة المجتمعات البشرية، دعا بعض الباحثين للاعتقاد بأن مونتسكيو قد اطلع ولو بصورة عابرة على العلم الجديد.
أما عن روسو فقد عمل في إيطاليا بين منتصف عام 1743م ومنتصف عام 1744م لمدة ثمانية عشر شهرا سكرتيرا للسفارة الفرنسية في البندقية، وكانت في ذلك الوقت أكبر سوق تجاري للكتاب في إيطاليا، ومن المرجح أن روسو حصل على نسخة من الطبعة الثالثة للعلم الجديد التي ظهرت في فترة وجوده في إيطاليا، وهي أيضا الفترة التي وضع فيها التصور الكامل لخطة كتابه الهام «التنظيمات السياسية». وفي عام 1749م بدأ بحثه عن أصل اللغات، وفي الأجزاء الستة الأولى منه أعاد الأفكار الرئيسية لنظرية فيكو في أصل اللغات الصامتة والهيروغليفية، وسبق الشعر للنثر، وأن اللغة المتخيلة أسبق في الوجود من اللغة المجردة النقية، ومن المرجح أن تكون فكرته الرئيسية عن أصل اللغة كمفتاح للمجتمع المدني مأخوذة من فيكو بالرغم من عدم الإشارة إليه في أي موضع. وإذا اتجهنا إلى ميشليه (1798-1874م) المؤرخ الفرنسي الشهير وجدناه على النقيض يعترف في مقدمة كتابه «تاريخ فرنسا» بفضل الفيلسوف الإيطالي ويقول: «ليس لي أستاذ غير فيكو.» لقد اكتشفه ميشليه في يناير 1824م أثناء قراءته لأحد الكتب المترجمة ووجد فيه جزءا عن فيكو شجعه على معرفة المزيد عنه، وفي يوليو من العام نفسه تعلم ميشليه الإيطالية ليطلع على النص الأصلي. أعجب ميشليه بالفكرة الرئيسية عند فيكو ألا وهي أن الطبيعة البشرية تصنع نفسها بنفسها وتحمس لها فجعلها محور تفسيره لتاريخ فرنسا؛ فهذه الفكرة تتضمن أن الحضارة بما تشمله من أدب وفن ودين وقانون واقتصاد وسياسة هي نتاج جماعي للإنسانية، وأن تطور التاريخ والاجتماع ليس إلا سجلا لمحاولة البشر للخروج من حالة التوحش الأولى إلى الحالة الإنسانية؛ فالتاريخ ليس إلا سجلا للصراع اللامتناهي للإنسان ضد الطبيعة، والروح ضد المادة، والحرية ضد الهمجية، هذه النظرة للتاريخ كصراع الحرية ضد الهمجية يتطابق فيها ميشليه مع تصور فيكو للإنسان كصانع لتاريخه وأصبحت هي الفكرة السائدة في مؤلفه الكبير «تاريخ فرنسا». وفي عام 1824م ترجم ميشليه «مختارات من العلم الجديد»، وأعيد طبع هذه الترجمة عام 1835م ومعها ترجمة لسيرة فيكو الذاتية وبعض من أعماله الأخرى وخطاباته، فاهتم الفكر الفرنسي بأفكاره وحاز إعجاب الأدباء والمفكرين من أمثال شاتو بريان وكوزان في منتصف القرن التاسع عشر. وقد كتب روبرت فلنت عام 1844م عن هذه الترجمة فقال: «لا يوجد مكان خارج إيطاليا درس فيه فيكو بتعاطف مثلما حدث في فرنسا، وهو يدين بالشهرة التي يتمتع بها في أوروبا لكتاب ميشليه «مختارات من العلم الجديد» فقد حاول في ترجمته أن يستشف بتعاطف وإخلاص روح مؤلفه وجوهره، ونجح في هذا إلى حد أن أصبحت الترجمة الفرنسية أكثر تشويقا وفائدة من النص الأصلي، فكانت الترجمة نفسها عملا عبقريا.»
ولعل أهم اتجاه ظهرت فيه أفكار فيكو واضحة وخاصة فيما يتعلق بقانون تطور الأمم هو الاتجاه الوضعي الذي يمثله أوجست كونت (1798-1857م)، فإذا كان فيكو يمثل عقل عصر النهضة المتأخر فهو أيضا يعد رائدا لمفكري القرن التاسع عشر، لقد كان أثره عميقا على المدرسة الوضعية الفرنسية بزعامة أوجست كونت الذي اعترف في أحد خطاباته لجون ستيوارت مل أنه قرأ فيكو ورأى في بعض مسلماته - على حد قوله - خطوة أولى نحو التطور الحقيقي للمجتمع، وأن أفكاره أيدت رأيا كان قد أبداه في كتابه «الفلسفة الوضعية»، بل واعترف بتفوقه على كوندورسيه. ورأى كونت أن القيمة الحقيقية لفلسفة فيكو تكمن في الفهم العميق الصحيح - في معظم الأحيان - للفلسفة التاريخية للغة، ومنذ ذلك الحين أصبح كتاب فيكو من الكتب التي يتناولها الوضعيون بالدراسة. ولسنا بصدد عرض لفلسفة أوجست كونت الوضعية ولكننا سنلقي الضوء على الجوانب المشابهة لفلسفة فيكو التاريخية وهي الأفكار الخاصة بقانون الأحوال الثلاثة لتطور المجتمعات، فكلاهما استخلص قانونا من ثلاث مراحل لتفسير التغيرات التاريخية. تنقسم فلسفة كونت إلى قسمين؛ القسم الأول خاص بدراسة قوانين حركة المجتمعات البشرية وهو ما يسميه بالديناميك الاجتماعي
Social Dynamics
الذي يكشف عن تقدم الإنسانية وتطورها؛ ويتناول القسم الثاني دراسة المجتمعات البشرية في حالة استقرارها وثباتها في فترة معينة من تاريخها وهو ما يطلق عليه الإستاتيكا الاجتماعية
Social Statics
وسنلقي الضوء على القسم الأول لما وجدنا فيه من تشابه كبير بين ما يتناوله كونت في هذا القسم وبين ما انتهى إليه فيكو من دراسة أصول المجتمعات البشرية القديمة؛ فقد انتهى هذا الأخير إلى قانون يحكم تطور المرحلة البطولية وأخيرا المرحلة البشرية، وهذا يذكرنا بقانون الأحوال الثلاثة الشهير لأوجست كونت. ومن المعروف أن هذا القانون الأخير يبدأ بالمرحلة اللاهوتية ثم المرحلة الميتافيزيقية وأخيرا المرحلة العلمية، ولما كان كونت قد اطلع على «العلم الجديد» كما ثبت ذلك من خطابه لجون ستيوارت مل، فمن المرجح أن يكون قد تأثر بفيلسوفنا كما يتضح ذلك من القسم الأول من فلسفة كونت الذي يتناول البحوث الديناميكية الاجتماعية التي تدور حول نظريتين أساسيتين هما: نظريته في قانون الأحوال الثلاثة، ونظريته في تقدم الإنسانية؛ فقد انتهت دراسته للديناميك الاجتماعي إلى الكشف عن قانون عام يحكم تطور المجتمعات وهو قانون من أحوال ثلاثة يتتبع تطور العقل البشري في إدراكه لفروع المعرفة؛ الحالة الأولى هي الحالة اللاهوتية أي المرحلة الدينية التي اعتمد فيها الإنسان على تفسير الظواهر تفسيرا غيبيا ونسبتها إلى قوى خارجية كالآلهة؛ والحالة الثانية هي الحالة الميتافيزيقية التي تطور فيها العقل إلى مرحلة أرقى من الأولى وفسر الظواهر بنسبتها إلى معان مجردة أو قوى ميتافيزيقية لا يقوى على إثباتها؛ وأخيرا الحالة الثالثة وهي المرحلة العلمية التي تطور فيها العقل تطورا علميا في تفسيره للظواهر ونسبتها إلى القوانين التي تحكمها والأسباب المباشرة التي تؤثر فيها، ولقد شبه كونت تطور العقل البشري بالتطور العضوي للفرد، فالمرحلة اللاهوتية أو الدينية تمثل مرحلة الطفولة، والمرحلة الميتافيزيقية تمثل مرحلة الشباب. أما المرحلة العلمية أو الوضعية وهي آخر مراحل التطور فتمثل مرحلة الرجولة والنضج.
ويستدل كونت على صحة قانونه بالرجوع إلى تاريخ العلوم من ناحية وتاريخ الإنسانية من ناحية أخرى متمثلا في تاريخ الفنون والنظم والقانون والسياسة والأخلاق وتاريخ الحضارة بوجه عام، فكل تطور عقلي لا بد أن يتبعه تطور في جميع الأنشطة البشرية، كما أن كل تطور في الحياة الاجتماعية لا بد أن يصاحبه تطور عقلي. وهكذا يكون التطور أو التقدم كما يعنيه كونت متجها إلى هدف معين، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف لا بد أن يخضع هذا التقدم لقوانين. فانتقال الإنسانية من مرحلة إلى مرحلة لا بد أن يكون تقدما نحو ما هو أفضل، ويتضح هذا التقدم في مظهرين: تقدم في الحالة الاجتماعية وهو ما يسميه بالتقدم المادي، وتقدم في الطبيعة البشرية وهو ما يسميه بالتقدم العقلي؛ أي أن التقدم لا بد أن يسير على مستويين؛ تقدم مادي يصاحبه ارتقاء في المعايير العقلية والأخلاقية والجمالية وما إليها من المعنويات التي لا غنى عنها في الحياة الاجتماعية، وإذا كان التقدم يسير في خط مطرد فإنه يتخلله الكثير من الصعاب وتعترضه الأزمات، ولكن لا بد من التدخل الإنساني لتحقيق تقدم أسرع ليعجل بمجيء مرحلة من المراحل كان لا بد لها أن تأتي حتى ولو لم يتدخل الإنسان.
12
وكما درس كونت الحياة البشرية في حركتها الديناميكية فقد عرض أيضا لدراسة حالتها الإستاتيكية وهي القسم الثاني من فلسفته الذي تناول فيه دراسة المجتمعات الإنسانية في حالة استقرارها باعتبارها ثابتة في فترة معينة من تاريخها. وشملت دراسته الجوانب السياسية والاقتصادية والأخلاقية والدينية، والهدف من هذه الدراسة هو الوقوف على القوانين التي تحكم تماسك هذه المجتمعات، والنقطة الأساسية التي بدأ منها هي حقيقة هامة، وهي أن الإنسان كائن اجتماعي بالفطرة؛ لذلك نقد نظريات التعاقد الاجتماعي، فحالة الاجتماع هي الحالة الطبيعية الأولى للإنسان. والمهم في هذا السياق أن كونت أكد أن الإنسان كائن اجتماعي بالفطرة، وهذا ما سبق أن أكده فيكو تأكيدا واضحا في «العلم الجديد»، ويكفي أن نرجع للمسلمة رقم 8 التي تنص على أن «الجنس البشري كان منذ بدايته الأولى يحيا حياة اجتماعية؛ فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته.» ومنهج كونت في دراسة المجتمع البشري هو المنهج العلمي التجريبي الذي يعتمد على الملاحظة والتجربة ثم يتبع المنهج المقارن والمنهج التاريخي. والملاحظة الاجتماعية ليست كالملاحظة العلمية مقصورة على الإدراك والوصف المباشر، ولكن هناك دراسة العادات والتقاليد والآثار ومظاهر التراث الأخرى، وتحليل ومقارنة اللغات والوثائق والسجلات التاريخية، ودراسة التشريعات والنظم السياسية والاقتصادية وما إليها، فلا شك أن هذه المصادر تقدم مواد غنية نافعة تساعد على الكشف العلمي. وتقوم التجربة على دراسة ظاهرتين متشابهتين في كل الأحوال ومختلفتين في حالة واحدة لاستنتاج أثر هذه الحالة التي تسببت في اختلاف الظاهرتين ومدى تأثيرها في الظواهر الأخرى. ثم يتبع كونت المنهج المقارن الذي يقوم على مقارنة المجتمعات البشرية بعضها ببعض لمعرفة أوجه التشابه والاختلاف بينها، وقد تكون المقارنة في نطاق المجتمع الواحد وقد تتخذ المقارنة صورة أعم وأشمل وهي مقارنة جميع المجتمعات البشرية ككل بالإنسانية ذاتها في مرحلة أخرى للوقوف على مبلغ التقدم الذي تخطوه الإنسانية في كل طور من أطوار تقدمها. ويعتبر كونت المنهج التاريخي هو آخر حجر في بناء المنهج الوضعي، ويسميه بالمنهج السامي أي المنهج الذي يكشف عن القوانين الأساسية التي تحكم التطور الاجتماعي للجنس البشري باعتبار أن هذا الجنس وحدة واحدة تنتقل من مرحلة إلى أخرى أرقى منها.
13
ومن الواضح أن منهج كونت في دراسة المجتمع البشري ليس بالمنهج الجديد؛ فقد سبقه فيكو إلى هذا المنهج بأكثر من قرن من الزمان عندما أعلن من البداية أنه ينتهج المنهج العلمي التجريبي على غرار منهج بيكون، واستخدم أيضا كل الوثائق والسجلات التي خلفتها الأمم القديمة واعتمد على فقه اللغة للكشف عن حياة المجتمعات الأولى من تطور الاشتقاقات اللغوية في عصر لو تتوفر فيه المادة التاريخية الكافية ولم يتقدم علم الآثار ليكشف عن حضارات في طي النسيان، فلا عذر إذن لفلاسفة ومفكري القرن التاسع عشر الذين وجدوا في متناول يدهم التاريخ الحقيقي للحضارات التي اكتشفها علم الآثار. وإذا كان كونت قد زعم أنه استخدم المنهج المقارن فإنه منهج مقارن بالاسم فقط لا بالفعل؛ لأنه صنف الشعوب ورتبها من البسيطة إلى الأكثر تقدما، وكونت مثله مثل فلاسفة عصره الذين حاولوا بأساليب عديدة إثبات ضرورة التقدم في التاريخ بتصنيف الشعوب بشكل عقلاني، فجاءت فكرة التقدم لديه مستنبطة من العقل الديكارتي لا بالاستناد إلى التاريخ الحي؛ فقد أكد في أكثر من موضع أن التاريخ بلا أحداث فالتاريخ الكامل ليس به أسماء ولا شخصيات ولا أحداث ولا أماكن ولا تواريخ، وأن السجلات التاريخية كشاهد على مسار الأحداث بين الشعوب والأمم لا تثبت مبدأ التقدم، وأقر بحقيقة المبدأ الأكبر للتقدم وأنه لم يكن ولن يكون أبدا في تواريخ فعلية لشعوب منفردة، وهذه النتيجة التي انتهى إليها كونت عكس ما انتهى إليه فيكو الذي كان أكثر واقعية في نظرته لتفرد الشعوب والحضارات واهتمامه بالخصائص النوعية لكل حضارة ولكل أمة على حدة.
من هذه اللمحة السريعة عن فلسفة كونت في تطور المجتمعات البشرية نجد أن فكرة قانون الأحوال الثلاثة الذي يزعم كونت أنه من اكتشافه هي فكرة ليست بالجديدة؛ فقد سبقه فيكو بقانون تطور الأمم وهو القانون الذي يفسر التغيرات التاريخية، وإن كان أكثر منه حسا بالتاريخ عندما فسر المجتمعات البشرية كمجتمعات متفردة جزئية، بينما عرض كونت للإنسانية بوصفها كلا لا يتجزأ فلم يستطع أن يتخلص من تأثير العقلانية الديكارتية، وكان أميل إلى التعميم والتجريد في تناوله للإنسانية ككل بدلا من تناول ظواهر حضارية نوعية ومتنوعة كما فعل فيكو من قبله، والواقع أنه ليس هناك إنسانية بل مجتمعات إنسانية أي مجتمعات جزئية مختلفة، وهكذا تصور كونت التاريخ تصورا مجردا ووصفه بأنه تصور علمي ووضعي، ودافع عن فكرة التقدم في التاريخ الإنساني شأنه شأن فلاسفة عصر التنوير، أي التقدم الذي يسير في خط مستقيم لأنه تصوره تصورا عقليا قبل كل شيء. (4) فيكو في التراث الماركسي
تكلمنا في الفصول السابقة عن المبدأ الأساسي في نظرية المعرفة عند فيكو وهو أن البشر لا يعرفون إلا ما يصنعون، وأن الإنسان كائن تاريخي لأنه صانع هذا التاريخ. وقد تحدثنا في الفصل السابق بشيء من التفصيل عن نظرية المعرفة، ونود أن نشير هنا إشارة موجزة عن تأثيرها على التراث الماركسي ولا سيما أن كارل ماركس قد أشار إلى أهمية فيكو في أحد هوامش الجزء الأول من «رأس المال» فكتب يقول: «لقد أثار داروين اهتمامنا بتاريخ التكنولوجيا الطبيعية أي بتطور أعضاء النباتات والحيوانات باعتبارها أدوات منتجة تحافظ على حياة هذه الكائنات، ألا يستحق تاريخ الأعضاء المنتجة للإنسان في المجتمع - أي هذه الأعضاء التي هي الأساس المادي لكل نوع من أنواع التنظيم الاجتماعي - ألا تستحق هي أيضا مثل هذا القدر من الاهتمام؟ ولما كان أساس التمييز بين التاريخ البشري والتاريخ الطبيعي كما يقول فيكو هو أن الأول من صنع الإنسان على حين أن الثاني ليس كذلك، ألا تكون كتابة تاريخ التكنولوجيا البشرية أسهل بكثير من كتابة تاريخ التكنولوجية الطبيعية، وأن التقنية عندما تكشف عن تعامل الإنسان مع الطبيعة وعن الأنشطة الإنتاجية التي تحفظ عليه حياته، إنما تكشف في نفس الوقت عن علاقاته الاجتماعية والتصورات الذهنية التي تنبثق عنها.»
14
وقد أكد بول لافاش - زوج ابنة ماركس في كتابه «الحتمية الاقتصادية والمنهج التاريخي عند كارل ماركس» (عام 1907م) - أكد أن مفهوم ماركس عن التاريخ مستمد من نظرية فيكو عن المعرفة. كما أكد الماركسي الإيطالي أنطونيو لابريولا - وهو أحد الذين كانوا يراسلون إنجلز - في مقالاته عن التصور المادي للتاريخ: «إن فيكو هو أحد رواد التصور المادي للتاريخ.»
وقبل أن نتعرض للحديث عن أثر فيكو على الماركسية، نود أن نقصر حديثنا على الجوانب التي يبدو فيها أثر فيكو واضحا وتتلخص في ثلاث أفكار رئيسية؛ الفكرة الأولى هي أن البشر هم صانعو التاريخ؛ والثانية هي تأكيد فيكو أهمية التنظيم الاقتصادي وجعله أساس التنظيم السياسي؛ والثالثة هي تأكيد دور الصراع الطبقي في تطور التاريخ. وإذا كانت المادية التاريخية قد انطلقت من عكس الدياليكتيك الهيجلي، إلا أنها ارتكزت على نظرية المعرفة عند فيكو ومحورها الأساسي «أن الإنسان هو صانع التاريخ لأنه لا يعرف إلا ما يصنع.» وهذه العبارة التي تحوي بذور فلسفة العمل أو الفعل كانت تأكيدا للفكرة الجوهرية التي انطلقت منها المادية التاريخية وبلغ كل من ماركس وإنجلز بهذه الفكرة مرحلة النضج، فقال ماركس (1818-1883م): «إن مفتاح كل تاريخ للمجتمع هو النمو التاريخي للعمل.» لأن ماهية الإنسان لا تتحقق إلا بالعمل، كما يؤكد ماركس «أن البشر يصنعون تاريخهم الخاص باتباع كل واحد منهم الغايات التي يرغب في تحقيقها بصورة واعية، ونتيجة هذه الإرادات العديدة التي تعمل في اتجاهات مختلفة، وكذلك نتيجة آثارها على العالم الخارجي هي التي تشكل التاريخ.»
أما عن الفكرة الثانية وهي تأكيد أهمية التنظيم الاقتصادي كأساس للسلطة السياسية، فقد أكد فيكو أن المجتمعات البشرية بمعناها التام لا تنشأ إلا بظهور طبقة العبيد، فينقسم المجتمع إلى طبقتين؛ طبقة النبلاء ملاك الأرض؛ وطبقة العبيد الذين يحرثون الأرض ويفلحونها، ويتحول المجتمع الأسري إلى مجتمع إقطاعي. وبعد فترة طويلة من الزمن يبدأ تمرد العبيد على النبلاء للمطالبة بالمساواة معهم في الحقوق المدنية مما اضطر النبلاء إلى توحيد صفوفهم لمواجهة ثورة العبيد فنشأت الحكومات الأرستقراطية التي كانت أول شكل من أشكال الحكم في العالم.
15
هكذا جعل فيكو النظام الاقتصادي أساسا للنظام السياسي، وهي نفس النتيجة التي توصل إليها كل من ماركس وإنجلز من أن التاريخ محكوم على الدوام بقوانين خفية، وهذه القوانين تكون في آخر المطاف قوانين اقتصادية وهو ما يقود إلى حتمية تاريخية. وإذا كان فيكو قد تصور العملية التاريخية بأسرها في صورة نمو عضوي يسير إلى التفكك والتحلل ثم يعود إلى النمو من جديد بحيث تكون كل الجوانب الحضارية في كل مرحلة من هذه المراحل - كالعادات والأخلاق والقانون والحكومة واللغة والفن والعلم والدين والفلسفة - ذات شكل وخصائص مختلفة عن شكلها وخصائصها في المرحلة السابقة عليها، فإن ماركس وإنجلز جاءا ليميزا بين أنواع النشاط البشري من أنشطة أولية وأخرى ثانوية أو بالتعبير الماركسي بين البناء التحتي والبناء الفوقي. ولكي يصنع الإنسان تاريخه لا بد من توافر المأكل والمشرب والملبس والمأوى، هذه هي الأنشطة الأولية - البناء التحتي - وتتضمن علاقة مادية اجتماعية مزدوجة، فأساليب الإنتاج تتميز بأسلوب معين من التعاون أو بمرحلة اجتماعية معينة، ويستحوذ كل جيل على النظام الإنتاجي الذي اكتسبه من الجيل السابق عليه ويستخدمه كمادة خام تصلح لإنتاج من نوع جديد؛ فأساليب الإنتاج تربط بين مراحل التاريخ المختلفة وتشكل تاريخ البشرية، وعلاقة البشر بوسائل الإنتاج شرط كل علاقاتهم الأخرى، فهي تنعكس في وعيهم وتفكيرهم ولغتهم وتكوين نظمهم السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية. وهذه الأنشطة الثانوية - البناء الفوقي - ليس لها تاريخ مستقل خاص بها ولا تفهم بمعزل عن الأنشطة الأولية لأنها انعكاس وتفسير وتبرير لهذه الأخيرة وربما تكون في بعض الأحيان محاولة لإخفائها وحجبها. وهكذا فإن جوهر المادية التاريخية يقوم على أن التاريخ الاقتصادي هو المجرى الأساسي العميق في نهر التاريخ، ولا بد من سبر أغوار هذا المجرى ودراسته دراسة متعمقة لكي نفهم تياراته السطحية ومده وجزره فهما كافيا. ويكفي الإشارة إلى هذه العبارة من بيان الحزب الشيوعي (عام 1848م): «إذا نظرنا إلى عصر من عصور التاريخ رأينا أن الأسلوب السائد في الإنتاج الاقتصادي والتبادل وما يترتب عليه من تنظيم اجتماعي هو الأساس الذي يقوم عليه ويفسر بواسطته التاريخ السياسي والعقلي لهذا العصر.»
وواضح من هذا أن الماركسية تجاوزت مفهوم فيكو عن النظام الاقتصادي، ولكنها في رأي بعض الشراح الماركسيين قد سارت خطوات بعيدة في نفس الاتجاه الذي قطع فيه فيكو شوطا طويلا، وإذا كان فيكو قد أكد أن النظام الاقتصادي هو أساس النظام السياسي، فإن الماركسية قد توسعت في هذه الفكرة بغير شك وجعلت البنية الفوقية بأسرها لا السياسة وحدها انعكاسا للبنية التحتية أو البنية الاقتصادية، ومع ذلك يمكننا أن نقول إن فيكو نظر إلى التاريخ نظرة أكثر شمولا وعمقا لتناوله التاريخ البشري من كل جوانبه الحضارية من اقتصاد وسياسة وفن ودين وقانون ... إلخ، وأعطى لكل جانب من هذه الجوانب نفس القدر من الأهمية حيث تتفاعل مجتمعة لتصنع التاريخ البشري، بينما تناولت الماركسية التاريخ من بعد واحد وهو البعد الاقتصادي وكأنه المؤثر الوحيد في تطور التاريخ فجعلت التطور السياسي والقانوني والفلسفي والأدبي يرتكز على التطور الاقتصادي. وعلى الرغم من أن إنجلز أكد ردا على خصوم الماركسية أن العامل الاقتصادي ليس هو العامل الوحيد في تطور التاريخ ولكنه أهم العوامل، وأن العناصر المختلفة التي تتكون منها البنية الفوقية لها أثرها في الصراع التاريخي وأحيانا تكون لها الغلبة في شكل هذا الصراع، ويقصد بهذه العناصر المظاهر السياسية لصراع الطبقات ونتائجه، وهذه هي الفكرة الثالثة التي كان لفيكو السبق فيها، فقد قدم أعمق تحليل للصراع الطبقي قبل الماركسية، وظهر هذا الصراع عندما بدأ العبيد في التمرد فكانت ثورتهم ضد الأبطال ويستمر صراع النبلاء والعامة فقد أقسم النبلاء على العداء الأبدي للعامة، ويتابع فيكو مراحل هذا الصراع بتفاصيله حتى يحصل العامة على كافة حقوقهم المدنية والسياسية وتتحول نظم الحكم من الأرستقراطية الإقطاعية إلى نظم ديموقراطية شعبية حرة.
16
وجاءت الماركسية فيما بعد لتؤكد أن تاريخ كل مجتمع هو تاريخ الصراع بين الطبقات، فكان من أهم الأفكار التي يتضمنها القسم الأول من البيان الشيوعي تأكيد أن الصراع الطبقي هو لب التاريخ البشري، وأن الدولة نظام يعبر عن إرادة الطبقة المسيطرة اقتصاديا، وهكذا كانت الفكرة الأساسية التي وردت في مقدمة بيان الحزب الشيوعي التي وضعها إنجلز: «إن التاريخ البشري - منذ انحلال المجتمع الطبقي البدائي الذي تملك فيه الجماعة الأرض ملكية مشتركة - عبارة عن تاريخ منازعات بين الطبقات، أي بين الطبقات التي تستغل غيرها والطبقات التي تكون موضع الاستغلال أو بين الحاكم والمحكومين، وتاريخ صراع الطبقات سلسلة من عمليات التطور وفيها أدركنا اليوم مرحلة لن يكون في وسع الطبقات التي تنوء تحت نير الاستغلال، وهي البروليتاريا، أن تحرر نفسها من سيطرة الطبقات التي تحكمها وتستغلها وهي البرجوازية دون أن تحرر في الوقت نفسه وبصفة نهائية المجتمع بوجه عام من جميع ألوان الاستغلال والظلم، والفوارق والمنازعات بين الطبقات.»
17
وقد صدق كروتشه عندما قال في كتابه عن فلسفة فيكو إن ماركس وسوريل قد طورا فكرة فيكو عن صراع الطبقات وتجدد شباب المجتمع عن طريق العودة إلى الحالة البدائية للعقل وإلى البربرية الجديدة. بهذا نكون قد حاولنا أن نجتهد في بيان أثر فيكو على أصحاب الاتجاهات الكبرى في فلسفة التاريخ والاجتماع، ونقول اجتهدنا مع علمنا بأن مثل هذا الموضوع يحتاج إلى دراسات أوفى وأعمق، وبحوث مستقلة تخرج بنا عن حدود هذا البحث، وكل ما نرجوه أن نكون قد وفقنا على طريق البحث المتعمق لفلسفة فيكو المتشعبة الجوانب، وأن يكون هذا البحث بداية بحوث مقبلة تضاف بإذن الله إلى المكتبة العربية .
خاتمة
بانتهاء الفصل الثاني من الباب الثالث تكون قد اكتملت فصول هذا البحث، ويبقى أن نلقي نظرة عامة ونهائية على أهم النتائج التي استخلصناها منه، فبعد أن تناولنا النصوص الأصلية بالتفسير والتحليل في البابين الأولين، وتعاطفنا مع تفكير فيكو واقتربنا منه، كان لزاما علينا في الباب الثالث أن نبتعد عنه قليلا لنتمكن من تقييم مذهبه وخاصة نظرية المعرفة التاريخية التي هي لب فلسفته التاريخية، وقد تعرضنا لجوانبها المختلفة، كما بينا أثر هذه النظرية على أهم فلاسفة التاريخ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وسوف نحاول في هذه الخاتمة أن نلقي الضوء على أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث، مع علمنا بأنه ليس هناك مذهب فلسفي يخلو من جوانب نقص أو لا يقع في متناقضات. بيد أن هناك أفكارا أساسية في كل مذهب فلسفي لا بد أن تكون مترابطة ترابطا منطقيا، وهذه الأفكار هي التي نخصها بالتقييم، وإذا حاولنا أن ننظر إلى مذهب فيكو من هذه الزاوية أمكننا أن نبرز أهم الجوانب الإيجابية على النحو التالي: (1)
يمكن القول إن فيكو امتداد أمين ووفي لرواد النزعة الإنسانية في عصر النهضة. لقد جعل الإنسان محور الدائرة ومركزها، فإذا كان الله هو خالق الطبيعة، فالإنسان هو صانع التاريخ - وهذا هو الجانب المشرق والمضيء في فلسفة فيكو - والإنسان هو موضوع المعرفة وهدفها، وموضوع التاريخ وغايته، وبمعنى آخر أصبح صانع التاريخ هو ذاته موضوع التاريخ، بحيث يمكن القول إن صنع الإنسان للتاريخ من أوضح وأهم الأفكار في فلسفة فيكو. (2)
إذا كنا قد اقتصرنا في بحثنا هذا على فلسفة التاريخ عند فيكو، إلا أنه يمكن استخلاص العديد من الدراسات المتنوعة من مجالات مختلفة من فكر فيلسوفنا، فعلى سبيل المثال يمكن استخراج دراسة جمالية من نظرية فيكو في اكتشاف حقيقة هوميروس ومن نظريته في أصل الشعر، وهي مشكلة شغلت العديد من المفكرين في القرن التاسع عشر. ومن نظريته في أصل اللغات والحروف ودراساته في الاشتقاقات اللغوية يمكن لعلماء اللغة أن يتناولوه من زاوية فقه اللغة، ومن دراسته لعادات وتقاليد الشعوب، وهي الدراسة التي انتهت به إلى وضع مبادئ علمه الجديد التي تقوم على ثلاثة تنظيمات اجتماعية أساسية وهي الدين والزواج ودفن الموتى؛ إذ لا توجد أمة إلا ولديها هذه التنظيمات الأساسية، من هذه المبادئ يمكن استخلاص دراسة في الفولكلور والأنثروبولوجيا الاجتماعية، كما يمكن استخلاص دراسة في القانون الروماني والتشريع وتطورهما (وقد قام فيش
Fisch
بدراسة بعنوان «فيكو في القانون الروماني»)
1
كما يمكن لفقهاء القانون أن يجدوا مادة خصبة لدراسة القانون الطبيعي للأمم، ولا تخفى أهمية فلسفة فيكو على المهتمين بالفلسفة السياسية في تحليله لنشأة المجتمعات السياسية وتطور نظم الحكم فيها، ولا أهميته بالنسبة لعلماء الاقتصاد في تحليله لنشأة النظم الاقتصادية وتطورها نتيجة تطور الصراع الطبقي؛ إذ كان النظام الاقتصادي كما رأينا في الفصل الثاني من الباب الثاني هو أساس النظام السياسي، وهكذا يمكن استخلاص دراسات متنوعة من فلسفة فيكو، ونرجو أن يفيد هذا البحث في توجيه نظر الباحثين إلى المزيد من الاهتمام بفكره. (3)
أضف إلى ما سبق أن فيكو يعد مؤسس فلسفة التاريخ في الفكر السياسي الغربي أو بالأحرى مؤسس علم التاريخ. فعلى الرغم من المادة الكثيفة التي حشدها في كتابه الأساسي فقد استطاع أن يستخلص البنية النظرية للتاريخ. لقد أراد للتاريخ أن يكون علما على نمط العلوم الطبيعية، فأقام الجانب النظري لعلم التاريخ ووضع المسلمات والفروض التي لا بد من التسليم بصحتها منذ البداية، ثم قام بدراسة كل ما يتعلق بالمجتمعات البشرية في ضوء هذه الفروض والمسلمات من تنظيمات أو مؤسسات اجتماعية وقانون ولغة وفن وسياسة واقتصاد ... إلخ، واستخلص في النهاية القانون العام الذي يحكم مسار التاريخ وتطوره، وقد حاولنا أن نبرز الأساس النظري في الباب الأول من البحث، ثم الجانب التطبيقي التجريبي في الباب الثاني، وتناولنا في الباب الثالث تقييم نظرية المعرفة التاريخية مع الاهتمام بوجه خاص بتأكيد النسق المعرفي الذي يقوم عليه علم التاريخ، أو إذا شئنا استخدام لغة كانط الشروط القبلية في المعرفة التاريخية. وبهذا حاولنا أن نحل المشكلة التي ما تزال تشغل الباحثين: هل تعد فلسفة فيكو من قبيل الفلسفة العقلية الصرفة، أم هي فلسفة تجريبية صرفة؟ وقد توصلنا - كما رأينا في الباب الأخير من البحث - إلى أنه جمع بين الجانبين: بين القبلي والبعدي، وبين المثالية والتجريبية. (4)
استحدث فيكو نظرة جديدة للتاريخ؛ فبعد أن كان التاريخ يقتصر على الأحداث السياسية والمعارك الحربية وسير الأبطال، أصبح يهتم بمشكلة أصول تكوين المجتمع المدني ويتناول البنية الحضارية للمجتمع البشري بما تشمله من تنظيمات سياسية واقتصادية وفن وقانون ولغة إلى سائر التنظيمات الاجتماعية الأخرى، وإذا كان فولتير هو أول من استحدث اسم فلسفة التاريخ فإن فيكو هو أول من تناول بالدراسة مادة فلسفة التاريخ ذاتها فتعرض للتاريخ الحضاري للمجتمعات البشرية دون أن يدرك التسمية الكامنة وراء هذه النوعية من دراسة التاريخ. (5)
على الرغم من اعتماد فيكو على الأساطير اليونانية والرومانية اعتمادا كبيرا في تفسيره لتطور التنظيمات الاجتماعية من خلال هذه الأساطير - وهي تمثل معظم المادة التاريخية التي كانت متوفرة في عصره - إلا أنه استطاع أن يصوغ قواعد منهجية علمية اشترط على المؤرخين والدارسين لتطور المجتمعات البشرية أن يتبعوها. (6)
إن بحث فيكو في نشأة المجتمعات الإنسانية وتطورها أكثر واقعية من فلاسفة عصره. فهو لم يبحث تطور الإنسانية بحثا نظريا مجردا كما فعل بعض فلاسفة القرن الثامن عشر وكما نجد عند أوجست كونت وغيره في القرن التاسع عشر بحيث أصبحت فكرة الإنسانية عند هؤلاء الفلاسفة فكرة نظرية لا وجود لها إلا في عقول من أبدعوها. إن الإنسانية في نظر فيكو هي شعوب متعددة ومتنوعة لها وجودها في الزمان والمكان. وهو بإدراكه لهذا التنوع والتعدد كان أكثر وعيا بالواقع التاريخي من فلاسفة عصره؛ إذ قام بدراسة التاريخ دراسة حية من خلال المستندات والوثائق وما خلفته الشعوب القديمة في آدابها وأشعارها وأساطيرها، ومن خلال ما تركته من آثار كالنقود والميداليات والأوسمة والنياشين والدروع والصور والنقوش ... إلخ، وربما كان بذلك أول من تنبه إلى أهمية الآثار والحفريات في البحث التاريخي في عصر كان فيه علم الآثار ما يزال يخطو خطواته الأولى . (7)
يرى فيكو أن الأمم تتطور عبر مراحل ثلاث؛ المرحلة الإلهية، والمرحلة البطولية، ثم المرحلة البشرية، وقد استقى هذا القانون - كما رأينا في الفصل الأول من الباب الثاني (قانون تطور الأمم) - من تقسيم المصريين القدماء للعصور التاريخية، ولكن لماذا تمسك فيكو بهذا القانون الثلاثي على وجه التحديد؟ لقد قال بعض الفلاسفة إن التاريخ يتطور عبر مراحل أربع مثل هردر، وهناك من قال إن التطور يكون من خلال عشر مراحل مثل كوندورسيه، وأيا ما كان الرأي في عدد المراحل التاريخية التي يجتازها التطور، فهي ليست بالشيء الهام الذي نقف أمامه ونقول لماذا هي ثلاث عند فيكو وأربع عند هردر وعشر عند كوندورسيه ... إن الأهم من ذلك هو عودة هذه المراحل مرة أخرى ومدى تطابق هذا مع الواقع التاريخي؛ فالدورات التاريخية عند كل من فيكو وهردر تعود مرة أخرى بصورة أكثر تقدما، ولكنها عند كوندورسيه - على سبيل المثال - لا تتكرر؛ فالتقدم يسير في خط مستقيم ويبلغ مداه ولا يتراجع إلى الوراء مرة أخرى. وهنا لا بد أن نتساءل: هل هذه النظرة للتاريخ تصدق على الواقع التاريخي الفعلي؟ الحق أن التقدم لا يسير دائما في خط مستقيم، فعلى الرغم من التقدم العلمي الهائل الذي حققته البشرية وما زالت تحققه إلا أن هناك مراحل تدهور ثقافي وحضاري وإنساني، ولا شك في أن نظرة فيكو للتاريخ كانت نظرة أكثر واقعية وأكثر فهما للطبيعة البشرية، وقد ناقشنا هذه الفكرة في الفصل الأول من الباب الثالث.
تلك هي بعض الأفكار الإيجابية التي يجب أن نشيد بها ونلقي عليها الضوء في فلسفة فيكو. غير أن هذا البناء الشامخ الذي شيده فيكو في العلم الجديد من أجل إعادة بناء التاريخ لا يخلو من بعض جوانب الضعف والقصور التي ناقشناها في ثنايا الرسالة ونود أن نجملها في النقاط التالية، وقد ألقت هذه الجوانب على مذهبه ظلال التناقض أحيانا والغموض أحيانا أخرى الأمر الذي حال دون فهمه فهما واضحا وتمثله على الوجه الصحيح. (1)
اعتمد فيكو على الحضارتين اليونانية والرومانية واستقى منهما مادته التاريخية. وقد يؤخذ عليه اقتصاره على هاتين الحضارتين دون سائر حضارات الشعوب الشرقية والوسطية، ولكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا أمرين هامين؛ الأول أن الثقافة الكلاسيكية (اليونانية والرومانية) كانت هي الثقافة السائدة في عصره، فكان من الطبيعي أن يستمد مادته التاريخية منها لا سيما أنه كان مختصا بدراسة البلاغة عند الرومان وتدريسها. أضف إلى هذا أنه لم تتوفر المادة التاريخية الكافية في عصر فيكو ولم يدون التاريخ العالمي بصورة علمية منظمة؛ لأن الدراسات التاريخية لم تتبلور بالشكل الواضح إلا في القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي وصف بحق بأنه عصر التاريخ؛ لهذا لم يستطع أن يطبق مبادئ علمه الجديد على كل الحضارات؛ إذ لم تكن هذه الحضارات قد عرفت في عصره معرفة كافية. أضف إلى هذا أن علم الحفريات لم يكن قد تقدم بعد ولم تكتشف حضارات الشعوب الشرقية القديمة مثل الحضارة المصرية القديمة - التي لم تكتشف إلا في القرن التاسع عشر وبعد اكتشاف حجر رشيد الذي مكن العلماء من فك رموز اللغة الهيروغليفية - وكذلك لم تكتشف الحضارات البابلية والآشورية إلا بعد ذلك تاريخ، ربما أمكننا لكل هذه الأسباب أن نلتمس لفيكو العذر في اقتصاره على دراسة الحضارتين اليونانية والرومانية، فلم يصله إلا القدر الضئيل من المعلومات المشوهة عن تاريخ الحضارات القديمة، لكن الميزة الكبرى لفيلسوفنا أنه وضع المبادئ النظرية لعلم التاريخ وعهد إلى الأجيال التالية أن تستكمله وأن يقوم كل شعب بتطبيقه على حضارته؛ فالعلم الجديد - كما صرح هو نفسه - لم يستكمل بعد وما يزال قابلا للتطوير. والأمر الثاني أن الاستشهاد بالتاريخ اليوناني والروماني - كما يؤكد فيكو نفسه في هذا النص: «لم يكن الهدف منه سرد التاريخ الخاص لهذه الشعوب وعاداتها وتقاليدها وقوانينها، بل كان الهدف هو إلقاء الضوء على التاريخ المثالي الذي يعبر عن القوانين الأبدية التي تحكم أعمال جميع الأمم والتي ستظل تحكم كل تواريخ الشعوب في نشأتها وتطورها ونضجها ثم انحلالها وتدهورها وسقوطها، فهناك جوهر واحد وراء تنوع وتطور أشكال الحكومات هو القانون المثالي الذي يحكم أعمال البشر وتاريخ الأمم إلى الأبد.»
2
وقد تناولنا بالتفصيل نظرية فيكو في التاريخ الأبدي في الفصل الأول من الباب الثالث موضحين أنها لب فلسفته في التاريخ لأنها تمثل النسق المذهبي الذي يقوم على أساسه البناء التاريخي كله. (2)
لا شك أن هناك بعض الأفكار التي توحي بالازدواجية في بناء فيكو المذهبي، وهي تتجلى واضحة في فكرتين أساسيتين: الأولى هي «نظرية التاريخ المثالي الأبدي» الذي صرح أنه استخلصه من معارضته لمنهج ديكارت الاستنباطي، واتباع منهج بيكون الاستقرائي، وقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأخير أنه جمع بين الطابع الاستنباطي الديكارتي والطابع الاستقرائي البيكوني ووضع البناء النظري الميتافيزيقي في مقابل الجانب التجريبي التطبيقي، ومن العسير أن نحكم أيهما أسبق في الوجود من الآخر وإن كنا نرجح أنه استخلص البناء النظري بعد دراسة الواقع التجريبي وتحليله؛ الثانية «فكرة العناية الإلهية» وهي من أكثر الأفكار غموضا في فلسفة فيكو وتبدو فيها الازدواجية واضحة، بل وتبدو متناقضة مع فكرته الأساسية التي تقوم عليها فلسفته التاريخية وهي أن الإنسان هو صانع التاريخ، فكيف يتفق صنع البشر لتاريخهم مع تأكيد دور العناية الإلهية في توجيه التاريخ؟ لا يمكن أن يفسر هذا التعارض إلا على أنه نوع من الازدواجية التي يتسم بها فكر فيكو، فهو من ناحية فيلسوف يحمل في عقله مبادئ وأفكار علم جديد سابق على عصره ومخالف للفكر السائد فيه، ومن ناحية أخرى لا يمكن إغفال الظروف التاريخية التي عاشها في ظل محاكم التفتيش، ولا بد أنه سمع عن المصير الذي انتهى إليه برونو وكامبا نيلا وجاليليو، فكان لا بد من إخفاء آرائه الجريئة وراء فكرة العناية الإلهية التي أخذ يؤكدها في كل صفحة من صفحات العلم الجديد. وربما يكون هذا السبب نفسه هو الذي جعله يستبعد التراث العبري والمسيحي من نطاق العلم الجديد ويكتفي بالحديث عن الأمم الأممية في الحضارتين اليونانية والرومانية؛ لذلك لا نستطيع أن نقول إن التاريخ المثالي الأبدي تجسيد للعناية الإلهية وتحقيق لخطتها حتى لو قال فيكو بذلك؛ لأن هذا يتعارض مع تأكيد صنع البشرية لذاتها، أضف إلى هذا أن قوله بالعناية الإلهية لا يجعله بالضرورة من أصحاب التفسير اللاهوتي للتاريخ كما ذهب إلى ذلك بعض الدراسين. ويجب ألا ننسى أن الأهم من قوله بالعناية الإلهية هو قوله بالتاريخ المثالي الأبدي، وهذا ما حاولنا التركيز عليه في الفصل الأول من الباب الأخير لإثبات أن نظريته في التاريخ المثالي الأبدي يمكن أن تفهم فهما علميا خالصا بعيدا عن الفهم اللاهوتي، بحيث لو استبعدنا فكرة العناية الإلهية لما تأثرت تحليلاته العلمية لنشأة المجتمعات البشرية وتطورها من خلال الصراع الطبقي بين النبلاء والعبيد وتكوين الأنظمة الاقتصادية والسياسية ... إلى آخر التنظيمات البشرية. (3)
على الرغم من عبقرية فيكو التي لا شك فيها إلا أن طريقته في طرح أفكاره وترتيبها لا تساعد على فهمها بسهولة، فهناك بعض العقبات التي تحول دون ذلك نذكر منها: (أ)
تميل أفكاره إلى الغموض والإبهام الأمر الذي تسبب في عدم الإقبال على قراءته في عصره. (ب)
الإكثار من التفاصيل الجزئية المرهقة إلى حد كبير، والتي كان من الممكن الاستغناء عنها دون المساس بالأفكار الرئيسية لمذهبه. (ج)
الإسهاب في تفاصيل القانون الروماني ابتداء من قانون الألواح الاثني عشر وتطور هذا القانون عبر العصور التاريخية بحيث يصعب على قارئ العلم الجديد متابعة الكتاب إن لم يكن لديه إلمام كاف بالقانون الروماني. (د)
كثرة التحليلات اللغوية للعبارات والأمثال والكلمات اللاتينية التي اعتمد عليها فيكو كثيرا في تفسيره لتطور المجتمعات البشرية من خلال تطور معاني الكلمات والاشتقاقات، مما أوحى للقارئ المتسرع للعلم الجديد أنه ليس إلا كتابا في فقه اللغة والبلاغة اللاتينية القديمة ...
وفي ختام هذا البحث نود أن نكون قد ألقينا الضوء على أهم الجوانب الرئيسية في فلسفة فيكو ألا وهي فلسفته التاريخية، ونقول أهم الجوانب لأن هناك العديد من الجوانب التي لم يتطرق إليها البحث لأنها تخرج عن حدوده، وما زال فيكو في حاجة إلى العديد من البحوث والدراسات التي تستوفي كل جوانبه فكره، وبحثنا هذا ليس إلا بداية على الطريق لفيلسوف بخسه التاريخ حقه ، وجنى عليه سبقه لعصره، وظلمه مواطنوه ومعاصروه، ولقد توالت الدراسات الجادة عنه في النصف الثاني من القرن العشرين ونرجو أن يكون هذا البحث المتواضع بداية لبحوث أخرى من الدراسين العرب في المستقبل بإذن الله.
المراجع
(1) المراجع الأجنبية (1-1) مؤلفات فيكو (1)
Vico, G. B.: New Science; trans. by Thomas Goddard Bergin and Harold Fisch; New York; Cornell University Press; 1969. (2)
Vico, G. B.: The Autobiography; trans. by Fisch, M. H. and Bergin, T. G. I. theca, New York; Cornell University Press; 1962. (3)
Vico, G. B.: on the study Methods of our time; trans. by Elio Gianturco; New York; 1965. (1-2) مؤلفات عن فيكو (4)
Adams, H. P.: the Life and Writings of G. B. Vico; London; 1935. (5)
Berlin, Sir Isaiah: Vico and Herder, New York; 1976. (6)
Berlin, Sir Isaiah: Vico and Idea of the Englightenment, in: Vico and Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (7)
Child, A. H.: Making and knowing in Vico and Dewey; University of California
(8)
Haddock, B. A.: Vico and the Problem of historical reconstruction; in: Vico and Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (9)
Haddock, B. A.: Vico: The Problem of interpretation; in: Vico and Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (10)
Kelly, D. R.: In Vico Veritas: The True Philosophy and the new Science; in: Vico and Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (11)
Michelet, J.: Oeuvres choisies de Vico; Paris; Ernest Flammarion Editeur; S. D. (12)
Mc Mullin, E.: Vico’s Theory of Science; in: Vico and Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (13)
Nisbet, Robert: Vico and Idea of Progress; in: Vico and Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (14)
1975. (15)
Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (16)
Rubinoff, Lionel: Vico and the verification of historical Interpretation; in: Vico Contemporary Thought; edited by Giorgio Tagliacozzo and others; New York; 1976. (1-3) مراجع عامة في فلسفة التاريخ (17)
Beck, L. W.: Eighteenth-Century Philosophy. New York, The Free Press, 1966. (18)
Walsh, W. H.: An Introduction to Philosophy of history, London, 1951. (1-4) مراجع عامة ومعاجم (19)
Bréhier, É.: Histoire de la Philosophie; Tome II La Philosophie Moderne, Paris,
(20)
Edwards, Paul: The Encyclopedia of Philosophy, Vol 8, New York, London, Macmillan Publishing, 1972. (21)
Flew, Antony: A dictionary of Philosophy, London, 1979. (22)
Irmscher, Johannes (Hrsg.) (Lexikon) der Antike Leipzig, VEB Biliographisches Institut, 1972. (23)
Lange, Erhard and Alexander, Diertich (Hrsg.); Philosophen-Lexikon. Berlin, Dietz Verlag, 1982. (2) المراجع العربية (2-1) ترجمات ودراسات (1)
أحمد محمود صبحي، في فلسفة التاريخ، الإسكندرية، مؤسسة الثقافة الجامعية، د.ت. (2)
أوسينوبوس، لأنجلو وآخرون، النقد التاريخي (مختارات من النصوص)، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، الكويت، وكالة المطبوعات، ط3، 1977م. (3)
بليخانوف، ج، تطور النظرة الواحدية إلى التاريخ، ترجمة محمد مستجير مصطفى، القاهرة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1969م. (4)
بوبر، كارل، عقم المذهب التاريخي، ترجمة عبد الحميد صبرة، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1959م. (5)
بيارجريمال، الميثولوجيا اليونانية، ترجمة هنري زغيب، منشورات عويدات بيروت، باريس، ط1، 1982م. (6)
بيري، ج. ب، فكرة التقدم، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982م. (7)
تشايلد، جوردن، التاريخ، ترجمة عدلي برسوم عبد الملك، القاهرة، الدار المصرية للكتب، د.ت. (8)
تشايلد، جوردن، التطور الاجتماعي، ترجمة لطفي فطيم، القاهرة، مؤسسة سجل العرب، 1966م. (9)
حسن حنفي، قضايا معاصرة، ج2، القاهرة، دار الفكر العربي، 1977م. (10)
حسن حنفي، دراسات إسلامية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1981م. (11)
راشد البراوي، المذاهب الاشتراكية المعاصرة، ط2، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1970م. (12)
رسل، برتراند، تاريخ الفلسفة الغربية، الكتاب الثالث، ترجمة د. محمد فتحي الشنيطي، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1977م. (13)
رسل، برتراند، حكمة الغرب، ج2، ترجمة د. فؤاد زكريا، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1983م. (14)
روز، ه. ج، الديانة اليونانية القديمة، ترجمة رمزي عبده جرجس، القاهرة، دار نهضة مصر، 1965م. (15)
عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1981م. (16)
عثمان أمين، ديكارت، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ط 6، 1969م. (17)
عبد العزيز عزت، فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، القاهرة، مكتبة الفكرة، 1951م. (18)
عبد المعطي شعراوي، أساطير إغريقية، ط1، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1982م. (19)
فرجيليوس، الإنيادة، ترجمة د. عبد المعطي شعراوي وآخرين، ج1، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971م. (20)
فرجيليوس، الإنيادة، ترجمة د. عبد المعطي شعراوي وآخرين ، ج2، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971م. (21)
كاسيرر، إرنست، في المعرفة التاريخية، ترجمة أحمد حمدي محمود، القاهرة، دار النهضة العربية القاهرة، د.ت. (22)
كاسيرر، إرنست، الدولة والأسطورة، ترجمة د. أحمد حمدي محمود، ط2، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1975م. (23)
كانط، أمانويل، المدخل إلى نقد العقل الخالص، ترجمة وتعليق د. عبد الغفار مكاوي، كتاب غير منشور. (24)
كولنجوود، ر. ج، فكرة التاريخ، ترجمة محمد بكير خليل، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م. (25)
كوبلاند، ج. وآخرين، الإقطاع والعصور الوسطى في غرب أوروبا، ترجمة محمد مصطفى زيادة، ط3، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1958م. (26)
لسنج، تربية الجنس البشري، ترجمة وتعليق وتقديم د. حسن حنفي، ط1، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1977م. (27)
مارو، ه. أ، من المعرفة التاريخية، ترجمة جمال بدران، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971م. (28)
محمد عبد المنعم بدر وعبد المنعم البدراوي، مبادئ القانون الروماني، القاهرة، مطابع دار الكتاب العربي، 1956م. (29)
محمد فتحي الشنيطي، دراسات في الفلسفة الحديثة. (30)
مصطفى الخشاب، علم الاجتماع ومدارسه، الكتاب الأول، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1981م. (31)
نف، إيمري، المؤرخون وروح الشعر، ترجمة توفيق إسكندر، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1947م. (32)
هازار، بول، الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر، ج1، ترجمة د. محمد غلاب، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1958م. (33)
هازار، بول، الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر، ج2، ترجمة د. محمد غلاب، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1959م. (34)
هاوزر، أرنولد، الفن والمجتمع عبر التاريخ، ج1، ترجمة د. فؤاد زكريا، القاهرة، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، 1967م. (35)
هرنشو، علم التاريخ، ترجمة عبد الحميد العبادي، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1937م. (36)
هورس، جوزف، قيمة التاريخ، ط2، منشورات عويدات، بيروت، 1982م. (37)
هوميروس، الإلياذة، ترجمة أمين سلامة (ج1، 2، 3) مطبوعات كتابي، د.ت. (38)
هوميروس، الأوديسة، ترجمة عنبرة سلام الخالدي، بيروت، دار العلم للملايين، 1980م. (39)
ويد جيري، البان، ج، المذاهب الكبرى في التاريخ، ترجمة ذوقان فرقوط، بيروت، دار القلم، 1972م. (40)
ويلسون، كولن، سقوط الحضارة، ترجمة أنيس زكي حسن، بيروت، منشورات دار الآداب، ط2، سنة 1971م. (2-2) دوريات
أحمد حمدي محمود، العلم الجديد لفيكو، مجلة تراث الإنسانية، المجلد السادس.
د. حسن حنفي، فلسفة التاريخ عند فيكو، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، بفاس، العدد السابع، 1983-1984م.
د. حسن حنفي ، متى تموت الفلسفة ومتى تحيا، مجلة عالم الفكر، المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، 1984م.
د. عزمي إسلام، في فلسفة العلوم الإنسانية، مجلة عالم الفكر، المجلد الخامس عشر، العدد الثالث، أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر، 1984م.
Page inconnue